الأربعاء، 4 يناير 2012

المصطلحات القرآنية في إطار إنساني


القرآن له أسلوبه الخاص ومصطلحاته المتميزة، ومن أجل فهم صحيح للقرآن لا بد من فك شفرة هذه المصطلحات والتدقيق في المفاهيم التي تحملها حتى لا يساء إلى القرآن ويقدم وكأنه كتاب طائفي أو مذهبي أو قومي..
القرآن بطبيعته عالمي الطرح، يظهر هذا منذ الآية الأولى فيه "الحمد لله رب العالمين"..فالله حسب التصور القرآني ليس رب المسلمين وحدهم بل هو رب العالمين..وفي ضوء هذه الحقيقة فإن القضايا التي يعالجها القرآن هي قضايا إنسانية تهم الناس في مجموعهم، والمشكلات التي يطرحها القرآن قد تصيب أي إنسان من حيث كونه إنساناً بغض النظر عن جنسه أو قومه أو لونه، وحتى عن دينه الذي ورثه عن أبويه..
ربما يكون من أكثر المصطلحات القرآنية إثارةً للجدل في هذا العصر هو مصطلح الكفر الذي يأتي في مقابل الإيمان في مئات أو آلاف المواضع..فهل تصنيف الناس إلى مؤمن وكافر هو دليل طائفية وعنصرية وانغلاق على الذات، وهل لا يزال مثل هذا المصطلح مناسباً للاستعمال في عصر تتراجع فيه الأيديوجيات ويعلو فيه صوت المشترك الإنساني..
كيف لنا أن نقدم للعالم خطاباً إنسانياً معاصراً في الوقت الذي يقيدنا فيه القرآن بتصنيف كافر-مؤمن، وكيف نتعايش مع الشعوب والأمم بينما ننظر إليهم في قرارة أنفسهم بأنهم ضالون عن الصراط المستقيم..
هل المطلوب أن نتجرد من ذواتنا حتى نستطيع العيش في القرن الواحد والعشرين، أم أن المطلوب من المسلم خطاب مزدوج يحدث فيه العالم بلغة معاصرة حول العدل والحرية وحقوق الإنسان والمساواة، بينما يبطن في داخله ما يخالف هذه اللغة من اعتقاد بكفر الآخرين..
إن كثيرين يجدون في صدورهم حرجاً من الخطاب الديني في عصر الحضارة والتمدن، فتدفعهم حساسية المصطلحات القرآنية إلى التفريق بين نوعين من الخطاب هما الخطاب الديني والخطاب المدني، وجعلهما متناقضين فمن أراد أن يدخل العصر ويتواصل مع الناس فإن شرط ذلك أن ينبذ الخطاب الديني ويعتمد خطاباً مدنياً علمانياً..فهل الخطابان الديني الذي يصوغه القرآن، والمدني الذي يتحدث به العالم هما خطابان متناقضان لا سبيل للتوفيق بينهما، أم أن المشكلة هي في سوء فهمنا وتوظيفنا للمصطلحات القرآنية وإخراجها من إطارها الإنساني إلى إطار متعصب ضيق ؟
سنتناول مصطلح "كافر" في القرآن الكريم والسياق الذي يأتي فيه لنرى إن كانت المشكلة في المصطلح ذاته وعدم ملائمته لهذا الزمان، أم أن المشكلة هي في الركام الثقافي الذي أخفى الدلالة الأصلية للمعاني القرآنية..
بتأمل السياق القرآني الذي يتحدث عن صفة الكفر والكافرين نجد أنه يتناولها كمشكلة إنسانية يمكن أن يقع فيها أي واحد من البشر، فلا توجد قوالب جاهزة وأحكام تعميمية مسبقة بأن هذه الأمة أو هذا الشعب بأكمله كافر، فقضية الكفر والإيمان هي قضية فردية عائدة على كل إنسان حسب جهده الذاتي، وليست صفات متوارثةً بالجينات، فإذا صدف أن ولد إنسان في بلد مسلم فقد أهديت إليه هدية من السماء بأنه سيدخل الجنة وعليه بعد ذلك أن يأكل ويشرب وينام هادئاً مطمئناً دون بذل أي جهد، وإذا ولد شخص آخر في بلد غير مسلم كان مصيره الحتمي إلى النار و بئس المصير..
يلفت النظر في الأسلوب القرآني أن الحديث عن الكفر يأتي غالباً بصيغة الفعل وليس بصيغة الاسم، فالتعبير القرآني غالباً هو "الذين كفروا"، وليس "الكافرون"، والفعل يفيد الحركة على عكس الاسم الذي يفيد الثبات والالتصاق..أي أن الذين كفروا قد استحقوا هذه الصفة بأفعالهم الخاصة واختياراتهم الخالصة، ولم تكن صفةً قد ألصقت بهم، أو حكماً عاماً قد وصموا به، كما يحدث في تصنيفاتنا نحن البشر حين نصدر أحكاماً مسبقةً وعامةً على أحد الشعوب أو الأمم أو المذاهب..
حركية الكفر تعني أن كل إنسان يملك أن يقترب أو يبتعد منه بجهده الخاص، كما أنها تعزز اختيار الإنسان وتخرجه من حالة الجبرية والارتهان لقيود الثقافة والمجتمع، ففي أي موقف يمكن لأي إنسان أن يفعل فعلاً من أفعال الكفر أياً كانت بيئة هذا الإنسان وقوميته ودينه..
نفس الملاحظة نجدها في الاستعمال القرآني لكلمة مسلم، فهو يختلف كثيراً عن استعمالنا البشري لها، فبينما نستعمل كلمة مسلم كاسم علم يطلق على من ولد من أبوين مسلمين، وقام بالطقوس الإسلامية، فإن القرآن يستعملها استعمالاً حركياً بصيغة الفعل "بلى من أسلم وجهه لله"، وحين ينفي القرآن عن إبراهيم عليه السلام صفة اليهودية أو النصرانية ويثبت عليه صفة الإسلام فإنه لا يخرجه من دائرة ثقافية ليدخله في أخرى بل إنه يقصد تحرر إبراهيم من كل القوالب الأيديولوجية وإتباعه للحقيقة المجردة "ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً"، فهو لم يكن إسلاماً بمعنى انتمائه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل بالدلالة اللغوية لفعل أسلم، والإسلام بلغة القرآن هو التسليم والامتثال للأمر الإلهي، أي أن الوصول إلى حالة الإسلام وإلى وصف المسلم هو بحاجة إلى جهد ذاتي خاص من قبل كل إنسان، ولا يكفي أن يولد الإنسان في بيئة من المسلمين فيأخذ هذا اللقب دون جهد منه، ويطلق العنان بعد ذلك لنفسه لتفعل ما يحلو لها..
لكن من هو الكافر في القرآن؟؟
بتتبع الآيات القرآنية التي تتحدث عن "الذين كفروا" ترتسم في أذهاننا صورة شخصية نموذجية تنطبق عليها هذه الصفة، فهناك أفعال محددة من يقوم بها فإنه يتصف بصفة من صفات الكفر، وهي صفة كمية وليست حديةً، فبمقدار ما يزداد الإنسان منها بمقدار ما تزداد كفريته إلى أن يصل إلى الحالة النموذجية لشخصية الكافر، وهذه الأفعال كما أسلفنا يمكن أن يقوم بها أي إنسان فهي ليست محصورةً بتصنيفات أيديولوجية أو مذهبية أو طائفية.. 
الذين كفروا في القرآن هم الذين ينكرون الحقائق بعد ظهور الأدلة الواضحة عليها "الآيات البينات"، وكلمة كافر في اللغة تعني التغطية لأن الكافر يغطي الحقيقة بكبره وعناده وتكذيبه، والذين كفروا هم الذين يعطلون استعمال عقولهم وسمعهم وأبصارهم فلا يستفيدون منها: "لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم آذان لا يسمعون بها"، والذين كفروا هم الذين يمارسون الإرهاب الفكري ضد من يذكرهم بالحق ويمارسون العنف لتعويض ضعفهم الفكري،  "وإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا"، والذين كفروا هم الذين يمارسون الفوضى والغوغائية لخلط الأوراق وتغييب الحقائق وإخفاء ضعف حجتهم: "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون"، والذين كفروا هم الذين يناقشون الأشخاص بدل مناقشة الأفكار "لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"، "أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا"، والذين كفروا هم الذين يستكبرون في الأرض ويستعلون على الناس "وَجَحَدُوا بِهَا وَ اسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا"، والذين كفروا هم الذين يتصفون بالعقلية التبريرية: "وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ"..
وهكذا يتضح لنا أن الكفر هو مجموعة من الصفات الذميمة التي يرفضها الإنسان بفطرته السليمة، وليس حكماً فئوياً يطلقه المسلمون على الأمم الأخرى، الكفر ليس قناعةً عقليةً بل هو الجانب اللاعقلاني أو النزعة الانتحارية في الإنسان لأن الكافر هو الذي يطمس عقله فيقوم بأفعال تنتهي بالإضرار بنفسه: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم"..ويوم القيامة تنجلي الحقائق فيكتشف الذين كفروا حالة اللاعقلانية التي كانوا يعيشون بها "وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير"، ولو تأملنا كل الصفات التي يرسمها القرآن لشخصية "الذين كفروا" فإننا نجدها صفات انفعاليةً وليس صفات عقلانيةً مثل "بل قلوبهم في غمرة من هذا"، "ويلههم الأمل"، "في سكرتهم يعمهون"، "كل حزب بما لديهم فرحون"، "مودة بينكم في الحياة الدنيا"، وكل هذه الصفات هي تدل على الجانب الانفعالي في الإنسان، ولا يوجد موضع واحد أطلقت فيه صفة كافر على إنسان أعمل عقله وفكره..
قضية الكفر لا يمكن أن تكون نتيجةً لإعمال الفكر، ولا يمكن أن نواجه حركة الفكر بالتكفير، وإنما الكافر هو الذي يقوم بتصرفات غير عقلانية غير أخلاقية تأباها الفطرة الإنسانية السليمة، وبهذه النظرة فإن في صفوف المسلمين أنفسهم من ينطبق عليه وصف شخصية الكافر، وليس بالضرورة أن يكون الكافر هو غير المسلم، بل هو كل من تتوافق أفعاله مع النموذج الذي رسمه القرآن ل"الذين كفروا"...
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يفهم الكفر بهذا المعنى العام، وليس بالمعنى المتعصب الضيق الذي يجعلها حكراً على غير المسلمين، فكان يخشى على نفسه بأن يصيبه شيء من هذه الصفة فيستعيذ بالله كل صباح ومساء من الكفر والفقر وعذاب القبر..
بهذا التوضيح لا يكون في صدورنا حرج مما أنزل إلينا، ولا نكون مضطرين لأن نتخلى عن ديننا حتى نستطيع مخاطبة البشر، فالبشرية بكل أيديولوجياتها ومذاهبها تذم التكذيب بالحق، والإرهاب الفكري، واللجوء للطرق الغوغائية، والاستكبار في الأرض، وغير ذلك مما تعنيه كلمة الكفر، فكل ما تقره الفطرة الإنسانية السليمة فإن القرآن يدعو إليه، وكل ما تأباه هذه الفطرة فإن القرآن يذمه وينهى عنه..
والله أعلى وأعلم..
منقول عن الأستاذ: أحمد أبو رتيمة