الخميس، 13 يناير 2011

العولمة


تعريف العولمة
يجتذب مصطلح (العولمة) يوماً بعد آخر المزيد من النقاش، والكثير من الجدل، لما لهذا المصطلح من تأثير مباشر متراكم آخذ في القوة على حياة البشرية منذ أن أخذت وسائل الإعلام ومؤسسات صنع العقول في طرحه وتسويقه... هذا المصطلح الذي يأتي امتداداً لرؤية عالم الاتصال الكندي مارشال ماكلوهان بتحول العالم إلى قرية كونية أو عالم واحد يثير اليوم غباراً كريهاً من الممارسات والفواجع والكوارث. مصطلح العولمة يقصد به وجود نمط عالمي واحد، وباختصار: امتداد طبيعي لنمو (المركز) الغربي وانبساطه في الأرض (مبشراً) بنموذجه المادي المغرق في حب السيطرة، أو كما يقول أحد المفكرين الغربيين: (إنها روما الجديدة... كما كانت روما في السابق تصر على أن كل الطرق تؤدي إليها، فإن العولمة حتماً لا تعرف سوى طرق تؤدي إلى أمريكا، وكما كانت روما جنة السادة وجحيم العبيد فإن أمريكا تعيد الفكرة نفسها). مصطلح معاصر استعمله الباحثون في مجال الاقتصاد، والسياسة، والأدب والثقافة، والاجتماع، وتزخر المطبوعات بتعاريف متعددة للعولمة منها:
      العولمة: هي العملية التي من خلالها تصبح شعوب العالم متصلة يبعضها في كل أوجه حياتها  ثقافيا واقتصاديا وسياسيا وتقنيا وبيئيا.
    العولمة: هي التدخل الواضح في أمور الاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، والثقافة، والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية  للدول ذات السيادة أو الانتماء إلى وطن محدد ، أو لدولة معينة. ويشير محمد عابد الجابري في مقالة له بعنوان: "العولمة والهوية الثقافية" إلى أن العولمة هي ما بعد الاستعمار، وأنها مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي يعكس إرادة الهيمنة على العالم.
 ويقول جورج طرابيشي: إن مفهوم العولمة لم يعرف الاستقرار بعد، وتبقى العولمة هي الظاهرة التاريخية لنهاية القرن العشرين أو لبداية القرن الحادي والعشرين.
    نتائج العولمة
- اندماج أسواق العالم في حقول التجارة العالمية والاستثمارات المباشرة، وانهيار الحواجز السياسية  والجغرافية أمام حركة التجارة العالمية، وخضوع جميع دول العالم لقوى السوق العالمية.
- الدول النامية وشركاتها ستتلقى صدمات قوية من الدول والشركات المتقدمة، وهذه الأخيرة لديها الإمكانات الأفضل لإنتاج أرخص وأجود، وهي تزيح من طريقها الشركات الأقل كفاءة
النمو غير المتكافئ في الثروة وازدياد التفاوت في توزيع الدخل سواء كان ذلك على مستوى الدول حيث ستزداد الدول الغنية غنى وستزداد الدول الفقيرة فقراً، أو كان على مستوى الأفراد داخل الدولة الواحدة، حيث ستتركز الأموال والثروات في أيدي فئة قليلة
- تدخل الدول الأقوى في شئون الدول الأخرى وهذا التدخل من خلال وزارات الاقتصاد والتجارة.
- سيطرة الشركات متعددة الجنسيات على التجارة العالمية ولن تستطيع الحكومات حماية شركاتها الوطنية.

    سلبيات العولمة
عندما يتحول رأس المال الوطني  إلى رأس مال عابر للحدود، حينها  فانه يفقد "الوطنية"؛ ذلك أن الشركات الفوق ـ قومية، الأمريكية وغيرها، وبعد أن تتحرر من انتمائها لأية دولة، تبني مصانعها ومؤسساتها أينما يحلو لها بمجرد أن تتوفر اليد العاملة والمواد الخام الرخيصة.
ـ الذين اعتادوا على أجور عمل ممتازة لقاء أعمالهم الرفيعة، سيفقدون أماكن العمل.
ـ سياسة العولمة لن تسمح للدول الصغيرة أبداً بالنهوض والوقوف على قدميها.  
ومن أهم مظاهر العولمة:
ـ الفوضى العالمية وانتشار إرهاب الدول الإرهابية كالولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل كالحرب على العراق والحرب على أفغانستان، وعشرات الحروب الإقليمية والنزاعات المحلية،
 ـ وإرهاب المنظمات والأفراد الذي تغذيه هذه الدول، وغيرها من الوقائع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، تعدّ  أهم مظاهر العولمة وتجلياتها.
    العولمة و صراع الحضارات:
أن تكون للعالم حضارة عالمية واحدة. هذا هو الهدف النهائي المثالي للعولمة.
استطاعت أوروبا أن تفرض نفسها وكثيراً من جوانب حضارتها على الحضارات بالغزو والاحتلال والاستعمار، ثم بوسائل الإعلام والضغوط الاقتصادية، والتهديدات العسكرية. يقول  Huntington بشيء من الزهو:
«إن التغيير الذي حدث في تاريخ العالم بعد عام 1500م لم يكن له سابقة. لم يحدث من قبل ذلك أبداً أن انتشرت حضارة واحدة في أرجاء الأرض كلها، فمنذ أقدم مسارح ما قبل التاريخ المشاهدة كان الميل دائماً نحو التنوع. أما الآن فأن التيار الثقافي بدأ يتحول. إن جوهر ما كان يحدث كان بادياً حتى منذ أواخر القرن الثامن عشر. فالأمم الأوروبية كانت في ذلك الوقت قد ادعت لنفسها أكثر من نصف سطح الأرض، وكانت ـ بدرجات متفاوتة ـ قد سيطرت بالفعل على ما يقرب من ثلثه. ففي غرب الكرة الأرضية كانوا قد زرعوا جماعات مستوطنة تكفي بأعدادها الكبيرة لإنشاء مراكز حضارية جديدة؛ فقد خرجت أمة جديدة من المقاطعات البريطانية السابقة في أمريكا الشمالية، وفي الجنوب استطاع الأسبان أن يحطموا حضارتين ناضجتين ليغرسوا حضارتهم».
ثم يذكر أنه كان هنالك في ذلك التاريخ ما يقرب من عشرين ألف هولندي في جنوب أفريقيا، وأن أستراليا كانت قد بدأت تستقبل مستوطنيها الجدد. وأن الزائر الأوروبي لشرق أفريقيا وإيران والهند واندونيسيا كان سيجد فيها أوروبيين جاؤوا ليتاجروا ثم ليرجعوا إلى بلادهم في المدى القريب أو البعيد ليستمتعوا بالأرباح التي حققوها.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان الاستعمار الغربي قد شمل أفريقيا كلها، وأحكم سيطرته على شبه القارة الهندية وبقية آسيا. وفي أوائل القرن العشرين أخضـع الشــرق الأوسـط كله ـ عدا تركيا ـ لسيطرته المباشرة، ومع نهاية عام 1920م كانت الإمبراطـــورية العثمانية قـد قسـمت بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. في غضون هذا التوسع قضى الغرب قضاءً كاملاً على حضارتــي (Meso American) و (Andean)، وأخضعـت الحضارات الهندية والإسلامية وأخضعت أفريقيا. تمثلت العلاقة بين الحضارات في خضوع المجتمعات غير الغربية للحضارة الغربية.
استمر الغرب في تفوقه التقني واستمر في تأثيره الكبير على كل مجتمعات العالم لا سيما بعد الطفرة التي حدثت في تقنية الاتصالات والانتقال والتي زادت في إمكانية العولمة.
تتمثل هذه الهيمنة الغربية الآن في أن الأمم الغربية:
تملك وتدير النظام المصرفي العالمي.
وتسيطر على كل أنواع العملة الصعبة.
وأنها هي الزبون العالمي الأول.
وأنها هي التي توفر للعالم معظم بضائعه الجاهزة.
وأنها تسيطر على أسواق الرأسمال العالمية.
وأنها تمارس قدراً كبيراً من القيادة الأدبية في كثير من المجتمعات.
وأن لها قدرة على التدخل العسكري.
وأنها تسيطر على المضايق البحرية.
وأنها تقوم بمعظم البحوث والتطوير للتقنية المتقدمة.
وأنها المتحكمة في التعليم التقني الفائق.
وأنها المهيمنة على المدخل إلى الفضاء.
وأنها المهيمنة على صناعة الطيران.
وأنها المهيمنة على وسائل الاتصال العالمية.
وأنها المهيمنة على التقنية العالية لصناعة الأسلحة.
العولمة لم تكن لتسود في العالم ثقافة إنسانية تناسب كل الناس وتساعد على تعاونهم وتطورهم والاستفادة من خيرات بعضهم بعضاً.. لا يمكن فهم "العولمة" الجارية اليوم إلا في ضوء العلاقة الجدلية بين النظام الرأسمالي العالمي، بما هو نظام إنتاج، ونسق العلاقات الدولية المنبثق عنه والمحدد به، وهذه العلاقة هي المعادلة السياسية للعلاقة الجدلية بين التنافس والاحتكار، إذ يرتبط الأول أي التنافس، بالديمقراطية، في حين يرتبط الاحتكار بالاستبداد والتسلط والشمولية. الرأسمالية اصطبغت بعد الحرب العالمية الثانية بصبغة أمريكية لا تخفى. فقد كف ذلك النموذج النظري المفهومي عن كونه أداة معرفية ومعيارية لنقد الرأسمالية المتحققة بالفعل والتي تمادى بعضهم في وصفها بأنها "نهاية التاريخ". فما أفصح عنه فوكوياما
الرأسمالية التي وسمت العصر الحديث بسماتها الخاصة بكل مرحلة من مراحل تطورها، من المرحلة التجارية إلى مرحلة الثورة العلمية التكنولوجية المعاصرة وثورة المعلومات والاتصالات والمواصلات، ثورة العمل الذهني، مروراً بمرحلتي الثورة الصناعية، الأولى والثانية. وفي كل واحدة من هذه المراحل كانت الرأسمالية تعيد إنتاج شكلي وحيد: عسكري وثقافي. فالنظام الرأسمالي العالمي كان ينتج في كل مرحلة من هذه المراحل نسقاً معيناً من العلاقات بين الدول والأمم والشعوب نطلق عليه اسم "النظام الدولي" الذي  تعبر تناقضاته ونمط علاقاته ومبادلاته عن روح العصر، بقدر ما تعبر عنها أساليب القوى الكبرى وأدواتها في السيطرة ، واستجابات القوى الأخرى وردود فعلها، ومن ثم فإن روح عصرنا هي مزيج من تناقضات النظام الرأسمالي العالمي والروح العدوانية الأمريكية التي تجلت في بلادنا بالعدوان المستمر على العراق تحت مظلة "الشرعية الدولية" التي لا نشك في كونها التعبير المؤسسي الأكثر دلالة على العولمة، وتتجلى اليوم في الحرب على أفغانستان تحت عنوان الحرب على الإرهاب. وفي الدعم غير المحدود للكيان الصهيوني العنصري الاستيطاني التوسعي. فضلاً عن مظاهر التمييز العنصري والتعصب الديني والقومي في الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها.
والعولمة التي نحن بصددها، والتي نحرص على تمييزها من مفهوم العالمية، لا تخرج عن هذا السياق، ولا تتعدى حدود نسق العلاقات الدولية القائمة على سيطرة القطب الواحد. بل إنها تستمد أهم خصائصها من أساليب السيطرة التي تتبعها الولايات المتحدة ومن الأدوات التي تستعملها والوسائل التي تتوسل بها، ولذلك نميل إلى وصفها بالعولمة الأمريكية المتوحشة،. فالرأسمالية التي أعادت الولايات المتحدة الأمريكية إنتاجها بعد الحرب العالمية الثانية أخذت تسفر عن طابعها المتوحش وبانقلابها على فكر عصر الأنوار الذي بعصر بالنهضة و الحداثة والمعاصرة و العالمية. لكن العولمة انقلبت على العالمية وارتدت إلى تعسف وقهر وظلم واستغلال، لا لقوى العمل فحسب بل للأمم والشعوب بمعاداتها السافرة ولحقوق الإنسان التي بشر بها فكر الأنوار واختطفتها الرأسمالية من خلال نقاط ولسن Wilson لتمهد بها لهيمنة جديدة على العالم وجنوحها المطرد إلى تركيز الثروة والقوة والسلطة في أيدي طغمة مالية انفكت علاقاتها بالمصالح الوطنية العليا لدولها ومجتمعاتها، فأضفت على السياسة طابعاً محافظاً وتحولت إلى نسق لتوليد العنف والإرهاب. فلا نعجب إذا علمنا أن الصناعات العسكرية غدت القطاع القائد للاقتصاد في الدول الكبرى ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية. وأن رأس  المال المالي غدا  معادياً ً للدولة الوطنية لها وكابحاً لوظائفها الاجتماعية، يتحكم بالاقتصاديات الوطنية وبمصائر الدول والشعوب ولا سيما الفقيرة منها. وأنه رأس مال مضارب ومراب بصورة أساسية، ومن ثم فهو منفصل عن عملية الإنتاج الاجتماعي، ومولد لاحتكار القلة للثروات والمداخل العالمية، حتى غدا شخص واحد من هذه القلة يملك مقدار ما يملكه 600 مليون شخص من أبناء الشعوب الفقيرة. و382 شخصاً يملكون مقدار ما يملكه 2,5 مليار نسمة. و20% من سكان العالم يملكون 80 % من الثروة العالمية. لذلك يمكن وصف العولمة الجارية بأنها اختلال التوازن الفعال في تقسيم العمل وتوزيع  الثروة وعوامل الإنتاج،  على الصعيدين المحلي والعالمي، ينجم عنه ويرافقه اختلال توازن فعال في نسق العلاقات الدولية. وما أكثر المفكرين والباحثين الذين وصفوا هذه المرحلة بالفوضى العالمية أو بـ "إمبراطورية الفوضى" التي تكاد تنحصر وظيفة الولايات المتحدة فيها بإنتاج الأزمات وإدارتها. والسؤال المطروح اليوم هو: إلى متى ستظل الولايات المتحدة قادرة  على إدارة الأزمات وضبط مساراتها؟ أو إلى متى ستظل الولايات المتحدة قطباً وحيداً مسيطراً على الاقتصاديات والسياسات العالمية؟ فمصير العولمة الجارية مرتبط بمصير الهيمنة الأمريكية ارتباطاً لا فكاك له إذ تتطابق العولمة الجارية والليبرالية الجديدة تطابقاً يضعهما في معارضة العالمية والديمقراطية.
إنّ الثورة العلمية التكنولوجية التي بات معها العلم قوة إنتاجية خلاقة فتحت مجالات جديدة للإنتاج وإعادة الإنتاج لم تكن معروفة من قبل، وأنجزت توحيد السوق  العالمية توحيداً تناقصيا  وغيرت طبيعة العمل بوجه عام وبنية الطبقة العاملة بوجه خاص، فاحتل العمل الذهني والعمالة الماهرة مركز العملية الإنتاجية، وأنتجت من ثم علاقة جديدة بين رأس المال والعمل. وفي ظل هذه الثورة العلمية لم يعد الوعاء القطري كافياً لتوسيع الإنتاج، ولم تعد السوق القطرية، مهما يكن اتساعها، كافية لاحتواء حركة السلع والخدمات ورأس المال والعمل. وهكذا يجري الآن بصورة تلقائية، وأحياناً واعية، تدويل للحياة الاقتصادية. وصعود رأس المال وتحوله إلى قوة مهيمنة على جميع الصعد. وقد أفصح هذا التطور بجلاء عن تفاوت النمو بين البلدان المتقدمة والبلدان المتأخرة من جهة، وبين الفئات الاجتماعية في البلدان المتقدمة ذاتها، ناهيك عن البلدان المتأخرة، من  جهة ثانية فقد بات ممكناً الحديث عن مجتمعين متفارقين على الصعيد العالمي وفي كل بلد على حدة، جراء التقسيم  الجديد للعمل والتوزيع الجائر للثروة وعوامل الإنتاج.. وبدأ تآكل العقد الاجتماعي وتمزق اللحمة الوطنية وتراجع الديمقراطية ولمصلحة الليبرالية الجديدة. وتغليب مصلحة الأقلية المالكة للثروة والقوة على مصلحة المجتمع المصلحة الوطنية. إن الرأسمالية تجدد نفسها باطراد، وتتجاوز أزماتها الدورية، ولكنها في كل مرة تعيد إنتاج تعارضانها الملازمة، وهي تعارضات تكشف عن جانبي الأزمة التي تمر بها في هذا الطور من تاريخها. أعني أزمة النمو وأزمة الانحطاط.. ويبدو أن الأزمة الدورية التي تصيب النظام الرأسمالي بدأت تظهر في الحرب التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية على العالم. وذلك بفعل موقع الصناعات العسكرية في بنية الإنتاج العالمي، ولا سيما في الدول المتقدمة صناعياً.
    العولمة الاقتصادية
العولمة الاقتصادية، بحسب المفهوم السائد، هي تحويل العالم إلى سوق واحدة تفرض منطقها وقانونها على سائر مجالات الحياة، ولا سيما على مجالات النشاط لاقتصادي. وتقوم هذه العملية على ما يسمى بالليبرالية الجديدة، أي  على عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وعلى تحرير التجارة من سائر القيود، وعلى حرية تنقل السلع و رؤوس الأموال، وعلى خصخصة المشروعات والشركات الحكومية، وإعادة هيكلة الاقتصاديات الوطنية بما يتفق وهذه المطالب، أو القواعد التي يضعها الأقوياء. فالعولمة، وفق هذا التحديد، "ترسم صورة المستقبل بالعودة إلى الماضي السحيق للرأسمالية. فبعد قرن طغت  فيه الأفكار الاشتراكية والديمقراطية ومبادئ العدالة الاجتماعية، تلوح الآن في الأفق حركة مضادة تقتلع كل ما حققته الطبقة العاملة والطبقة الوسطى من مكتسبات. وليست زيادة  البطالة وانخفاض الأجور وتدهور مستويات المعيشة وتقلص الخدمات الاجتماعية التي  تقدمها الدولة، وإطلاق آليات السوق وابتعاد الحكومات عن التدخل في النشاط الاقتصادي وتفاقم التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين المواطنين، وهي  التي ترسم الآن ملامح الحياة الاقتصادية والاجتماعية في غالبية دول العالم، ليست  كل هذه الأمور في الحقيقة إلا عودة إلى الأوضاع التي ميزت البدايات الأولى للنظام الرأسمالي، إبان مرحلة الثورة الصناعية (1750-1850)، وهي أمور سوف تزداد سوءاً مع السرعة التي تتحرك بها عجلات العولمة المستندة إلى الليبرالية الجديدة".  تطرح العولمة جملة من المسائل والمشكلات أهمها: علاقة المجال الاقتصادي بمجالات الحياة الاجتماعية، ولا سيما بالمجال السياسي، وعلاقة القوى الاقتصادية الجديدة بالدولة، وعلاقة رأس المال بالعمل، ومصير العقد الاجتماعي والدولة الوطنية/ القومية، ولا سيما دولة الرفاهية، وتناقض منطق السوق مع الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطن. وتطرح بوجه خاص قضية إعادة إنتاج الشمولية والاستبداد بحكم انفصال مصالح الفئات المالكة للثروة والقوة والسلطة عن مصالح مجتمعاتها  وشعوبها، وإحلال تلك المصالح الخاصة محل المصالح العامة،  وهذا هو جذر الاستبداد. فدعاة العولمة ومنظروها ضاقوا ذرعاَ بالعدالة الاجتماعية وبذلك النوع من توزيع الثروة بين الفئات الاجتماعية. فمراعاة البعد الاجتماعي واحتياجات الفقراء صارت عبئاً لا يطاق ودولة الرفاهية في نظرهم تهدد المستقبل فقد كانت مجرد تنازل من رأس المال فرضته الحرب  الباردة، ولم يعد له ما يبرره بعد انتهاء تلك الحرب. كما تطرح جملة من الإشكاليات  المتعلقة ببنية السوق العالمية ذاتها ولا سيما السوق المالية، أهمها ما يسمى "عدم التوازن الفعال" في حركة رأس المال المالي الذي يتجلى في عدم استقرار أسعار الصرف وأسعار الأسهم والسندات، وفي تنامي المديونية وعجز الدول الفقيرة عن تحمل أعبائها. إن هذه الجملة من المشكلات متشابكة ومتداخلة على نحو يمكن معه الدخول من أي واحدة منها إلى سائر المشكلات الأخرى، فهي الظل القاتم لانتصار الرأسمالية المتوحشة، ولما يسمى إنجازاتها الكبرى على صعيد توحيد السوق العالمية وتحرير التجارة ورأس المال، إنها الوجه القبيح للتقدم. فما هي دلالة أن يسفر التقدم المذهل للقوى المنتجة عن هذا الوجه القبيح، وما هي دلالة أن تسفر الرأسمالية عن هذا القدر غير المسبوق من التوحش؟ تتضح دلالة هذا التوحش حين نعلم أن هذه الصيرورة انطلقت عندما تبنى المحافظون الذين فازوا في الانتخابات عام 1979 في بريطانيا وعام1980 في الولايات المتحدة الأمريكية عقيدة اقتصادية جديدة هي "الليبرالية الجديدة" التي بشر بها ميلتون فريدمان الأمريكي، مستشار ريغان الاقتصادي، وفريد ريش فون هايك، مستشار تاتشر، وقوامها: التحرير والليبرالية والخصخصة التي غدت الوسائل الإستراتيجية في السياسة الاقتصادية الأوربية والأمريكية، والأيديولوجية التي تتعهد الدولة بفرضها. فالدولة ما تزال وستظل الملاذ الأخير للرأسمالية والسلاح الأمضى في يدها. فنحن إذاً إزاء فلسفة قديمة جديدة قوامها حرية الفرد من دون أي صفة أخرى، وسياسات جديدة ترمي إلى إعادة إنتاج رأسمالية خالصة أو نقية تنفي من داخلها إمكانات تجاوزها، وتقدم نفسها على أنها نهاية التاريخ. وبعبارة أخرى: نحن إزاء إعادة إنتاج رأسمالية فردية (نموذجها الرأسمالية الأمريكية) وتعميمها عالمياً، في معارضة رأسمالية اجتماعية ( نماذجها معروفة في أوربا واليابان). وما يؤكد  هذا  المنحى هو الاتجاه نحو التخلي عن العقد الاجتماعي وما يفرضه من تضامن وتكافل، ومن توزيع أعباء الخدمات العامة تبعاً لتوزيع عوامل الإنتاج بين الفئات الاجتماعية. يطلق بعضهم على العولمة الجارية اسم "أممية رأس المال" فمالكو رأس المال باتوا يهددون بهروب رؤوس الأموال إذا لم تستجب الحكومات لمطالبهم، وإذا لم تمنحهم تنازلات ضريبية سخية، وإذا لم تقدم لهم مشروعات البنية التحتية مجاناً، وإذا لم تعدل التشريعات التي كانت تحقق بعض المكاسب للطبقة العاملة والفئات الوسطى والفئات الاجتماعية الفقيرة الأخرى، مثل قوانين الحد الأدنى للأجور وقوانين الضمان الاجتماعي والصحي وإعانات البطالة، مما يقلل من إسهاماتهم المالية في هذه  الأمور، بل إنهم يفرضون على الحكومات أن تقوم بخصخصة المشروعات العامة، والتخلي عن كثير من الخدمات التي  كانت تقوم بها للقطاع الخاص، وإضفاء الطابع التجاري عليها. ويرى منظرو العولمة ودعاتها المتحمسون أن "العولمة ذات الاتجاه الليبرالي المغرق في التطرف هي من قبيل الحتميات الاقتصادية  والتقنية الشبيهة بالأحداث الطبيعية التي لا يمكن الوقوف في وجهها". في حين هي نتيجة لسياسات معينة وإرادات واعية للحكومات والبرلمانات التي تسن قوانين مناسبة للسياسات الليبرالية الجديدة، وتلغي الحواجز والحدود التي تعوق تنقل السلع ورأس المال، في حين تفرض قيوداً صارمة على حركة تنقل الأشخاص خلافاً لشرعة حقوق الإنسان وللمواثيق الدولية ذات الصلة. وهي نتيجة مباشرة لسياسات الضغط على الأجور وإطلاق الأسعار وتعويم العملات أو خفض قيمتها وغيرها من السياسات وصولاً إلى توقيع اتفاقية التجارة الدولية. هذه السياسات والتشريعات والممارسات تدحض كل ما يقال عن تقليص دور الدولة ونهاية عصر الدولة الوطنية القومية. فالدولة تقوم بوظائف ليس بوسع الأفراد والشركات القيام بها، وستظل تقوم بمثل هذه الوظائف. ولولا دور الدولة هذا لما أمكن أن تتقدم صيرورة العولمة. فالقضية الواقعية إذاً ليست قضية نهاية الدولة بل هي قضية تغير دورها ووظيفتها ومن ثم تغير بنيتها، وصيرورتها أكثر فأكثر دولة استبدادية تسلطية وشمولية. في ظل هذه الشمولية الرأسمالية المتوحشة تتوحد السوق العالمية بفعل تواطؤ الحكومات وبفعل تقدم المواصلات والاتصالات والمعلوماتية، وبفعل الدور المهم الذي يضطلع به الإعلام. أمّا العولمة الثقافية هي برأي الخبراء والمفكرين تروِّج لثقافة (الهمبرجر) (والكوكاكولا) والغناء على الطريقة نفسها ثقافةُ (ميكي ماوس)، وهي طلائع العولمة التي لا تبشر إلا بمزيد من الشقاء والتعاسة للبشرية.
    العرب و العولمة:
استحوذت العولمة على أوسع اهتمام في أدبيات العالم العربي الاقتصادية والثقافية والسياسية والتربوية والإعلامية والتقنية هناك غموض فيما يتعلق بنتائج العولمة ومترتباتها بالنسبة للواقع العربي؛ فهل العولمة حالة صحية، أم مرضية؟ وهل هي حركة استعمارية، أم تحريرية؟ هل ستصب في سياق الاستقلال والذاتية، أم التبعية ؟ هل المطلوب منا الانغماس فيها، أم الانكماش عنها؟ هل تحتوينا، أم سنحتويها؟ هل ستزيدنا تقدماً أم ستضاعف تأخرنا؟ يقول زكي الميلاد في كتابه: "المسألة الحضارية: كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير؟"إن المشكلة الحقيقية ليست في العولمة، وإنما المشكلة في تباين مستويات التطور الحضاري في العالم، الذي يجعل من الغرب الطرف المستفيد من هذه العولمة، باعتباره أنجز مشروعه في التقدم. وحوَّله إلى تكريس التبعية وضبط آليات السيطرة على العالم. فالمواجهة الحقيقية للعولمة هي عن طريق الإنماء والبناء وانجاز مشروعات التقدم و العمران.
هذه العولمة، إذن، إنما تخدم مصالح وأفكار الطرف القوي في العالم، وتطمس الأطراف الأخرى، وهي ليست العولمة التي يحتاجها العالم في هذه المرحلة، أو التي يتطلع إليها مع القرن الحادي و العشرين. فهذه العولمة ـ التي عبر عنها الغرب ـ ترتكز على الانتفاع المادي والجشع الاقتصادي واحتكار الثروات ورفع القيود عن الأسواق والبضائع وامتصاص الأموال، وهذه الأمور هي من أكثر العوامل سببا و تحريضا على النزاع و الصدام و الصراع. إن عولمة الغرب اقتصادية في الأساس تتوخى الربح والنفع المادي؛ والأبعاد والحقول الأخرى التي ارتبطت بها كالثقافة والاجتماع والتربية والإعلام وغيرها إنما وظفت لذات الغاية الاقتصادية النفعية.
وإذا كانت العولمة قد قوبلت في العالم باعتراضات شديدة وانتقادات قاسية، فلأنها تخدم طرفاً واحداً، وتعبِّر عن رؤية هذا الطرف وهو الغرب.

    إلى متى سيستمر هذا التفوق و هذه الهيمنة الغربية؟
يرى كثير من المفكرين الغربيين أنها لن تستمر طويلاً.
- لأن سبب تلك القوة لم يكن لمجرد أسباب داخلية في الحضارة الغربية، وإنما كان أيضاً لظروف خارجية مواتية. أما الآن فإن ظروفاً خارجية أخرى لا قِبَلَ للغرب بتغييرها جعلته يضعف ضعفاً نسبياً للازدياد النسبي في القوة الاقتصادية والتقنية لبلاد غير غربية خاصة شرق آسيا
- السبب الأساس لسيطرتها لم يكن قيماً ولا فكراً وإنما كان هذه القوة. يقرر هنتنجتون هذه الحقيقة في صراحة عجيبة إذ يقول: لم يغلب الغرب العالم بتفوق في أفكاره أو قيمه أو دينه وإنما غلب بتفوقه في العنف المنظم. إن الغربيين كثيراً ما ينسون هذه الحقيقة، لكن غير الغربيين لا ينسونها أبداً.
- لم يبق للغرب الآن مبدأ يتعلق به ويدافع عنه ويعتز به إلا الديمقراطية الليبرالية وما يصاحبها من نظام رأسمالي. لكن حتى هذين يجدان كثيراً من النقد والمراجعة لعدم وفائهما ببعض القيم الإنسانية، ولا سيما إنصاف الفقراء، ولما نتج عنهما من تعميق للروح الفردية وما يصاحبها من مشكلات اجتماعية.
- الروح السائدة في الغرب الآن ليست روحاً متفائلة، بل إن التشاؤم قد يصل بهم إلى الحد الذي عبر عنه كاتب فرنسي «إن أوروبا بدأت تدخل في عصر ظلام جديد »
- والغرب وإن كان في مجموعه مهيمناً إلا أنه ليس شيئاً واحداً منسجماً متعاوناً، وإنما هو شعوب ودول وجماعات تختلف مصالحها ويثور التنافس ، ويرتاب بعضها من قوة بعضها ويخشى من سيطرتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق