الخميس، 13 يناير 2011

الرحيل إلى أوروبا أو مشروع النهضة العربية


عرف القرن التاسع عشرة ظهور مفكرين و مصلحين و" تنويريين" أرادوا تغيير الأوضاع التي كان يرزح تحت ظلها المجتمع العربي الإسلامي[1].هذه المحاولات كانت تستهدف عدة جوانب في حياة الأمة الإسلامية التي رغم إثرائها للفكر الإنساني بما قدمه علماؤها و مفكروها من علوم و معارف ساهمت في تطوير و نهضة و تقدم الإنسانية.
    و رغم ما يضمن الإسلام للأمة من حقوق و ضمانات و حرية و امتداد طبيعي لكل مفكر و باحث حتى يبدع و يجتهد ارتكست الأمة و عاشت التخلف و الجهل و ما اتبع ذلك من قمع فكري و سياسي. هذه الظروف ساعدت الدول الغربية الناهضة من أوضاع مشابهة أو أتعس بكثير من ظروف الأمة العربية الإسلامية( بعد أن استفادت مما حققه المسلمون من معارف في شتى الميادين و قيام نظرة جديدة للتراث الإغريقي. فقد قامت في فرنسا وحدها ثلاث ثورات: ثورة 1830 و ثورة 1848 وثورة كمونه 1871 من أجل التحرر و القضاء على لاستبداد.) أقدمت وعملت الدول الغربية على احتلال أغلب الدول الإسلامية و استغلال ثروتها و تدمير وحدتها و القضاء على كيان وجودها.[2] ولعل الأدهى من ذلك من جاءها عارضا عليها الإصلاح. إصلاح أوضاعها الدينية و الاجتماعية  والسياسية و الاقتصادية وتغيير حال ظروفها. وتمثل ذلك أساسا في حملة نابليون على مصر  والمنشور الشهير الذي عرضه في الأزهر مبينا أنه لم يأت غازيا بقدر ما جاء معلما و مصلحا  وناصحا. و هذا ما نبه بعض رجالات هذه الأمة للحالة الخطيرة التي عليها الأمة الإسلامية فأرادوا البحث في أسباب تقدم الغرب. فكانت من بين الأفكار و الحلول الإرساليات و البعثات التعليمية باتفاق مع الدول الأوروبية فكان الرحيل إلى أوروبا أو الذهاب إلى الآخر. فكيف كانت هذه الرحلات و ماذا أنتجت؟
    إن الدارس لرحلات رواد النهضة العربية يلمس بيسر أنها تنقسم صنفين:
* رحلات وصفية تتحدث عن الحياة اليومية و العادات و مظاهر العمران و الحياة الاجتماعية دون أن تولي عناية و اهتمام للنظم السياسية و المؤسسات الدستورية.
* رحلات تبرز الجوانب السياسية و الحديث بإسهاب عن المؤسسات الدستورية البرلمان و مراقبته لأعمال الحكومة و قدرته على سحب الثقة منها وربط ذلك بالعدل السياسي و بالحريات العامة وكان القصد من وراء ذلك نشر الوعي في البلدان العربية ليقارن الناس بين نظام الحكم المطلق الذي يرزخون تحت نيره و النظم الدستورية التي عرفتها كثير من بلدان أوروبا الغربية. هذه الرحلات التي تندرج ضمن الصنف الثاني جلبت كثيرا من الاهتمام لما كان لها من تأثير بعيد المدى في الفكر السياسي لبوادر النهضة العربية.
    وتأتي رحلة الشيخ رفاعة رافع طهطاوي 1801/ 1873 التي دونها في كتابه«تخليص الإبريز في تلخيص باريس»[3] ثم رحلة خير الدين باشا وتسجيل ما شاهد من تمدن في كتابه«أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»[4]
كما دون الشيخ المؤرخ الإصلاحي التونسي أحمد بن أبي الضياف 1804/1874 في كتابه«إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان»[5] ما اطلع عليه من تمدن وحرية في فرنسا خلال الزيارة التي قام بها مع المشير أحمد باشا باي.
    إن الاعتقاد بأن نصوص الفئة الثانية من الرحلات قد كتبها أصحابها عن وعي هادفين إلى إبراز ما حققه ا لآخر من تقدم و ما ينعم به من حريات مقابل صورة الأنا المتخلفة, وما تعنيه من ويلات حكم استبدادي يقف عائقا أمام كل محاولات الإصلاح و التحديث.
    و تتميز نظرة التحديثيين أو النهضويين العرب إلى الغرب من زوايا مختلفة, و لكنهم تأثروا بحداثة عصر الأنوار فنجد الطهطاوي يقدم فكر البورجوازية الفرنسية الديمقراطي و يصف ثورة الشعب الفرنسي 1830 بأسلوب المعجب و المنبهر.لذلك حين عاد إلى مصر عاد حاملا مصباح الغرب بإحدى يديه  ومفتاح الشرق بيده الأخرى. إن علاقة الإصلاحيين في المجتمع العربي الإسلامي بالحداثة تظهر أن أكثرهم أدرك منذ القرن التاسع عشر أن حداثة عصر الأنوار قد أصبحت حداثة كونية. فما هي أبرز سمات هذه الحداثة التي حاول الإصلاحيون اقتفاء أثارها؟
    تتلخص سمات هذه الحداثة في أربع مقولات رئيسة:
         * مقولة" لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه".
         * المقولة الثانية دمج العقل في ثالوث يقوم على العقلانية, الحرية, العدل السياسي والاجتماعي.
         * المقولة الثالثة تحرير الإنسان و التاريخ من أسطورة الحتمية.
         * المقولة الرابعة تتعلق بشرعية السلطة فحركة الأنوار لم تنشأ باعتبارها تيارا فلسفيا أو فكريا بل ولدت و شقت طريقها في خضم صراع معقد مع الواقع. و هذا الواقع سيطرت عليه قوتان رجعيتان: قوة الكهنوت الكنسي و قوة النظم الاستبدادية.
    فليس من الصدفة أن يكون أخطر سؤال طرحه مفكرو قرن الأنوار و أبلغه أثرا في الأحداث التاريخية التي عرفها القرنان الثامن عشر و التاسع عشر هو من أين تستمد السلطة السياسية شرعيتها لتتحكم في رقاب الناس و مصالح المجتمع[6]؟ و هذا السؤال مازال يطرح إلى اليوم!
    لقد جاء الجواب فيما طرحه روسو 1712/ 1778 من نظريات في العقد الاجتماعي و ما نظره إيمانوال كنت 1724/ 1804 فليس بغريب أن يولي رواد النهضة عناية خاصة و اهتمام بهذين المفكرين. و يعتبر الطهطاوي أول من ذكر أفكارهما. فمن المعروف أن كنت لم ير أي تناقض بين الإيمان و العقل في فلسفته و حياته ولكنه يقول عن مؤسسات الكهنوت الديني و الكنسي و عن السلطة الاستبدادية أنها مؤسسات " تدوس بأرجلها حقوق البشر المقدسة" مثل هذه المقولات انعكست بدرجات متفاوتة في كتابات المفكرين العرب ابتداء من الطهطاوي إلى فرح أنطوان و أديب إسحاق وسلامة موسى و أحمد لطفي وطه حسين.
    الحداثة التي تأثر بها التنويريون هي حداثة عصر الأنوار التي دشنت عصر حرية الإنسان وحررت إرادته ليعي أنه صانع تاريخه و بالتالي فهو مسؤول عن اختياره وهي التي أزالت طابع القداسة عن الحكم بعد أن افترى زبانيته على الشعوب قرونا طويلة زاعمين أنهم يستمدونها من السماء فالإنسان وحده وعبر نضاله الطويل له الحق في اختيار أفضل أنماط الحكم لتسيير شؤونه وله وحده الحق في  تغييرها إذا لم تستجب لمصالحه. وهذه الحداثة المطلة من عباءة فلسفة النوار و التي تعني العلاقة الوثيقة التي لا انفصال لها بين مفهومين: العقلانية / التحرر.فالعقلانية لا معنى لها دون أن تكون في خدمة التحرر. ويصبح التحرر و ما يقترن به من حقوق عامة و ديمقراطية مستحيلة.
    وهكذا أصبحت ممارسة الفكر العقلاني هي المحك و برزت وظيفته النبيلة في قيادة التقدم   والتحرر فلا حداثة دون تحرير الإنسان من كل المسلمات و البديهيات و الميتافيزيقا و الأساطير وتحرير التاريخ من مقولة الحتمية. مقولات حداثة عصر الأنوار تمثل تحولا جذريا في وعي المثقف برسالته في المجتمع و ما يرتبط بها من حوار مع قوى المجتمع المدني و مع السلطة من جهة أخرى.            حاول رواد الحركات الإصلاحية بان يتخذوا حداثة عصر الأنوار نموذجا يحتذ به و يسهم في الخروج من التخلف الذي يشكو منه المجتمع العربي الإسلامي و يساعد بصفة أخص في التحرر من نظم الحكم المطلق و إرساء أسس الدولة المدنية يوما ما, و هنا يطرح السؤال التالي: أولا لماذا لم تنجح حركات التنوير العربية في مختلف مراحلها التاريخية في قيام أسس الدولة المدنية و بقيت النظرية بعيدة عن التطبيق منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن الحادي و العشرين؟ و لماذا بقي جل حاملي لواء الفكر التنويري العربي منذ عصر الشيخ الطهطاوي حتى اليوم يركضون وراء الركب السلطاني ويسبحون أناء الليل و أطراف النهار بحمد "ولي النعم" كما أعتاد أن يطلق الطهطاوي على حاكم مصر وقتئذ محمد علي 1805 / 1848    
    إن إشكالية علاقة المثقف بالسلطة في المجتمع العربي الإسلامي مرتبطة وثيق الارتباط بتاريخ تيارات الفكر التنويري العربي الإسلامي و هي إشكالية مطروحة اليوم بحدة.[7] إن لعلاقة المثقف بالسلطة سمات عامة و لكنها تتميز بميزات خاصة في البلدان العربية و هذه الميزات نفسها تختلف وتتغير من بلد إلى أخر, و من مرحلة تاريخية إلى أخرى و الأقرب إلى الاعتقاد أنه لايمكن فهم كثير من معطيات حركة الاستنارة العربية إذا لم تحظى هذه القضية بما تستحقه من عناية و تمحيص. وهنا لا بد من التذكير بأننا نجد فئتين أساسيتين ضمن زمرة رواد الحركة التنويرية العربية:
    * فئة أولئك الذين كانوا في عصرهم دعامة أساسية من دعائم الحكم المطلق الاستبدادي مثل الطهطاوي و خيرالدين و علي باشا مبارك و مدحت باشا, فقد اعتقدوا أنهم قادرون على نشر أفكارهم الإصلاحية على إصلاح النظام من داخل السلطة. فهل استطاعوا ذلك؟
    * فئة ثانية كانت معارضة للسلطة و أصابها بسبب مواقفها الإصلاحية التحررية عنتا شديدا مثل الأفغاني  1849/ 1902 و ولي الدين يكن 1873 / 1921 وسليم سركيس 1867 / 1926.
    هذا ولا يمكن فهم الحركات الإصلاحية العربية فهما شاملا و دقيقا إلا إذا نزلت في ظروفها الموضوعية مكانا وزمانا. ويشغل الجانب السياسي حيزا بارزا ضمن هذه الظروف الموضوعية.  وهنا تتنوع المواقف بل تتباين. فقد رأينا فئة من رواد الاستنارة حاولت الإصلاح من داخل السلطة عندما قدمت في مؤلفاتها نموذجا للسلطة السياسية في ديار الآخر المتقدم. بينما أدركت فيئة ثانية أنه لا أمل في الإصلاح (لا يمكن إصلاح ما لا يصلح) و لا في التحديث الحقيقي دون البداية بالإصلاح السياسي الهادف أساسا إلى القضاء على الحكم المطلق الاستبدادي. و تأسيس نظم دستورية جديدة  وتحويل نظام الحكم المطلق إلى ملك مقيد بقانون حسب تعبير ابن أبي الضياف على غرار النظم الملكية الدستورية التي عرفتها البلدان الأوروبية في القرن التاسع عشر و خاصة فرنسا بل ذهب بعض أنصار هذا التيار إلى ضرورة الثورة ضد هذه النظم إن لزم الأمر, كما عبرت عن ذلك الرؤية السياسية الفكرية للثورة العرابية.و لابد من الإشارة هنا أن فئة أخرى فرت من السياسة بعدما اكتوت بنارها, فركزت على النوعية عبر نشر التعليم  و المعرفة و يعد الشيخ محمد عبده من أبرز ممثلي هذه الفئة فلقد لعن فعل ساس و يسوس وقد أصبح من المعروف أن موقف الشيخ هذا كان من أبرز أسباب الفرقة بينه وبين أستاذه الأفغاني.[8] لكن السؤال الذي يطرح هل كان أنصار الفئة الثانية مدركين أنه لا يمكن أن يتحقق التقدم، و أن تؤتي إصلاحات ذات طابع تحديثي في ظل نظم سلطوية استبدادية، وهل أن الحل يبدأ بالإصلاح السياسي، كما تفطن إلى ذلك خيرالدين؟ القضية طرحها رواد الاستنارة العربية بالأمس   ومطروحة اليوم.
    لقد أدرك رواد النهضة العربية أهمية العامل السياسي لتحقيق التقدم في العلوم و الصناعات بوجود تنظيمات مؤسسة على العدل السياسي فلا تكفي تنظيمات و مؤسسات دستورية صورية فلا بد أن تكون ممثلة تمثيلا حقيقيا، و أن تكون لها رقابة على السلطة التنفيذية. لقد استعمل خيرالدين في هذا السياق مفهوم " الاحتساب على الدولة" وهي وظيفة البرلمان ويسميه مجلس الوكلاء و يعرّف خيرالدين هذا المجلس" ومجلس الوكلاء المركب ممن ينتخبهم الأهالي للمناضلة عن حقوقهم  والاحتساب على الدولة[9] " و لابد أن تكون الحكومة مسؤولة أمام البرلمان، و له الحق في سحب الثقة من أعضاءها " لا يمكنهم البقاء في الخدمة إلا إذا كان غالب أعضاء مجلس الوكلاء موافقا على سياستهم[10] "
    لقد أدرك صاحب أقوم المسالك ومن معه من رجال الإصلاح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أن الأوضاع لا يمكن أن تتغير, و أن يخطو المجتمع خطوات ثابتة فوق درب الحداثة الحقيقية بدون تغيير الأوضاع السياسية. وبعث مؤسسات دستورية قائمة على العدل السياسي و الحرية فليس من الصدفة أن يقف خيرالدين وقفة طويلة عند مفهوم الحرية و دورها فيما حققه المجتمع الأوروبي من تقدم. و هو الذي لمس عن كثب ويلات الحكم المطلق الاستبدادي, و أثاره الوخيمة مؤكدا" إن الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان و التمدن بالممالك الأوروبية[11]" و نسأل اليوم ونحن في مطلع القرن الحادي و العشرين هل أن حاملو لواء خطاب الحداثة واعون لخطورة العامل السياسي في تحقيق مشروع النهضة و التحديث العربي أو فشله. كثير منهم واعون ذلك دون ريب و لكن من الغريب أن نجد اليوم في أدبيات فكر فئات من المثقفين العرب غياب هذا العامل عندما يتحدثون عن معوقات مشروعات التحديث العربية. إن جميع التجارب العربية و الدولية برهنت بوضوح أن جميع مشروعات الحداثة التي يتزامن فيها التحديث السياسي, أي التحول من دولة استبدادية قامعة إلى ليبرالية ديمقراطية هي مشروعات مشوهة, ومن الطبيعي أن تسقط طال الزمن أو قصر.
    إن مؤلفات الطهطاوي و خيرالدين و ابن أبي الضياف و بيرم الخامس و الأفغاني و فرح أنطوان  والشيخ عبده قد أسست بدرجات متفاوتة و بالإفادة مرة من أدبيات الفكر السياسي في التراث العربي الإسلامي [12] ومرة من أدبيات الفكر السياسي الأوروبي[13] . لقد اختلف استعمال المصطلحات من الطهطاوي و خيرالدين فإذا كان الطهطاوي لا يستعمل مفهوم العدل السياسي صرحة كما جاء في أقوم المسالك ولكن مفهومه للعدل الذي أراد الإلماح إليه في نهاية المطاف هو العدل السياسي[14].
    إن حديث خيرالدين عن العدل السياسي وعن مراقبة برلمان منتخب لأعمال الحكومة و احتسابه على الدولة كذلك وحديثه عن الحريات العامة يسقط نظرية العادل المستبد و من المعروف أن كلا من الطهطاوي و خيرالدين و الشيخ عبده من أنصار هذه النظرية وهي متناقضة تماما مع مفهوم الحداثة السياسية باعتبارها الأس المتين للدولة المدنية. بالرغم مما تبدو عليه مقولة المستبد العادل من تجديد عصرئذ فإنها تبقى مشدودة إلى الماضي و إلى تراث الفكر السياسي للدولة السلطانية.
    إن أنصار التيار التنويري الذي يمثله الطهطاوي و خيرالدين ثم من بعدهما الشيخ عبده قد قادوا معركة التجديد في مجالين: المجال الديني و السياسي، و قد وجدوا أنفسهم بين المطرقة و السندان، مطرقة سلطة سياسية استبدادية متخلفة، وسندان المحافظين من شيوخ النقل الببغائي أو بتعبير الكواكبي في كتابه«طبائع الاستبدادي» مطرقة العلماء الغفل الأغبياء و سندان الرؤساء القساة الجهلاء. و ما أشبه الليلة بالبارحة رغم الفاصل الزمني الطويل فإن أنصار الحداثة و التقدم في الوطن العربي يجدون أنفسهم اليوم في كثير من الحالات بين مطرقة نظم سياسية قامعة و متخلفة، و سندان موجة الردة والرداءة. و رغم التناقض الأساسي بين القوتين في جل الحالات فإن تأثيرهما السلبي يصب في نهاية المطاف في مجرى واحد, مجرى التخلف و معاداة الدولة المدنية الحديثة بمؤسستها الدستورية الحقيقية وقيمها الحداثية، وقد برهنت جميع التجارب العربية المعاصرة انه لا تقدم بدون إقامة هذه الدولة.
    و يجدر التذكير في هذا الصدد، و نحن نحاول فهم أسباب انتكاس التنوير: إن الأخطر في راهن كثير من المجتمعات العربية ليس الانهيار، إنما تمويه الانهيار. فتجد السلطة في صفوف "المثقفين" تتحدث عن التقدم و التحرر و دولة المؤسسات و القانون و كل ذلك في ظل مناخ تسيطر عليه الرداءة و الردة الفكرية و السياسية ويبقى هؤلاء "المثقفين" يبررون تصرفات هذه الأنظمة و أعمالها لعدة أسباب ليس المجال ذكرها.
    لقد خاب أمل النخب السياسية و الفكرية التي خاضت معارك التحرر العربي بأن الدولة الوطنية التي ستقوم غداة الاستقلال ستحقق حلم أجيال من التنويريين العرب في بناء الدولة المدنية الحديثة التي تسندها قوى المجتمع المدني الحر، لكن سرعان ما خاب الأمل وتحولت إلى دولة مملوكية قامعة،  وخاصة بعد أن أمسكت بأزمتها في حالات متعددة المؤسسة العسكرية، ونظم الحزب الواحد الشمولي  والرئيس الواحد القادر بمفرده على القيادة وتحقيق الرخاء و الأمن و الاستقرار فبرز شعار «شر معروف أفضل من خير مظنون» فتحول الركود إلى استقرار أو ما أسماه زعماء النهضة بالأمس بالجمود على الموجود و إذا كان ضرر الجمود في القرن التاسع عشر محدودا فإن الركود يعني في عصر العولمة التقهقر و التهميش.
    إن الدارس يقع في خطاء منهجي عندما يحشر النهضويين العرب في القرن التاسع عشر في خانة واحدة متجانسة في حين أنهم يمثلون تيارات سياسية مختلفة و رؤى فكرية متباينة ويمكن تصنيف هذه التيارات:
    * التيار الديني التجديدي و أبرز حاملي لوائه الطهطاوي، الأفغاني، عبده، و عبد الرحمان الكواكبي.
    * التيار الليبرالي و نجد ضمنه ممثلي مشروعات متعددة.
    * التيار العلمي و يمثله:  سبلي شميل 1850 / 1917. يعقوب صروف 1851 / 1927. فارس نمر 1856 / 1951.
    * التيار السياسي الاجتماعي الثوري: المنظرون للثورة العرابية ثم ولي الدين يكن و سليم سركيس.
    * التيار الاشتراكي العلماني المنادي بفصل الدين عن الدولة و أبرز أنصاره فرح أنطوان.   
    ولابد من الإشارة إلى أننا نجد فروقا في رؤى ممثلي التيار الواحد حول مسائل متعددة و بخاصة "المحرمة " منها مثل الدين، المرأة،  والثورة الاجتماعية. كما نجد صعوبة في تصنيف بعض الرواد ضمن هذه الفئة أو تلك، لما اتسمت به مواقفهم من تقلب. ولعل أبرز مثال على ذلك رائد معاصر للطهطاوي أطلق عليه بعض الباحثين العرب اسم " صعلوك النهضويين العرب " و هو أحمد فارس الشدياق 1804 / 1887 فهو صاحب مواقف جريئة حول تلك المسائل المحرمة فقد كان سبّاقا في معالجتها بكل جرأة  في كتابه " الساق على الساق فيما هو الفرياق " فقد نادى بحرية المعتقد وحرية  "الجسد ".
    و بالرغم من تعدد التيارات و اختلاف الرؤى داخل التيار الواحد فإنه يمكن تأكيد أن هذه التيارات تتفق على الأسس النهضوية التالية:
  * السعي إلى تغيير الأوضاع التي كان عليها المجتمع العربي الإسلامي، وتحقيق التمدن الذي شاهدوا معالمه عن كثب وقرب بعد الاتصال بالحضارة الأوروبية.
  * مقاومة الحكم المطلق و المطالبة بدساتير تحول الملك من ملك مطلق على ملك مقيد بقانون (الملكية الدستورية)
  * ضرورة التجديد الديني و الفكري
  * ضرورة التوفيق بين الشريعة و الاقتباس من الحضارة الغربية وهنا تمت محاولة الاستفادة من التجارب المضيئة في التراث العربي الإسلامي.[15] وهكذا برزت مسألة التوفيق بين الحداثة  والإسلام وظهرت المقولات الثنائية في الفكر العربي المعاصر: التقدم و التأخر. النقل والعقل. الأصالة والمعاصرة. التجديد والتراث. الآنا و الأخر.ثم المجتمع المدني و الجماعة السلفية والعلمانية. الشورى والديمقراطية. الدولة الحديثة والقبيلة. الدولة الحديثة و الطائفة. العولمة و الهوية. العولمة و العولمة المضادة. العولمة و العالمية الإسلامية. وغيرها من الثنائيات التي مازال يشكو من عبئها الفكر الحداثي العربي اليوم.
    قد نفهم ضرورة التوفيق لكن الظاهرة استمرت بل استفحلت خلال العقدين الأخيرين و بعد مرور قرن ونصف على بروزها، فهل يستحيل بروزها في الظروف الموضوعية التي يمر بها المجتمع العربي اليوم؟ إن ظاهرة السعي أو التوفيق أو لنقل الاستنجاد بالتراث لم تنحصر في أوساط المحافظين، أو المجددين بصفة عامة، بل نجدها بارزة كذلك ضمن التيار الليبرالي المتحرر، و قد صنف بعض فئاته ضمن التيار العلماني فهي تبدأ مع فرح أنطوان في كتابه عن ابن رشد  وتتواصل في فترة مابين الحربين مع طه حسين في دراساته الإسلامية و خاصة في الفتنة الكبرى و مع علي عبد الرازق في الإسلام و أصول الحكم لتبلغ كتّابا معاصرين نجد بينهم كتاب اليسار العربي صادق جلال العظم و الطيب التزيني. ونجد كذلك سدنة الفكر الماركسي و الأرثوذكسي فتم الاستنجاد بأبي ذر الغفاري في فترة معينة باعتباره " أول اشتراكي في الإسلام " كما وقع تقصي النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية و نظر أخيرا للحداثة من خلال المقولات الرشدية.
    يلاحظ المتتبع للمصادر التراثية التي حاول مفكرو التنوير الإفادة منها لتبرير الاقتباس من الحضارة الغربية أنها تمثل الجوانب المشرقة في التراث العربي الإسلامي و قد تم توظيفها حسب الهدف الأساسي لهذا المفكر النهضوي أو ذاك فقد هدف كل من الشيخ الطهطاوي و خير الدين و ابن أبي الضياف و الإمام عبده إلى الحد من ظاهرة الحكم المطلق أساسا و لذا نجدهم قد أولوا مقدمة ابن خلدون عناية خاصة و لاسيما فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران
أما الفكرة المحورية التي شغلت بال فرح أنطوان[16] فقد كانت ضرورة فصل الدين عن الدولة باعتبارها تمثل الخطوة الضرورية لتأسيس الدولة المدنية. ويبدأ ذلك بدعم أسس العقلانية و تأويل النص الديني الذي ظاهره يخالف البرهان والعقل، لذا فقد سعى لإحياء الرشدية مفيدا بصفة أساسية من كتاب " فصل المقال فيما بين الشريعة و الحكمة من اتصال " مبرزا مقولة ابن رشد الشهيرة " إن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه و يشهد له  مضيفا في الجامعة "و نحن نقطع أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي[17]."
    ولابد من توضيح استفادة النهضويين العرب في القرن التاسع عشر من جوانب معينة في التراث وذلك بإبراز الملاحظات التالية:
    الأولى- إنهم أّولوا القدامى، فأوّل الشيخ عبده أقوال المتكلمين و أوّل خير الدين و الكواكبي نص ابن خلدون في المقدمة. و أوّل فرح أنطوان كلام ابن رشد. ونحن عندما ندرس اليوم نصوص مفكري الاستنارة في القرن التاسع عشر فإننا نؤول أيضا بل قد نقوم بتأويل التأويل. و تبقى مشكلة عويصة مطروحة: ماذا نؤول و بأي منهج؟ لاشك أن تأويل التأويل يخضع اليوم لرؤانا الفكرية و نزعاتها الايدولوجيا المختلفة، كما خضع التأويل بالأمس إلى رؤاهم المتنوعة.
    الثانية- إن أنصار التيار التنويري يستنجدون اليوم في مواجهة موجة الرداءة السياسية و الفكرية بالطهطاوي خيرالدين، و الأفغاني، و عبده، و الكواكبي، و فرح أنطوان، كما استنجدوا في زمانهم بابن خلدون و ابن رشد والمعتزلة.فهل سيأتي يوم تنتفي فيه الضرورة إلى هذا النوع من الاستنجاد؟
    إن جميع المؤشرات تنبئ أنه سيكون يوما بعيدا فقد حلم فرح أنطوان قبل قرن كامل لما نشر كتابه عن ابن رشد عام 1903 بأن يأتي يوم لا يبقى فوق هذه الأرض من يحتاج إلى موضوعه قال في أواخر كتابه« متى يصل الناس إلى زمن يقرؤون فيه كتابا كهذا الكتاب بضجر و ملالة لأنه بمثابة تاريخ قديم لم يبق في الأرض احتياج لموضوعه»[18] 
وبعد مرور قرن كامل على كلام فرح أنطوان يجد نفسه الفكر العربي اليوم مضطرا إلى الاستنجاد بابن رشد ليس لدعم النزعة العقلية و ضرورة إخضاع النص الديني للتأويل العقلاني ذلك أن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه و يشهد له بل لتبرير الأخذ بأسباب الحداثة.   
    الثالثة- أرى من الضروري طرح السؤال التالي:ما هي العلاقة التي نستطيع رصدها بين إرث الفكر التنويري العربي الإسلامي في القرن التاسع عشر وبين الراهن العربي؟
    ما تزال دون ريب علاقة متينة فهل يمكن اليوم الاستغناء عن مواقفه الجريئة ضد نظم الحكم المطلق على سبيل المثال، ونقول إنه عهد قد ولى و أدبر، و أصبح إرث النهضويين حول هذه المسائل تراثا يدرسه أهل الاختصاص؟
    الراهن العربي الذي نعيشه يؤكد ضرورة الإفادة من الإرث التنويري الثري ذلك أن المسألة ما تزال مطروحة بحدة، بل تطورت أساليب الحكم المطلق مع تطور الأساليب التقنية لقهر الإنسان، وإخضاعه لأنواع من العنت  والعذاب لم تعرفها أساليب الماضي.
    لا نملك اليوم إلا أن  نجدد الحلم الذي حلم به فرح أنطوان قبل قرن فنقول: نرجو و نأمل أن يتحول إرث الفكر العربي التنويري في مطلع القرن الثاني و العشرين حول قضايا الحكم المطلق،  والعدل السياسي و بناء الدولة المدنية الحديثة، والحكم الديمقراطي البرلماني و الحقوق الطبيعية،  والحريات العامة إلى تراث يدرسه المؤرخون، و أن يعالج الفكر السياسي العربي المعاصر يومئذ هذه المسائل حسب جدلية الواقع العربي الإسلامي أخذين بالتحولات  والتغيرات الحاصلة في الكون مطلعين على قيمها مثل الحداثة الكونية دون الحاجة إلى الاستنجاد بابن رشد أو المعتزلة لنشر الفكر العقلاني المستنير أو التنظير للديمقراطية انطلاقا من الشورى في الإسلام.



[1] تراثنا عربي أم إسلامي؟ يفضل البعض تسميته بالتراث العربي على أساس أنه يشمل تراث كتاب و مفكرين عرب لم يعتنقوا الإسلام و إنما كانوا مسيحيين أو يهودا أو صائبة. ويفضل البعض تسميته بالتراث الإسلامي لأن المراد بكلمة إسلامي هنا هو المعنى الحضاري و ليس الديني. فالتراث الإسلامي يعني تراث الحضارة الإسلامية و حضارة الشعوب التي كونت الإمبراطورية الإسلامية بكل ما لأهل هذه البلاد من ديانات. وعيب التسمية الأولى: أنها لا تميز بين تراث العرب الجاهلي وتراثهم بعد الإسلام. وعيب التسمية الثانية: أنها تشمل تراثا إسلاميا غير عربي جاء ثمرة لحضارات شعوب مسلمة لم تتعرب مثل مسلمي الهند و اندونيسيا مثلا.   
[2] استعمار فرنسا للجزائر و اعتبارها مقاطعة فرنسية و القضاء على الهوية العربية الإسلامية للشعب الجزائري مازال يعاني من تأثيرها.
[3] راجع الأعمال الكاملة لرفاعة رافع الطهطاوي دراسة و تحقيق محمد عمارة
[4] خيرالدين التونسي: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك الدار العربية للكتاب 1998
[5] الشيخ المؤرخ أحمد بن أبي الضياف: إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعه الأمان. الطبعة الأولى 1963
[6] ANOUAR LOUCA: Voyageurs et écrivains égyptiens en France au 19 siècle. Paris Didier 1970
[7] الدكتور الحبيب الجنحاني: " دراسات في الفكر العربي الحديث " فصل المفكر و السلطة في التراث العربي الإسلامي. 
[8] لقد قامت مناقشة بين جمال الدين الأفغاني و الإمام محمد عبده في أعقاب الفشل الذي منيت به جهود الأفغاني في مصر و تركيا. و عندئذ اقترح محمد عبده على الأفغاني الذهاب سويا إلى مكان بعيد غير خاضع لسلطان يعرقل سيرهما ثم ينشأن مدرسة للزعماء يختاران لها ممن يتوسمان فيه الخير و يربيانه على منهج قويم يختارانه لتكوين ناشئة للزعامة و الإصلاح. لكن الأفغاني تلقى هذا الرأي بغضب و ثورة و قال للشيخ إنما أنت مثبط. راجع ما كتبه فهمي هويدي القرآن والسلطان
ص  
[9] خيرالدين التونسي: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك ص 220.
[10] ن . م  ص 227.
[11] ن . م  ص 231
[12] من المعروف أن مقدمة ابن خلدون كانت من الكتب التراثية الأولى التي عمل رواد الإصلاح على طبعتها ونشرها، فقد نشرها الطهطاوي في القاهرة و أفاد منها المصلحون التونسيون لنشر أفكارهم ضد الحكم المطلق و من أبرز فصول المقدمة التي سعوا إلى ترويجها فصل في أن الظلم  مؤذن بخراب العمران وقد نقله ابن أبي الضياف في مقدمة كتابه إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان
[13] لقد حرص الطهطاوي على تعلم اللسان الفرنسي ثم على الإطلاع على ما كتبه رواد التنوير الفرنسيين من أمثال Rousseau .Montesquieu وترجمة كتابتهم
والتعريف بها.
[14] أنظر في هذا الصد: فهي جدعان: أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث.
[15] يرى جابر عصفور في كتابه " هوامش على دفاتر التنوير " أن التراث كان في المرحلة الأولى من التنوير سندا ايجابيا له و لكن أصبح عاملا معرقلا له فقد ظل خطاب النهضة خطابا توفيقيا إصلاحيا بين التراث و التحديث، بين الأصالة و المعاصرة ولم يتمكن من المواجهة لتأسيس تحول فكري جذري.
[16] لابد من الإشارة أن فرح أنطوان قد حاول الإفادة من الرشدية لإبراز الجانب العقلاني في التراث العربي الإسلامي ووجوب تأويل الآيات القرآنية التي ظاهرها يخالف البرهان و العقل ونظرا أنه ينحدر من عائلة مسيحية قد استنجد بكتاب أرنست رينان Renan    حياة 1823 /1892   Ernestالمسيح فلخصه و قدمه في مجلة الجامعة إلى قراء العربية تفنيدا للأساطير التي تنسب إلى المسيحية، ودحضا لآراء الكهنوت الكنسي. ويعلل تلخيص الكتاب قائلا " إطلاع قراء العربية على تاريخ أنه أهم حركة اجتماعية غيرت وجه العالم و بسط حالة الشعوب في زمن حدوث تلك الحركة، ولا يخفى أن هذا التاريخ لا يكتب غلا من وجه تاريخي أي غير ديني "
[17] راجع أمينة غصن ضمن مقدمات ليبرالية للحداثة
[18] ن.م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق