الجمعة، 29 أبريل 2011

الإسلام بين الدين و الايديولوجيا


     عرّفت الأيديولوجيا بأنّها:ناتج عمليّة تكوين نسقٍ فكريٍّ عامٍّ يُفسّر الطبيعة، المجتمع والفرد، مّا يحدِّد موقفاً فكريّاً وعملياً معيناً لمعتنق هذا النسق، الذي يربط وبكامل بين الأفكار في مختلف الميادين الفكريّة السياسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة. الأيديولوجيا بهذا التعريف ـ وهو ممّا يؤمنون به ـ فإنّه يُعبّر عن كونها ضرورة وجوديّة وحياتيّة، تؤدّي إلى إشباع الحاجات السيكولوجيّة والاجتماعيّة والسياسيّة... والميتافيزيقيّة للإنسان، مثلما تؤدّي الإشباعات الماديّة إلى الاستجابة لحاجياته البيولوجيّة والماديّة الأُخرى .وبهذا التعريف والتوجيه فانّ الدِّين يكون بلا شكّ أيديولوجيا، لأنّه يُعطينا فكرةً عامّةً عن الوجود والعلاقات بين الإنسان والله تعالى من جهة، وبين الإنسان والمحيط الذي حوله.  ولكن «الأيديولوجيا» موضع البحث والنقد ليست بهذا التعريف ولا بهذا التحديد، وانّما هي عندما تحلّ الايديولوجيا كبديلٍ تامٍّ للعلم والمعرفة الفكر والثقافة الإنسانيّة لتُعطي تفسيراً جاهزاً وشاملاً لكلّ الظواهر الحياتية .
     وهي الصورة الناتجة عن كلّ منظومة أفكار تُبالغ في أهمّيتها الخاصّة في بناء الواقع وتحويله، حتى تكون هذه الأيديولوجيا ذات طابعٍ حصريٍّ ـ في تفسيرها للأشياء ـ فهي مخططٌ معياريٌّ يؤثّر بصورةٍ تهدم أيّ إمكانية لمناقشةٍ عقلانيّةٍ، وهي بذلك تمتاز عن منظومات المعرفة العلمية ذات الطابع العمليّ أو المحاكمات الأخلاقية، لأنّ الأيديولوجيات منظومةٌ رمزيّةٌ لا يُمكن أن تُعاب لأنّه ليس لها خصائص نظرية علمية فهي بذلك لا تستطيع إلاّ أن تكون محازبة ـ غير محايدة ـ وقصدية.
وهذه الصـورة من الأيديـولوجيا التي تفسّر كلّ شيء تفسـيراً كلِّياً «أسطورياً» وبطريقة تفكيرٍ تبسيطيّةٍ واختزاليّةٍ في مقابل الوعي العلميّ المعاصر، لذا تقوم الأيديولوجيا مقام التفكير بالنسبة للجماهير غير المثقّفة، إذ تجعلهم يعتقدون أنّهم يتفهّمون العالم بمجرّد ترديد صيغٍ طقوسيّةٍ ذات مظهرٍ علميٍّ عائمٍ.
لذا كانت هذه الطريقة من التفكير الأيديولوجيّ موضع إدانة وهجوم عددٍ كبيرٍ من المفكِّرين في القرنين الماضيين، منهم المفكّر الألمانيّ هايدغر، إذ اعتبر الأيديولوجيا تفكـيراً جاهزاً تُمارسـه الجماعة ويعفي الفرد من عناء التحليل والاستدلال، فالأيديولوجيا في نظره تدخل في منطقة المبنيّ للمجهول .
إلاّ أنّ ما نريد بيانه بهذا العرض أنّ معظم النقد ـ وهو قائمٌ فعلاً ـ اتّجه إلى إعطاء الفكرة قوامة تفصيلية على سائر أمور الحياة جملةً وتفصيلاً، بحيث تحلّ الأحكام المسبقة المستقاة من هذه الفكرة محلّ التفكير العلميّ القائم على الملاحظة والتجربة واستقراء الوقائع واستقصاء الحالات المختلفة، ممّا يجعل تفسير أيّة ظاهرةٍ أو تحليل أيّة قضية جاهزاً مسبقاً، وفق أسس نظريّةٍ بحتةٍ .
وبالتالي فإنّ «الأيديولوجيين» يعطونك فهماً مفصّلاً ـ لا عامّاً ـ ينطبق على ما جرى وما يجري، ولا يهتمّون بكلّ ما يُنتجه العقل البشريّ أو يُلاحظه الحسّ في الواقع .
     اختلف الباحثون في أنّ الدين هل هو أيديولوجيا أم لا ؟ فإذا كان الدِّين الإيمان بالغيب والاعتقاد بأمور غيبيّة، اعتبرها البعض «مقدّسة غير قابلة للتعقّل»، فإنّ الدِّين يكون ما فوق الأيديولوجيا، إذ الأيديولوجيا تُحاول أن تنزل بالمعتقد والفكرة إلى التطبيق على الموضوعات المختلفة، والدِّين بهذا التصوّر تعالٍ بالفكرة عن التطبيق .
والنظرة هنا غربيّة وتنطبق على الديانات ـ غير الإسلام ـ والتي تُجرّد الدِّين لتجعل منه علاقة ـ وقد تكون مجرّد علاقة حبٍّ وتخيّل ـ بين المخلوق وخالقه .
أمّا إذا نظرنا إلى الإسلام على أساس أنه دين حياة وعقيدة وتشريع، يشمل برؤاه سائر شؤون الدنيا كما شمل الآخرة، فإنّه بهذا المعنى يُمكن أن يكون أيديولوجيا .
على أنّنا نرى أنّ الإسلام ليس أيديولوجيا بالمعنى المصطلح التامّ لكلا التعريفين الإيجابيّ والسلبيّ اللّذين مرّا، وإنّما نتّفق مع مَن ذهب إلى أنّ بعض التيارات الدينيّة اتّجهت إلى «أدلجة» الدّين بالمعنى الأوّل، وكذلك الثاني عند بعضها الآخر .
ونرى أنّ الإسـلام لم يُلغِ ثقافة الشعوب المختلفة ولم يُهمل عاداتها وتقاليدها القوميّة، ولم يوحّد لغتها، بل لم يعمل على صهر كلّ هذه القوميات في بوتقةٍ ثقافيّةٍ واحدةٍ، ولم يتّجه حتى إلى إلغاء الديانات الأُخرى التي احتفظت بدُيورها ومعابدها ووجودها القومي حتى يومنا الحاضر، في الوقت الذي شهدنا في الأندلس إبادة تامّة لحضارتها ودينها وأناسها المسلمين، ولا زال المنقِّبون يكتشفون فيها مقبرة جماعية بعد أخرى من آثار الغزو الأوروبي لها .
وكلّ ما عمله الإسلام أن فجّر في الشعوب التي اعتنقته طاقاتها، وحرّرها من أسر العبودية المذلّة ووجّهها نحو العلم النافع والعمل البناء .
     وبخلاف الأيديـولوجيات التي غالباً ما تفسِّر التاريخ والأحداث على أساس العامل الواحد، فانّ الإسلام لم يقرّ ذلك ولم يفسّر الحياة الإنسانية تفسيراً غيبياً أو مادياً بحتاً، بل استوعب كلّ العوامل الموضوعيّة، فلم يكن مثالياً كما لم يكن مادياً بحتاً.
وفي مجال التشريع ترك التشريع الإسلاميّ منطقة فراغ تملأها الدولة ـ المجتمع ـ في ضوء الظروف المتطوّرة، بالشكل الذي يضمن الأحداث العامّة للتشريع ويحفظ للتشريع مرونته وتحرّكه وتكيّفه مع الظروف المختلفة. وكان لحركة الاجتهاد دورها الغنيّ ـ ولا زال ـ في إثراء الفكر الدينيّ وتطوّره وتلبيته للحاجات الإنسانيّة .
ولكن لا بدّ من تسجيل ملاحظة هنا، هي أنّ بعض الاتجاهات الدينية وبهدفٍ دينيٍّ أو سياسيٍّ أحياناً سعت في القرن الماضي إلى أدلجة الدِّين بنحوٍ ما، وبالتالي ربّما خلقت نوعاً من المقابلة بين الدِّين ـ كما تتصوّره ـ وما أفرزه الفكر الإنسانيّ من علمٍ ومعرفةٍ وحداثةٍ وتطوّرٍ  .وقد لخّص بعض الباحثين الآليات الذهنية في تحويل الخطاب الدينيّ إلى خطابٍ أيديولوجيٍّ فعدّ من أهمّها ما يلي :
 1- في التركيز على المعاملات بجانب العبادات .
 - التوحيد بين الفكر والدِّين .
 3- التفكير الاختزالي للظواهر بردها إلى مبدأ واحدٍ .
 - الاعتماد على سلطة السلف والتراث وتقليص المسافة بين النصوص الأساسية والنصوص الثانويّة .
 - اليقين الذهني والحسم الفكريّ القطعيّ .
- إغفال البعد التاريخي وتحويل الحقائق النسبية والتاريخية إلى حقائق أبدية.
ويُمكن إعطاء أمثلة واقعيّة من أدلجة الدِّين، وجعله سلطة حصرية وقهرية، وبالتالي في مقابل الإنسان ثقافة وفكراً، علماً وعملاً، من ذلك :
ـ إضفاء صفة القدسيّة على النّص والسلوك غير المقدّس، الذي لاينتهي إلى الوحي الكريم، من ذلك إضـفاء صفة القدسـيّة، وبالتالي غلق باب المناقشـة، لكل ما ورد عن السلف الصالح من تراثٍ وقيمٍ وسلوكٍ، وهو بخلاف نهج القرآن الكريم الذي فتح باب الحوار حتّى مع المشركين "وإنّا وايّاكم لعلى هُدىً أو في ضلالٍ مُبينٍ". وبالتالي فإنّ بعض الاتجاهات الدينيّة بدأت تعتبر الدفاع عن الماضي نوعاً من الواجب الديني في مقابل الهجمة الثقافيّة ضدّ الإسلام، وصارت تتبنّى التحجّر الفكريّ وتعتبر ذلك نوعاً من التقدّس .
 .
وأدّى هذا التعصّـب إلى إلغاء الفكر الآخر ضمن سلطات الاستبداد الدينيّ، ممّا عطّل العملية النهضوية والتجديديّة الفكريّة التي تتوقّف حركتها على وجود الاصطكاك والتعارض مع الرأي الآخر، ممّا يجعل الفكر في حصانةٍ وصيانةٍ مستمرةٍ ومطابقةٍ دائمةٍ مع الواقع المتغيّر .
ـ طرح الدين كمصدرٍ لكثيرٍ من العلوم، كالطب والفلك وغيرها، وبدأت عملية فرز وتبويب وطرح للتراث المتوارث من ورود في العلوم، مع ملاحظة أنّ الكثير منه ضعيف الإسناد، والكثير منه هو تراثٌ مترجمٌ من اليونانيين وغيرهم، ولا يملك أصالة النصّ الدينيّ أو قدسيّته .
ـ كما طرح الفكر الدينيّ في مقابلة ومواجهة مع الفكر الإنسانيّ الذي أنتجه من وهب الله به العقل للإنسان، وحثّ تعالى على التفكّر والتدبّر في السماء والأرض، والسير فيها ودراسة آثار الماضـين، واكتشاف آياته في الأنفس والآفاق .
ووجـدنا في الكثـير من الدراسـات في العلوم الإنسـانيّة طرح الرأي الإسلاميّ في مقابلة مع الآراء الأخرى، دون التأكّد من الرأي المنسوب إلى الإسلام، أو الاعـتماد على رأيٍ لمفـكِّرين أو علماء مسلمين ونسبته إلى الإسلام، مع أنّهم هم لم ينسبوه إليه، بل اعتبروه مجرّد رأيهم الشخصيّ .
ـ الانطلاق في مجالات الحياة من أبواب الحرمة والشّك ... مع أنّ الإسلام أقرّ أصالة الحلِّية «كلّ شيء لك حلال حتى تعلم حُرمته» ، والطهارة «كلّ شيء لك طاهر حتى تعلم نجاسته»، وبنى على الصحة والسلامة واليقين لا الشك، وقرّر أصالة البراءة، وهي مبادئ راقية في الحياة .
وهذا ما جعـلنا نرى قطاعات من المتدينـين تعيـش ضمن الأسوار النفسيّة والاجتماعيّة المغلقة، بعيداً عن الأجواء المنفتحة التي أرادها الإسلام، حتى أنّنا نجد بعض الناس يُعاني من عقد نفسية كالوسواس والشّك وسوء الظنّ ... إلخ ، نتيجة للتربية الدينية الخاطئة والمتشدِّدة .
كما تتداول أوساط متديِّنة اتهامات التكفير والتفسيق والتشكيك في النوايا والتعامل مع النّاس على أساس سوء الظنّ والكثير من الأمراض التي تفشّت في مجتمع المؤمنـين مع أنّ الله تعالى يقول: "فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمَن اتّقى".
وتلك إحـدى الإفرازات النفسـيّة لأدلجة الدِّين على مسـتوى السلوك الفرديّ والاجتماعيّ.
وقد يتّجه بعض المتديِّنين إلى العمل بنتائج الأدلجة، حتى مع عدم الالتزام أو الانتباه بمقدّماتها، ومن تلك :
ـ غلق باب الاجتهاد الدينيّ والجمود على آراءٍ فقهيةٍ معينةٍ، دون الانفتاح على سائر الآراء ومناقشتها، ومن ذلك أيضاً التمسّك بالرأي المشهور ورفض أيّ رأيٍ فقهيٍّ يخرج عن المألوف، علماً بأنّ الشهرة ليست دليلاً فقهيّاً تامّاً .
ـ غلق باب المراجعة والمساءلة التاريخيّة، وإحلال المسائل التاريخيّة محلّ العقائد والأصول الدينيّة، مع أنّ إجماعهم على حرمة التقليد في أصول الدين، وبذا فتح الباب للبحث والتحقيق فيها، إلاّ أنّ أيّة محاولة لغربلة التاريخ والتحقيق في بعض المسائل التراثيّة تواجه بالرفض الشديد ... بل بالعناد والموقف العدائيّ، كما وجدنا ذلك عند محاولة البعض إعادة النّظر والتحقيق في بعض المسائل التاريخيّة والعقائديّة .
ومن نتائج الأدلجة أيضاً غلق باب البحث والمساءلة بشأن الموضوعات الدينيّة أمام سائر غير المختصّين بالفقه، وحصر العلم الدينيّ ضمن دائرةٍ معيّنةٍ، مع أنّنا نعلم أنّ الفقه هو أحد العلوم الإسلاميّة لا جميعها، فهناك علوم القرآن والتفسير والحديث والعقائد وعلم الكلام، وهناك علوم أخرى مشتركة كالفلسفة والاقتصاد.. وبالتالي، فإنّ مجالات الفكر الإسلاميّ واسعة، وقد دعا القرآن الكريم النّاس جميعاً للتدبّر في آياته، كما وعد المؤمنين بأنّ الله تعالى سيُريهم آياته في الآفاق والأنفس، وهذا الباب الرّحب الذي فتحه القرآن للعلم والمعرفة لا يُمكن أن يغلق بدعوى عدم التخصّص بعلمٍ من العلوم. نعم لا شكّ بأنّ التخصّص محترمٌ، وبالتالي فإنّ له الرأي الحاسم بقوّة الدليل والبرهان، كما أنّ الرجوع إليه أمرٌ لا شكّ فيه، ولكن لا يمنع ذلك من التساؤل والبحث على صعيد تحريك الأجواء العلمية وفتح الآفاق وتقريب الفكر من الواقع والواقع إلى الفكر .
     ومن مظاهر الأدلجة أيضاً «التعمـية» في معالجة المشاكل والقضايا من خلال طرح حلولٍ عامّةٍ وشعاريّةٍ كلّيةٍ لسائر المشاكل الحياتية المعقّدة، والتي تدخل فيها عوامل عديدة، وهذه التعمية شبه تفسير القضايا «بالعامل الواحد»، منتهى الأمر أنّ العامل هنا يكون هو القرب أو البعد من الدِّين، فتفسّر مثلاً مشكلة البطالة أو الركود الاقتصاديّ بسبب ضعف الإيمان، ولا شكّ بأنّ الايمان له دورٌ أساسيٌّ في الحياة، ولكن عند البحث التفصيلي عن المشاكل الاقتصادية، فإنّ هناك عوامل كثيرة تدخل في البحث بعضها مذهبيٌّ وبعضها علميٌّ، كما نجد مثال ذلك عند الشهيد الصدر (رضي الله عنه) في معالجاته المختلفة في «اقتصادنا».
وعلي أيّ حال، فإنّ طريقة البحث الاحادية التفكير وبأسلوب النسخ الجاهزة لسائر الموضوعات والمشكلات هي إحدى مظاهر أو نتائج «الأدلجة».
الحركة الإسلاميّة والأيديولوجيا
     اتضح ممّا سـبق أنّ موضـوع «أدلجة الدِّين» ليس من قبيل الترف الفكريّ، بل إنّ له آثاراً كبيرة على مستوى العلم والعمل، ولم تسلم أطروحات الكثير من الحركات الإسلامية من ظاهرة «الأدلجة» ولو بمقدارٍ، كبُر أم صغُر، ولا زالت آثار هذه الظاهرة تلقي بظلالها على خطّ سير الحركة الإسلاميّة، وتحمّلها الكثير من المشاكل، وتضع في طريقها العديد من العقبات .
وقد كانت ظهرت «الأدلجة» عند الحركات الدينية على ثلاثة مستويات:
ـ في أطروحة الحركة للمستقبل والمجتمع المنشود .
ـ خطّ السير ومراحل العمل .
ـ شرائط العضوية والانتساب البرامجيّة
 1 ـ أطروحة المجتمع البديل
طرحت معظم الحركات تصوّرات مستقبليّة عن المجتمع الإسلاميّ الذي تُنشده كبديلٍ للواقع القائم، وكهدفٍ نهائيٍّ تسعى لتحقيقه، وقد اتّسمت هذه الأطروحات بسمتين أيديولوجيّتين متضادّتين :
أ ـ إنّ الحلول والمقترحات كانت غالباً ذات صفة أيديولوجية عامّة، تعتمد على أساس تصوّرات مسبقة شاملة لسائر القضايا دون الاقتراب من الواقع المعاش والاستفادة من النتاج العلميّ والتجربة البشريّة القائمة، لذا لاقَت الكثير من الحلول «الفقهية» العقبات عند التنفيذ، لأنّها كانت حلولاً فرديّة أو اجتماعيّة لظروفٍ مختلفـةٍ، كما افتقدت الكثـير من الأطروحات الاخلاقيّة الآليات التطبيقيّة الفعّالة، لأ نّها كانت على مستوى «الشعار» و«النصيحة»، ولم تُترجَم هذه المفـاهيم إلى قوانـين وتوضع لها الضوابط والمقدّمات التنفيذيّة اللازمة لتطبيقها .
ب ـ الخلط بين العقيدة والإدارة
     طرحت بعض الحركات ضمن تصوراتها حلولاً تفصيلية وعريضة لمساحات كثيرة من المشاكل والمسائل، وحدّدت رأيها في قضايا ليست عقائديّة ولا تشريعيّة، وإنّما هي مسائل إداريّة بحتة تتغيّر تبعاً للظروف، ويرجع النّظر فيها إلى العلم والعقل والتّجربة أو المصلحة، كطريقة إدارة المؤسّسات المختلفة، ومسألة التعاونيـات في الاقتصـاد، وموضوع التعليم الخاصّ ... ولم تكن تلك الاطروحات عادة تعتمد على دراساتٍ وخبراتٍ تخصّصيّة، وإنّما كانت تستمدّ عادةً من مستوى ثقافيّ عام، ولذا فإنّ هذه الآراء سرعان ما تتغـيّر بتغـيّر الزمـن، أو أنّها تلاقي صـعوبة في التطبيـق لنظريّتها وعدم واقعيّتها .
ج ـ سمات المجتمع المطلوب
 كسائر الاتجاهات الأيديولوجيّـة، طرح الاسلاميون تصوّرات عن المجتمع المنشود كانت في غاية المثالية، فغالباً ما كانت التصوّرات مشـتقّة إمّا من نموذج «الخلافة» أو «الامامة»، والتي لا تتطابق على أيّ حالٍ مع الظروف والأوضاع الحاليّة، كما أنّ هذه التصوّرات حاولت أن تمثِّل جميع الرؤى الإسلاميّة في مجتمعٍ يعيش في عالمٍ بعيدٍ عن المثل والقيم المطلوبة، بحيث خرجت هذه التصوّرات بصورة مجتمع لم تساعد الظروف على تمثيله، حتى في ظروف الدّعوة الأولى وصدر الإسلام...كما لم تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي منعت من تطبيق بعض التشريعات آنذاك وتقابلها ظروف أخرى اليوم .
لذا ورغم الاندفاع الجماهـيريّ والعاطفيّ تجاه الأطروحة الإسلاميّة المعاصرة إلاّ أنّ النّاس بدأت تشعر بتلكؤ التطبيق هنا وهناك، وبتعثّر النظريّة في هذا الجانب أو ذاك، ممّا جعلها أحياناً تتردّد أو تشكِّك في إمكانية التطبيق من حيث الأصل، لاصطدامه مع الواقع المعاش والبعيد عن عصر التشريع والضغوط والظروف العالميّة التي تُعيق ذلك .
 - خط السّير ومراحل العمل
اهتمّـت معظم الحركات الإسـلاميّة بدراسة مراحل العمل الإسلاميّ الواقعة بين بداية الحركة، والمنتهية بإقامة المجتمع الإسلاميّ، حسبما تتصوّره الحركة .
وسعت غالب الحركات إلى التأمل والتحقيق في دراسة السيرة النبويّة الشريفة، وكذلك في سـيرة الأنبياء (عليهم السلام)، من خلال قصصهم الواردة في القرآن الكريم، وسيرة أهل البيت (عليهم السلام)، ومواقف الصحابة والتابعين .
     وكانت الدراسة تتركّز عادةً على تقسيم خطّ السيرة إلى مرحلةٍ سرّيةٍ وأخرى علنيّةٍ، وإلى طبيعة المراحل من حيث كونها فكريّة تغييريّة أم سياسيّة وكفاحيّة جهاديّة، ومن ثمّ مرحلة إقامة الدّولة الإسلاميّة .
والملاحظة الأساسـيّة على نتائج هذه الدراسات هي كونها كانت تذهب ـ غالباً ـ إلى استنساخ مراحل العمل التي مرّت بها الدعوة النبويّة والتزامها كخطّ سـيرٍ عمليٍّ للحركة الإسلاميّة المعاصرة، سـواء أكان هذا التقليد والاتّباع من باب التعبّد والتبرّك بالسيرة النبويّة أم من باب الاعتقاد بأنّ المراحل، التي مرّت بها، سنّةٌ إلهيّةٌ في تغيير المجتمع لا بدّ أن تطويها أيّة حركةٍ تغييريّةٍ .
والواقع أنّ هذا النّمط من التعميم- وهو نوعٌ من التّعميم الأيديولوجيّ - يحمل معه الإيمان بالحتميّة التاريخيّة، التي لا بُدّ أن تمرّ بها أيّة حركةٍ إسلاميّةٍ، تبعاً لما مرّت به الرسالات الإلهيّة، ولذا اتجهت هذه الدراسات إلى استقصاء الأدلّة، هنا وهناك، لتأييد نظريّتها، وإلى تصنيف مراحل عمل هذا النبيّ أو ذاك، وكذا الأئمة وفقاً للمراحل النبويّة.
وهناك تساؤل جدّيٌّ آخر، وهو هل تحمل هذه الوسائل وأساليب العمل (أشكالها) صفة الإلزام ووجوب الاتّباع، وهل الأشكال هنا تعبّدية وذات أصالة شرعيّة، أم أنّها وسائل وأساليب تتغيّر من زمانٍ لزمانٍ، ومن مكانٍ لمكانٍ، ومن مجتمعٍ لآخر، بل ومن إنسانٍ لآخر أحياناً .
ولذا كان لا بدّ من إعادة النظر جملة وتفصـيلاً في خطّ السير، ومراحل العمل، ووسائله، وآليّاته، وإطلاق اليد في ذلك للنّاس، ليختاروا ما يناسبهم، ممّا لا يستحل حراماً ولا يحرِّم حلالاً.
 3 ـ شرائط العضوية والانتساب 
     واستمراراً للطريقة الأيديولوجيّة في العمل، فإنّ الكثير من الحركات الإسلاميّة، إن لم يكن جلّها، عملت على تأسيس مدرسةٍ فكريّةٍ، وثقافةٍ حركيّةٍ خاصّةٍ بها، وهي مساهمة بلا شك فعّالة وخلّاقة في النهوض الفكريّ والوعي الثقافيّ، إلاّ أنّ بعض الحركات اتّجهت إلى إلزام الفرد المنتسب بفكرها الخاصّ وبثقافتها، واشـترطت في العضو المنتظم الانضباط وفق خطّ الحركة ومنهجها، وذهب بعضها إلى أبعد من ذلك، إلى التأكيد على أن تكون مواقف الفرد وآراؤه مطابقة لرأي الحركة وموقفها، وأن تكون نشاطاته في سياق نشاط الحركة وبإذنها وموافقتها وإشرافها أحياناً  .ولم يميِّز في ذلك ـ ولو على مستوى التطبيق ـ بين الالتزام بخطّ السير الكلّي، وبين التطابق الحرفيّ في كلّ حركات الفرد المنظَّم وسكناته مع التنظيم، خصوصاً عند تصدِّي أفرادٍ يهتمّون بالانضباط، وأحياناً بالوضع العسكريّ للتنظيم، أكثر من اهتمامهم بالجوانب الفكريّة والثقافيّة وحتى السياسيّة .
وبحرفٍ واحدٍ نقول: إنّ جلّ التنظيمات ذات الصفة الأيديولوجية في برامجها وخططها وشرائطها قد بادت، أو هي في طريقها لانتهاء دورها، أو أنّها تعرّضت لانشقاقاتٍ عديدةٍ؛ وفي أحسن الأحوال، فإنّ هذه التنظيمات بقيت فقط في المناطق الشديدة السريّة وذات الفعاليات العسكريّة غالباً .
والتنظيم الأيديولوجي يحمل نقيضه فى داخله، فسرعان ما يشبّ أبناؤه ليعيشوا زماناً آخر وينمّوا فكرهم وثقافتهم، فيجدوا أنّ تنظيمهم غير قادر على استيعابهم، وأنّ البيت الذي ولدوا فيه يضيق بهم، فيبادرون للخروج سلماً أو بغير سلمٍ، ليبحثوا عن مجالاتٍ أوسع وفرصٍ أكثر .
وما نريده هنا أن يطرح الحزب الإسلامي والحركة برنامجاً يوفر لسائر أبناء الاُمّة أو الوطن حياة أفضل وكرامة أكثر وعدالة وحقوقاً محفوظة، ويعمل أعضاء التنظيم على نجاح هذا البرنامج، ويشترط فيهم أن يكونوا مسلمين ملتزمين بالمعنى العام، دون أن يدخل التنـظيم في تحديد آرائهم الشخصية أو اجتهاداتهم الذاتية أو أسلوب عملهم الخاص، وإنّما المهم الإيمان ببرنامجه والعمل من أجل نجاحه .
     وليس الحزب اُمّة داخل اُمّة، وليس كذلك بديلاً عن قيادة أو مزاحماً لزعامةٍ، بل هو شريحة من الأمّة تسعى لإسعادها من خلال برنامجٍ، يتوقّف نجاحه على اقتناع الأُمّة به وتأييدها له، وأعضاء الحزب لا ينتمون إليه بل يعملون من خلاله، كما يعملون من خلال سائر التنظيمات المهنيّة والاجتماعيّة  .والعضوية في الحزب مشاركة في عمل وبرنامج ومشروع، لا رقّ، ولا استعباد، ولا بيع وشراء لنفسٍ لا يتعامل فيها إلاّ مع بارئها .
                                                                                                    

الأحد، 24 أبريل 2011

شبهة ميراث المرأة في الإسلام




       تعالت في الأونة الأخيرة بعض أصوات الناعقين ممن يسمون أنفسهم بالعلمانيين مطالبين بتمكين المرأة من المساواة مع الرجل في الميراث و هم بذلك يريدون ابراز أن الإسلام ينتقص من قيمة المرأة و من شأنها و أن مكانتها دونية في مقابل الرجل في هذا النقل من كتاب حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين تفنيد قاطع لما يطرحونه.   
      كثير ممن يثيرون الشبهات حول أهـلية المرأة في الإسـلام – متخـذين من التمايز في الميراث سبيلاً إلى ذلك – لا يفقـهون أن توريث المـرأة على النصـف من الرجل ليس موقفًا عامًا ولا قاعدة مطّردة في توريث الإسلام لكل الذكور وكل الإناث.صحيح وحق أن آيات الميراث في القرآن الكريم قد جاء فيها قول الله سبحانه وتعالى:(للذكر مثل حظ الأنثيين) لكن القرآن الكريم لم يقل: يوصيكم الله في المواريث والوارثين للذكر مثل حظ الأنثيين.. إنما قال: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين[1]).. أى أن هذا التمييز ليس قاعدة مطّردة في كل حـالات الميراث ، وإنما هو في حالات خاصة ، بل و محدودة من بين حالات الميراث.
     بل إن الفقه الحقيقي لفلسفة الإسلام في الميراث تكشف عن أن التمايـز في أنصبة الوارثين والوارثات لا يرجع إلى معيار الذكورة والأنوثة.. وإنما لهذه الفلسفة الإسلامية في التوريث حِكَم إلهية ومقاصد ربانية قد خفيت عن الذين جعلوا التفاوت بين الذكور والإناث في بعض مسائل الميراث وحالاته شبهة على كمال أهلية المرأة في الإسلام. وذلك أن التفاوت بين أنصبة الوارثين والوارثات في فلسـفة الميراث الإسلامي ـ إنما تحكمه ثلاثة معايير:
     أولها: درجة القرابة بين الوارث ذكرًا كان أو أنثى وبين المُوَرَّث المتوفَّى فكلما اقتربت الصلة.. زاد النصيب في الميراث.. وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب في الميراث دونما اعتبار لجنس الوارثين.
     وثانيها: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال.. فالأجيال التي تستقبل الحياة ، وتستعد لتحمل أعبائها ، عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة. وتتخفف من أعبائها ، بل وتصبح أعباؤها ـ عادة ـ مفروضة على غيرها ، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات.. فبنت المتوفى ترث أكثر من أمه ـ وكلتاهما أنثى ـ.. وترث البنت أكثر من الأب ! – حتى لو كانت رضيعة لم تدرك شكل أبيها.. وحتى لو كان الأب هو مصدر الثروة التي للابن ، والتي تنفرد البنت بنصفها... وكذلك يرث الابن أكثر من الأب ـ وكلاهما من الذكور
وفى هذا المعيار من معايير فلسفة الميراث في الإسلام حِكَم إلهية بالغة ومقاصد ربانية سامية تخفى على الكثيرين. و هي معايير لا علاقة لها بالذكورة و الأنوثة على الاطلاق.
     وثالثها: العبء المالي الذي يوجب الشرع الإسلامي على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين.. وهذا هو المعيار الوحيد الذي يثمر تفاوتاً بين الذكر والأنثى.. ولكنه تفاوت لا يفضي إلى أي ظلم للأنثى أو انتقاص إنصافها... بل ربما كان العكس هو الصحيح...
ففي حالة ما إذا اتفق وتساوى الوارثون في درجة القرابة.. واتفقوا وتساووا في موقع الجيل الوارث من تتابع الأجيال – مثل أولاد المتوفَّى، ذكوراً و إناثاً – يكون تفاوت العبء المالي هو السبب في التفاوت في أنصبة الميراث.. ولذلك ، لم يعمم القرآن الكريم هذا التفاوت بين الذكر والأنثى في عموم الوارثين ، وإنما حصره في هذه الحالة بالذات ، فقالت الآية القرآنية: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين).. ولم تقل: يوصيكم الله في عموم الوارثين.. والحكمة في هذا التفاوت ، في هذه الحالة بالذات ، هي أن الذكر هنا مكلف بإعالة أنثى ـ هي زوجه ـ مع أولادهما.. بينما الأنثـى الوارثة أخت الذكرـ إعالتها ، مع أولادها ، فريضة على الذكر المقترن بها.. فهي ـ مع هذا النقص في ميراثها بالنسبة لأخيها ، الذي ورث ضعف ميراثها ، أكثر حظًّا وامتيازاً منه في الميراث.. فميراثها ـ مع إعفائها من الإنفاق الواجب ـ هو ذمة مالية خالصة ومدخرة ، لجبر الاستضعاف الأنثوي ، ولتأمين حياتها ضد المخاطر والتقلبات.. وتلك حكمة إلهية قد
 تخفى على الكثيرين وإذا كانت هذه الفلسفة الإسلامية في تفاوت أنصبة الوارثين والوارثات وهى التي يغفل عنها طرفا الغلو ، الديني واللادينى ، الذين يحسبون هذا التفاوت الجزئي شبهة تلحق بأهلية المرأة في الإسلام فإن استقراء حالات ومسائل الميراث ـ كما جاءت في علم الفرائض (المواريث) ـ يكشف عن حقيقة قد تذهل الكثيرين عن أفكارهم المسبقة والمغلوطة في هذا الموضوع.. فهذا الاستقراء لحالات و مسائل الميراث يقول لنا:
1.     أن هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل.
2.     هناك حالات أضعاف هذه الحالات الأربع ترث فيها المرأة مثل الرجل تماما.
3.     هناك عشر حالات أو تزيد ترث فيها المرأة أكثر من الرجل.
4.     هناك حالات ترث فيها المرأة و لا يرث نظيرها من الرجال.
أي هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل أو أكثر منه أو ترث هي و لا يرث نظيرها من الرجال في مقابل أربع حالات محددة ترث فيها المرأة نصف الرجل.
         تلك هي ثمرات استقراء حالات ومسـائل الميراث في عـلم الفرائض (المواريث) التي حكمتها المعايير الإسلامية التي حددتها فلسفة الإسلام في التوريث.. والتي لم تقف عند معيار الذكورة والأنوثة ، كما يحسب الكثيرون.
                                            نقلا عن كتاب: حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين



 سورة النساء آية 11[1]

الخميس، 14 أبريل 2011

بين العولمة و العالمية جزء 3


                              I.            سمات عالمية الإسلام
     تقوم عالمية الإسلام على نوعين من القيم:-
   أولهما:قيم عامة تدخل بها المجتمع البشري.وهي:
          1- العدل: بالإيمان وحدة النوع البشري في أصله ومصيره.
          2- السلام: بالإيمان بحق الحياة للفرد، وللمجتمع البشري.
           3- الحرية: بالإيمان بالكرامة الإنسانية.
 ثانيهما:قيم خاصة تلتزم بها في المجتمع الإسلامي.وهي:-
          1- وحدة الإله المعبود، ووحدة الدين، ووحدة الأمة.
          2- الأخوة الإسلامية: وصورتها الاقتصادية:التكافل الاجتماعي.وصورتها السياسية:الشورى والبيعة.
          3- الجهاد إيمانا بضرورة تبليغ الدعوة، وضرورة حماية دولتها، وواجب صيانة القيم العامة.
ومن سمات عالمية الإسلام:
     أنّ الإسلام دين يتميز بالعالمية. والعالمية تعني:عالمية الهدف والغاية والوسيلة، ويرتكز الخطاب القرآني على توجيه رسالة عالمية للناس جميعًا، قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" الأنبياء 107، وقال تعالى:" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" سـبأ:28، ووصف الخالق عز وجل نفسه بأنه " رب العالمين" وذكر الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم مقترنًا بالناس والبشر جميعاً قال تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"البقرة21 " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً" البقرة:143 " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً " النساء:170 " قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ "الأعراف:158.
      إنً الحضارة الإسلامية قامت على القاسم المشترك بين حضارات العالم، فقبلت الآخر، وتفاعلت معه أخذأً وعطاءً، بل إنّ حضارة الإسلام تعاملت مع الاختلاف بين البشر باعتباره من سنن الكون، لذلك دعا الخطاب القرآني إلى اعتبار الاختلاف في الجنس والدين واللغة من عوامل التعارف بين البشر. اتساقًا مع نفس المبادئ، إنّ الإسلام يوحّد بين البشر جميعاً رجالاً ونساءً، في قضايا محددة: أصل الخلق والنشأة، والكرامة الإنسانية والحقوق الإنسانية العامة، ووحدانية الإله، وحرية الاختيار وعدم الإكراه، ووحدة القيم والمثل الإنسانية العليا.
     ومن هنا تظهر الاختلافات جلية بين مفهوم عالمية الإسلام ومفهوم "العولمة" فبينما تقوم الأولى على رد العالمية لعالمية الجنس البشري والقيم المطلقة، وتحترم خصوصيته، وتفرد الشعوب والثقافات المحلية، ترتكز الثانية على عملية نفي أو استبعاد لثقافات الأمم والشعوب ومحاولة فرض ثقافة واحدة لدول تمتلك القوة المادية وتهدف عبر العولمة لتحقيق مكاسب السوق لا منافع البشر.[1]
     فالدولة الإسلامية احترمت عقائد رعاياها من غير المسلمين من أهل الذمة، وكفلت لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية، ووفرت لهم حق الحماية؛ فدماؤهم وأموالهم مصونة، وحرياتهم وكراماتهم محترمة، وقد أكد على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة، منها: "من آذى ذمياً فأنا خصمه يوم القيامة، ومن خاصمته خصِمته". وكان الخليفة عمر رضي الله عنه يسأل عمَّاله عن أحوال أهل الذمة، وكان يفرض لهم من بيت مال المسلمين إن كانوا في حالة لا يتكسبون بها. وراعى المسلمون حقوق الأجانب، وهم الأشخاص الذين يدخلون الديار الإسلامية لمدد محدودة، ويسمون بالمستأمنين، ولم تصل الإنسانية إلى إقرار هذه الحقوق في ظل القوانين الوضعية إلاّ في القرن العشرين.
      يؤكّد الدكتور محسن عبد الحميد وجود فرق كبير بين المصطلحين (العالمية والعولمة) فيقول: " إنّ أبناء هذا العالم بمختلف قبائله وشعوبه ولغاته وملله ونحله يعيشون على هذه الأرض، ولذا فلا بد أن يتفاهموا فيما بينهم، تمهيداً للتعاون الدائم على خير الجميع، ولا مانع من أن يأخذ بعضهم من بعض. ولا يجوز أن يفرض وبالإكراه بعضهم على بعض لغته أو دينه أو مبادئه أو موازينه. فالاختلاف في هذا الإطار طبيعي جداً والتعاون ضروري أبداً، لمنع الصدام والحروب والعدوان."[2] ويضيف: " إنّ تاريخ البشرية عامة وتاريخ الإسلام خاصة، لم يرد فيه دليل على أنّ المسلمين خطوا للبشرية طريقًا واحدًا، ووجهة واحدة وحكمًا واحدًا ونظامًا واحدًا، وعالماً واحدًا بقيادة واحدة، ليس بالإجبار والإكراه.بل اعترفوا بواقع الأديان واللغات والقوميات عاملوها معاملة كريمة، بلا خداع ولا سفه ولا طعن من الخلف، ولذلك عاش في المجتمع الإسلامي من أهل الملل الأخرى من اليهود والنصارى والصابئة والمجوس، وغيرهم بأمان واطمئنان، وأمّا الأمم التي كانت تعيش خارج العالم الإسلامي، فقد عقدت الدولة الإسلامية معها مواثيق ومعاهدات في قضايا الحياة المتنوعة. والتوجيه الأساس في بناء العلاقات الدولية في الإسلام قوله تعالى:" يا أيها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم"ْ الحجرات:11. وأمّا العولمة فهي مصطلح يعني جعل العالم عالمًا واحدًا، موجهًا توجيهًا واحدًا في إطار حضارة واحدة، ولذلك قد تسمى الكونية أو الكوكبة"[3]

                           II.            الفرق بين عالمية الإسلام والعولمة:

     إنّ أوجه الخلاف والتباين الجوهرية بين عالمية الإسلام والعولمة تكمن في كون العالمية من خصائص الدين السماوي المنزل من الله عز وجل، بينما العولمة هي ابتكار إنساني وصنعة بشرية مضادة لدين الله تعالى.
     1- عالمية الإسلام ربانية في مصدرها: فهي من عند الله المتصف بالكمال المطلـق، خالق الكون والإنسان، ومنبثقة عن فهي تصور اعتقادي موحى به من الله سبحانه ومحصورة في هذا المصدر فحسب.[4] ومادامت ربانية متكاملة شاملة، فإنّ الخير والبركة وكذا السعادة ووفرة الإنتـاج من بركات الالتزام بها، وما دامت ربانية من عند الله عز وجل وتلبي أشـواق الـروح البشرية فإنّها مبرأة من النقص وخالية من العيوب، وبعيدة عن الظلم وبالتالي فإنّها وحدها تشبع الفطرة الإنسانية.
     بينما العولمة بشرية في مصدرها؛ أي هي من تفكير العقل البشري وحـده، مـع اعتماده على شهوة التسلط والانفراد، وحب السيطرة على الآخرين، وهي أيضاً صدىً كبيراً للبيئة التي يعـيش فيها الغرب الاستعماري، ولكونها بشرية قائمة على شهوة التسلط والانفراد فإنها لم تنفع البشرية، بقدر ما تفرض السيطرة السياسية الغربية على الأنظمة الحاكمة والشعوب، وتتحكم في مركز القرار السياسي وصناعته في دول العالم لخدمة المصالح الأمريكية والقوى الصهيونية المتحالفة معها. إنّ العولمة تصدّر للناس الإلحاد والفساد الخلقي والفوضى الجنسية والشذوذ والانحراف، وتفرضه في مؤتمرات عالمية، بينما الإسلام حريص كل الحرص على تطهير الناس من الدنس الروحي والأخلاقي، ليرتفع الناس إلى المستوى اللائق بالإنسان...إنّ النموذج الحضاري الذي تقدمه العولمة يشكل فتنة كبيرة للناس، لأنّ فيه من ألوان التقدم المادي ما هو نافع حقيقة للناس، ولازم لهم ليرتفع مستواهم الحياتي، ولكن فيه في الوقت ذاته انتكاسات روحية وخلقية تهبط بالناس إلى درك أحط من الحيوان..والناس– لهبوطهم إلا من رحم ربك– يأخذون الأمرين معاً، على أنّهما معا هما التقدم والرفعة والرقي!! ومن أجل ذلك لا يحسون في لحظة الانتكاس أنهم منتكسون، بل يظنون أنهم ماضون في طريق الرفعة ما داموا يمارسون ألوان التقدم التي تتيحها هذه العولمة.( قطب،2001 :31-33)
      2- الاختلاف في طبيعة المنهج: فمـنهج الإسلام مبني على الإيمان والتسليم، والمتابعة والانقياد لجملة أصوله وأركانه، والتطبيق العملـي لتشريعاته وأحكامه.أما العولمة فقائمة الرفض من الشعوب، ولذا قابلت مؤتمراتها بالمظاهرات والمسيرات التي تعبر عن الرفض المطلق للعولمة، والعولمة وتدعو إلى محاربة الدين الحق بما فيه قيم وأخلاق ونظم وتشريعات.
      3- عالمية الإسلام تمتاز بالواقعية: فهي تصـور يتعامـل مـع الحقـائق الموضوعية ذات الوجود الحقيقي المستيقن، والأثر الواقعي الإيجابي. لا كالعولمة التـي تتعامل مع تصورات عقلية مجردة، أو مع مثاليات لا مقابل لها في عـالم الواقـع، أو لا وجود لها في عالم الواقع. ثمّ إنّ التصميم الذي تضعه العقيدة للحياة البشرية يحمل طابع الواقعيـة، لأنـّه قابل للتحقيق الواقعي في الحياة الإنسانية، ولكنها في الوقت ذاته واقعية مثالية، أو مثاليـة واقعية، لأنها تهدف إلى أرفع مستوى وأكمل نموذج، تملك البشرية أن تصعد إليه. ولا يضرب العقل البشري في التيه كما في الفلسفة ليتمثلها على هواه، في سلسـلة مـن القضايا المنطقية المجردة على طريقة الميتافيزيقا التي لا تفيد شيئاً، لا علما ولا إيماناً.
      4- عالمية الإسلام تمتاز بالرحمة للعالمين: ويمكننا إدراك عمق الرحمة الإلهية للإنسان من خلال معرفتنا حالات الضعف البشرية، ومن خلال مطالعتنا للآيات ‏القرآنية والأحاديث الشريفة التي تتحدث عن رحمة اللّه وعفوه وغفرانه. قال تبارك وتعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء107 ويقول سبحانه  (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) التوبة 128. وإذا استقرأنا نصوص القرآن الكريم، وتأملنا أحكام الشريعة الإسلامية وجدنا الرحمة الواسعة الفياضة، كما نجدها فياضة واسعة في شخص الرسول عليه السلام مبلّغ الإسلام، خلقاً وسلوكاً وأدباً وشمائل، فالرسول عليه السلام رحيم، ورحمته عامة شاملة فياضة طبع عليها ذوقه ووجدانه، وصبغ بها قلبه وفطرته، هذه الرحمة التي خلّصت الناس والأمم والبشرية جميعاً من إصر الأغلال التي كانت عليهم، كما خلصتهم من جور الاستعباد البشري، وجاءت بكمال الرحمة المحافظة على النفوس، الموفرة للأمن النفسي والاقتصادي، القاضية بعصمة أرواح الناس ودمائهم إلا بحق التشريع.
     إنّ رسالة الإسلام قائمة في العبادة والتشريعات على الرحمة، التي تتمثل في رفع الحرج والمشقة، ليس في الشريعة مشقة بالمعنى الصحيح الشرعي وليس فيها عناء ولا عنت، وإنما هي عين اليسر وذات السماحة، قال تعالى:(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)النساء 29. وقد جاءت مناسبة تماماً لفطرة الناس وطاقته كيفما كانت سلباً أو إيجابا، وهي تناسب جميع ظروف الإنسان وأحواله، ودون أدنى حرج أو مشقة، وصدق رب العزة إذ يقول تعالى:(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) المائدة:6، ويقول تعالى:(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍُ) الحج:78. ورحمة الإسلام مع أعدائه ومخالفيه والناقمين عليه المتربصين به، كما هي رحمته بمن آمن به وصدقه رحبة ندية فياضة، ودعا فيما دعا وأوجب أن تقوم علائق أمته فيما بينها على الرحمة والمودة والتعاطف استجلاباً لرحمة الخالق سبحانه وتعالى، فإنّه عز وجل يرحم من عباده الرحماء، قال صلى الله عليه و سلم:(الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).[5] والرسول صلى الله عليه وسلم قال عن نفسه:(إنما أنا رحمة مهداة).[6] والآيات القرآنية الكريمة لتشمل برحمتها الإنسان وتدعوه إلى التوبة، وتحذره من اليأس ‏والقنوط. يقول تعالى:(كتب على نفسه الرحمة) الأنعام12 ، ويقول سبحانه ( إن رحمة اللّه قريب من المحسنين)الأعراف 56، ويقول تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) الأنعام147، ويقول تعالى:(وربك الغفور ذو الرحمة) الكهف 58. وهناك أمثلة كثيرة تعبر عن الرحمة الإلهية للإنسان. إنّ هذه الرحمة هي طابع الرسالة الإسلامية في جميع مجالاتها ومواقفها الحياتية، ليس في الإسلام تعسف ولا تعنت ولا كبت ولا إكراه ولا اضطهاد، بل الإسلام دين الرحمة واليسر والسماحة والعطف والمحبة.
     ورحمة الرسالة الإسلامية تشمل ذوي العاهات والإعاقات، والأرامل والأيتام فإنّ الرحمة تتأكد في حقهم، فهم يعيشون في الحياة بوسائل منقوصة تعوق مسيرتهم، وتحول دون تحقيق مقاصدهم، ولذا فقد تضيق صدورهم، وتتحرج نفوسهم، فلقد قيدتهم عللهم، واجتمع عليهم حر الداء مع مرِّ الدواء، فيجب الترفق بهم، والحذر من الإساءة إليهم، أو الاستهانة بمتطلباتهم، فإنّ القسوة معهم جرمٌ عظيم، يقول الله تعالى:(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) النور61. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وأحسبه قال:كالْقَائِمِ لا يفتر، وكالصَّائِمِ لا يفطر."[7]


 موقع الإسلام على الطريق[1]
 العولمة من منظور إسلامي ص 73: محسن عبد الحميد[2]
 ن.م ص 75[3]
 خصائص التصور الإسلامي: سيد قطب[4]
 رواه الإمام أحمد في مسنده و الإمام الترمذي باب ما جاء في الرحمة[5]
 رواه الحاكم في المستدرك[6]
 [7]