السبت، 19 مارس 2011

الحديث المرسل

هذه المحاضرة في الأصل من دروس مادة الحديث لطلبة الماجستير بالمعهد العالي لأصول الدين أردت نقلها لتعميم الفائدة و الله ولي التوفيق

مقدمة:
 لم يقف الأمر عند نقل الحديث عن الرّسول الأكرم مجرد نقل ورواية فحسب ، وإنما اتسع مجاله ليشمل علم الرجال والرواة، فوضعت بفضل مجهودات العلماء مقاييس علمية، وتعددت طرق توثيق النص النبوي، و لم تنفك أبدا عن الارتباط بطرق تحمل الحديث روايته وضبطا متنا وسندا. وكان من نتائج ذلك ظهور علوم كثيرة متنوعة تتصل بالحديث من حيث متنه وسنده ورجاله ومصطلحه، فأصبح مجال الحديث النبوي علما قائما بذاته، وتم تصنيف الرواة إلى طبقات ومراتب بالنظر إلى درجاتهم في العدالة والضبط وقربهم من زمن النبوة، كما تم التمييز في درجات الحديث من حيث الصحة والضعف والحسن، والشذوذ والعلة يقول ابن الصّلاح في بداية المقدمة: اعلم - علمك الله وإياي - أن الحديث عند أهله ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف إلى غير ذلك من الاصطلاحات العلمية الدقيقة التي تحفل بها مؤلفات كتب الحديث المعروفة ككتب الصحاح، وكتب السنن والمساند وغيرها وقد أسفرت جهود علماء الحديث في توثيق النص النبوي عن عدة علوم ومباحث، بفضل استقلال البحث وتعمقه في مختلف عناصر المتن، وضوابط السند وما تفرع عنهما من علوم فرعية أخرى تستمد أصولها المعرفية من طبيعة علم الحديث الذي عرف بعلم رواية ودراية ويعرف علم الحديث الخاص بالرواية بأنه: علمٌ تعرف به أقوال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله، وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها. وعلم الحديث الخاص بالدراية: علم يعرف منه حقيقة الرواية، وشروطها وأنواعها وأحكامها، وحال الرواة وشروطهم، وأصناف المرويات وما يتعلق بها[1].. وعن هذين الأصلين تفرعت علوم كثيرة كعلم الجرح والتعديل، وعلم رجال الحديث، وعلم مختلف الحديث وعلم علل الحديث، وعلم غريب الحديث، وعلم ناسخ الحديث و منسوخه إلى غير ذلك من العلوم الدقيقة فعلى سبيل المثال كان الاهتمام بسند الحديث دافعا إلى العناية بما يعرف في الحضارة الإسلامية "بعلم الرجال" الذي تأسس، وتأصل، وتبلور في بيئة المحدثين، حتى صار علما قائما بذاته، له أعلامه ومصنفاته التي تعنى بالترجمة للشيوخ والتعريف بالعلماء الذين يتم النقل والرواية عنهم بالطرق المعروفة المضبوطة كالسماع، والقراءة والإجازة، والمناولة، والكتابة، والإخبار وأول من صنف في الاصطلاح القاضي أبو محمد الرامهرمزي بكتابه (المحدث الفاصل) وتلاه الحاكم أَبو عبد اللّه النيسابوري وتلاه أبو نعيم الأصفهاني، ثم جاء بعدهم الخطيب البغدادي فوضع قوانين الرواية في كتابه (الكفاية) إلى أن جاء الحافظ الإمام ابن الصلاح فوضع كتابه الشهير، فهذب فنونه وجمع به علوم سابقيه فكان من أئمة هذا الشأن إن اللّه سبحانه وتعالى فضل هذه الأمة بشرف الإسناد، وأقام لذلك في كل عصر أئمة، وجهابذة، بذلوا جهدهم في ضبطه وأحسنوا الاجتهاد وذلك من معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم - التي أخـبر بوقـوعها فقال صلى الله عليه وسلم: " تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ ". (رواه أبو داود بإسناده في سننه)قال الألباني صحيح. فبـاتصال الإسناد عرف الصحيح من السقيم، ، و كانَ الإرسال في الحديث علة ، وقد اختلف العلماء فيه وكثرت أقوالهم، وتباينت آراؤهم،فما هو الإرسال لغة و اصطلاحا؟ وماهي أنواعه ؟ وما موقف العلماء منه
    تعريفه
      أما في اللغة فهو: اسم مفعول من الإرسال ، بمعنى الإطلاق وعدم المنع ومن ذلك قوله تعالى: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً) مريم 83  فكأن المرسِل أطلق الإسناد ولم يقيده براو معروف. النكت لابن حجر.
      وأما في الاصطلاح: فقد اختلفوا في تعريفه على عدة أقوال:قال ابن الصلاح  وله صور اختلف فيها أهي من المرسل أم لا؟ إحداها إذا انقطع الإسناد قبل الوصول إلى التابعي، فكان فيه رواية راو لم يسمع من المذكور فوقه: فالذي قطع به الحاكم الحافظ أبو عبد الله وغيره من أهل الحديث: أن ذلك لا يسمى مرسلا، وأن الإرسال مخصوص بالتابعين، وأن كان من سقط ذكره قبل الوصول إلى التابعي شخصا واحداً سمي منقطعاً فحسب، وإن كان أكثر من واحد سمى معضلاً، ويسمى أيضا منقطعا. المقدمة النوع العاشر حكم المرسل حكم الحديث الضعيف، إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر
 و أهم الأقوال :
      1- ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الذي عليه جمهور المحدثين.
      وقد قيد ابن حجر هذا التعريف بقيد حسن فقال في النكت: " ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما سمعه من غيره." فالقيد المذكور يخرج من سمع النبي كافراً ثم أسلم بعده وحدث بما سمعه،  فهذا متصل وإن لم يكن المتكلم به صحابياً."
      2- ما انقطع إسناده على أي وجه كان انقطاعه. هذا الذي عليه جماهير الفقهاء والأصوليين وجماعة من أئمة الحديث كالخطيب البغدادي ، وهو اختيار أبي داود وابن أبي حاتم في المراسيل  وزاد الخطيب: " إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم."
** حكم الحديث المرسل:
      اختلف العلماء في الاحتجاج بالحديث المرسَل على عدة أقوال ، أهمها :
الأول: وهو أن المرسل ضعيف لا يحتج به:
      ذهب إلى هذا جماهير المحدثين والإمامُ الشافعي وكثير من الفقهاء والأصوليين ، قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه : "والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة" .
      وحجتهم: " للجهل بحال المحذوف لأنه يحتمل أن يكون صحابياً، ويحتمل أن يكون تابعياً، وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفاً... فإن عرف من عادة التابعي أنه لا يرسل إلا عن ثقة فذهب جمهور المحدثين إلى التوقف لبقاء الاحتمال قاله ابن حجر في نزهة النظر.
* الضعف في المرسل منجبر :
      لا يعد الضعف بسبب الإرسال شديداً، قال ابن الصلاح: " ثم اعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف، إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر." وقال أيضاً: " المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر " فإذا وُجد الجابر انتقل الحديث المرسل من درجة الاعتبار إلى الاحتجاج ومن الضعف إلى القبول."
شروط قبول المرسل عند الشافعي :
      وضع الإمام الشافعي شروطاً متعددة لقبول المرسل، منها ما يتعلق بالراوي المرسِل، ومنها ما يختص بالخبر المرسَل:
      أ- الشروط التي في نفس المرسِل، وهي ثلاثة:
1)   ألا تعرف له رواية عن غير مقبول.
2)   ألا يكون ممن يخالف الحفاظ المأمونين فيما أسندوه إذا أسند.
3) أن يكون من كبار التابعين، لأنهم لا يروون في العادة إلا عن صحابي أو تابعي كبير، فضلاً عن أن الأحاديث في عهدهم كان الغالب عليها الصحة.
      ب- الشروط التي في الخبر المرسَل، وهي أن يعتضد بواحد من أربعة أمور:
1)   وهو أقواها: أن يُروى مسنداً من وجه آخر.
أن يُروى مرسلاً عن راو آخر لم يأخذ عن شيوخ الأول، فيدل ذلك على تعدد مخرج الحديث.
2)   أن يوافقه قول بعض الصحابة، فيستدل به على أن للمرسل أصلاً صحيحاً.
3)   أن يكون قد قال به أكثر أهل العلم، فيدل ذلك على أن له أصلاً.
      وقد احتج الشافعي بعامة مراسيل سعيد بن المسيب لكونه كان لا يرسل إلا عـن ثقـة معروف ، ولأن مراسيله تتبعت فوجدت مسندة عن الصحابة من جهة أخرى .
الثاني: قبول المراسيل والاحتجاج بها:
     وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة والإمام مالك – في الصحيح عنه – وجمهور أصحابهما، وعليه عمل المتقدمين، وهو قول الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه واختاره جماعة من أصحاب الحديث.
      قال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة : "وأما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى ، مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي،  حتى جاء الشافعي فتَكلم فيها ، وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره."
      واحتجاج هؤلاء الأئمة بالمرسل ليس على إطلاقه، فقد قبلوه بشروط. قال ابن حجر في نزهة النظر: " ونقل أبو بكر الرازي من الحنفية وأبو الوليد الباجي من المالكية : أن الراوي إذا كان يرسل عن الثقات وغيرهم لا يقبل مرسله اتفاقاً "
 وقال في النكت : " إن كان الذي أرسل من أئمة النقل المرجوع إليهم في التعديل والتجريح قبل مرسله وإلا فلا ، وهو قول عيسى بن أبان من الحنفية واختاره أبو بكر الرازي من الحنفية وكثير من متأخريهم، والقاضي عبد الوهاب من المالكية ، بل جعله أبو الوليد الباجي شرطاً عند من يقبل المرسل مطلقاً." ومشهور عن الحنفية أنهم يقبلون مرسل أهل القرون الثلاثة الفاضلة دون من بعدهم.
      وقد جمع ابن رجب في شرح علل الترمذي بين قولي الإمام أحمد في الاحتجاج وعدمه ، فقال : " ولم يصحح أحمد المرسل مطلقاً ولا ضعفه مطلقاً ، وإنما ضعف مرسل من يأخذ عن غير ثقة ... وظاهر كلام أحمد أن المرسل عنده من نوع الضعيف ، لكنه يأخذ بالحديث إذا كان فيه ضعف ما لم يجيء عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه خلافُه " .
مذاهب العلماء فيما يتعلق بالاحتجاج بالحديث المرسل
 ثلاثة أقول:
المذهب الأول:  صحة الاحتجاج به، بشرط أن يكون المرسل ثقة عدلاً، وهؤلاء يكون المرسل عندهم من جملة الحديث الصحيح  والقول به منقول عن إبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سلمان، وأبي حنيفة وصاحبيه: أبي يوسف ومحمد وكذلك هو قول مالك وأهل المدينة  وذكر أصحاب أحمد أن الصحيح عنه الاحتجاج بالمرسل."

المذهب الثاني: ليس بحجة ، وهو من جملة الحديث الضعيف.
وهو قول الأئمة : الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل وقول أكثر أهل الحديث.
وهو قول الأصوليون
المذهب الثالث : التفريق بين المراسيل ، بحسب المرسل .
وهذا عزي للشافعي أنه كان يقبل مراسيل كبار التابعين، وتبين أن الشافعي لا يرى قبول مرسل التابعي الكبير لذاته ، إنما يقبله بقرائن تقويه  فهذا مذهب في التحقيق لم يقل به أحد ، قال ابن الصلاح :احتج الشافعي رضي الله عنه بمرسلات سعيد بن المسيب
قال ابن رجب: " اعلم أنه لا تنافي بين كلام الحفاظ وأعلام الفقهاء في هذا الباب فإن الحفاظ إنما يريدون صحة الحديث المعين إذا كان مرسلاً  وهو ليس بصحيح على طريقهم  لانقطاعه وعدم اتصال إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم  وأما الفقهاء فمرادهم صحة ذلك المعنى الذي دل عليه الحديث ، فإذا أعضد ذلك المرسل قرائن تدل على أن له أصلاً قوي الظن بصحة ما دل عليه  فاحتج به  وهذا هو التحقيق في الاحتجاج بالمرسل عند الأئمة " ( شرح علل الترمذي  (1/297 )
يقول بن عبد البر :
"
إني تأملت كتب المناظرين والمختلفين من المتفقهين وأصحاب الأثر من أصحابنا وغيرهم ، فلم أر أحداً منهم يقنع من خصمه إذا احتج عليه بمرسل ، ولا يقبل منه في ذلك خبراً مقطوعاً (أي منقطعا) ، وكلهم عند تحصيل المناظرة يطالب خصمه بالاتصال في الأخبار " (التمهيد/1/ 7 .
حكم الإرسال من حيث الجواز وعدمـه :
المرسِل إما أن يرسل عمن هو عدل عنده وعند غيره جائز بلا خلاف
أو عن عكسه ممنوع بلا خلاف
 يرسل عن عدل عنده لا عند غيره فيحتمل الجوازَ وعدمَه بحسب الأسباب الحاملة عليه .
 أو عن عكسه فيحتمل الجوازَ وعدمَه بحسب الأسباب الحاملة عليه .
أسباب الإرسال :
أن يكون المرسِل سمع الحديث عن جماعة ثقات وصح عنده فيرسله اختصاراً كقول إبراهيم النخعي : " ما حدثتكم عن ابن مسعود t فقد سمعته من غير واحد ، وما حدثتكم فسميت فهو عمن سميت " .
1)   أن يكون نسي من حدثه به وعرف المتن .
2)   أن لا يقصد التحديث بأن يذكر الحديث على وجه المذاكرة أو على جهة الفتوى .
أن يقصد إخفاء أمر شيخه الضعيف، وهذا يقتضي القدحَ في فاعله لما يترتب عليه من الخيانة.
مرسل الصحابي:
تعريفه: وهو ما أخبر به الصحابي عن قول النبي صلى الله عليه وسلم ، أو فعله ، ولم يسمعه أو يشاهده إما لصغر سنه، أو تأخر إسلامه، أو غيابه، ومن هذا النوع أحاديث كثيرة لصغار الصحابة كابن و عباس و ابن الزبير  وغيرهما، رضي الله عنهم

مثاله : ما أخرجه الإمام البخاري في المناقب ، حديث رقم (3526) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي : يَا بَنِي فِهْرٍ ، يَا بَنِي عَدِيٍّ ، بِبُطُونِ قُرَيْشٍ .
حكم مرسل الصحابي: ذهب عامة المحدثين وجمهور الأصوليين إلى الاحتجاج بمراسيل الصحابي  فقالوا حكمه : كحكم الحديث المتصل ، وهو حجة ؛ لأن الظاهر أنه سمعه من صحابي آخر سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ، والصحابة كلهم عدول ، ولا يضر عدم المعرفة بعين من روى عنه منهم  قال الإمام ابن الصلاح في مقدمته ص26: وأما مراسيل الصحابة  كابن عباس وأمثاله  ففي حكم الموصول  لأنهم إنما يروون عن الصحابة  وكلهم عدول  فجهالتهم لا تضر." قال الحافظ ابن كثير في اختصار علوم الحديث ص49: قد حكى بعضهم الإجماع على قبول مراسيل الصحابة قال المقدسي: مراسيل أصحاب النبي(ص)، مقبولة عند الجمهور، والأمّة اتفقت على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من أصاغر الصحابة مع إكثارهم، وأكثر روايتهم عن النبي(ص) مراسيل. قال النووي مرسل الصحابي فمحكوم بصحّته، على المذهب الصحيح.
قال ابن حجر في النكت: " الظاهر فيما رووه أنهم سمعوه من النبي r أو من صحابي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وأما روايتهم عـن التابعين فقليلة نادرة، فقد تتبعت وجمعت لقلتها  يقول ابن الصلاح (ثم إنا لم نعد في أنواع المرسل ونحوه ما يسمى في أصول الفقه مرسل الصحابي  مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث لأن ذلك في حكم الموصول المسند لأن روايتهم عن الصحابي والجهالة بالصحابي غير قادحة لأن الصحابة كلهم عدول)
وقول العراقي في التقييد ص80 (المحدثين وإن ذكروا مراسيل الصحابي فإنهم لم يختلفوا في الاحتجاج بها  وإما الأصوليون فقد اختلفوا فيها ، فذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايينى إلى أنه لا يحتج بها، وخالفه عامة أهل الأصول فجزموا بالاحتجاج بها)
فاعتقدت إن هذا إجماع لأهل الحديث على الاحتجاج بمرسل الصحابي.
 وقال العراقي: " رواية الصحابة عن التابعين غالبها ليست أحاديثَ مرفوعة، وإنما هي من الإسرائيليات أو حكايات أو موقوفات "
واحتج المخالفون باحتمال كون الصحابي أخذه عن تابعي
ذهب بعضهم منهم ( أبي بكر الباقلاني وحكي على الاسفرائيني كما ورد في النكت للحافظ ) أنه لا يحتج به لا لأن الصحابة ليسوا بعدول ولكن لاحتمال أن الصحابي لم يأخذه عن صحابي أخر بل يُحتمل أنه أخذه عن تابعي قال السيوطي رحمه الله تعالى : قال القاضي أبو بكر الباقلاني:لا أقبل المرسل، ولا في الأماكن التي قبلها الشافعي ولا مرسل الصحابي، إذ احتمل سماعه من تابعي تدريب الراوي ص 158
قال الإمام السيوطي في "التدريب" 1/197:" ومن رأى النبي صلى الله عليه وسلم غير مميّز كمحمد بن أبي بكر الصديق فإنه صحابي ، وحكم روايته ؛ حكم المرسل ، ولا يجيء فيه ما قيل في مراسيل الصحابة ؛ لأن أكثر رواية هذا وأشباهه عن التابعي ، بخلاف الصحابي الذي أدرك وسمع فإن احتمال روايته عن التابعي بعيد جدا ".
رواية من له رؤية وسماع من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يسلم في حياته، ولكنه أسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
قال الإمام السيوطي في تدريب الراوي 1/196 :" يرد على تخصيص المرسل بالتابعي من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر، ثم أسلم بعد موته  فهو تابعي اتفاقا، وحديثه ليس بمرسل، بل موصول لا خلاف في الاحتجاج به كالتنوخي رسول هرقل ـ وفي رواية قيصر ـ فقد أخرج حديثه الإمام أحمد وأبو يعلى في مسنديهما  وساقاه مساق الأحاديث المسندة."
ج- ما يرويه التابعي عن رجل من الصحابة لم يُسَمَّ .
وهو حديث متصل، عند المحدثين؛ لأن جهالة عين الصحابي لا تضر، لكونهم عدولا.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه " شرح علل الترمذي" ص191 :" لو قال تابعي: أخبرني بعض الصحابة، لكان حديثه متصلا يحتج به، كما نص عليه الإمام أحمد، ومن الأصوليين أبو بكر الصيرفي وغيره ".
مراتب الحديث المرسَل
قال الحافظ السخاوي في " فتح المغيث ": المرسل مراتب أعلاها ما أرسله صحابي ثبت سماعه ثم صحابي له رؤية فقط ولم يثبت سماعه، ثم المخضرم، ثم المتقن كسعيد بن المسيب، ويليها من كان يتحرى في شيوخه، كالشعبي ومجاهد، ودونهما مراسيل من كان يأخذ عن كل أحد، كالحسن. أما مراسيل صغار التابعين، كقتادة ، والزهري، وحميد الطويل، فإن غالب رواية هؤلاء عن التابعين .
ذكر أشهر من يرسل الحديث
قال الإمام أبو عبد الله الحاكم في " علوم الحديث"ص25: وأكثر ما تروى المراسيل من أهل المدينة عن سعيد بن الْمُسيَّب، ومن أهل مكة عن عطاء بن أبي رباح، ومن أهل مصر عن سعيد بن أبي هلال ، ومن أهل الشام عن مكحول الدمشقي ، ومن أهل البصرة عن الحسن بن أبي الحسن ومن أهل الكوفة عن إبراهيم بن يزيد النخعي 
أصح المراسيل
قال الإمام أحمد بن حنبل : مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات.
وقال الإمام الحاكم في علوم الحديث ص25 : وأصحها مراسيل ابن المسيَّب  لأنه من أولاد الصحابة  وأدرك العشرة  وفقيه أهل الحجاز  ومفتيهم وأول الفقهاء السبعة الذين يعتَدُّ مالكٌ بإجماعهم كإجماع كافة الناس، وقد تأمل الأئمة المتقدمون مراسيله فوجدوها بأسانيد صحيحة وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره."
دواعي الإرسال وأسبابه
1- التساهل في التصريح بالتلقي المباشر بسبب قرب العهد بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وصدق الرواة وأمانتهم وتوثقهم بعضهم من بعض ويدخل في هذا رواية صغار الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، كابن عباس،  وابن عمر  وأنس،  وابن الزبير ...
2- التساهل في تحديد صيغ الرواية في عهد التابعين، بسبب عدم وجود قواعد ضابطة ثابتة واضحة في بيان أصول الرواية.
3- التساهل في بيان الإسناد في عهد الصحابة وكبار التابعين،  وذلك للورع والأمانة التي كان يتخلق بها ذلك الجيل ، حتى أواخر القرن الأول الهجري حيث وجب الالتزام بالإسناد لفشو الكذب وكثرة الوضع .
4- التساهل في استعمال صيغ الرواية في عهد التابعين، وعدم التفريق بين: عن، أن، قال... وغيرها؛ وذلك لعدم وجود قواعد محددة واضحة في طرق الرواية.
5- التدليس وإصرار بعض الرواة على الرواية عمّن لم يلقوهم، إما افتخارا بالرواية، وإما مكابرة بسبب ضعف الرواية.
6- الرواية من الصحف ، فقد كثرت الصحف والأجزاء في عهد التابعين فكان بعض المحدثين من التابعين وحتى الصحابة يكتب بعضهم إلى بعض بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فتروى عنهم وإن لم يلق بعضهم بعضا  وكذلك نجد بعض الرواة يرثون وآخرون ينسخون أو يشترون صحفا أو كتبا لمحدثين أحياء أو متوفين فيروون أحاديثهم من تلك الصحف  من غير أن يسمعوها منهم .
7- اشتباه ووهم بعض الرواة في روايتهم الأحاديث المسندة، فيسقطون، بسبب قلة حفظهم ـ أو ضعفه ـ بعض الرواة من الأسانيد.
مراسيل التابعين
"
مراسيل التابعين متفاوتة في القوة بحسب قدم التابعي المرسل وكبره ، أو صغره .

الطبقة الأولى : كبار التابعين ، وهم الذين أدركوا كبار الصحابة ، كأبي بكر وعمر وعثمان وابن مسعود ومعاذ بن جبل ، وجُل أو أكثر رواياتهم إذا سموا شيوخهم عن الصحابة .
وهؤلاء مثل : قيس بن أبي حازم ، وسعيد بن المسيب ، ومسروق بن الأجدع .
ويندرج في جملتهم من يطلق عليه اسم ( المخضرمين ) ، وهم التابعون الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ، لكنهم لم يثبت لهم شرف الصحبة ، مثل : سويد بن غفلة ، وعمرو بن ميمون الأودي ، وأبي رجاء العطاردي ، وغيرهم .
فمراسيل هذه الطبقة تقرب من المتصل .
الطبقة الثانية : أوساط التابعين ، وهم الذين أدركوا علي بن أبي طالب ، ومن بقي حيا إلى عهده وبعيده من الصحابة ، كحذيفة بن اليمان ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي أيوب الأنصاري ، وعمران بن حصين ، وسعد بن أبي وقاص ، وعائشة أم المؤمنين ، وأبي هريرة ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، ووقع سماعهم من بعضهم .
ومثال هؤلاء التابعين : الحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، وعطاء بن أبي رباح ، وطاوس اليماني ، والقاسم بن محمد ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعامر الشعبي ، ومجاهد بن جبر .
فمراسيل هذه الطبقة صالحة تكتب ويعتبر بها"

"
وحاصل هذه المسألة :
أن المرسل يتفاوت في قوته ، والشواهد مع تحري المرسل معيار للترجيح بينها  وللاعتبار بما يعتبر به منها 
المُرسل الخفي  
         
تعريفه: هو الحديث الذي رواه الراوي عمن عاصره، ولم يثبت لقيّه له. يقول الراوي في روايته عمن عاصره، ولم يسمع منه، ولم يلقه: " عن فلان" أو "قال فلان ".
مثاله : ما رواه الإمام الترمذي في سننه في البيوع رقم (1309) ، قَالَ : حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ  عَنْ نَافِعٍ  عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ  مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ ، ". يونس بن عبيد أدرك نافعا وعاصره معاصرة  حتى عدَّ فيمن سمع من نافع ، لكن أئمة النقد قالوا : إنه لم يسمع منه ، قال البخاري : ما أرى يونس بن عبيد سمع من نافع
ومثاله: ما أخرجه الإمام النسائي في سننه: كتاب قيام الليل وتطوع النهار، حديث رقم (1815) قال : ... عَنْ مَكْحُولٍ ، عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ ، قَالَتْ : مَنْ رَكَعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ  وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا  حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ ". النَّسَائي : مَكْحُولٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَنْبَسَةَ شَيْئًا .
 بم يعرف المرسل الخفيّ
 ويعرف الإرسال الخفي بأحد أمور ثلاثة :
1- أن يعرف عدم اللقاء بين الراوي وبين من حدّث عنه بنص بعض الأئمة على ذلك أو بإخبار الراوي عن نفسه أنه لم يلق من حدث عنه.
2- أن يعرف عدم السماع منه مطلقا بنص بعض الأئمة على ذلك، أو بإخباره عن نفسه أنه لم يسمع ممن أسند إليه شيئا.
3- أن يرد في بعض طرق الحديث زيادة اسم شخص بين الراوي وبين من روى عنه
إلا أن في هذا المسلك الأخير لمعرفة  الإرسال يمكن أن يُعارض بكونه من " المزيد في متصل الأسانيد" لا من " المرسل الخفي ". ووجه ذلك أننا لم نعرف عدم السماع بدليل خارجي، وإنما اكتشفناه بورود الواسطة بين الرجلين في الإسناد ، فيمكن أن يكونا قد التقيا وسمع الراوي ممن فوق المحذوف، فيكون السند متصلا بهما، ورواية الزيادة من باب المزيد في متصل الأسانيد .
أشهر المصنفات فيه التفصيل لمبهمات المراسيل ـ للحافظ الخطيب البغدادي  ت: 463 هـ .
  السقط الخفيُّ
أما السقط الخفيُّ ـ وهو ما لا يدركه إلا الأئمة الحُذاق المطّلعون على طرق الحديث، وعلل الأسانيد ـ فله تسميتان: 
1- المُدَلَّس
وهما تسميتان لنوع واحد عند كثير من المحدثين، وهو الإسناد الذي يكون فيه السقط خفيًّا. ذهب آخرون إلى أنهما نوعان متباينان.  ويقال للإسناد الذي يكون السقط فيه خفيًّا:
1- المُدلَّسُ ، إن كان الإسقاط صادرا ممن عرف لقاؤه لمن روى عنه .
2- والمرسل الخفي، إن كان الإسقاط صادرا ممن عرف مُعَاصرَتُهُ له، ولم يُعْرَف أنه لقيه.
قال ابنُ حجر في " نزهة النظر " ص39: والفرق بين المُدلَّسِ والمُرْسَلِ الخفيِّ دقيقٌ، وهو أن التدليس يختص بمن روى عمن عرف لقاؤه إياه، فأمّا إن عاصره ولم يُعرف أنه لَقِيَهُ فهو المُرْسَلُ الخفيُّ. ومن أدخل في تعريف التدليس المُعَاصرةَ ولو بغير لُقِيٍّ لَزِمَهُ دخولُ المرسَلُ الخفيُّ في تعريفه، والصوابُ التفرِقَةُ بينهما.
وحاصل التفريق بينهما من وجهين:
الأول: أن المُدَلِّسَ يروي عمن سمع منه، أو لقيه، ما لم يسمع منه، بصيغة موهمة للسماع، وأمّا المرسِل فإنه يروي عمن لم يسمع منه ولم يلقه، إنما عاصره، فهما متباينان.
الثاني : إن التدليس إيهام سماع ما لم يسمع ، وليس في الإرسال إيهام  فلو بين المدلِّسُ أنه لم يسمع من الذي دلَّسَهُ عنه لصار الحديث مرسَلا لا مُدَلَّسًا  نَبَّهَ على ذلك النُّقَادُ المحققونَ  كالخطيبِ البغداديِّ وابنِ عبد البر.

متصلاً و مرسلاً
" لا نكاح إلا بولي " رواه إسرائيل بن يونس في آخرين عن جده آبي أسحق السبيعي، عن أبي بردة، عن أبيه: أبي موسى الأشعري: عن رسول الله صلى الله علية وسلم مسندا هكذا متصلاً.
ورواه سفيان الثوري، وشعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً هكذا.















[1] التهانوي: قواعد في علوم الحديث. ص 23.

الخميس، 17 مارس 2011

عيب يا من تسمون أنفسكم بنواب الشعب

عقد مجموعة من النواب ندوة صحفية مطالبين السلطة بتمكينهم من رواتبهم و المنح التي يتمتعون بها بعد قرار المحكمة الإبتدائية  بتجميد رواتبهم إثر تقدم مجموعة من المحامين بعريضة مطالبين بإقافها  بسبب عدم الصفة . و قد أثار تصرفهم اشمئزاز التونسيين و سخطهم و رفضهم تمكينهم  مزيد من الأموال لأنهم لم يكونوا ممثلين حقيقيين للشعب بل كانوا نواب للنظام البائد يدافعون عن مصالحه و يفصلون القوانين التي تحمي وجوده و تمكن عائلته و عائلة زوجته من النهب و السرقة لقد ألغت الثورة كل أشكال النظام البائد بما في ذلك حل مجلسي النواب و  المستشارين. لم يعد لهؤلاء حق في التمتع برواتب و امتيازات لأنهم لم يقدموا شيئا للشعب و لتونس فمن حق   الشعب انفاق ما يزيد عن عشرين مليارا في تنمية الجهات و ايجاد موارد رزق للمعطلين و استثمار هذه الأموال في بعث مشاريع اقتصادية ذات مردودية و نفع تعود بالخير على العباد علما و أن توقف رواتبهم لن تؤثر في سير حياتهم لأن أغلبهم أصحاب أعمال و شركات ولهم مدخرات مالية في الداخل و الخارج.

الثلاثاء، 15 مارس 2011

المنهجية في العلوم الإسلامية


انعقدت بجامعة الزيتونة بتونس و تحديدا بالمعهد العالي لأصول الدين ندوة بعنوان المنهجية في العلوم الإسلامية النشأة والضرورة و قد حضرها عدد غفير من الأساتذة و الطلبة و المهتمين بالقضايا الفكرية الإسلاميّة و قد قدمت فيها عدة بحوث تتعلق كلها بالموضوع المقترح نذكر منها:
·        خطاب الكلمة في القرآن: الأستاذ سمير سليمان
·        منهجية تحليل الخطاب: الأستاذ دومينيك مانجو
·        الإيمان بين العقل و الوجود المتوحد: الأستاذ رضا بوكراع
·        قراءات في مناهج دراسة الذاكرة الدينية: الأستاذ صلاح الدين العامري
·        البيروني و القطيعة الابستمولوجية في العلوم الإنسانية: الأستاذ عادل بالكحلة
·        مناهج البحث في العلوم الشرعية: الأستاذ زياد بن طالب المعولي
·        قراءات في الخطاب الديني المعاصر: أحمد بن السعود السيابي
·        إشكالية تصنيف العلوم الإسلامية: علي بابا عمي
·        المنهجية في العلوم الإسلامية مظاهر الأزمة و مفاتيح الحل: الأستاذ كمال جحيش
·        المنهج في تدريس الفلسفة و العلوم الإسلامية: الأستاذ لمير طيبات
·        إشكالية التفسير و التأويل في النص القرآني: الأستاذة منجية السوايحي
·        بنية الخطاب العقائدي في الإسلام و المسيحية بين اللاهوت و علم الكلام: محمد فوزي المهاجر
·        قراءة مفهومية في التفسير و التأويل: عبد الرحمان حللي
·        عناصر منهجية في التفسير عند الحافظ بن عبد البر الأندلسي: الأستاذ عفيف الصبا بطي
·        التقعيد و الترجيح في افقه المالكي: الأستاذ علي العلوي
و قد قدم الأستاذ محمد الخضراوي الورقة العلمية  التالية:
المنهجية في العلوم الإسلامية النشأة و الضرورة
     كانت المنهجية ردا ثقافيا تقدميا على طرائق التفكير المدرسية التي كانت مهيمنة في مجال التعليم اللاهوتي على مدى القرون الوسطى. حيث كانت تعتمد على التداول الميكانيكي الرتيب للمعلومات و الاستنساخ الدوغمائي للفكر التاريخي. من أجل ذلك اعتبرت استراتيجيا البحث العلمي التي دشن بها ديكارت لحظة الحداثة تحريرا للعقل بالعقل ومن وهم المركز و تأسيسا لمشروع ثقافي غربي جديد.فكانت العقلانية روح المنهج و كان المنهج هو روح التفكير. لذلك انسحبا كلاهما على مختلف مجالات الحياة الثقافية و الدينية و الاجتماعية و السياسية ليكونا أساسا لكل حراك فكري حتى يتقصّد اكتساب الموضوعية.
     تأسست الحداثة الفكرية وفقا للبناء النظري الذي شكله ديكارت بحثا عن موضوعية المعرفة فكانت المنهجية ناتج هذا الوعي الديكارتي و هذا موضوع يستوجب وقفة و إمعان لأنّه يمثل الأطروحة المركزية التّي قامت عليها التحولات العلمية الكبرى في زمن الحداثة. و ما ذاك إلاّ لأنّ إرادة النهضة لدى المفكر الغربي ارتبطت بتبديل تقنيات التفكير و تغيير رؤية الإنسان للعالم و لا يمكن لهذه الإرادة أنّ تحظى بالإمكان و التحقق إلا متى اعتمدت على نفوذ العقل و جعلت من العقلانية و مفاعيلها شرطا ضروريا لبناء عالم غربي مختلف يمسك بمقتضيات الامتياز التكنولوجي في المشهد الحضاري ذي القيم الثقافية الجديدة ضمن هذا النسق من التصور عرف ديكارت 1596  1650 المتهجية في مفتتح كتابه التأصيلي " مقالة في الطريقة " باعتبارها قيادة محكمة للعقل و بحثا عن الحقيقة في مجال العلوم. و بما أنّ ديكارت قادم من حقل العلوم الدقيقة فإنّه راهن على نحت معماري منهجي يمتلك مقومات العقل الرياضي من أجل صياغة علمية للحقيقة لذلك خص نفسه بقواعد للبحث لا تتناظر إلا مع القيم التحليلية ذات الأبعاد البرهانية العالية.
     استنبط الرجل الفيزيائي وفقا لهذا المنظور العقلاني أربع قواعد لتشريع البحث المنهجي فكان الشك العلمي أساسا لفحص المعارف و المعلومات التي تتداول داخل الثقافة السائدة. ثمّ التحليل و تفكيك الإشكاليات المطروحة إلى أقسام و أجزاء قابلة للحل. أما القاعدة الثالثة فهي التركيب و التأليف من أجل تنظيم فعاليات البحث و الارتقاء من المعلومات الأولية إلى قضايا الأكثر تعقيدا. و ينتهي الفيلسوف الرياضي الفرنسي إلى أنّ الإحصاء و مراجعة حواصل البحث يمثلان القاعدة الختامية لإخراج الأعمال المعرفية إلى حيز الشرعية العلمية
     بناء على هذا فإنّ تشخيص مفهوم المنهجية يحيلنا إلى أمرين. يمثل الأول منهما في الاستقلالية و رفض الخضوع إلى الضواغط الفكرية المهيمنة. و أما الأمر الآخر هو الموضوعية في التعامل مع المفاهيم و الوقائع الثقافية المتداولة أي أنّ المنهجية بهذا المعنى إجراء عقلاني حر و متوازن داخل حقل التواصل المعرفي.
     إنّ الإحالة على الرؤية الديكارتية فيما يتعلق بموضوع المنهجية لا تهدف إلى تكرار القول في هذه المسألة و قد أضحت كثيرة الشيوع و إنما هي إحالة على التأسيس الحداثي الأول باعتباره منعطفا تاريخيا و هي إلى جنب هذا تتقصد إبراز قضية العلمية من جهة مركزيتها في إطار مناهج البحث و أولويتها في مشاريع الثقافة الإنسانية ذلك أنّ حقل العلوم الدقيقة يعمل على تجسيد البرهاني للقواعد النظرية على مستوى الوقائع الإجرائية و بما أنّ المنهجية من صنائع العقل فإنّ الانتظام داخل القانون " العلمية " يؤمّن حيادية البحث و موضوعيته و يحفظ أبنية المعرفة من التصدع و الانفلاق و من النزوع نحو الذاتوية و وجهة النظر. هذه لا تعني الاستجابة الميكانيكية للصيغ القواعدية الصارمة لأنّ النظريات المنهجية لا تعدو كونها مقاربات رؤيوية خاصة. و هي و إنّ كانت تستدعي الامتثالية على مستوى الانجاز ضمن بعض الحقول المعرفية بما أنّها تعبر عن الريادة في مجال نظامية العمل المعرفي إلا أنّها لا تمثل السيادة على الفعل أو عدم الفعل. لكلام أكثر حسما، تقدم المناهج ذواتها باعتبارها أطروحات إستراتيجية للتعامل النموذجي المنظم، و هي كذلك غير أنّها لا يمكن أنّ تكون صياغة حتمية و نهائية لسائر التعاملات الابستمولوجية المفتوحة على أنماط من المعارف ذوات مشكلات لا تتناهى ذلك لكون المناهج تمتلك صبغة ذاتية تعكس تمثلا خاصا لطرائق البحث باعتبارها فعاليات نظامية محددة لها تسويغاتها المنطقية و هي مع ذلك لا تهدف من حيث منطقاتها إلى التطبيق الميكانيكي للمقولات البرمجية التّي ترسمها لأنّها تظل لحظة اختراع تعادل موضوعها لكنها لا تعادل كافة الموضوعات التّي تطرحها مختلف الأبنية المعرفية متعددة المصادر و الاتجاهات و الأفاق. و إذا كان الارتباط بالعناصر التراثية ضرورة مفهوميه لاستيعاء الواقع المنهجي و بناء تصور موضوعي للمسألة المعرفية في لحظة الكتابة الإسلاميّة الأولى فإنّ قراءة الأصول الفكرية لنظام الخطاب الديني. بحثا عن العلامات التمييزية لطرق البحث العلمي تستوجب إجراء مراجعة تقويمية لتمظهرات هذا الخطاب من أجل فهم الأنساق الإجرائية المحركة له.
     يترتب بعد عرض هذه المقاربات و التصورات المنهجية العامة أنّ نستكشف ضمن منظور بانورامي طرائقية البحث داخل المنظومة الدينية التّي انبجست معارفها الجمالية و الفلسفية و الرياضية و الهندسية (.... ) من منهج القرآن الكريم بما هو مسار انفتاحي على العلوم و على العالم سواء كان ذلك من خلال تعيين المسائل أو الحث على متابعتها عقلانيا أو من خلال الأمر الديني بالبحث العلمي و قراءة العالم في مستوياته العلية ( من العالة ) الأنطولوجية
     هناك ترسانة هائلة من المعارف المنخرطة في مجال النص القرآني تدّل مضمونيا على ضرورة تعدد العلوم وذلك في اتجاهين: أحدهم فهم فعل التنزيل و الوعي بالوحي الإلهي من جهة كونه موضوع التراسل بين الملكوتي والدنيوي.و الآخر فهم العالم الذي تحيل إليه النصوص الكونية التي تستند إليها الآليات البينات باعتبارها نقاط وعي تستنفر العقل تجاه الحقائق الأولية ( القبلية ) و العلل الميتافيزيقية المنشئة للعالم الوجودي كما تتفكك العلاقة اللغزية بين عالمي الدنيا و الآخرة.
     ضمن هذه التعددية فهم رواد الفكر الإسلامي مسألة البحث العلمي و قراءة العالم و إشكالية وجود الإنسان في العالم و لا شك أنّ ديناميكية النظام المعرفي الديني كان النتاج الموضوعي للحظة المنهج التي انطلقت من الآية الكريمة " لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا " سورة المائدة 47 . و قد فسر الرازي في مفاتيح الغيب مفهوم المنهاج بأمرين مقترنين عضويا بالترابط التكويني. الأمر الأول هو الطريقة الواضحة حيث يقال نهجت الطريق. و في تفسير النحاس ( توفي 338 هجريا ) أما الأمر الآخر فهو التعددية الشرائعية التي تعكس اختلاف الثقافات و البنى الاجتماعية التي تستقبل الوحي الإلهي. المنهاج إذا مسار نظامي منضبط ينير مسالك العقل التحليلي و لا يلغي تعددية المسارات التحليلية الأخرى و لما كان ذلك و كان الله قد أرسل مئات الأنبياء و الرسل إلى مختلف شعوب العالم فهذا يعني أنّه أنزّل نظيرا لذلك مئات المناهج التي تنظر إلى العالم ضمن أبنية مفهوميه متعددة تتجلى فيها صورة الواحدية.
     و قد اكتشف الفكر الإسلامي منذ مبدئه الضرورة العقلانية لتأسيس أنظمة إبستمولوجية تقوم بها شروط منهجية تحقق استمرارية مسيرة التواصل بين الثقافات و الزمانات التي جسدها الوحي منذ التراسل مع الكائنات الوجودية الأولى. ضمن هذا الإطار انبثقت الصياغات الفكرية الإسلاميّة التي أسست لنظريات المعرفة لتكون نموذجا للمفاهيم القرآنية المشخصة. و هذا يعني أنّ الهندسة الدلالية التي ينطوي عليها التعبير القرآني كانت محركا لها و موجها فكريا و روحانيا لمسيرتها. فظهر علم التأويل و مناهج قراءة النص الديني مترافقة مع المنظومات الفكرية الأولى التي دشنت المعتزلة لحظتها الانعطافية الأولى. كذلك ظهر علم الكلام بمناهجه و فلسفاته ثمّ توالت العلوم تثري لتبني مشروعها الحضاري الإنساني الذّي عمر لحظته التاريخية.
     و حاصل القول إنّ مسألة المنهجية تظل هاجس كل زمان و مجال و بما أنّ زمان العلوم الإسلامية قد توقف حين غابت عنه الرؤية الطرائقية ( المنهجية ) كما توقف الزمان الثقافي العربي كله عن الإبداع و عن الفعل في الواقع الكوني و دخل في عزلة أبدية عن العالم، فإنّ مواجهة هذه الحالة العدمية يقتضي إجراء مناقشة منطقية حول إعادة بناء المعرفة الدينية تختلف عن التوجهات السكونية السائدة و ذلك وفقا لطرح منهجي
جديد يحدث الانعطاف العقلاني المشخص في مفاهيم القراءة و الاستقبال و الإنتاج الفكري و يكون عبارة عن تشريع معرفي لراهنية ثقافية جديدة.
     و هكذا فإنّ هذه الندوة ستجسر فجوات التاريخ حين تستقبل المعتزلي الأول واصل بن عطاء  و غيره من مؤسسي المنهاج الإسلاميّ و حين نستقبل ضمن ذات التحقيبات التاريخية الحداثي الأول ديكارت و سائر منظري المنهجية الغربية و ذلك ابتغاء طلائعية ثقافية نرجوها من أجل أنّ تفعل بشكل كوني ما يمكن يكون انجازا قوميا يقدم خدمة للثقافة انطلاقا من " المنهجية في العلوم الإسلاميّة "    
الأستاذ محمد أحمد الخضراوي / وحدة علوم القرآن المعهد العالي لأصول الدين