الأحد، 4 ديسمبر 2011

زمان الإسلاميين..وأولويات ما بعد الفوز



ترتسم ملامح مشهد جديد في الوطن العربي يبدو فيه أن الإسلاميين يتقدمون بكل سهولة ليحتلوا مقاعد الصدارة وليمسكوا بزمام الأمور..
يمكن أن يقال إن زمان الإسلاميين بدأ قبل خمسة أعوام في فلسطين حين فاجأت حركة حماس العالم باكتساح الغالبية الساحقة من مقاعد المجلس التشريعي..ولأن كلاً من الغرب وإسرائيل وأنظمة الحكم الجبري تدرك خطورة نجاح نموذج الإسلاميين في الحكم فقد عملوا بكل ما أوتوا من وسيلة لإجهاض هذه التجربة الوليدة فتكالبت كل هذه الأطراف على تشديد الحصار على قطاع غزة في محاولة لإفشال خيار الإسلاميين ليس في فلسطين وحدها بل في الوطن العربي..لكن هذه المحاولات الحثيثة باءت بفشل ذريع ووقع ما كانوا يحذرون، فلم تنجح هذه المحاولات في فض الجماهير العربية التواقة إلى التغيير من حول الحركات الإسلامية، بل جاءت النتيجة معكوسةً فارتفعت شعبية حركة حماس في الشعوب العربية وصار ينظر إليها بأنها نموذج التضحية والصبر والثبات..
بعد خمسة أعوام من هذا الفوز اتسعت غزة لتشمل الوطن العربي كله، فأظهرت نتائج الانتخابات تقدماً واضحاً للإسلاميين في مصر وتونس والمغرب، وإن كانت الانتخابات المغربية دون المأمول لأنها تمت تحت سقف الاستبداد السياسي لكنها على كل حال كشفت طبيعة توجهات الشعوب العربية..
في ليبيا أيضاً يتضح نفوذ الإسلاميين في المجلس الانتقالي، وحتى في الدول التي لم تصل إليها رياح الثورة أدرك حكامها هذه الحقيقة فسارعوا إلى التصالح مع الإسلاميين في محاولة منهم لتسكين الغضب الشعبي كما يجري في الأردن من تقارب بين النظام وبين الإسلاميين سواءً كانوا إسلاميي الداخل الممثلين في الإخوان المسلمين أو إسلاميي الخارج الممثلين بحركة حماس..
كل هذه الوقائع والمؤشرات تدلل على أننا نطرق أبواب مرحلة سياسية جديدة يتحول فيها الإسلاميون من مرحلة الاستضعاف التي عاشوها منذ ثمانين عاماً وذاقوا فيها شتى صنوف التعذيب من قتل وإبعاد وسجن إلى مرحلة التمكين في الأرض التي كانوا ينتظرونها طوال هذه العقود والتي يتحقق فيها الوعد الإلهي القائل: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين"..
لكن ما ينبغي التنبه إليه هو أن وصول الإسلاميين ليس هو أهم ما في الأمر، بل العبرة هي فيما بعد ذلك، والسلطة لا تزيد عن كونها ابتلاءً جديداً يضاف إلى قائمة الابتلاءات الطويلة التي تعرض لها الإسلاميون طوال تاريخهم، بل إن هذا الابتلاء وهو الذي يسميه القرآن ابتلاءً بالخير هو أخطر من ابتلاءات مرحلة الاستضعاف التي تسمى ابتلاءً بالشر، لأن السجن والقتل والإبعاد يذكر الإنسان بربه ويستفز مخزونه الإيماني بينما حين يبتلى الإنسان بأن تفتح الدنيا عليه فقد ينسي ربه ويتهدد إيمانه بالضياع، وحين كان قوم موسى يستعجلون الانتقال من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة التمكين كان موسى عليه السلام يرد عليهم رداً حكيماً فيقول: "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون"..فالعبرة ليست بالوصول إلى السلطة، بل ماذا سيعمل الإنسان بعد وصوله إلى السلطة..
هناك أولويات تنتظر الإسلاميين في مرحلة ما بعد السلطة..لعل على رأس هذه الأولويات العمل على ترسيخ أسس الحياة الديمقراطية، واجتثاث الجذور الاجتماعية والثقافية والسياسية التي أنتجت النظم الاستبدادية..
هذه الأولوية الوطنية مقدمة على تطبيق رؤى الإسلاميين الخاصة المنبثقة من المبادئ الإسلامية، وكل الأهداف الأخرى التي تنطلق من فلسفة الأحزاب الإسلامية الخاصة يمكن تأجيلها إلى مراحل لاحقة، لكن هدف تعزيز الديمقراطية في المجتمع تحديداً هو هدف غير قابل للتأجيل، وما لم ينجز هذا الهدف فإن مسيرة التحول الديمقراطي في الوطن العربي ستظل مهددةً بالانتكاس و الارتكاس..
الثورات لم تقم لإزالة طاغوت واستبدال طاغوت آخر به، بل لاجتثاث الطغيان من جذوره لذلك لا بد من معالجة الأسباب الثقافية والاجتماعية والسياسية العميقة التي أنتجت الاستبداد في وطننا العربي، وإذا كانت الأنظمة السابقة قد تحولت إلى أنظمة استبدادية في ظل استفرادها المطلق بالسلطة وغياب المحاسبة والمراقبة، فإنه لا بد لأي نظام سياسي قادم أن يقوم على مبدأ الشراكة السياسية الحقيقية، وتوزيع السلطات وتعزيز الرقابة الإدارية والسياسية، وإشاعة ثقافة احترام الرأي الآخر، والشراكة بين الجمهور..لأن أي حزب مهما كانت روعة مبادئه وأفكاره فإنه لا يزيد في نهاية المطاف عن كونه جهداً بشرياً يعتريه الخطأ والقصور، ولا بد أن تستكمل جهوده بالأحزاب والقوى الأخرى التي تنظر من زاوية أخرى فترى أشياء جديدةً لا يراها هذا الحزب أو الجماعة، ولا يحق لأي حزب كائناً من كان أن يسعى إلى قولبة المجتمع كله في قالبه الحزبي، بل يحترم تعدد الآراء والاجتهادات دون تخوين أو تشكيك..
حين ينشأ جو ديمقراطي صحيح قوامه الحريات والتعدد، والتداول السلمي للسلطة، وتعزيز الرقابة والمحاسبة، ونشر الوعي السياسي في الشعب فإنه لا يضير حينها أن يفوز الإسلاميون أو العلمانيون، لأن أي جهة فائزة ستكون تحت دائرة الضوء ولن تستطيع أن تخرج عن الخط الوطني العام، وستصنع ألف حساب في كل خطوة تخطوها لرأي الشعب، أما حين يغيب هذا الجو الديمقراطي فإن فوز الإسلاميين أو غيرهم لن يكون ذا قيمة كبيرة لأنه لن يزيد عن كونه استبدال استفراد باستفراد، والاستفراد هو طريق الاستبداد والفساد..

الأولوية الثانية التي تنتظر الإسلاميين على رأس الحكم هي العمل على تعزيز الاستقلال والاعتماد على الذات، وإنهاء حالة الارتهان الاقتصادي والسياسي للغرب، فمن المعيب بحق دولة كبرى كمصر مثلاً أن تظل مرتهنةً لما يسمى بالمساعدة الأمريكية السنوية، وأن تستخدم هذه المساعدة التي هي ليست مساعدةً في الحقيقة لابتزاز المواقف السياسية، مع أن مصر تمتلك من الإمكانيات المادية والبشرية ما تستطيع أن تحقق به اكتفاءً ذاتياً، وأن تكون يدها هي اليد العليا وليست اليد السفلى، والتحرر الاقتصادي ضروري للتحرر السياسي ولاستعادة المكانة الإقليمية والدولية، لذلك فإن من الأولويات الملحة في المرحلة القادمة هي العمل على إشاعة ثقافة الإنتاج، وأن نأكل مما عملت أيدينا، وليس مما يلقى إلينا من فتات..
نعلم أنها مهمة ليست يسيرةً فهناك الكثير من العقبات، والغرب الاستعماري الخبيث يدرك جيداً خطورة تحرر العرب اقتصادياً وسياسياً على مستقبل هيمنته على العالم، وقد عمل طوال المرحلة السابقة على تعميق حالة الاعتماد عليه في كافة مناحي الحياة الثقافية والاقتصادية والإعلامية والسياسية، لكنها مهمة ليست مستحيلةً أيضاً، وهي جهاد الساعة الذي ينبغي أن تتضافر كل الجهود من أجل إنجازه..

كذلك فإن من الأولويات التي ينبغي أن يعمل الإسلاميون عليها هي تعزيز حضور الهوية الإسلامية والعربية في المجتمعات في مجالات الإعلام والثقافة ومناهج التعليم، وعلى مكافحة مظاهر التغريب والسفور والانحلال الأخلاقي،
 وليس من الحرية في شيء أن يطلق العنان للترويج للرذيلة والفساد والانحلال، فالحرية التي ندعو إليها ونطالب بالعمل على تعزيزها في المرحلة القادمة هي الحرية الفكرية والسياسية والعقائدية، وليست حرية الإباحية والفساد الأخلاقي..
 والجماهير عطشى لكل ما يذكرها بتاريخها وقيمها الإسلامية، وما ينبغي أن تصل حالة التماهي ومحاولة استرضاء الآخرين من قبل فريق من الإسلاميين أن يخلعوا ثوبهم ويميعوا مبادئهم لإظهار أنفسهم بأنهم عصريون، فالجماهير تحترم من يعتز بهويته أكثر ممن يتخلى عن هذه الهوية، وهنا أقتبس كلمةً لرجل من خارج صفوف الإسلاميين وهو الدكتور عبد الله الأشعل الذي قال: "يجب على النظم الإسلامية أن تحترم هويتها وألا تصلَ مرونتها إلى حد الخروج من ذاتها؛ لأن الشعوب سوف تختار هذه القوى الإسلامية بناءً على فكرها المستنير وعلى ضمان استقلال بلادها وتحقيق العدالة فيها، وتلك هي المعضلة التي يواجهها الغرب".
هذه الأولويات هي أمثلة لما ينبغي أن تكون عليه طبيعة توجه الإسلاميين بعد إمساكهم للسلطة، وهي أولويات أظن أنها مقدمة على ما يسارع لطرحه الشباب المتحمس من الدعوة إلى فرض المظاهر الإسلامية، أو إعلان إسلامية الدولة، فمعالجة الجذور والأسباب أهم من معالجة المظاهر، والعبرة ليست بالشعارات بل هي بالعمل المتدرج الواعي..
والله الهادي إلى سواء السبيل..     
الأستاذ: أحمد أبو رتيمة

الثلاثاء، 14 يونيو 2011

أسلوب التجريد القرآني

هذه المقالة منقولة من مدونة الأخ أحمد أبو رتيمة و هي تتناول القصة في القرآن الكريم أو الأسلوب القصصي التجريدي كما يسميه.

مما يلفت النظر في الأسلوب القصصي في القرآن الكريم أنه يكاد يكون خلواً من أسماء الأعلام كالأشخاص والأماكن والتواريخ، بعكس ما يميل إليه البشر في أسلوب القصص من حشوها بالتفاصيل الظرفية لتحقيق عنصر التشويق والتسلية، وهذا يعني أن هدف القصص القرآني لم يكن التسلية ولا الترف الفكري، ويعني أيضاً استعلاء النص القرآني على طبائع البشر وأساليبهم..
حين يقص عليك أحد البشر قصةً يفصل لك أسماء أبطالها وأعمارهم ومواصفاتهم واسم القرية التي يسكنون فيها والمهنة التي يعملون فيها وعدد الأولاد وأسمائهم واسم الزوجة وصفاتها، وهكذا تمتلئ القصة بحشو من التفاصيل التي لا تتعلق مباشرةً بموطن العبرة من القصة بل تهدف إلى الجذب والتسلية، أما القرآن الكريم فتجده يجرد القصة من كل هذه التفاصيل ويقدم لك العبرة خالصةً من أي ملابسات، وهذه ميزة من الوفرة والكثافة في القرآن بحيث لا تخطئها عين المتدبر، فلو بدأنا بأول سور القرآن البقرة مثلاً نجد أن القرآن يقص علينا قصة ذلك الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، دون أن يذكر لنا اسمه ولا اسم القرية ولا الزمان الذي وقعت فيه، كل ما يهتم به القرآن هو موطن العبرة وهو تبيان آية الله في إحياء الموتى، وفي سورة يوسف ورغم كونها المثال النموذجي للقصة في القرآن فلا بد من توافر أسلوب الحبكة والتشويق فيها، وهو ما لا تخلو منه السورة إلا أننا في الوقت ذاته نجد أن ميزة التجريد حاضرةً بقوة.ولو عقدنا مقارنةً بين أسلوب القرآن وأسلوب الكتاب المقدس في قصة يوسف وهو ما فعله مالك بن نبي في كتابه الظاهرة القرآنية لوجدنا فرقاً واضحاً فبينما نجد الكتاب المقدس محشو بالتفاصيل الظرفية لهذه القصة ويكثر من الاستطراد ومن التكرار في غير ضرورة نجد أن القرآن يعتمد أسلوب الإيجاز والتغاضي عن التفاصيل غير الضرورية، والتركيز على المعاني المجردة وحدها.
في الكتاب المقدس تزخر قصة يوسف بتفاصيل الأسماء والأماكن فنجد فيها مثلاً (أرض كنعان، بني بلهة، بني زلفة، وادي جبرون، شكيم، دوتائين، رأوبين، قافلة من الإسماعيليين، جلعاد، يهوذا، عشرين من الفضة، فوطيفار رئيس الشرط، شوع، عيرا، أرض مصر، شمعون، بنيامين، أرض جاسان)، وكل هذه التفاصيل في أسماء الأعلام لا نجدها في القرآن، ولا نرى استطراداً وتوسعاً في التفاصيل الثانوية، وحين يعالج القرآن المشهد الذي دار بين يوسف وامرأة العزيز فإنه يكتفي بالتلميح بكل أدب، وبعد ذلك لا يذكر لنا القرآن عدد السنين التي قضاها يوسف في السجن، ولا يذكر لنا اسم الملك، ولا الحقبة التاريخية التي حدثت فيها وقائع القصة، وهذا الإسقاط المتعمد لكل هذه التفاصيل يبقي قلب الإنسان معلقاً بموطن العبرة وحده، ولو كان القرآن كما يزعم المبطلون اقتبس قصصه من الكتب المقدسة قبله لكان من باب أولى أن يقتبس هذه التفاصيل الظرفية، ولكن هذا الاختلاف في أسلوب القرآن يؤكد تفرده وتميزه..
أمثلة أخرى نجدها في سورة الكهف التي تقص ثلاث قصص رئيسية، في القصة الأولى قصة أصحاب الكهف لا يذكر لنا القرآن متى وقعت هذه القصة وما هي الشريعة التي كان الفتية يؤمنون بها وكم عددهم وما هي أسماؤهم وما اسم المدينة التي خرجوا منها وما اسم الكهف الذي آووا إليه، ومن هو الملك الذي حاربهم وما اسم العملة التي كانت بحوزتهم، كل ما يركز عليه القرآن هو إيمان هؤلاء الفتية وتضحيتهم في سبيل هذا الإيمان والمحنة التي تعرضوا لها، بل إنه يذم في هذه القصة ذاتها انشغال الناس بالجدل في الأمور الثانوية مثل عدد أصحاب الكهف وينهى عن الجدل في ذلك لأن هذه التفاصيل ليست هي مراد القصة.    
ونفس الشيء في قصة موسى وفتاه فهو لا يذكر لنا اسم الفتى ولا اسم العبد الصالح ولا اسم البحرين اللذين التقوا عند مجمعهما، ولا اسم القرية التي دخلوها، وكذلك في قصة ذي القرنين هذا الملك الذي جاب مشارق الأرض ومغاربها، ورغم ما يبدو من الأهمية التاريخية لهذا الملك وإنجازاته إلا أن القرآن لا يكشف لنا عن هويته، ولا عن الحقبة الزمنية التي عاش فيها ولا عن خط سير فتوحاته، بل إنه يحذف كل هذه التفاصيل ويركز على موطن العظة وهو الدور الأخلاقي المطلوب من القوة العظمى في الأرض بنشر العدالة ومكافأة الصالحين ومعاقبة المفسدين..
سارع بعض الجهلة إلى الزعم بأن هذا الخلو للقرآن من التفاصيل الظرفية يدل على فقر معرفي عند محمد، وأنه لو دعم القصص بالأسماء لكان ذلك أكثر مصداقيةً، والرد على هذه الدعوى هو بأن هذه الميزة ليست قاصرةً على جانب القصص التاريخي، بل هي بارزة أيضاً في أسلوب معالجة القرآن للأحداث المعاصرة لفترة تنزله على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الفترة التي لم يكن ينقص النبي معرفةً غيبيةً بها، ومع أن القرآن كان يغطي ثلاثاً وعشرين سنةً من الدعوة والأحداث الساخنة بين محمد صلى الله عليه وسلم وقريش إلا أنك بالكاد تلمس تعبيراً صريحاً يكشف بأن هذه الآيات تقصد أحداث فترة النبوة، ففي كل القرآن لم يصرح باسم قريش إلا مرةً واحدةً في سياق بعيد عن المواجهة بينها وبين محمد وهو سياق نشاطها التجاري، أي أنه لم يصرح باسمها ولا مرة في حديثه عن المواجهة بينها وبين محمد، ومن بين كل رءوس الكفر الذين حاربوا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم لم يذكر إلا اسم أبي لهب، ولو كان القرآن من عند محمد لملأه بهجاء المكذبين له وتحديد أسمائهم لفضحهم.. وحتى لا يقال إن الهدف من إغفال ذكر قريش وصناديدها هو التقليل من شأنهم فإننا نجد نفس الشيء في الجهة المقابلة فالقرآن يخلو من ذكر أسماء الصحابة سوى موطن واحد يذكر فيه اسم زيد، وعدا ذلك لا نجد أي تصريح بأسماء أي من الصحابة الذين كان لهم ثقلهم الوازن طوال فترة تنزل القرآن، فرجل بثقل أبي بكر رضي الله عنه لا يذكر في القرآن ولا مرة وحين تتنزل آيات تتناول شأناً يكون لأبي بكر أو غيره من الصحابة علاقة به فإنه يلمح إليه تلميحاً مثل قوله تعالى "إذ يقول لصاحبه"، "ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى"، بل إن هذه الميزة طالت حتى محمداً ذاته وهو المخاطب الأول في القرآن الكريم ورغم ذلك لم تكن الآيات تأتي بصيغة القول (يا محمد) ، فهي إما أن تربط النداء بالوظيفة مثل قوله "يا أيها النبي"، "يا أيها الرسول"، أو أنها غالباً تذكر الأمر مباشرةً دون تحديد النبي بالاسم حتى تشمله وتشمل أمته من بعده.
هذا الخلو للقرآن الكريم من أسماء الأعلام استعاض عنه بالأسماء الموصولة ( الذي، التي، الذين) وهذه الأسماء الموصولة بالآلاف في القرآن ووجودها كما يذكر المفكر المغربي أبوزيد الإدريسي مؤشر على تركيز القرآن على الأفعال وليس على الأشخاص، فحين يسرق شخص اسمه خالد، وتراه فتقول رأيت خالداً فهذا يعني أن هوية الشخص هي موضع الاهتمام، لكن حين تقول رأيت (الذي سرق) فهذا يعني البعد عن الشخصنة، والاهتمام بالفعل مجرداً أياً كان الفاعل. ومشكلة القرآن لم تكن مع قريش من حيث أشخاصهم، ولكن مع كفرهم وتكذيبهم، وبذلك فإن أسلوب التجريد في القرآن يعني الابتعاد عن الشخصنة والتعامل مع الأفعال مجردةً فتدان هذه الأفعال لأنها خطأ بغض النظر عن شخص الفاعل..
أسلوب التجريد في القرآن الكريم هو الذي يؤهله للخلود وللعالمية فلو أنه كان كتاباً مستغرقاً في ذكر التفاصيل الظرفية لزمن نزوله لما وجدنا فيه اليوم ما يلبي حاجات عصرنا ويجيب على تحدياتها، وتصوروا لو أن القرآن اعتمد الأسلوب البشري المعهود في سرد القصص، وأسهب في وصف حياة البادية والخيام والجمال والخيول والسيوف وغير ذلك من المظاهر التي كانت تميز مرحلة تنزله وطالعه اليوم رجل عصري، إذاً لألقى به وقال: وما علاقتي بهذه القصص البالية التي حدثت قبل ألف وأربعمائة عام، وفي أحسن الأحوال كان سيتعامل معه على أنه أثر تاريخي يوثق فترةً زمانيةً من تاريخ البشرية، لكن أسلوب القرآن يبدو متعالياً على الظروف الزمانية والمكانية للمجتمع الذي تنزل فيه، ولا يبدو للبيئة التي جاء فيها أي أثر على أسلوبه.
بأسلوب التجريد تحول القرآن إلى ما يمكن تشبيهه بقالب تستطيع أن تملأه في كل مرحلة بما يلائمها من نماذج تطبيقية، فنفس الآيات التي نزلت تتحدث عن قريش تستطيع أن تسقطها في هذه المرحلة على أي قوم يسيرون على نفس طريقة قريش في الأفكار والأفعال دون أن تشعر إطلاقاً بأن هذه الآيات تتناول قريش..
وبذلك فإن إنسان هذا العصر حين يقرأ القرآن فسيشعر أنه يخاطبه مباشرةً، وأنه يتنزل لتوه عليه، لا أنه وثيقة تاريخية استنفدت فاعليتها، وسيجد لكل آية من آياته تطبيقاتها العملية المعاصرة، فهو سيرى في القرآن وصفاً عاماً للنفاق، ولن يرى استغراقاً في مهاجمة شخص ابن أبي سلول، وسيرى خصائص عامةً للظلم، وليس حديثاً خاصاً عن قوم من الأقوام. وسيكون بإمكان أي إنسان في أي زمان أو مكان أن يجد في بيئته نماذج تطبيقية جديدةً لهذه الأوصاف دون قصرها على نموذج واحد حدث في زمن النبي، وسيظل القرآن كتاباً حياً متجدداً..
إن اعتماد القرآن أسلوب التجريد والتعالي على التفاصيل الظرفية هو مصدر ثراء له.
لقد فهم علماء المسلمين من هذه الميزة القرآنية فوضعوا قاعدةً قالوا فيها إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أي أن علينا أن نتعامل مع الآيات بألفاظها العامة وكأنها تتنزل علينا، لا أن يقتصر فهمنا لها وكأنها تخص زمن نزولها وحسب، لكن واقع الحال هو أن بعض التفاسير تتعامل مع الآيات بخصوص السبب لا بعموم اللفظ فتستفيض هذه التفاسير في شرح ملابسات النزول على حساب المعاني العامة الثرية التي تحتويها الآية مما يرسخ الانفصال بيننا وبين القرآن، فتصير إسقاطاتنا الذهنية حين نسمع آيات القرآن متوجهةً إلى زمن النبي بدل أن تتوجه إلى واقعنا المعاصر اليوم وتكتشف ما فيه من عناصر تدخل في إطار المفاهيم العامة للآية، فإذا تلي علينا مثلاً قوله تعالى "إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر" استفضنا في الحديث عن غزوة الخندق وعن حصار المدينة ووصف الحال التي كان عليها النبي والصحابة في تلك اللحظات العصيبة.. وفهم أسباب النزول لا شك أنه يعين على فهم مقاصد الآيات..لكن الخطأ هو أن نظل في هذه الدائرة لا نتجاوزها فنفس الآية بألفاظها العامة المجردة تصلح لوصف مواطن كثيرة في حياتنا، وكل موقف يواجهنا في حياتنا تحيط فيه الشدائد بنا من كل جانب يصلح أن نسقط عليه هذه الآية ، وهذا المنهج هو الكفيل بأن يحيي فاعلية القرآن في حياتنا ويعمق صلته بواقعنا أن نتلو القرآن وكأنه يتنزل علينا..
تجد قوماً آخرين أوتوا الجدل فهم يشغلون أنفسهم فيما سكت الله عليه، ولو علم الله أن في معرفتنا به خيراً لذكره لنا فتجد كل انشغالهم بطرح سؤال من المقصود في هذه الآية، وما اسم القرية التي تعنيها تلك الآية، وما اسم العبد الصالح الذي قابله موسى، ومن هو ذو القرنين، ومن هو الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، ومن هي التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، ومن هو فتى موسى، وما اسم ابن نوح الذي آوى إلى الجبل، وما اسم الشجرة التي أكل منها آدم..هذه الأسئلة تكثر في المسابقات، وربما لجأ أحدهم إلى تأليف كتاب لحل ألغاز هذه الأسماء، وهم يظنون أن ذلك من علامات التقوى والاهتمام بكلام الله ولم يتفطنوا إلى أنهم يسيرون بذلك في الاتجاه المعاكس لمراد القرآن، فالقرآن تعمد إسقاط هذه التفاصيل ليبقي اهتمامنا منصباً على موطن الفعل والفاعلية، والمنهج الأقرب للصواب حين نقرأ هذه الآيات أن نفترض أنها تتناول نماذج موجودةً بيننا وأن نفتش في أنفسنا حتى لا يكون قد أصابنا نصيب من هذه الآيات ففي كل عصر هناك من يؤتيه الله آياته فينسلخ منها، وفي كل عصر هناك من ينقض غزله من بعد قوة أنكاثاً، وكل إنسان منا أمامه شجرة محرمة ينبغي أن يحذر من الاقتراب منها، والقرآن يحتوي على لغة ترميزية عميقة تتجاوز الفهم السطحي المحدود.
إن شرط الاستفادة من كنوز القرآن المذخورة هو أن نعيد تفعيل وظيفته الاجتماعية فنفهم آياته وأحكامه وأمثاله في ضوء واقعنا المعاصر وتطبيقاته المستجدة، لا أن نبالغ في الاهتمام بأسباب النزول ونغفل عموم الألفاظ وإطلاقها، فهذا من اتخاذ القرآن مهجوراً أن يكون نصيبنا منه هو ترديد أحرفه وآياته وحسب دون أن نتنبه إلى أن الوحي متجدد وأنه يتنزل علينا لتوه لتكون له كلمته في مشكلاتنا المتجددة..
"أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً".   
******* 

الأحد، 29 مايو 2011

و إذا حمزة الخطيب سئل بأي ذنب قتل

هل يستطيع بشار الفأر كبير السفاحين الإجابة عما  شاهده العالم فيما اقترفه جنوده من تعذيب وتنكيل و قتل لطفل لا يمكن أن يكون من فعل هذه الجريمة البشعة من جنس البشر  في حق طفل لم يتجاوز 13 سنة و الله الوحوش و الحيوانات المفترسة ترأف بفريستها و تجهزعليها دون أن تعذبها ما شاهده العالم من تعذيب قبل القتل و التمثيل بالجثة لا يمكن أن يصدر إلا عن أشخاص مرضى ساديين فهل بقيت شرعية لهذا النظام الفاسد المفسد ليحكم سورية إن الوضع العام أصبح مأججا بالغضب و في حالة غليان  لقد سئم السوريون عيش الخوف و القهر والمخابرات و المعتقالات و السجون. الشعب منذ ما يزيد عن 40 سنة يعيش في سجن كبير و كل من حاول رفع هامته إلا و سجن و غيبب  وإختفى دون رجعة. لقد كنت أتردد على دمشق في فترات  من الزمن في بداية التسعينات لأنه لي أخت كانت تدرس  بالجامعة و كنت ألاحظ الوضع المأساوي الذي يعيشه الشعب و حالة الرعب التي كان عليها من أجهزة المخابرات التي كانت تعوث في البلاد فسادا دون رقيب و لا حسيب.
أذكر مرة أني كنت في فندق بدمشق يسمى فندق البستان و قد كنت في الصالون ففدم شخص معه مجموعة من الرجال و جلسوا بالقرب مني فجاءه النادل و سألهم بكل لطف طلباتهم فما كان من أحد الأشخاص إلا و صفعه على و جهه قائلا لماذا لا تقول سيدي للمعلم فارتبك المسكين و قال ماذا يطلب سيدي فرد أحد الأشخاص الجالسين "سمعني" لم أسمع فصاح الشاب ماذا يريد أن يشرب سيدي فصفعه مرافق أخر و قال له لماذا تصرخ بقي المسكين لا يدري هل يتكلم بصوت مرتفع أم بصوت منخفض المهم لم تنقذ هذا الشاب إلا فتاة دخلت لتقابل هذا السيد و لكنها أشفقت عليه و صرخت في وجه السيد حرام عليك و دفعت أحد المرافقين فقام السيد و نهر المرافقين و طلب منهم الخروج ليجلس مع الفتاة التي اعتذرت من النادل و طيبت خاطره. فيما بعد علمت أن هذا السيد هو ابن العميد عزالدين رئيس شعبة الأمن السياسي فإذا كان الابن هكذا يتصرف فكيف بالأب.
هكذا يعيش المواطن السوري في القهر و الظلم دون أن يقدر على الدفاع عن كرامته فكيف تريدونه لا يثور على هذا الوضع 

السبت، 28 مايو 2011

مناهج التشريع الجزء الأول


               مخطط البحث:
1.    تعريف التشريع.
2.    تعريف المنهج.
3.    الغاية من المنهج.
4.    مناهج التشريع الإسلامي.
5.    الاختلاف في المناهج.
6.    الدعوة إلى تجديد المناهج.
      تعريف التشريع: اسم فعل من شرع يشرع شرعا أي سن. و الشريعة في اللغة الطريق الذي يتوصل منه إلى الماء قال ابن عاشور: " و سميت الديانة شريعة على التشبيه لأن فيها شفاء النفوس و طهارتها و العرب تشبه بالماء و أحواله كثيرا كما قدمناه في قوله تعالى ‹‹ تعلمه و الذين يستنبطونه منهم[1]›› في سورة النساء.[2]
قال تعالى‹‹ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى وعيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه[3]›› أي سن لكم و في التحرير لابن عاشور: " و معنى شرع أوضح وبين... وأصل شرع جعل طريقا واسعة و كثر إطلاقه على سن القوانين و الأديان فسمي الدين شريعة فشرع هنا مستعار للتبيين[4]..."
   فالتشريع هو سن القوانين و جعلها بينة واضحة ليسير عليها الناس و قد أنزل الله تعالى شريعة و وعد من يسير عليها خير الدنيا  والآخرة فقال تعالى‹‹ و أن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا[5]›› و استنكر أن يسير الناس على شريعة من عند غيره تعالى فقال جل و جلاله ‹‹ أم لهم شركاء شرّعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله[6] ›› و التشريع ظاهرة إنسانية إذ أن كل أمة في كل زمان  ومكان لها تشريع يسير عليه أفرادها بقطع النظر عن كونه مكتوبا أو عرفيا صالحا أم فاسدا عادلا أم جائرا ثابتا أم متغيرا.   
تعريف المنهج: جمع مناهج و هو الطريق الواضح قال ابن منظور في لسان العربي: " نهجت الطريق أبنته وأوضحته يقال اعمل على ما نهجته لك و نهجت الطريق سلكته و فلان يستنهج سبيل فلان أي يسلك مسلكه[7] "
قال ابن عاشور " و المنهاج الطريق الواسع و هو هنا في الآية 48 من سورة المائدة تخييل أريد به طريق القوم  أي غير المسلمين إلى الماء... و يصح أن يجعل له رديف في المشبه بأن تشبه العوائد المنتزعة من الشريعة أو دلائل التفريع عن الشريعة أو طرق فهمها بالمنهاج الموصل إلى الماء فمنهاج المسلمين لا يخالف الاتصال بالإسلام فهو كمنهاج المهتدين إلى الماء و منهاج غيرهم منحرف عن دينهم... فذلك كالمنهاج الموصل إلى غير المورود[8] "
   و من هذه المقتطفات المنقولة نجد أنفسنا أمام أربعة أشياء الماء و الطريق أو السبيل الموصلة إليه. ثمّ إن الدين أو الشريعة و المنهاج الموصل إليه فكما أن لمورد الماء طريقا و سبيلا موصلة إليه كذلك الدين و الشريعة له طريقا و سبيلا. و كما أن الطرق و السبل أنواع منها ما يوصل إلى مورد الماء و منها ما لا يوصل إليه، كذلك المناهج منها ما يوصل للدين و الشريعة و منها ما لا يوصل و لهذا سبق من قول ابن عاشور «منهاج المسلمين لا يخالف الاتصال بالإسلام فهو كمنهج المهتدين غلى الماء» ثم أضاف « و منهاج غيرهم منحرف عن دينهم... فذلك كالمناهج الموصل إلى غير المورود»
   و يصدق القرآن ما قاله ابن عاشور في هؤلاء «و إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق أن قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك إنك أنت علاّم الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي و ربكم و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم و أنت على كل شيء شهيد[9]» فتأليه عيسى وأمه مريم عليهما السلام ليس هو دين المسيح و لا شريعته و إنما هو انحراف أوصل النصارى إليه منهج  وطريق و سبيل منحرف من كل هذا يتضح أنّ المناهج هي الطرق المتبعة لمعرفة حقيقة الدين تماما مثل الطرق المتبعة لبلوغ موارد المياه و قد مثل لها ابن عاشور و عبر عنها في قوله السابق بـ ( العوائد و دلائل التفريع عن الشريعة أو طرق فهمها )
الغاية من المناهج
   تختلف الغاية من المناهج حسب اختلاف نوايا و مقاصد أصحابها و هو ما يجعل المناهج في حد ذاتها تختلف منها المستقيم و منها المنحرف المعوج، فأصحاب النوايا و المقاصد الفاسدة لهم منهج منحرف معوج و قد رد عليهم القرآن في مواضع منها:
قوله تعالى«... فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله[10]...» أي أنّ هذا الصنف من الناس يترك المنهج الواضح السليم و ينهج النهج الشائك ليبلغ مقاصده المنحرفة عبر التأويل غير المشروع.
   قوله تعالى:«أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر[11]» فالمشركون يستعملون منهجا منحرفا في المقارنة بين المؤمنين بدعوى أن لهم براءة في الزبر و الحقيقة خالية من البراءة المزعومة و إن وجدت ففي الزبر المحرفة و التي يعرفون أنها محرفة و لهذا يستنكر الله تعالى منهجهم فيقول«أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون[12]» و قوله تعالى ما لكم كيف تحكمون صريح بين في رد المنهج المنحرف الذي اعتمدوه في تخيير الكافرين على المؤمنين فكما لا يفضل الكافر المؤمن لا يفضل المجرم المسلم.
   قوله تعالى:«أفرأيت الذي كفر بآياتنا و قال لأوتين مالا و ولدا اطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا»[13] فهذا الكافر يصرح بمستقبله الزاهر لكن بغير منهج سليم فهو لم يطلع على الغيب حتى يعرف ماذا سيكسب غدا من المال و الولد و لا أبرم عهدا مع الله تعالى الذي بيده النفع و الضر فقط اعتمد هذا الكافر على منهج الرجم بالغيب فقوله عن مستقبله كقول المتخلفين في عدد أصحاب الكهف: «سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم و يقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب و يقولون سبعة ثامنهم كلبهم قل ربي اعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تماري فيهم إلا مراء ظاهرا و لا تستفت فيهم منهم أحدا[14]»
   و قد أنكر الله تعالى على أهل الكتاب مناهجهم المعوجة فقال تعالى«قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا و أنتم شهداء و ما الله بغافل عما تعملون[15]» فأهل الكتاب في الأصل أنفسهم استيقنت الإيمان و هم شهداء على الحق فكان حريا بهم لو اتبعوا المنهج السليم إن يدعوا إلى سبيل الله و لكنهم اتبعوا منهجا عوجا فقادهم إلى الصد عن سبيل الله تعالى. و لهذا يدعوهم الله تعالى إلى المنهج السليم فيقول جلا و علا «و لا تلبسوا الحق بالباطل و تكتموا الحق و أنتم تعلمون[16]» و من أبشع المناهج المعوجة المغالطة  والتحريف
و التضليل« و إن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب و ما هو من الكتاب و يقولون هو من عند الله و ما هو من عند الله و يقولون على الله الكذب و هم يعلمون[17]»  
   و في القرآن أمثلة كثيرة في رد المناهج الفاسدة التي كان ينتهجها العرب في الجاهلية و أهل الكتاب و غيرهم من أئمة الكفر. و في عصرنا ظهرت مناهج لا تقل اعوجاجا عن مناهج الجاهلية الأولى تدعو إلى تقديم العقل على النقل و تقديم التأويل على التفسير و تدعو إلى قراءة النصوص قراءة لا تلقي بالا لمصدرها الذي انتهجها.
يمكن متابعة الجزء الثاني و الثالث على مدونة السيد علي البشير القريوي
الأستاذ علي القريوي
alhekma.blogspot.com




  النساء 83[1]
 الشيخ الطاهر بن عاشور: التحرير و التنوير ج 6 ص 223[2]
 سورة الشورى 13[3]
 التحرير و التنوير: ج 6 ص 226[4]
 سورة الجن 16[5]
 الشورى 21  [6]
 لسان العرب لابن منظور: ج2 ص 383[7]
 التحرير و التنوير: الطاهر بن عاشور ج 6 ص 223[8]
  سورة المائدة الآيتين 115/ 116 [9]
 سورة آل عمران آية7 [10]
 سورة القمر آية 43      [11]
 سورة القلم آية 35  [12]
 سورة مريم آية 78[13]
 سورة الكهف 22[14]
 سورة آل عمران آية 99[15]
 سورة البقرة آية 42[16]
 سورة آل عمران آية78[17]

الثلاثاء، 24 مايو 2011

أمريكا و صناعة الإسلام

     السياسة الأمريكية كانت دائما و مازالت تقوم على تحقيق المنافع لا للشعب الأمريكي بل و لإسرائيل و لذلك ارتبط الفهم العام للشعب بمبدأ البراجماتية في جميع مجالات الحياة حتى الدين قام على ما يوفره للمعتنق من راحة نفسية و سكينة في هذا المقال يبرز الكاتب كيف تعاملت أمريكا مع الدين الإسلامي و الشكل الذي تريده أن يكون عليه 
     بانتهاء الحرب العالمية الثانية ينتقل مركز الثقل الغربي إلى أميركا، ومن ثم قيادة الفكر البراجماتي الأميركي للعالم الغربي ‏بوجه عام، وتحول الغرب التقليدي إلى الغرب الأميركي أي المهيمن عليه أميركياً، وهو الآمر الذي تم تعميمه على العالم ‏كله بسقوط الاتحاد السوفياتي حيث غدت الأمركة نظاماً عالمياً جديداً لا يجد مارقاً يتحداه سوى الإسلام والفلسفة البراجماتية هي الفلسفة التي تخضع حقيقة كل الأشياء لما يمكن أن تجلبه من مصلحة من ورائها. ومن هذا المنطلق وضع “وليم جيمس” منظر هذه الفلسفة نظريته البراجماتية للدين، فالدين يكون صحيحاً من وجهة نظره ‏مادام يقدم نفعاً عملياً للمعتقد به، ولكن ترى ما هذه 
المنافع التي يريدها " جيمس من الدين؟ إنه يحددها في التالي: الراحة – الهدوء – السكينة – الطمأنينة – السلام – الاغتباط – المشاعر المتدفقة التي تلهب الصدور وتبعث الحركة في ‏الحياة أي أن «جيمس” أراد من الدين أن يكون مجرد مسكن أو مخدر يستطيع الإنسان من خلاله مواصلة حياته بطمأنينة ‏وحماسا أكبر، وبهذه الصيغة اصطبغت الحياة الدينية الأميركية إلى الحد الذي يقول عنه “هارولد بلوم” في كتابه (الدين ‏الأميركي – 1992م): “إن المسيحية تجربة براجماتية أميركية، وإن " يسوع الأمريكي" أقرب لما هو أمريكي لما هو مسيحي.

     ومن الطبيعي بعد الهيمنة الأميركية على العالم والعالم الإسلامي بوجه خاص أن يعمل الأميركيون على صبغ الدين ‏الإسلامي نفسه بهذه الصبغة البراجماتية والذي يعنيه هذا هو العمل على توظيفه لخدمة المصالح الأميركية في المنطقة، ‏وكان المخطط المقترح لتطبيق هذا المنهج هو العمل على صناعة ما يُسمى بـ”الإسلام الليبرالي الديمقراطي”، والعمل على ‏تسييده في المنطقة.‏
وخلاصة هذا الإسلام الليبرالي أنه إسلام يتم تفريغه من الداخل من العقائد والقواعد والأحكام التي يتم استبدالها بمحتوى ‏علماني يسقط كل ما له علاقة بالوحي والمقدس والمرجعية الإسلامية، ويضع مكانه العقل والمصلحة كمرجعية وحيدة ‏للإنسان في تصوراته وسلوكه بينما يحتفظ بالشعارات والمظاهر الدينية من الخارج.. إسلام مزيف يتفق مع العلمانية ‏والديقراطية والعولمة الأميركية ومبادئ حقوق الإنسان الغربية ومقررات المؤتمرات النسوية، ويتفق مع كل شيء في العالم ‏إلا مع الإسلام الحقيقي نفسه.‏
     إسلام يدعو إلى السلام والتسامح والتعايش، أي التعامل مع الواقع الذي تسيطر عيله الحضارة الغربية بسلام واستسلام ويعادي الجهاد والمقاومة ومواجهة المظالم أو يغض الطرف عنها تماماً، أي يمنع القيام بمواجهة هذا الواقع الذي تسيطر عليه الحضارة الغربية.
     ويوجد الآن أكثر من تيار يعمل على توجيه سياسة الولايات المتحدة تجاه العالم الإسلامي والإسلاميين بوجه خاص، ‏ويتراوح الأمر مابين التطويع لخدمة المصالح الأميركية ومابين التحجيم والمواجهة الحاسمة للإسلاميين الأصوليين. ويرى ‏أصحاب الاتجاه الأول مثل مؤسسة كارنيجي ومركز سابان ومركز بروكينجز تطويع فكر بعض الاتجاهات الإسلامية ممن ‏يسمون بالإسلاميين المعتدلين بما يتوافق مع المصالح الأميركية العالمية وذلك عبر المؤتمرات المتتالية التي تدور حول مايسمى ‏بالحوار الغربي الإسلامي، هذا فضلاً عن اللقاءات الخاصة وتهدف إلى العمل على إشراك هذا النوع من الإسلاميين في ‏الحكم والنفوذ في مقابل التأويل الإقصائي لثوابت مرجعية في الإسلام مثل الحكم والشريعة والجهاد.‏


     أما الاتجاه الثاني الذي يرى التحجيم والمواجهة للإسلاميين الأصوليين فتقوده مؤسسة راند التابعة للمخابرات الأميركية ‏وهي أكبر مؤسسة فكرية في العالم، وقد أصدرت تقريرين حول الموضوع في عامي 2003م، 2007م الأول يدور حول ‏تحجيم الإسلاميين الأصوليين ومساندة العلمانيين والحداثيين، أما الثاني فيذهب الى أنه لابد من إعادة تفسير مبادئ الإسلام ‏لتستجيب للمصالح الغربية، بل وجوب استخدام الإسلام نفسه في مواجهة الإسلاميين الذين يجب وصمهم بالإرهاب ‏والتطرف والجمود، بل يذهب التقرير إلى وجوب دعم وتقوية العلمانيين في مواجهة الإسلاميين، وتهميش سيادة الدول ‏وتقليص قدرتها على التصدي للمشروع الأميركي. والمتتبع للسياسات الأميركية في المنطقة يرى أنها تجمع مابين كل هذه ‏الاتجاهات.‏.
                                                الدكتور : أحمد ماهر محمود النخالة


الجمعة، 29 أبريل 2011

الإسلام بين الدين و الايديولوجيا


     عرّفت الأيديولوجيا بأنّها:ناتج عمليّة تكوين نسقٍ فكريٍّ عامٍّ يُفسّر الطبيعة، المجتمع والفرد، مّا يحدِّد موقفاً فكريّاً وعملياً معيناً لمعتنق هذا النسق، الذي يربط وبكامل بين الأفكار في مختلف الميادين الفكريّة السياسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة. الأيديولوجيا بهذا التعريف ـ وهو ممّا يؤمنون به ـ فإنّه يُعبّر عن كونها ضرورة وجوديّة وحياتيّة، تؤدّي إلى إشباع الحاجات السيكولوجيّة والاجتماعيّة والسياسيّة... والميتافيزيقيّة للإنسان، مثلما تؤدّي الإشباعات الماديّة إلى الاستجابة لحاجياته البيولوجيّة والماديّة الأُخرى .وبهذا التعريف والتوجيه فانّ الدِّين يكون بلا شكّ أيديولوجيا، لأنّه يُعطينا فكرةً عامّةً عن الوجود والعلاقات بين الإنسان والله تعالى من جهة، وبين الإنسان والمحيط الذي حوله.  ولكن «الأيديولوجيا» موضع البحث والنقد ليست بهذا التعريف ولا بهذا التحديد، وانّما هي عندما تحلّ الايديولوجيا كبديلٍ تامٍّ للعلم والمعرفة الفكر والثقافة الإنسانيّة لتُعطي تفسيراً جاهزاً وشاملاً لكلّ الظواهر الحياتية .
     وهي الصورة الناتجة عن كلّ منظومة أفكار تُبالغ في أهمّيتها الخاصّة في بناء الواقع وتحويله، حتى تكون هذه الأيديولوجيا ذات طابعٍ حصريٍّ ـ في تفسيرها للأشياء ـ فهي مخططٌ معياريٌّ يؤثّر بصورةٍ تهدم أيّ إمكانية لمناقشةٍ عقلانيّةٍ، وهي بذلك تمتاز عن منظومات المعرفة العلمية ذات الطابع العمليّ أو المحاكمات الأخلاقية، لأنّ الأيديولوجيات منظومةٌ رمزيّةٌ لا يُمكن أن تُعاب لأنّه ليس لها خصائص نظرية علمية فهي بذلك لا تستطيع إلاّ أن تكون محازبة ـ غير محايدة ـ وقصدية.
وهذه الصـورة من الأيديـولوجيا التي تفسّر كلّ شيء تفسـيراً كلِّياً «أسطورياً» وبطريقة تفكيرٍ تبسيطيّةٍ واختزاليّةٍ في مقابل الوعي العلميّ المعاصر، لذا تقوم الأيديولوجيا مقام التفكير بالنسبة للجماهير غير المثقّفة، إذ تجعلهم يعتقدون أنّهم يتفهّمون العالم بمجرّد ترديد صيغٍ طقوسيّةٍ ذات مظهرٍ علميٍّ عائمٍ.
لذا كانت هذه الطريقة من التفكير الأيديولوجيّ موضع إدانة وهجوم عددٍ كبيرٍ من المفكِّرين في القرنين الماضيين، منهم المفكّر الألمانيّ هايدغر، إذ اعتبر الأيديولوجيا تفكـيراً جاهزاً تُمارسـه الجماعة ويعفي الفرد من عناء التحليل والاستدلال، فالأيديولوجيا في نظره تدخل في منطقة المبنيّ للمجهول .
إلاّ أنّ ما نريد بيانه بهذا العرض أنّ معظم النقد ـ وهو قائمٌ فعلاً ـ اتّجه إلى إعطاء الفكرة قوامة تفصيلية على سائر أمور الحياة جملةً وتفصيلاً، بحيث تحلّ الأحكام المسبقة المستقاة من هذه الفكرة محلّ التفكير العلميّ القائم على الملاحظة والتجربة واستقراء الوقائع واستقصاء الحالات المختلفة، ممّا يجعل تفسير أيّة ظاهرةٍ أو تحليل أيّة قضية جاهزاً مسبقاً، وفق أسس نظريّةٍ بحتةٍ .
وبالتالي فإنّ «الأيديولوجيين» يعطونك فهماً مفصّلاً ـ لا عامّاً ـ ينطبق على ما جرى وما يجري، ولا يهتمّون بكلّ ما يُنتجه العقل البشريّ أو يُلاحظه الحسّ في الواقع .
     اختلف الباحثون في أنّ الدين هل هو أيديولوجيا أم لا ؟ فإذا كان الدِّين الإيمان بالغيب والاعتقاد بأمور غيبيّة، اعتبرها البعض «مقدّسة غير قابلة للتعقّل»، فإنّ الدِّين يكون ما فوق الأيديولوجيا، إذ الأيديولوجيا تُحاول أن تنزل بالمعتقد والفكرة إلى التطبيق على الموضوعات المختلفة، والدِّين بهذا التصوّر تعالٍ بالفكرة عن التطبيق .
والنظرة هنا غربيّة وتنطبق على الديانات ـ غير الإسلام ـ والتي تُجرّد الدِّين لتجعل منه علاقة ـ وقد تكون مجرّد علاقة حبٍّ وتخيّل ـ بين المخلوق وخالقه .
أمّا إذا نظرنا إلى الإسلام على أساس أنه دين حياة وعقيدة وتشريع، يشمل برؤاه سائر شؤون الدنيا كما شمل الآخرة، فإنّه بهذا المعنى يُمكن أن يكون أيديولوجيا .
على أنّنا نرى أنّ الإسلام ليس أيديولوجيا بالمعنى المصطلح التامّ لكلا التعريفين الإيجابيّ والسلبيّ اللّذين مرّا، وإنّما نتّفق مع مَن ذهب إلى أنّ بعض التيارات الدينيّة اتّجهت إلى «أدلجة» الدّين بالمعنى الأوّل، وكذلك الثاني عند بعضها الآخر .
ونرى أنّ الإسـلام لم يُلغِ ثقافة الشعوب المختلفة ولم يُهمل عاداتها وتقاليدها القوميّة، ولم يوحّد لغتها، بل لم يعمل على صهر كلّ هذه القوميات في بوتقةٍ ثقافيّةٍ واحدةٍ، ولم يتّجه حتى إلى إلغاء الديانات الأُخرى التي احتفظت بدُيورها ومعابدها ووجودها القومي حتى يومنا الحاضر، في الوقت الذي شهدنا في الأندلس إبادة تامّة لحضارتها ودينها وأناسها المسلمين، ولا زال المنقِّبون يكتشفون فيها مقبرة جماعية بعد أخرى من آثار الغزو الأوروبي لها .
وكلّ ما عمله الإسلام أن فجّر في الشعوب التي اعتنقته طاقاتها، وحرّرها من أسر العبودية المذلّة ووجّهها نحو العلم النافع والعمل البناء .
     وبخلاف الأيديـولوجيات التي غالباً ما تفسِّر التاريخ والأحداث على أساس العامل الواحد، فانّ الإسلام لم يقرّ ذلك ولم يفسّر الحياة الإنسانية تفسيراً غيبياً أو مادياً بحتاً، بل استوعب كلّ العوامل الموضوعيّة، فلم يكن مثالياً كما لم يكن مادياً بحتاً.
وفي مجال التشريع ترك التشريع الإسلاميّ منطقة فراغ تملأها الدولة ـ المجتمع ـ في ضوء الظروف المتطوّرة، بالشكل الذي يضمن الأحداث العامّة للتشريع ويحفظ للتشريع مرونته وتحرّكه وتكيّفه مع الظروف المختلفة. وكان لحركة الاجتهاد دورها الغنيّ ـ ولا زال ـ في إثراء الفكر الدينيّ وتطوّره وتلبيته للحاجات الإنسانيّة .
ولكن لا بدّ من تسجيل ملاحظة هنا، هي أنّ بعض الاتجاهات الدينية وبهدفٍ دينيٍّ أو سياسيٍّ أحياناً سعت في القرن الماضي إلى أدلجة الدِّين بنحوٍ ما، وبالتالي ربّما خلقت نوعاً من المقابلة بين الدِّين ـ كما تتصوّره ـ وما أفرزه الفكر الإنسانيّ من علمٍ ومعرفةٍ وحداثةٍ وتطوّرٍ  .وقد لخّص بعض الباحثين الآليات الذهنية في تحويل الخطاب الدينيّ إلى خطابٍ أيديولوجيٍّ فعدّ من أهمّها ما يلي :
 1- في التركيز على المعاملات بجانب العبادات .
 - التوحيد بين الفكر والدِّين .
 3- التفكير الاختزالي للظواهر بردها إلى مبدأ واحدٍ .
 - الاعتماد على سلطة السلف والتراث وتقليص المسافة بين النصوص الأساسية والنصوص الثانويّة .
 - اليقين الذهني والحسم الفكريّ القطعيّ .
- إغفال البعد التاريخي وتحويل الحقائق النسبية والتاريخية إلى حقائق أبدية.
ويُمكن إعطاء أمثلة واقعيّة من أدلجة الدِّين، وجعله سلطة حصرية وقهرية، وبالتالي في مقابل الإنسان ثقافة وفكراً، علماً وعملاً، من ذلك :
ـ إضفاء صفة القدسيّة على النّص والسلوك غير المقدّس، الذي لاينتهي إلى الوحي الكريم، من ذلك إضـفاء صفة القدسـيّة، وبالتالي غلق باب المناقشـة، لكل ما ورد عن السلف الصالح من تراثٍ وقيمٍ وسلوكٍ، وهو بخلاف نهج القرآن الكريم الذي فتح باب الحوار حتّى مع المشركين "وإنّا وايّاكم لعلى هُدىً أو في ضلالٍ مُبينٍ". وبالتالي فإنّ بعض الاتجاهات الدينيّة بدأت تعتبر الدفاع عن الماضي نوعاً من الواجب الديني في مقابل الهجمة الثقافيّة ضدّ الإسلام، وصارت تتبنّى التحجّر الفكريّ وتعتبر ذلك نوعاً من التقدّس .
 .
وأدّى هذا التعصّـب إلى إلغاء الفكر الآخر ضمن سلطات الاستبداد الدينيّ، ممّا عطّل العملية النهضوية والتجديديّة الفكريّة التي تتوقّف حركتها على وجود الاصطكاك والتعارض مع الرأي الآخر، ممّا يجعل الفكر في حصانةٍ وصيانةٍ مستمرةٍ ومطابقةٍ دائمةٍ مع الواقع المتغيّر .
ـ طرح الدين كمصدرٍ لكثيرٍ من العلوم، كالطب والفلك وغيرها، وبدأت عملية فرز وتبويب وطرح للتراث المتوارث من ورود في العلوم، مع ملاحظة أنّ الكثير منه ضعيف الإسناد، والكثير منه هو تراثٌ مترجمٌ من اليونانيين وغيرهم، ولا يملك أصالة النصّ الدينيّ أو قدسيّته .
ـ كما طرح الفكر الدينيّ في مقابلة ومواجهة مع الفكر الإنسانيّ الذي أنتجه من وهب الله به العقل للإنسان، وحثّ تعالى على التفكّر والتدبّر في السماء والأرض، والسير فيها ودراسة آثار الماضـين، واكتشاف آياته في الأنفس والآفاق .
ووجـدنا في الكثـير من الدراسـات في العلوم الإنسـانيّة طرح الرأي الإسلاميّ في مقابلة مع الآراء الأخرى، دون التأكّد من الرأي المنسوب إلى الإسلام، أو الاعـتماد على رأيٍ لمفـكِّرين أو علماء مسلمين ونسبته إلى الإسلام، مع أنّهم هم لم ينسبوه إليه، بل اعتبروه مجرّد رأيهم الشخصيّ .
ـ الانطلاق في مجالات الحياة من أبواب الحرمة والشّك ... مع أنّ الإسلام أقرّ أصالة الحلِّية «كلّ شيء لك حلال حتى تعلم حُرمته» ، والطهارة «كلّ شيء لك طاهر حتى تعلم نجاسته»، وبنى على الصحة والسلامة واليقين لا الشك، وقرّر أصالة البراءة، وهي مبادئ راقية في الحياة .
وهذا ما جعـلنا نرى قطاعات من المتدينـين تعيـش ضمن الأسوار النفسيّة والاجتماعيّة المغلقة، بعيداً عن الأجواء المنفتحة التي أرادها الإسلام، حتى أنّنا نجد بعض الناس يُعاني من عقد نفسية كالوسواس والشّك وسوء الظنّ ... إلخ ، نتيجة للتربية الدينية الخاطئة والمتشدِّدة .
كما تتداول أوساط متديِّنة اتهامات التكفير والتفسيق والتشكيك في النوايا والتعامل مع النّاس على أساس سوء الظنّ والكثير من الأمراض التي تفشّت في مجتمع المؤمنـين مع أنّ الله تعالى يقول: "فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمَن اتّقى".
وتلك إحـدى الإفرازات النفسـيّة لأدلجة الدِّين على مسـتوى السلوك الفرديّ والاجتماعيّ.
وقد يتّجه بعض المتديِّنين إلى العمل بنتائج الأدلجة، حتى مع عدم الالتزام أو الانتباه بمقدّماتها، ومن تلك :
ـ غلق باب الاجتهاد الدينيّ والجمود على آراءٍ فقهيةٍ معينةٍ، دون الانفتاح على سائر الآراء ومناقشتها، ومن ذلك أيضاً التمسّك بالرأي المشهور ورفض أيّ رأيٍ فقهيٍّ يخرج عن المألوف، علماً بأنّ الشهرة ليست دليلاً فقهيّاً تامّاً .
ـ غلق باب المراجعة والمساءلة التاريخيّة، وإحلال المسائل التاريخيّة محلّ العقائد والأصول الدينيّة، مع أنّ إجماعهم على حرمة التقليد في أصول الدين، وبذا فتح الباب للبحث والتحقيق فيها، إلاّ أنّ أيّة محاولة لغربلة التاريخ والتحقيق في بعض المسائل التراثيّة تواجه بالرفض الشديد ... بل بالعناد والموقف العدائيّ، كما وجدنا ذلك عند محاولة البعض إعادة النّظر والتحقيق في بعض المسائل التاريخيّة والعقائديّة .
ومن نتائج الأدلجة أيضاً غلق باب البحث والمساءلة بشأن الموضوعات الدينيّة أمام سائر غير المختصّين بالفقه، وحصر العلم الدينيّ ضمن دائرةٍ معيّنةٍ، مع أنّنا نعلم أنّ الفقه هو أحد العلوم الإسلاميّة لا جميعها، فهناك علوم القرآن والتفسير والحديث والعقائد وعلم الكلام، وهناك علوم أخرى مشتركة كالفلسفة والاقتصاد.. وبالتالي، فإنّ مجالات الفكر الإسلاميّ واسعة، وقد دعا القرآن الكريم النّاس جميعاً للتدبّر في آياته، كما وعد المؤمنين بأنّ الله تعالى سيُريهم آياته في الآفاق والأنفس، وهذا الباب الرّحب الذي فتحه القرآن للعلم والمعرفة لا يُمكن أن يغلق بدعوى عدم التخصّص بعلمٍ من العلوم. نعم لا شكّ بأنّ التخصّص محترمٌ، وبالتالي فإنّ له الرأي الحاسم بقوّة الدليل والبرهان، كما أنّ الرجوع إليه أمرٌ لا شكّ فيه، ولكن لا يمنع ذلك من التساؤل والبحث على صعيد تحريك الأجواء العلمية وفتح الآفاق وتقريب الفكر من الواقع والواقع إلى الفكر .
     ومن مظاهر الأدلجة أيضاً «التعمـية» في معالجة المشاكل والقضايا من خلال طرح حلولٍ عامّةٍ وشعاريّةٍ كلّيةٍ لسائر المشاكل الحياتية المعقّدة، والتي تدخل فيها عوامل عديدة، وهذه التعمية شبه تفسير القضايا «بالعامل الواحد»، منتهى الأمر أنّ العامل هنا يكون هو القرب أو البعد من الدِّين، فتفسّر مثلاً مشكلة البطالة أو الركود الاقتصاديّ بسبب ضعف الإيمان، ولا شكّ بأنّ الايمان له دورٌ أساسيٌّ في الحياة، ولكن عند البحث التفصيلي عن المشاكل الاقتصادية، فإنّ هناك عوامل كثيرة تدخل في البحث بعضها مذهبيٌّ وبعضها علميٌّ، كما نجد مثال ذلك عند الشهيد الصدر (رضي الله عنه) في معالجاته المختلفة في «اقتصادنا».
وعلي أيّ حال، فإنّ طريقة البحث الاحادية التفكير وبأسلوب النسخ الجاهزة لسائر الموضوعات والمشكلات هي إحدى مظاهر أو نتائج «الأدلجة».
الحركة الإسلاميّة والأيديولوجيا
     اتضح ممّا سـبق أنّ موضـوع «أدلجة الدِّين» ليس من قبيل الترف الفكريّ، بل إنّ له آثاراً كبيرة على مستوى العلم والعمل، ولم تسلم أطروحات الكثير من الحركات الإسلامية من ظاهرة «الأدلجة» ولو بمقدارٍ، كبُر أم صغُر، ولا زالت آثار هذه الظاهرة تلقي بظلالها على خطّ سير الحركة الإسلاميّة، وتحمّلها الكثير من المشاكل، وتضع في طريقها العديد من العقبات .
وقد كانت ظهرت «الأدلجة» عند الحركات الدينية على ثلاثة مستويات:
ـ في أطروحة الحركة للمستقبل والمجتمع المنشود .
ـ خطّ السير ومراحل العمل .
ـ شرائط العضوية والانتساب البرامجيّة
 1 ـ أطروحة المجتمع البديل
طرحت معظم الحركات تصوّرات مستقبليّة عن المجتمع الإسلاميّ الذي تُنشده كبديلٍ للواقع القائم، وكهدفٍ نهائيٍّ تسعى لتحقيقه، وقد اتّسمت هذه الأطروحات بسمتين أيديولوجيّتين متضادّتين :
أ ـ إنّ الحلول والمقترحات كانت غالباً ذات صفة أيديولوجية عامّة، تعتمد على أساس تصوّرات مسبقة شاملة لسائر القضايا دون الاقتراب من الواقع المعاش والاستفادة من النتاج العلميّ والتجربة البشريّة القائمة، لذا لاقَت الكثير من الحلول «الفقهية» العقبات عند التنفيذ، لأنّها كانت حلولاً فرديّة أو اجتماعيّة لظروفٍ مختلفـةٍ، كما افتقدت الكثـير من الأطروحات الاخلاقيّة الآليات التطبيقيّة الفعّالة، لأ نّها كانت على مستوى «الشعار» و«النصيحة»، ولم تُترجَم هذه المفـاهيم إلى قوانـين وتوضع لها الضوابط والمقدّمات التنفيذيّة اللازمة لتطبيقها .
ب ـ الخلط بين العقيدة والإدارة
     طرحت بعض الحركات ضمن تصوراتها حلولاً تفصيلية وعريضة لمساحات كثيرة من المشاكل والمسائل، وحدّدت رأيها في قضايا ليست عقائديّة ولا تشريعيّة، وإنّما هي مسائل إداريّة بحتة تتغيّر تبعاً للظروف، ويرجع النّظر فيها إلى العلم والعقل والتّجربة أو المصلحة، كطريقة إدارة المؤسّسات المختلفة، ومسألة التعاونيـات في الاقتصـاد، وموضوع التعليم الخاصّ ... ولم تكن تلك الاطروحات عادة تعتمد على دراساتٍ وخبراتٍ تخصّصيّة، وإنّما كانت تستمدّ عادةً من مستوى ثقافيّ عام، ولذا فإنّ هذه الآراء سرعان ما تتغـيّر بتغـيّر الزمـن، أو أنّها تلاقي صـعوبة في التطبيـق لنظريّتها وعدم واقعيّتها .
ج ـ سمات المجتمع المطلوب
 كسائر الاتجاهات الأيديولوجيّـة، طرح الاسلاميون تصوّرات عن المجتمع المنشود كانت في غاية المثالية، فغالباً ما كانت التصوّرات مشـتقّة إمّا من نموذج «الخلافة» أو «الامامة»، والتي لا تتطابق على أيّ حالٍ مع الظروف والأوضاع الحاليّة، كما أنّ هذه التصوّرات حاولت أن تمثِّل جميع الرؤى الإسلاميّة في مجتمعٍ يعيش في عالمٍ بعيدٍ عن المثل والقيم المطلوبة، بحيث خرجت هذه التصوّرات بصورة مجتمع لم تساعد الظروف على تمثيله، حتى في ظروف الدّعوة الأولى وصدر الإسلام...كما لم تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي منعت من تطبيق بعض التشريعات آنذاك وتقابلها ظروف أخرى اليوم .
لذا ورغم الاندفاع الجماهـيريّ والعاطفيّ تجاه الأطروحة الإسلاميّة المعاصرة إلاّ أنّ النّاس بدأت تشعر بتلكؤ التطبيق هنا وهناك، وبتعثّر النظريّة في هذا الجانب أو ذاك، ممّا جعلها أحياناً تتردّد أو تشكِّك في إمكانية التطبيق من حيث الأصل، لاصطدامه مع الواقع المعاش والبعيد عن عصر التشريع والضغوط والظروف العالميّة التي تُعيق ذلك .
 - خط السّير ومراحل العمل
اهتمّـت معظم الحركات الإسـلاميّة بدراسة مراحل العمل الإسلاميّ الواقعة بين بداية الحركة، والمنتهية بإقامة المجتمع الإسلاميّ، حسبما تتصوّره الحركة .
وسعت غالب الحركات إلى التأمل والتحقيق في دراسة السيرة النبويّة الشريفة، وكذلك في سـيرة الأنبياء (عليهم السلام)، من خلال قصصهم الواردة في القرآن الكريم، وسيرة أهل البيت (عليهم السلام)، ومواقف الصحابة والتابعين .
     وكانت الدراسة تتركّز عادةً على تقسيم خطّ السيرة إلى مرحلةٍ سرّيةٍ وأخرى علنيّةٍ، وإلى طبيعة المراحل من حيث كونها فكريّة تغييريّة أم سياسيّة وكفاحيّة جهاديّة، ومن ثمّ مرحلة إقامة الدّولة الإسلاميّة .
والملاحظة الأساسـيّة على نتائج هذه الدراسات هي كونها كانت تذهب ـ غالباً ـ إلى استنساخ مراحل العمل التي مرّت بها الدعوة النبويّة والتزامها كخطّ سـيرٍ عمليٍّ للحركة الإسلاميّة المعاصرة، سـواء أكان هذا التقليد والاتّباع من باب التعبّد والتبرّك بالسيرة النبويّة أم من باب الاعتقاد بأنّ المراحل، التي مرّت بها، سنّةٌ إلهيّةٌ في تغيير المجتمع لا بدّ أن تطويها أيّة حركةٍ تغييريّةٍ .
والواقع أنّ هذا النّمط من التعميم- وهو نوعٌ من التّعميم الأيديولوجيّ - يحمل معه الإيمان بالحتميّة التاريخيّة، التي لا بُدّ أن تمرّ بها أيّة حركةٍ إسلاميّةٍ، تبعاً لما مرّت به الرسالات الإلهيّة، ولذا اتجهت هذه الدراسات إلى استقصاء الأدلّة، هنا وهناك، لتأييد نظريّتها، وإلى تصنيف مراحل عمل هذا النبيّ أو ذاك، وكذا الأئمة وفقاً للمراحل النبويّة.
وهناك تساؤل جدّيٌّ آخر، وهو هل تحمل هذه الوسائل وأساليب العمل (أشكالها) صفة الإلزام ووجوب الاتّباع، وهل الأشكال هنا تعبّدية وذات أصالة شرعيّة، أم أنّها وسائل وأساليب تتغيّر من زمانٍ لزمانٍ، ومن مكانٍ لمكانٍ، ومن مجتمعٍ لآخر، بل ومن إنسانٍ لآخر أحياناً .
ولذا كان لا بدّ من إعادة النظر جملة وتفصـيلاً في خطّ السير، ومراحل العمل، ووسائله، وآليّاته، وإطلاق اليد في ذلك للنّاس، ليختاروا ما يناسبهم، ممّا لا يستحل حراماً ولا يحرِّم حلالاً.
 3 ـ شرائط العضوية والانتساب 
     واستمراراً للطريقة الأيديولوجيّة في العمل، فإنّ الكثير من الحركات الإسلاميّة، إن لم يكن جلّها، عملت على تأسيس مدرسةٍ فكريّةٍ، وثقافةٍ حركيّةٍ خاصّةٍ بها، وهي مساهمة بلا شك فعّالة وخلّاقة في النهوض الفكريّ والوعي الثقافيّ، إلاّ أنّ بعض الحركات اتّجهت إلى إلزام الفرد المنتسب بفكرها الخاصّ وبثقافتها، واشـترطت في العضو المنتظم الانضباط وفق خطّ الحركة ومنهجها، وذهب بعضها إلى أبعد من ذلك، إلى التأكيد على أن تكون مواقف الفرد وآراؤه مطابقة لرأي الحركة وموقفها، وأن تكون نشاطاته في سياق نشاط الحركة وبإذنها وموافقتها وإشرافها أحياناً  .ولم يميِّز في ذلك ـ ولو على مستوى التطبيق ـ بين الالتزام بخطّ السير الكلّي، وبين التطابق الحرفيّ في كلّ حركات الفرد المنظَّم وسكناته مع التنظيم، خصوصاً عند تصدِّي أفرادٍ يهتمّون بالانضباط، وأحياناً بالوضع العسكريّ للتنظيم، أكثر من اهتمامهم بالجوانب الفكريّة والثقافيّة وحتى السياسيّة .
وبحرفٍ واحدٍ نقول: إنّ جلّ التنظيمات ذات الصفة الأيديولوجية في برامجها وخططها وشرائطها قد بادت، أو هي في طريقها لانتهاء دورها، أو أنّها تعرّضت لانشقاقاتٍ عديدةٍ؛ وفي أحسن الأحوال، فإنّ هذه التنظيمات بقيت فقط في المناطق الشديدة السريّة وذات الفعاليات العسكريّة غالباً .
والتنظيم الأيديولوجي يحمل نقيضه فى داخله، فسرعان ما يشبّ أبناؤه ليعيشوا زماناً آخر وينمّوا فكرهم وثقافتهم، فيجدوا أنّ تنظيمهم غير قادر على استيعابهم، وأنّ البيت الذي ولدوا فيه يضيق بهم، فيبادرون للخروج سلماً أو بغير سلمٍ، ليبحثوا عن مجالاتٍ أوسع وفرصٍ أكثر .
وما نريده هنا أن يطرح الحزب الإسلامي والحركة برنامجاً يوفر لسائر أبناء الاُمّة أو الوطن حياة أفضل وكرامة أكثر وعدالة وحقوقاً محفوظة، ويعمل أعضاء التنظيم على نجاح هذا البرنامج، ويشترط فيهم أن يكونوا مسلمين ملتزمين بالمعنى العام، دون أن يدخل التنـظيم في تحديد آرائهم الشخصية أو اجتهاداتهم الذاتية أو أسلوب عملهم الخاص، وإنّما المهم الإيمان ببرنامجه والعمل من أجل نجاحه .
     وليس الحزب اُمّة داخل اُمّة، وليس كذلك بديلاً عن قيادة أو مزاحماً لزعامةٍ، بل هو شريحة من الأمّة تسعى لإسعادها من خلال برنامجٍ، يتوقّف نجاحه على اقتناع الأُمّة به وتأييدها له، وأعضاء الحزب لا ينتمون إليه بل يعملون من خلاله، كما يعملون من خلال سائر التنظيمات المهنيّة والاجتماعيّة  .والعضوية في الحزب مشاركة في عمل وبرنامج ومشروع، لا رقّ، ولا استعباد، ولا بيع وشراء لنفسٍ لا يتعامل فيها إلاّ مع بارئها .