الأحد، 4 ديسمبر 2011

زمان الإسلاميين..وأولويات ما بعد الفوز



ترتسم ملامح مشهد جديد في الوطن العربي يبدو فيه أن الإسلاميين يتقدمون بكل سهولة ليحتلوا مقاعد الصدارة وليمسكوا بزمام الأمور..
يمكن أن يقال إن زمان الإسلاميين بدأ قبل خمسة أعوام في فلسطين حين فاجأت حركة حماس العالم باكتساح الغالبية الساحقة من مقاعد المجلس التشريعي..ولأن كلاً من الغرب وإسرائيل وأنظمة الحكم الجبري تدرك خطورة نجاح نموذج الإسلاميين في الحكم فقد عملوا بكل ما أوتوا من وسيلة لإجهاض هذه التجربة الوليدة فتكالبت كل هذه الأطراف على تشديد الحصار على قطاع غزة في محاولة لإفشال خيار الإسلاميين ليس في فلسطين وحدها بل في الوطن العربي..لكن هذه المحاولات الحثيثة باءت بفشل ذريع ووقع ما كانوا يحذرون، فلم تنجح هذه المحاولات في فض الجماهير العربية التواقة إلى التغيير من حول الحركات الإسلامية، بل جاءت النتيجة معكوسةً فارتفعت شعبية حركة حماس في الشعوب العربية وصار ينظر إليها بأنها نموذج التضحية والصبر والثبات..
بعد خمسة أعوام من هذا الفوز اتسعت غزة لتشمل الوطن العربي كله، فأظهرت نتائج الانتخابات تقدماً واضحاً للإسلاميين في مصر وتونس والمغرب، وإن كانت الانتخابات المغربية دون المأمول لأنها تمت تحت سقف الاستبداد السياسي لكنها على كل حال كشفت طبيعة توجهات الشعوب العربية..
في ليبيا أيضاً يتضح نفوذ الإسلاميين في المجلس الانتقالي، وحتى في الدول التي لم تصل إليها رياح الثورة أدرك حكامها هذه الحقيقة فسارعوا إلى التصالح مع الإسلاميين في محاولة منهم لتسكين الغضب الشعبي كما يجري في الأردن من تقارب بين النظام وبين الإسلاميين سواءً كانوا إسلاميي الداخل الممثلين في الإخوان المسلمين أو إسلاميي الخارج الممثلين بحركة حماس..
كل هذه الوقائع والمؤشرات تدلل على أننا نطرق أبواب مرحلة سياسية جديدة يتحول فيها الإسلاميون من مرحلة الاستضعاف التي عاشوها منذ ثمانين عاماً وذاقوا فيها شتى صنوف التعذيب من قتل وإبعاد وسجن إلى مرحلة التمكين في الأرض التي كانوا ينتظرونها طوال هذه العقود والتي يتحقق فيها الوعد الإلهي القائل: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين"..
لكن ما ينبغي التنبه إليه هو أن وصول الإسلاميين ليس هو أهم ما في الأمر، بل العبرة هي فيما بعد ذلك، والسلطة لا تزيد عن كونها ابتلاءً جديداً يضاف إلى قائمة الابتلاءات الطويلة التي تعرض لها الإسلاميون طوال تاريخهم، بل إن هذا الابتلاء وهو الذي يسميه القرآن ابتلاءً بالخير هو أخطر من ابتلاءات مرحلة الاستضعاف التي تسمى ابتلاءً بالشر، لأن السجن والقتل والإبعاد يذكر الإنسان بربه ويستفز مخزونه الإيماني بينما حين يبتلى الإنسان بأن تفتح الدنيا عليه فقد ينسي ربه ويتهدد إيمانه بالضياع، وحين كان قوم موسى يستعجلون الانتقال من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة التمكين كان موسى عليه السلام يرد عليهم رداً حكيماً فيقول: "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون"..فالعبرة ليست بالوصول إلى السلطة، بل ماذا سيعمل الإنسان بعد وصوله إلى السلطة..
هناك أولويات تنتظر الإسلاميين في مرحلة ما بعد السلطة..لعل على رأس هذه الأولويات العمل على ترسيخ أسس الحياة الديمقراطية، واجتثاث الجذور الاجتماعية والثقافية والسياسية التي أنتجت النظم الاستبدادية..
هذه الأولوية الوطنية مقدمة على تطبيق رؤى الإسلاميين الخاصة المنبثقة من المبادئ الإسلامية، وكل الأهداف الأخرى التي تنطلق من فلسفة الأحزاب الإسلامية الخاصة يمكن تأجيلها إلى مراحل لاحقة، لكن هدف تعزيز الديمقراطية في المجتمع تحديداً هو هدف غير قابل للتأجيل، وما لم ينجز هذا الهدف فإن مسيرة التحول الديمقراطي في الوطن العربي ستظل مهددةً بالانتكاس و الارتكاس..
الثورات لم تقم لإزالة طاغوت واستبدال طاغوت آخر به، بل لاجتثاث الطغيان من جذوره لذلك لا بد من معالجة الأسباب الثقافية والاجتماعية والسياسية العميقة التي أنتجت الاستبداد في وطننا العربي، وإذا كانت الأنظمة السابقة قد تحولت إلى أنظمة استبدادية في ظل استفرادها المطلق بالسلطة وغياب المحاسبة والمراقبة، فإنه لا بد لأي نظام سياسي قادم أن يقوم على مبدأ الشراكة السياسية الحقيقية، وتوزيع السلطات وتعزيز الرقابة الإدارية والسياسية، وإشاعة ثقافة احترام الرأي الآخر، والشراكة بين الجمهور..لأن أي حزب مهما كانت روعة مبادئه وأفكاره فإنه لا يزيد في نهاية المطاف عن كونه جهداً بشرياً يعتريه الخطأ والقصور، ولا بد أن تستكمل جهوده بالأحزاب والقوى الأخرى التي تنظر من زاوية أخرى فترى أشياء جديدةً لا يراها هذا الحزب أو الجماعة، ولا يحق لأي حزب كائناً من كان أن يسعى إلى قولبة المجتمع كله في قالبه الحزبي، بل يحترم تعدد الآراء والاجتهادات دون تخوين أو تشكيك..
حين ينشأ جو ديمقراطي صحيح قوامه الحريات والتعدد، والتداول السلمي للسلطة، وتعزيز الرقابة والمحاسبة، ونشر الوعي السياسي في الشعب فإنه لا يضير حينها أن يفوز الإسلاميون أو العلمانيون، لأن أي جهة فائزة ستكون تحت دائرة الضوء ولن تستطيع أن تخرج عن الخط الوطني العام، وستصنع ألف حساب في كل خطوة تخطوها لرأي الشعب، أما حين يغيب هذا الجو الديمقراطي فإن فوز الإسلاميين أو غيرهم لن يكون ذا قيمة كبيرة لأنه لن يزيد عن كونه استبدال استفراد باستفراد، والاستفراد هو طريق الاستبداد والفساد..

الأولوية الثانية التي تنتظر الإسلاميين على رأس الحكم هي العمل على تعزيز الاستقلال والاعتماد على الذات، وإنهاء حالة الارتهان الاقتصادي والسياسي للغرب، فمن المعيب بحق دولة كبرى كمصر مثلاً أن تظل مرتهنةً لما يسمى بالمساعدة الأمريكية السنوية، وأن تستخدم هذه المساعدة التي هي ليست مساعدةً في الحقيقة لابتزاز المواقف السياسية، مع أن مصر تمتلك من الإمكانيات المادية والبشرية ما تستطيع أن تحقق به اكتفاءً ذاتياً، وأن تكون يدها هي اليد العليا وليست اليد السفلى، والتحرر الاقتصادي ضروري للتحرر السياسي ولاستعادة المكانة الإقليمية والدولية، لذلك فإن من الأولويات الملحة في المرحلة القادمة هي العمل على إشاعة ثقافة الإنتاج، وأن نأكل مما عملت أيدينا، وليس مما يلقى إلينا من فتات..
نعلم أنها مهمة ليست يسيرةً فهناك الكثير من العقبات، والغرب الاستعماري الخبيث يدرك جيداً خطورة تحرر العرب اقتصادياً وسياسياً على مستقبل هيمنته على العالم، وقد عمل طوال المرحلة السابقة على تعميق حالة الاعتماد عليه في كافة مناحي الحياة الثقافية والاقتصادية والإعلامية والسياسية، لكنها مهمة ليست مستحيلةً أيضاً، وهي جهاد الساعة الذي ينبغي أن تتضافر كل الجهود من أجل إنجازه..

كذلك فإن من الأولويات التي ينبغي أن يعمل الإسلاميون عليها هي تعزيز حضور الهوية الإسلامية والعربية في المجتمعات في مجالات الإعلام والثقافة ومناهج التعليم، وعلى مكافحة مظاهر التغريب والسفور والانحلال الأخلاقي،
 وليس من الحرية في شيء أن يطلق العنان للترويج للرذيلة والفساد والانحلال، فالحرية التي ندعو إليها ونطالب بالعمل على تعزيزها في المرحلة القادمة هي الحرية الفكرية والسياسية والعقائدية، وليست حرية الإباحية والفساد الأخلاقي..
 والجماهير عطشى لكل ما يذكرها بتاريخها وقيمها الإسلامية، وما ينبغي أن تصل حالة التماهي ومحاولة استرضاء الآخرين من قبل فريق من الإسلاميين أن يخلعوا ثوبهم ويميعوا مبادئهم لإظهار أنفسهم بأنهم عصريون، فالجماهير تحترم من يعتز بهويته أكثر ممن يتخلى عن هذه الهوية، وهنا أقتبس كلمةً لرجل من خارج صفوف الإسلاميين وهو الدكتور عبد الله الأشعل الذي قال: "يجب على النظم الإسلامية أن تحترم هويتها وألا تصلَ مرونتها إلى حد الخروج من ذاتها؛ لأن الشعوب سوف تختار هذه القوى الإسلامية بناءً على فكرها المستنير وعلى ضمان استقلال بلادها وتحقيق العدالة فيها، وتلك هي المعضلة التي يواجهها الغرب".
هذه الأولويات هي أمثلة لما ينبغي أن تكون عليه طبيعة توجه الإسلاميين بعد إمساكهم للسلطة، وهي أولويات أظن أنها مقدمة على ما يسارع لطرحه الشباب المتحمس من الدعوة إلى فرض المظاهر الإسلامية، أو إعلان إسلامية الدولة، فمعالجة الجذور والأسباب أهم من معالجة المظاهر، والعبرة ليست بالشعارات بل هي بالعمل المتدرج الواعي..
والله الهادي إلى سواء السبيل..     
الأستاذ: أحمد أبو رتيمة