الثلاثاء، 25 يناير 2011

الصراع بين المعتزلة و الأشاعرة

وحتى الذين هاجموا المعتزلة بشدة، وكفروهم، ونسبوهم إلى الزندقة والإلحاد، فإنهم مدينون للمعتزلة بشهرتهم، لأن المعتزلة هم الذين وضعوا أسس علم الكلام، وبحثوا في موضوعات ومسائل لم يسبقهم إليها أحد؛ فلولا أنهم أبدعوا وألفوا المصنفات المختلفة، وبحثوا في مسائل علم الكلام، لما وجد من هاجمهم شيئا يبحث فيه، وينقده. ومن ينكر أنه لولا ظهور المعتزلة، لما سمعنا عن شخصيات كبيرة في الإسلام اليوم، مثل أحمد بن حنبل، والأشعري، والباقلاني، والبغدادي و الجويني و الغزالي بل و ابن المريوندي الملحد؟
1ـتمهيد:
لعبت المعتزلة دورا رئيسيا وهاما في رحلة تطور الفكر الإسلامي على مر التاريخ. ونظرة سريعة إلى معتقدات الفرق والمدارس المختلفة في مجال العقيدة ترينا الآثار والبصمات التي تركها عظماء المعتزلة على معظم هذه الفرق والمدارس. وقد لاحظ ذلك نيكلسون
Nicholson في كتابه عن تاريخ الآداب العربية: A Litrary History of the Arabs، حيث يقول: "إن المعتزلة قد رفعت بطريقة غير مباشرة الفكر الإسلامي إلى درجة تستحق الاعتبار". وامتدح دورهم الإمام أبو زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الإسلامية، حيث يقول: "إن هؤلاء [= المعتزلة] يعدون فلاسفة الإسلام حقا". وحتى جولدتسيهر المعروف بعدائه للإسلام قد اعترف في كتابه العقيدة والشريعة بتأثير المعتزلة العظيم على الفكر العربي، قائلا: "نحن لا نستطيع نكران أنه كان لنشاط المعتزلة نتيجة نافعة. فقد ساعدوا في جعل العقل ذا قيمة، حتى في مسألة الإيمان. وهذا هو الفضل الذي لا يجحد، والذي له اعتباره وقيمته، والذي جعل لهم مكانا في تاريخ الدين والثقافة الإسلامية. ثم إنه برغم كل الصعوبات التي أثارها مذهبهم، وكل ما أنكروه على خصومهم، فإن حق العقل قد انتصر على إثر كفاحهم بنسبة صغيرة أو كبيرة، حتى في الإسلام السني، ولم يكن هينا بعد هذا إبعاده تماما". أما العالم المصري أحمد أمين، فيقول: "وكان للمعتزلة الفضل الأكبر في علم الكلام، لأنهم كانوا أكبر المدافعين عن الإسلام ضد ما كان يثيره اليهود والنصارى من هبوب. حتى لقد كانوا فيما روي يرسلون أتباعهم الكثيرين إلى البلدان الأخرى لرد هذا الهجوم ردا عقليا". وهو يأسف على زوال المعتزلة، حيث يقول: "في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة، وعلى أنفسهم جنوا".
وحتى الذين هاجموا المعتزلة بشدة، وكفروهم، ونسبوهم إلى الزندقة والإلحاد، فإنهم مدينون للمعتزلة بشهرتهم، لأن المعتزلة هم الذين وضعوا أسس علم الكلام، وبحثوا في موضوعات ومسائل لم يسبقهم إليها أحد؛ فلولا أنهم أبدعوا وألفوا المصنفات المختلفة، وبحثوا في مسائل علم الكلام، لما وجد من هاجمهم شيئا يبحث فيه، وينقده. ومن ينكر أنه لولا ظهور المعتزلة، لما سمعنا عن شخصيات كبيرة في الإسلام اليوم، مثل أحمد بن حنبل، والأشعري، والباقلاني، والبغدادي، والجويني، والغزالي، بل وابن الريوندي الملحد؟ إن موقف كل هذه الشخصيات المعروفة في تاريخ الإسلام من المعتزلة هو موقف الناقد من الكاتب المبدع. لقد أبدع مفكرو المعتزلة، وأثروا الثقافة الإسلامية بكتاباتهم، وتصانيفهم العديدة، وأخطاؤا قليلا، ولكنهم أصابوا كثيرا فيما ذهبوا إليه. أما ابن حنبل، والأشعري، والباقلاني، والبغدادي، والجويني، والغزالي، وابن الريوندي الملحد، فقد كانوا نقادا أكثر منهم كتابا مبدعين. وليس يشك أحد في أن مرتبة الأصالة والإبداع أرفع وأسمى من مرتبة النقد والتجريح. يقول المستشرق السويدي نيبرج: "… ولو لم تكن المعتزلة مهدت الطريق، لما كان لأهل السنة تقدم في هذا الفن، مثل تقدمهم. ثم نريد أن نشير إلى شيء آخر، وهو أن قوما هذا شأنهم وموقفهم إزاء أعداء كثيرين، ونحل مختلفة متدربة على المناظرة به، لا بد وأن يكون في أسلوبهم شيء من الضعف والتردد، والعدول عن سواء السبيل. إذ من نازل عدوا عظيما في معركته، فهو مربوط به، مقيد بشروط القتال، وتقلب أحواله، ويلزم أن يلاحق عدوه في حركاته وسكناته، وقيامه وقعوده، وربما تؤثر فيه روح العدو وحيلته. كذلك في معركة الأفكار أيضا".
2 ـ المعتزلة تتلقى ثلاث ضربات حاسمة من الخصوم:
كان على المعتزلة أن تتماسك وتدافع عن الأصول والمبادئ التي وضعها كبار مفكريها ضد ثلاث ضربات موجهة وجهها إلى المعتزلة ثلاث شخصيات معروفة في التاريخ الإسلامي، هي: أحمد بن حنبل، وابن الريوندي الملحد، وأبو الحسن الأشعري. بل إن هذه الشخصيات الثلاث لم تدخل التاريخ من أوسع أبوابه، لولا صلتها بالمعتزلة، وخلافها مع فلسفتهم. وجه الضربة الأولى إلى المعتزلة أحمد بن حنبل، ليثأر لنفسه، ولأصحاب الحديث، مما أصابهم من سوء العذاب على يد المعتزلة في سنوات حكم المأمون والمعتصم والواثق. وكما أوجزنا من قبل، فإن هجوم ابن حنبل على المعتزلة قد وقع بعد تولي المتوكل الحكم بقليل. وحيث أننا ذكرنا الصورة التي وقع بها هجوم الحنابلة على المعتزلة، فعلينا الآن أن نستعرض ظروف الضربة الثانية التي تلقتها المعتزلة بعد ضربة ابن حنبل.
3 ـ هجوم ابن الريوندي الملحد على المعتزلة:
كانت الضربة الثانية موجهة من ابن الريوندي الملحد (215 – 298هـ) الذي اشتهر في تاريخ الإسلام كأكبر ملحد على مر العصور. وجه ابن الريوندي ضربته إلى المعتزلة في أواخر القرن الثالث الهجري. وبعكس ابن حنبل الذي كان محدثا، يكره علم الكلام، كان ابن الريوندي من كبار مفكري المعتزلة في عصره. يقول البلخي عنه في كتابه محاسن خرسان: "كان من المتكلمين. ولم يكن في زمانه أحذق منه بالكلام، ولا أعرف بدقيقه وجليله. وكان في أول أمره حسن السيرة، حميد المذاهب، كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك كله لأسباب عرضت له. وكان علمه أكثر من عقله… وقد حكى جماعة أنه تاب عند موته مما كان منه، وأظهر الندم، واعترف بأنه صار إليه حمية وأنفة من جفاء أصحابه له، وتنحيتهم إياه من مجالسهم". تمرد ابن الريوندي على المعتزلة، وخرج عنهم، وكتب كتابه فضيحة المعتزلة الذي ألفه ردا على كتاب الجاحظ المفقود فضيلة المعتزلة. وقد تصدى أبو الحسين الخياط المعتزلي لابن الريوندي، ورد على كتابه هذا بكتاب الانتصار والرد على ابن الريوندي الملحد.
كان هجوم ابن الريوندي على المعتزلة شرسا عنيفا، استفاد منه بعد ذلك كل من أراد أن يهاجم المعتزلة من الحنابلة والأشاعرة. يقول المستشرق نيبرج: "… إن البغدادي في تأليف كتاب الفرق بين الفرق أخذ أكثر ما نقله عن المعتزلة من كتاب ابن الريوندي [ فضيحة المعتزلة]… وأما الشهرستاني، فقد ورد في كتاب الملل والنحل ما يدل على معرفته بكتاب فضيحة المعتزلة، إذ ذكر ابن الريوندي في بعض المواضع، ونقل عنه أشياء نجد بعضها في كتاب الانتصار. ويرجع السبب في ذلك إلى أن ابن الريوندي كان ملما بقواعد وأصول الاعتزال، على علم ودراية بالخلافات والانقسامات التي كانت بين مفكري المعتزلة وفلاسفتهم، والتي كانت، إلى حد ما، راجعة إلى حرية الرأي والفكر التي سادت مدرسة الاعتزال. فلما انفصل ابن الريوندي عن المعتزلة، لم يكن جاهلا بمواضع الضعف، والمسائل التي يمكن أن يهاجمها في الفكر المعتزلي، بل كان على دراية كاملة بكل نقاط الضعف والانحراف عند مفكري المعتزلة وفلاسفتهم. ولولا أن نقده كان شاملا ودقيقا، لما تصدى له مفكر كبير كالخياط المعتزلي، حيث رد عليه في كتابه الانتصار الذي اتهم فيه ابن الريوندي بأنه شتم المعتزلة، للانتقام منهم، والثأر لشيوخ الرافضة الذين قطعهم علماء المعتزلة.
وعلى الرغم من قسوة هجوم ابن الريوندي وشدته على المعتزلة، فإنه لم يلاق القبول المنتظر، والاستحسان المتوقع لدى أهل السنة والحديث، أعداء المعتزلة اللداد. ويرجع السبب في ذلك إلى أن ابن الريوندي لما تمرد على المعتزلة، وخرج عنهم، وانتقدهم، ارتمى في أحضان الرافضة أولا، وكان أهل السنة يكرهون الرافضة أكثر من كراهيتهم للمعتزلة، ثم انتهى الأمر بابن الريوندي إلى الإلحاد والزندقة، حيث ألف الكتب الكفريات يطعن في أحدها في نبوة الرسول صلى الله عليه و سلم ويحاول في آخر أن يثبت عدم حاجة البشر إلى الرسل. فلا عجب إذن أن لا تجد كتابات ابن الريوندي الاستحسان والقبول لدى أهل السنة والحديث الذين كانوا يكرهون الروافض، ويحاربون الملاحدة والزنادقة، ويكفرون المعتزلة، وكل من ذهب مذهبهم، وهي كلها فرق وجماعات انتسب إليها ابن الريوندي الملحد.
4 ـ انقلاب الأشعري على المعتزلة: الأسباب والخلفيات
أما الضربة الثالثة التي تلقتها المعتزلة، فكانت هي أيضا من مفكر معتزلي كبير، ونعني به أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (260/873 – 324/935) الذي تتلمذ على زوج أمه الأستاذ أبي علي الجبائي المعتزلي (توفي سنة 303هـ 915م). وظل الأشعري على الاعتزال حتى بلغ سن الأربعين، ثم تمرد على المعتزلة في حدود سنة (300هـ 912م). يقول مؤلفا كتاب فلسفة الفكر الديني: "لقد أتيح لأبي الحسن الأشعري الذي اعتزل المعتزلة أن يجهز عليهم بأشد ضربة، ربما كانت هي الحاسمة. فأصبح المذهب الذي خرج به هو بالذات مذهب أهل السنة في الإسلام".
وذكرت كتب التاريخ أسبابا مختلفة لانفصال الأشعري عن المعتزلة. فابن عساكر يحكي في كتابه تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري قولا للأشعري مضمونه أن الرسول صلى الله عليه و سلم  قد ظهر له ثلاث مرات في شهر رمضان. فأمره في المرة الأولى أن ينصر الأحاديث النبوية المروية عنه صلى الله عليه و سلم، وفي المرة الثاني قال له الرسول صلى الله عليه و سلم: "انصر المذاهب المروية عني". فعزم الأشعري على ترك الكلام، ودراسة الحديث والقرآن. فلما كانت الرؤية الثالثة، لامه رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك الكلام، وأمره مرة أخرى بنصرة المذاهب المروية عنه صلى الله عليه وسلم ". ويميل وات إلى تصديق ما تحمله هذه الرواية من معنى، في حين أنه يكذب ويشكك في صحة المحاورة المشهورة التي جرت بين الأشعري والجبائي حول نظرية "الصلاح والأصلح" والتي دارت كالتالي: "سأل الشيخ أبو الحسن أستاذه يوما عن ثلاثة: مؤمن وكافر وصبي، قائلا: ما عاقبتهم؟ فأجاب قائلا: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الهلكات، والصبي من أهل النجاة. فرد الأشعري عليه قائلا: هل يستطيع الصبي أن يكون من أهل الدرجات؟ فقال: لا. فقال الأشعري: ولم؟ فرد الجبائي: لأنه يقال له: إن المؤمن إنما نال هذه الدرجة بالطاعة، وليس لك مثلها. فرد الأشعري قائلا: فإن قال الصبي: لم أقصر، ولكني مت قبل أن أتمكن من عملها. فأجاب الجبائي: إن الله يقول له: كنت أعلم أنك لو بقيت، لعصيت، فكانت مصلحتك في الموت صغيرا. فرد عليه الأشعري: فإذا قال الكافر: ولماذا، يا رب، لم تراع مصلحتي أنا الآخر، فأموت صغيرا، وأنت تعلم أني حين أكبر سأكون كافرا؟ فلم يحر الشيخ جوابا".
ويبرهن المستشرق وات على عدم صحة هذه الرواية بقوله إن رأي الجبائي الحقيقي في مسألة الصلاح والأصلح يختلف عن الرأي الوارد في هذه الرواية والذي كانت تقول به مدرسة الاعتزال في بغداد، في حين أن الجبائي كان إمام المعتزلة في البصرة. فمن المعروف أن المعتزلة ظهرت أولا في مدينة البصرة بالعراق، ثم انطلقت منها إلى بغداد، وأنحاء مختلفة من العالم الإسلامي. وقد كانت هناك اختلافات بين فرعي البصرة وبغداد، جمعها لنا المعتزلي أبو رشيد النيسابوري (توفي سنة 1068م) في كتابه الخلاف بين البصريين والبغداديين. والسبب الثاني الذي يستدل به وات على عدم صحة هذه الرواية هو أن المصادر المتقدمة لم تذكر هذه الرواية، بل إنها وردت في المصادر المتأخرة فحسب. فابن عساكر لم يشر إلى هذه الرواية في كتابه تبيين كذب المفتري. وابن عساكر توفي سنة 1176م/571هـ، وهو يعتبر من أهم المراجع القديمة عن الأشعري. وبعد حوالي قرنين من الزمان أورد الذهبي (توفي سنة 1347م/748هـ) هذه الرواية التي نقلها عنه تلميذه المتوفى سنة 1370م في طبقات الشافعية. ويقول الباحث جلال محمد عبد الحميد موسى في كتابه نشأة الأشعرية وتطورها، معلقا على هذه الرواية: "وقول الجبائي في هذه الرواية هو أن الله لا يجب عليه أن يترك الأصلح لما ليس بأصلح. ولا يقبل العقل أن تكون مسألة كهذه سببا في ترك مذهب اعتنقه الأشعري أربعين عاما. وإنما الرواية وضعت لبيان عجز الجبائي، وتفوق الأشعري عليه".
ويعتقد المستشرق وات أن سبب انفصال الأشعري عن المعتزلة هو أن الأشعري عندما كان معتزليا يدرس على الجبائي، أدرك بحسه المرهف أن العصر الذهبي للاعتزال قد انقضى، وأن المعتزلة في عصره كانوا قد انطووا على أنفسهم، وكانوا ينظرون إلى إنجازاتهم في العصر الذهبي، ويعيشون على الماضي، دون أن يكون لهم دور فعال في حياة المسلمين في ذلك الوقت، مما دفع الأشعري إلى الانفصال عنهم، لأن المستقبل الذي كان ينتظر المعتزلة حينئذ لم يكن مستقبلا مشرقا. ففضل الأشعري أن يعالج المسائل الملحة التي كانت تشغل المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت، وأن يترك الاعتزال، ويؤسس مذهبا جديد.
ومهما يكن من أمر فإن ما يهمنا هنا هو الهجوم الذي أعلنه الأشعري على المعتزلة. يقول المقريزي في الخطط: "… تلمذ [ الأشعري ] لزوج أمه أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، واقتدى برأيه في الاعتزال عدة سنين، حتى صار من أئمة المعتزلة، ثم رجع عن القول بخلق القرآن، وغيره من آراء المعتزلة، وصعد يوم الجمعة بجامع البصرة كرسيا، ونادى بأعلى صوته: من عرفني، فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا أعرفه بنفسي. أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وإن الله لا يرى بالأبصار، وإن أفعال الشر أنا أفعلها. وأنا تائب، مقلع، معتقد الرد على المعتزلة، مبين لفضائحهم معابيهم". وقد وصف مؤلفا كتاب فلسفة الفكر الديني تحول الأشعري عن المعتزلة بأنه "تحول عنيف"، حيث يقولان: "والواقع أن تابع الجبائي بالأمس تحول على أصحابه الأول تحولا عنيفا، كالذي تفضي إليه ردة المنقلبين على إحراق ما عبدوا بالأمس. لقد جعله اطلاعه على قضايا المعتزلة خصما خطرا".
إن الموقف الجديد الذي اتخذه الأشعري هو في الواقع محاولة للتوفيق بين نزعة المعتزلة العقلانية، وميل الحنابلة والحشوية إلى الجمود، ووقوفهم عند ظاهر النصوص، ورفضهم لعلم الكلام والبراهين العقلية. وقد نقل ابن عساكر في كتابه تبيين كذب المفتري قول إمام الحرمين الجويني (توفي سنة 478هـ/1085م) إن الأشعري: "نظر في كتب المعتزلة والجهمية والرافضة، وأنهم عطلوا وأبطلوا، فقالوا: لا علم لله، ولا قدرة، ولا سمع، ولا بصر، ولا حياة، ولا بقاء، ولا إرادة. وقالت الحشوية والمجسمة و الميكفة المحددة إن لله علما كالعلوم، وقدرة كالقدر، وسمعا كالأسماع، وبصرا كالأبصار. فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما". ويشرح الغزالي في صدر كتابه الاقتصاد في الاعتقاد مذهب الوسطية هذا الذي وضعه الأشعري، قائلا: "الحمد لله الذي اجتبى من صفوة عباده عصابة الحق وأهل السنة [= الأشاعرة]، وخصهم من بين سائر الفرق بمزايا اللطف والمنة، وأفاض عليهم من نور هدايته ما كشف به عن حقائق الدين، وأنطق ألسنتهم بحجته التي قمع بها ضلال الملحدين، وصفى سرائرهم من وساوس الشياطين، وطهر ضمائرهم عن نزعات الزائغين، وعمر أفئدتهم بأنوار اليقين، حتى اهتدوا بها إلى أسرار ما أنزله على لسان نبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم، سيد المرسلين، واطلعوا على طريق التلفيق بين مقتضيات الشرائع وموجبات العقول، وعرفوا أن من ظن من الحشوية وجوب الجمود على التقليد وإتباع الظواهر، ما أتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر، وأن من تغلغل من الفلاسفة وغلاة المعتزلة في تصرف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع ما أتوا به إلا من خبث الضمائر. فميل أولئك إلى التفريط، وميل هؤلاء إلى الإفراط وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط".
وقد وصف هنري كوربان طريقة الأشعري بأنها بين "… تطرف المتمسكين بحرفية النص من أهل الحديث، وتطرف العقليين من أهل الاعتزال". ولا شك أن محاولة الأشعري للتوفيق بين فكر المعتزلة العقلاني، وأسلوب الحنابلة الذين يميلون إلى الجمود والتقليد، لم تكن لتنال رضى المعتزلة، أو قبول الحنابلة والحشوية. وهذا هو السبب الذي جعل وينسينكWensinck يتساءل في كتابه The Muslim Creed: هل كان الأشعري رجلا ذا وجهين؟. كما أن دي بور قد اتهم الأشعري في مذهبه الذي ذهب إليه بالتناقض، حيث يقول في تاريخ الفلسفة الإسلامية: "لم يكن الأشعري في تفصيله لمذهبه مبتكرا من أي وجه. ولم يفعل أكثر من جمع الآراء التي وصلت إليه، والتوفيق بينها، ولم يسلم في هذا من التناقص".
ولكن كيف تطور الهجوم الأشعري على المعتزلة؟ قام الأشعري أولا بالانفصال عن المعتزلة، ثم وضع أسس المدرسة الجديدة التي سميت باسمه. وبعد ذلك قام بالهجوم على المعتزلة والحنابلة. ثم جاء تلامذته من بعده، وطوروا هذا الهجوم، حتى شمل في عصر الغزالي (توفي 505هـ/1111م) الهجوم على الفلاسفة أيضا. ثم حدث بعد ذلك الهجوم هجوم مضاد على الأشاعرة من جانب المعتزلة والحنابلة والظاهرية والفلاسفة.
5 ـ فحوى هجوم الأشعري على المعتزلة:
كان هجوم الأشعري على المعتزلة مشابها لهجوم ابن حنبل عليهم. فقد شمل هذا الهجوم سب ولعن المعتزلة أولا، ثم مهاجمة ما ذهبوا إليه في أصولهم وفلسفتهم، والقول بمبادئ وأصول مخالفة لهم. أما عن سب الأشعري، ولعنه للمعتزلة، فقد ورد في تبيين كذب المفتري القول التالي لعلي ظاهر بن أحمد: "مات أبو الحسن الأشعري، رحمه الله، ورأسه في حجري. وكان يقول شيئا في حال نزعه من داخل حلقه، فأدنيت إليه رأسي وأصغيت إلى ما كان يقرع سمعي. فكان يقول: لعن الله المعتزلة، موهوا، ومخرقوا". وركز الأشعري هجومه على المعتزلة في كتابه الإبانة عن أصول الديانة. فهو يعلن في مقدمة كتابه هذا أن المعتزلة هم "الزائغون عن الحق"، وأنهم هم المقصودون بحديث الرسول (صلعم): "القدرية مجوس هذه الأمة".
وقبل أن نستعرض بعض ردود الأشعري على المعتزلة، ومهاجمته إياهم في ذلك الكتاب، علينا أن نلاحظ أن الأشعري في كتابه هذا لم يقتصر على الهجوم المباشر على المعتزلة، ولكنه قاد بجانبه هجوما آخر غير مباشر عندما امتدح ابن حنبل، وأعلن أنه "الإمام الفاضل، والرئيس الكامل". وقد استعرضنا من قبل العداوة التي كانت بين ابن حنبل والمعتزلة، حيث كان كل منهما يكفر الآخر. ومدح الأشعري ابن حنبل، عدو المعتزلة، يعني ضمنيا ذم المعتزلة والتبريء منهم. كما أن قبول ما كان يقول به ابن حنبل، يتضمن رفض ما تقول به المعتزلة، وعدم قبوله. وكأن الأشعري أراد أن يتقرب إلى الحنابلة على حساب المعتزلة، أو أنه شاء أن يعلن، ويطبق المثل القائل: "عدو عدوي صديقي"، بمعنى أن كل من يهاجم المعتزلة يحظى بقبول الحنابلة ومدحهم.
يقول المستشرق مونتجومري وات في الجزء الثاني من كتابه الإسلام، Der Islam II: "على الرغم أن الأشعري قبل الكلام [= علم الكلام ]، إلا أنه رفض أن يناقض مسألة لفظ القرآن [= أهو مخلوق أم لا]. وقد كان هذا بلا شك بسبب إعجابه بأحمد بن حنبل [ الذي عرف عنه كراهيته لعلم الكلام، واستنكاره الخوض في مسألة خلق القرآن ]". أما عن لهجة الأشعري ضد المعتزلة في كتاب الإبانة، فيعلق جولدتسيهر على مقدمة ذلك الكتاب، قائلا: "إذا –الأشعري منذ بدء قانونه الإيماني- يعلن نفسه حنبليا. وهذا ما لا يجعلنا نفترض استعداده للتوسط. حقيقة، حينما جاء إلى الكلام عن نزعات المجسمة، نراه يصب سيلا من السخرية والاستهزاء على العقليين الذين يبحثون عن تفسيرات مجازية للتعابير المادية في النصوص المقدسة…". ويحذر جولدتسيهر في موضع آخر من الرأي الشائع أن مذهب الأشعري هو مذهب وسط بين المعتزلة والحنابلة، حيث يقول: "حينما يدعون الأشعري رجلا ذا مذهب متوسط معتدل، يجب ألا نعمم هذا الحكم المميز لكل نزعاته الكلامية، بتوسيعه حتى يضم كل مسائل المذهب التي نشب الكفاح من أجلها في العالم الإسلامي في القرنين الثامن والتاسع، بين الآراء المتعارضة والمتناقضة". ويعلق مؤلفا كتاب فلسفة الفكر الديني على تأليف الأشعري كتاب الإبانة، بقولهما: "[ إن ] الرغبة في رد مساوئهم [= مساوئ الحنابلة والحشوية] هي التي دفعت الأشعري إلى أن يضع إبانته عن أصول الديانة عند قدومه بغداد. إنه في مستهله يحاول استعطافهم، فيعبر عن إعجابه بابن حنبل، راغبا في أن يثبت لأتباعه، أن المسلم يستطيع أن يكون في إسلامه من الأبرار، من غير أن يهوى إلى الغلو في التأويل بالظاهر".
إذا عدنا إلى الحديث عن ردود الأشعري على المعتزلة، وهجومه عليهم في كتابه الإبانة، فعلينا أن نكتفي بذكر بعض أهم المسائل التي كان يدور حولها الجدال في ذلك الوقت، ونعني بذلك مسألة خلق القرآن، ورؤية الله يوم القيامة، وعذاب القبر، والشفاعة، والقول في الشر. أما عن القرآن، فقد سبق أن أوضحنا أن المعتزلة كانت تقول بخلق القرآن، فقال الأشعري في الإبانة: "نقول إن كلام الله غير مخلوق، وإن من قال بخلق القرآن، فهو كافر". وبينما أنكرت المعتزلة عذاب القبر، قال الأشعري في الإبانة: "نؤمن بعذاب القبر…". نفت المعتزلة رؤية الله يوم القيامة، وأقرها الأشعري بقوله: "ندين بأن الله يرى في الآخرة بالأبصار، كما يرى القمر ليلة البدر". أنكرت المعتزلة شفاعة رسول الله (صلعم) لمن استحق العقاب من المؤمنين، وقالت إن هذه الشفاعة لا تتفق مع العدالة الإلهية، ورد الأشعري في الإبانة بقوله: "نقول إن الله عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن امتحشوا [= احترقوا، انظر لسان العرب، ص4144]، بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم…". أما عن القول في الشر والمعاصي، فقد ذهبت المعتزلة إلى القول بأن الإنسان هو خالق الشر والمعاصي، وأن الله تعالى "لا يجوز أن يكون مريدا للمعاصي".
و عارض الأشعري قول المعتزلة هذا، فذهب إلى أن "الخير والشر بقضاء الله وقدره". ومن المناسب الآن –قبل أن ننتقل إلى أصحاب الأشعري وأتباعه من الأجيال التالية، ونوضح كيف طوروا، ووصلوا هجومهم على المعتزلة. أنّ نستعرض أولا علاقة الأشعري بالأحاديث النبوية
بالأحاديث النبوية الشريفة، ومدى اختلافه في ذلك مع المعتزلة.
6 ـ الأحاديث النبوية بين المعتزلة والأشعري:
قللت المعتزلة من قيمة الأحاديث النبوية الشريفة، ولم تستخدمها في مصنفاتها، إلا في حدود ضيقة. ويمكننا أن نرجع ذلك إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
 السبب الأول: هو أن المعتزلة كانوا، كما وصفهم المستشرق السويدي نيبرج في مقدمة كتاب الانتصار للخياط المعتزلي، "أشد المسلمين دفاعا عن الإسلام" ضد أعدائه من الزنادقة، وأصحاب الديانات الأخرى. والجدل مع جماعات لا تؤمن بالإسلام أصلا، ولا تقبل بصحة نبوة الرسول (صلعم)، لا يسمح باستخدام الأحاديث النبوية كبراهين وأدلة على صحة ما كانت تقوله المعتزلة لهذه الجماعات، لأنها لم تكن تؤمن أصلا بالإسلام، ولا تعتبر القرآن كتابا سماويا منزلا. إذ كيف نطالب قوما بتصديق قول من لا يؤمنون بصحة نبوته أصلا؟ من هنا نجد أن المعتزلة كانت لا تستخدم الأحاديث النبوية الشريفة في مجالس الجدل التي جمعتهم بهذه الجماعات، ولكنهم كانوا يستخدمون المنطق والفلسفة والحجج العقلية. وقد وصف لنا طرق الجدل المتبعة في هذه المجالس أحد مرتاديها، فقال: "… رأيت مجلسا قد جمع الفرق كلها، المسلمين من أهل السنة والبدعة، والكفار من المجوس، والدهرية، والزنادقة، واليهود، والنصارى، وسائر أجناس الكفر. ولكل فرقة رئيس، يتكلم عن مذهبه، ويجادل عنه. فإذا جاء رئيس، من أي فرقة كان، قامت الجماعة إليه قياما على أقدامهم، حتى يجلس، فيجلسون بجلوسه. فإذا غص المجلس بأهله، ورأوا أنه لم يبق لهم أحد ينتظرونه، قال قائل من الكفار: قد اجتمعتهم للمناظرة، فلا يحتج علينا المسلمون بكتابهم، ولا بقول نبيهم، فإنا لا نصدق بذلك، ولا نقر به. وإنما نتناظر بحجج العقل، وما يحتمله النظر والقياس. فيقولون: نعم، لك ذلك". ونتج عن ذلك مثلا أن عالما كأبي الحسين بن الطيب المعتزلي، صاحب التصانيف الكثيرة، لم يكن يحفظ سوى حديث واحد!!.
ثانيا: انتشار الوضع والكذب في الحديث، حيث سبق أن ذكرنا ما أورده السيوطي (المتوفي سنة 911هـ) في كتابه تحذير الخواص من أكاذيب القصاص عن عبد الكريم بن أبي العرجاء أنه وضع أربعة آلاف حديث. وقد أورد أحمد أمين في فجر الإسلام ما رواه مسلم عن محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن أبيه، أنه قال: "لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث". وذكر ابن الجوزي (توفي سنة 597هـ) في كتاب الموضوعات قول أحد شيوخ الرافضة: "إنا كنا إذا… استحسنا شيئا، جعلناه حديثا". وقد أدى ذلك إلى اتخاذ المعتزلة موقفا متشددا من القصاص، وأصحاب الحديث، سبق أن أوضحنا بعض مظاهره، فذكرنا موقف النظام المتشدد تجاه أبي هريرة، وعبد الله بن مسعود، كما أورده البغدادي في الفرق بين الفرق، وكما جاء في كتاب النكث لابراهيم النظام المعتزلي، حيث اتهم أبا هريرة بأنه أكذب الناس، وهاجم ابن مسعود، وسخر منه. يقول زهدي جار الله في كتابه المعتزلة: "أما الحديث، فإنهم [= المعتزلة] شنوا عليه، وعلى المحدثين غارة شعواء، وهاجموهم هجوما عنيفا". وأورد ابن المرتضى في كتابه المنية والأمل تساؤل النظام العنيف عن المحدثين: "وكيف لا يغلطون ولا يكذبون ولا يجهلون ولا يتناقضون؟".
أما السبب الثالث: فهو أن المعتزلة كانوا قد وضعوا أصولهم الخمسة، كما أوضحنا سالفا، فكان عليهم أن يقوموا بتأويل جميع الآيات القرآنية التي يتعارض ظاهرها مع أصولهم الخمسة، فتأولوا مثلا الآيات التي يدل ظاهرها على أن الإنسان مجبر في أعماله، والآيات التي قد يفهم منها أن المؤمنين سيرون الله يوم القيامة؛ أما الأحاديث التي لا يتفق معناها مع أصول المعتزلة، فقد رفضت المعتزلة قبولها والعمل بها، وقالت إنها غير صحيحة. وقد سبق أن أشرنا إلى بعض من اشتهر من المعتزلة بتكذيب الأحاديث التي لا يتفق معناها مع أصولهم، فذكرنا عمرو بن عبيد، وإبراهيم النظام، والجاحظ، على سبيل المثال. ويقول جولدتسيهر في سياق حديثه عن تأويل المعتزلة للآيات القرآنية التي يدل ظاهرها على التجسيم: "أما بالنسبة للقرآن، فإن المعتزلة قد كانوا أتموا في ذلك الزمان إتماما كافيا العمل الضروري في هذه الناحية. وأما الحديث، فقد كان اهتمامهم من أجله أقل، إذ كان لديهم هنا الوسيلة السهلة الميسورة، وهي أن يعلنوا ببساطة عدم صحة الأحاديث التي توجد فيها تعابير شائكة، وبذلك لا يشغلون أنفسهم بعد هذا بشيء من التفسير والتأويل العقلي". وتشبه المعتزلة في تقليلها من قيمة الأحاديث النبوية الشريفة فرقة الصدوقيين من اليهود. يقول الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتاب اليهودية واليهود، عن هذه الفرقة: "إنها لا تعترف إلا بالعهد القديم، وترفض الأخذ بالأحاديث الشفوية المنسوبة إلى موسى".
كانت هذه الأسباب الثلاثة هي التي دفعت المعتزلة إلى التقليل من استعمال الأحاديث الشريفة. ولكن المستشرق وات ذهب إلى القول بأن: "من الممكن إرجاع حقيقة أنه لا توجد براهين معتزلية مبنية على الأحاديث، إلى أن آراء المعتزلة قد تكونت في وقت لم تكن الأحاديث فيه مقبولة عامة، كأساس للبراهين عامة". ونحن نعتبر أن هذا الكلام باطل، لا يليق بعالم غزير الإنتاج مثل وات. ومهما يكن فقد استخدم الأشعري الأحاديث النبوية أكثر من المعتزلة، نظرا لأنه كان يحاول التقرب من الحنابلة وأهل الحديث.
                                                                                         ثابت عيد       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق