الأحد، 26 أبريل 2015

هل نحن بحاجة لابن رشد؟

تفاعلا مع ما كتبته عن ابن رشد في مقالاتي السابقة تلقيت على بريدي الإلكتروني هذه الدراسة من الصديق إبراهيم بن عبد الله مشكور أنشرها كما جاءتني.


 مات ابن رشد، لم يمت ابن رشد. حرفان تنازعا تاريخ هذا العَلََمَ العربي المسلم. ولكل حرف قوم: 

-     فالذين رفعوا لواء موت ابن رشد شهد لهم بذلك أن الرجل حفر له قبر بمراكش زاره بضعة شهور قبل أن ينقل مع كتبه، بحضور الشيخ الأكبر، إلى قبر حفر له بقرطبة. كما شهد لهم بذلك أن الرجل تبعته لعنات غوغاء القرن الثاني عشر الميلادي، السادس الهجري، غوغاء لم يستطيعوا أن يدركوا وجود رجل بينهم يشهد معهم بالوحدانية ويولي وجهه شطر المسجد الحرام عند كل أذان، مثلهم، وتأثل له في الدين مجد طارف وتليد، بلغ به عشق رجل من بلاد الإغريق مبلغا أنساه أن ينفق وقته في تدبيج كتب الفقه والكلام والتفسير والتصوف، كما اعتاد على ذلك كبار العلماء، وأمضى حياته في تتبع إشكالات فيلسوف أعجمي من بلاد وثنية، يلخص كتبه ويشرحها على غرار ما شرح المفسرون القرآن الكريم. فجدير برجل مثل هذا أن يموت موتا رمزيا كما مات الموت البيولوجي المحتوم. ولقد عمل خصومه الذين تنادوا بموته أن يقتلوه في حياته قتلة شنيعة عندما أخرجوه من المسجد وابنه محمد ورشقوهما بالحجارة وأشبعوهما إذلالا قبل أن ينفوه إلى مدينة أندلسية عرفت بسكنى اليهود بعد أن أضرموا النار البريئة في ما خطت يراعه من نفيس الكتب وعظيم الآثار.
       والذين أعلنوا أن ابن رشد لم يمت، وأنه سيعود العودة الصغرى، استندوا على خلود العقل الذي نادى به ابن رشد في حياته. فالموت إنما يلحق الأجساد أما العقل فعصي على المنون. وابن رشد وإن كان لم يعش في المجتمع الإسلامي فيلسوفا فقد عاش بنظراته النقدية والشعرية مع المدرسة النقدية المغربية كما عاش فقيها بكتابه في الخلاف العالي الذي وإن لم يحظ بفائق العناية لغلبة التقليد على العقول فقد حظي بجميل الذكر والثناء. لكن ابن رشد سيعيش فيلسوفا في الفضاء العبري واللاتيني. إذا كان ابن رشد قد مات فيلسوفا عند المسلمين، فقد ظل شاخصا في الحلقات العلمية اليهودية وفي حلقات الدرس اللاتيني، يخاطب ويجادل ويحاور، عاش يملأ دنيا الأوروبيين ويشغل عندهم الناس. ماتت كتب دبجها يراع ابن رشد في فضاء المسلمين وعاشت بأقلام اليهود واللاتين، فلو لم تحفظ لنا اللغة العبرية كتاب جوامع سياسة أفلاطون وكتاب تلخيص كتاب الأخلاق لابن رشد لطوى النسيان جانبا طريفا من جوانب فكر أبي الوليد. بل إننا إلى الآن لا نعرف جوانب ذات خطر في المنظومة الفلسفية لفيلسوفنا إلا من خلال حياته الطويلة عند اللاتين. لكن هل نحن المسلمين لازلنا في حاجة لابن رشد؟
   أقام مجتمع علمي في أواخر القرن العشرين ندوة علمية كبرى حول أرسطو جعلوا لها عنوان لنفكر مع أرسطوpenser avec Aristote فهؤلاء القوم، لتواضعهم وشدة يقظة ذاكرتهم العلمية وحسهم الإنساني العميق بالقرابة بالجد الأكبر، لم يجدوا بأسا في أن يجلسوا للمعلم الأول يفكرون معه في قضايا عصرهم علهم يجدون عنده ما يهديهم في خضم العصر المتلاطم الأمواج. إنهم لا ينطلقون من أرسطو، إنهم ينطلقون من عصرهم ويصيخون السمع إلى ما قد يقوله أرسطو مما قد يفيد. لا يجدون غضاضة في أن يستشيروا قدامى مفكريهم ويطرحوا عليهم أسئلة العصر ويستأنسوا بفرضيات إجابات ممكنة. ترى لو نظمنا بدورنا ندوة علمية كبرى حول موضوع "لنفكر مع ابن رشد" وطرحنا على ابن رشد كثير من إشكالاتنا الفكرية المعاصرة وأصخنا السمع إلى ما قد يقدمه من فرضيات إجابات، ألن يساعدنا ذلك على تبين بعض معالم في الطريق. بالتأكيد نعم. فابن رشد لم يمت. لقد استوعب خلاصات الفكر الإنساني السابق عليه سواء كان إغريقيا أو إسلاميا وعمل فيه بالتفكير من خلال الإشكالات التي كان يطرحها عليه الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي لعصره واستطاع أن يصل إلى نظرات نفاذة تخترق حواجز الأزمان وتتعالى عن ظروف المكان والزمان، شأن كل فكر إنساني أصيل. فلابن رشد نظرات عميقة حول منزلة الفلسفة في المجتمع الإسلامي، وله نظرات نفاذة في التجديد الفقهي، وأقوال عميقة في القول الكلامي وخطره على المدينة. وله آراء في التربية الفكرية والجمالية تتميز بجرأة استثنائية، وله موقف حكيم ومتزن من التصوف في المجتمع الإسلامي. وأكبر مواقف ابن رشد جرأة موقفه من العقل.
    إن الحياة الفلسفية أوسع حياة عند ابن رشد ، وما يؤكد ذلك ما يراه فيلسوفنا من أن الفيلسوف أكمل، وأفضل أصناف الناس عنده هم الفلاسفة، أما أفضل أنواع المدن فهي المدن التي تدبرها الحكمة. فضلا عن ذلك، فالفلسفة توجد في المدينة من جهة الأفضل وما كان من جهة الأفضل فهو أفضل مما هو من جهة الضرورة. إن الفلسفة، كحكمة إنسانية لا تدانيها منزلة صناعة أخرى عند ابن رشد.. 
   إن المشروع العلمي عند ابن رشد هو مباحث في العقل، سواء اتخذ مجاله الفلسفة أو السمع، كان فقها أصغر أو أكبر، فوحدة الاشتغال الرشدي يتأسس على فهم خاص للعقل يعرضه في كتبه التي أنشأها ابتداء. فالعقل هو إدراك الموجودات بأسبابها، وهذا العقل حاضر في قلب الفلسفة ولكنه حاضر أيضا، وبقوة، في قلب معارف أخرى كالفقه والكلام، والتصوف عنده شرط الممارسة العقلية الصحيحة.
    إن أهم موقف يعكس التقدم النظري عند ابن رشد هو الموقف الذي يرى أن المعرفة البيانية الإسلامية لا يحتاج في معرفتها سوى لقدر قليل من المعارف كافيةٍ في الحياة السعيدة لـ"المسلم بالحقيقة"، وهو ما لا يسع المسلم جهله من المعرفة الفقهية وأدواتها الضرورية، وهو ما قدمه في كتبه البيانية والتي لا تتجاوز ثلاثة إلى أربعة كتب ؛ أما المعرفة الفلسفية فهي المعرفة الحقيق بأن يشغل الإنسان بها عمره، ومن هنا فالفلسفة أفضل. وهو
 الموقف الذي لم يفهمه عصر ابن رشد ولعلنا أن نكون نحن اليوم أقرب إلى فهم هذا الموقف الجريئ من مواقف ابن رشد العلمية فلا نضيع طارفا ولا نغمط حق تالد.
***
     وأخيرا، إن النهضة الفلسفية العربية بدأت بابتعاث ابن رشد من مرقده العربي مع الجدل الشهير بين فرح انطون ومحمد عبده، ثم أصبح ابن رشد حجر الزاوية الكبرى في أعمال مفكرين كبار مثل محمود قاسم الذي أبرز القيمة العلمية لابن رشد في الجانب الكلامي على الخصوص ود محمد عابد الجابري الذي اتخذه سلاحا ايديلوجيا في وجه اللاعقلانية العربية وعاطف العراقي الذي سار على خطاه، والرشديين المغربيين المرحوم جمال الدين العلوي ود. محمد المصباحي اللذان نقلا الدراسات الرشدية في المغرب نقلة نوعية فتطرقا لقضايا جديدة في التحقيب الكرونولوجي وفتحا الباب على مصراعيه بتناول موضوعات لم تكن مألوفة في الحقل الرشدي المغربي عموما.
     إن الغرض من هذا القول التأكيد على أن ابن رشد لم يمت، فذكره المتجدد هو عمره الثاني الذي يعيشه بيننا. وبيان أن القول في ابن رشد لم تنقض عجائبه وأنه كلما زدته فهما زادك درسا، وهي دروس نحتاجها في مدارسنا وجامعاتنا إذا كنا ننشد فعلا تحصين ناشئتنا من الأقوال العامية التي تفعل في مجتمعاتنا ما تفعله النار في الهشيم.

الأحد، 12 أبريل 2015

موقف ابن رشد من مسألة البعث



في تحديد مسألة البعث ينطلق ابن رشد من فهمه للنفس طبقا للتصور الذي كان سائدا لدى جلّ الفلاسفة المسلمين وقد أثر ذلك على تصوره لحالة طبيعة البعث و الصفة التي يكون عليها. حيث أنكر حشر الأجساد في الآخرة والاكتفاء بالبعث الروحاني فقط.
     فلم يتبن فكرة البعث الجسماني التي قال بها بعض المتكلمين والفلاسفة و ذلك لاعتقاده بقدم المادة حيث يتفق أبن رشد مع الغزالي في الردّ على الذين ينكرون خلود النفس. إلا أنه في المقابل  ينفي عن الفلاسفة إنكارهم لمسألة  حشر الأجساد. وإذا ما وجد لواحد منهم هذا الأمر ففيه نظر يقوم على فكرة تتمثل أساسا أن أجسام الموتى تستحيل إلى تراب ونبات وأناس آخرين، و بالتالي فإن المادة الواحدة بعينها توجد في أكثر من شخص في أوقات مختلفة. ومثل هذه الأجسام ليس ممكنا أن توجد كلها بالفعل لأن مادتها هي واحدة. فالأجسام التي تعود في مثل الأجسام التي كانت في هذه الدار، لا بعينها، لأن المعدوم لا يعود بالشخص، وإنما يعود الموجود لمثل ما عدم لا لعين ما عدم. ذلك أن ما عدم، عدم ثم وجد فإنه واحد بالنوع، لا واحد بالعدد بل اثنان بالعدد. مع الإشارة أنّ قضية عودة الأجسام بعينها ليست من أصل الشرع ليكّفر من لا يعتقد بها، و قد اعترف ابن رشد بهذا صراحة فقال: "وذلك  أنه يظهر أن مواد الأجسام التي هاهنا توجد متعاقبة،  ومتنقلة من جسم إلى جسم.  مثال ذلك أن إنسانا مات واستحال جسمه إلى التراب ثم إلى نبات فاغتذى إنسان آخر من ذلك النبات، فكان منه مني تولد منه إنسان آخر.."[1]. والغزالي نفسه جوّز عودتها من مادّتها الأولى أو غيرها. ولتوضيح ذلك أضرب مثلا – ولله المثل الأعلى – إذا كان شخص يصنع تماثيل من مادة محددة ولتكن طين صلصال مثلا، وهذه المادة التي عنده تكفي لصنع عشر تماثيل؛ فبديهي أنه لا يستطيع صناعة تماثيل أخرى إلا إذا هدم التماثيل الأولى وأعاد  تشكيل مادتها من جديد بأشكال وأحجام مختلفة. ومعروف أن الكائنات لا تظهر في الوجود دفعة واحدة: فالناس تموت وتتحلل أجسادهم، وتصبح جزءا من التربة التي تنبت النبات الذي يتغذى عليه الحيوان والإنسان، فكأن الناس يتغذى بعضهم على بعض، و يتولد بعضهم من بعض فإذا كانت المادة أزلية غير مخلوقة فإنه يستحيل بعث جميع الأجساد من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة دفعة واحدة، ومن ثم أنكر هؤلاء المشاؤون المعاد الجسماني. 
     إن النفس عند أرسطو هي صورة الجسم، وهذا معناه أنها تفنى بفناء البدن، لكن ابن رشد تبنى تفسير ثامسطيوس قائلا: "إن أرسطو ينص على أن العقل الهيولاني[2] أزلي"[3] ولعله أراد بالعقل الهيولاني الأزلي العقل في النوع الإنساني الذي يبقى أو لعله أراد الأخذ بالتقية وإخفاء فكرته الحقيقية في زوال العقل والنفس معا على تفسيرات أخرى لمذهب أرسطو. وهذا التصور لا يخرج حقيقة عن تعريف أرسطو للنفس حتى أن الفلاسفة المسلمين إذ عرفوها بأنها " كمال أول لجسم آلي ذي حياة بالقوة  أو هي  تمامية جرم طبيعي ذي آلة قابل للحياة  كما عند الكندي والفارابي."
        ويعرفها ابن سينا بحسب أقسامها فيقول " والنفس كجنس واحد ينقسم بضرب من القسمة إلى ثلاثة أقسام:
Ø    أحدها النباتية: وهي كمال أول لجسم طبيعي من جهة ما يتولد و يربو ويتغذى.
Ø    الثاني النفس الحيوانية: و هي كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة.
Ø    الثالث  النفس الإنسانية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلى من جهة ما يفعل الأفعال الكائنة بالاختيار الفكري و الاستنباط بالرأي و من جهة ما يدرك الأمور بالكلية.
     والذي يهمنا في بحث المعرفة هنا هو النفس الإنسانية أو العاقلة التي هي عندهم جوهر الإنسان. وهذه النفس الإنسانية تحدث حسب – نظرية الفيض – من خلال فيضها عن العقال الفعّال، الذي هو الملك المشرف على حركة فلك القمر، والذي يطلقون عليه واهب الصور.                   
      وحدوث النفس وتعريفها على طريقة الفيض له الأثر البالغ على تفسير نظرية المعرفة ذلك أنه إذا كانت النفس الناطقة هي جوهر الإنسان على التحقيق، فالمعرفة الحقة هي سبيل الصعود إلى العالم العلوي، هذا على مبدأ أفلاطون.
      أما ابن رشد فيعترف بصعوبة تعريف النفس وبيان حقيقتها، ومع ذلك يعرفها بأنها ذات وليست بجسم، حية عالمة قادرة مريدة بصيرة متكلمة، وبأنها الجوهر الذي هو الصورة. ينقسم الكلام عن النفس عنده إلى ثلاثة أقسام يتعلق أولها بعدم جواز فناء النفس أو بخلودها، ويرتبط ثانيها بالعلاقة بين الوحدة والكثرة، بينما ينصب ثالثهـا على تصوره للمعاد الجسماني أو الإنساني بعد الموت.
   مسألة خلود النفس: 
     يعترف ابن رشد بأنّ مشكلة النفس من أعقد المشكلات الفلسفية على الحل، بسبب الإبهام الذي يكتنفها بقوله: "فالكلام في أمر النفس غامض جداً وإنما اختصّ الله تعالى به من الناس العلماء الراسخين في العلم، ولذلك قال سبحانه وتعالى مجيباً في هذه المسألة اليهود عندما سألوه، بأن هذا الطَّوْر من السؤال ليس هو من أطوارهـم في قوله سبحانه:" ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً"[4] وأما تشبيه الموت بالنوم ففيه استدلال ظاهر في بقاء النفس من قِبل أن النفس يبطل فعلها في النوم ببطلان آلتها، ولا تبطل هي، فيجب أن يكون حالها في الموت كحالها في النوم لأن حكم الأجزاء واحدٌ دليلٌ مشتركٌ للجميع لائق بالجمهور في اعتقاد الحق للعلماء على السبيل التي منها يوقف على بقاء النفس[5]. وذلك بـيّن من قوله سبحانه وتعالى: "الله يتوّفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"[6]
     يتضح من هذه النصوص الرشدية استحالة الفناء على النفوس البشرية، بعد مفارقتها للجسد مؤيداً في ذلك قول الفلاسفة الذي أورده الغزالي في كتاب تهافت الفلاسفة من أنّ " النفوس الإنسانية يستحيل عليها العدم بعد وجودها وأنها سرمدية، لا يُتَصوَّر فناؤها"[7]  ويورد ابن رشد حجج الفلاسفة على ذلك بقوله : " للفلاسفة على أن النفس يستحيل عليها العدم بعد الوجود دليلين أحدهما: أن النفس إن عُدِمت لم يخل عدمُها من ثلاثة أحوال إما أن تُعدم مع عدم البدن، وإما أن تُعدم من قبل ضدٍّ موجود لها أو أن تُعدم بقدرة القادر، وباطل أن تُعدم بعدم البدن، فإنها مفارقة للبدن، وباطل أن يكون لها ضد فأن الجوهر المفارق ليس له ضد، وباطل أن تتعلق قدرة القادر بالعدم على ما سلف"[8]
      ولتوضيح ذلك نقول: إنه يستحيل فناء النفس بفناء البدن إذ أن البدن ليس محلاً لها وإنما هو آلة تستعملها النفس بواسطة القوى التي في البدن، وفساد الآلة لا يوجب فساد مستعمل الآلة، هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى، إن للنفس فعلاً بغير مشاركة البدن، وفعلاً بمشاركته، أما الفعل الذي لها بمشاركة البدن ـ التخيل والإحساس والشهوات والغضب ـ فلا جرم يفسد بفساد البدن ويقوى بقوّته، وأما فعلها بغير مشاركة البدن، فهو فعل بالذات، وهو إدراك المعقولات المجردة عن المواد، ولا حاجة في كونها مدركـة للمعقولات إلى البدن ولم تفتقر في قوامها إلى البدن[9] فلا مَحَلَّ لها فيه، وهي بفعلها هذا لا تفسد بفساد البدن ومفارقتها له، فبقاؤها سرمدي بقاء العلة والمعلول،
     وأما القول بعدم النفس المفارقة بضدّ يطرأ عليها فهو قول باطل لأنها جوهر والجواهر لا ضد لها، وكل جوهر ليس في محل فلا يتصور عدمه بالضد،إذ لا ضد لما ليس في محل، فإن الأضداد هي المتعاقبة على محل واحد، وبالتالي لا ينعدم في العالم إلا الأعراض والصور المتعاقبة على الأشياء التي محلها المادة، والمادة جوهر لا ينعدم قط، فجميع الحواس تفسد بفساد البدن، والبدن نفسه ينعدم بفساده فيتحول إلى صور وأعراض جديدة محلها المادة نفسها، أمّا النفس العاقلة فهي جوهر لا محل له فلا تنعدم بالضد لعلة عدم وجود محل لها، وأما انعدامها بقدرة القادر فقول باطل، لأن القدرة تتعلق بوجود شيء بينما العدم ليس شيئاً حتى يتصوَّر وقوعه بالقدرة[10]، إذ لا وجود له على الإطلاق وبالتالي يستحيل فناؤها، إذاً القول بفناء النفس بعد الموت هو قول باطل حسب رأي الفلاسفة و(ابن رشد)، وعليه فالنفس الإنسانية العاقلة هي نفس خالدة باقية.
     من ناحية أخرى لم يتوسع (ابن رشد) في الدفاع عن حجج الفلاسفة حول موضوع النفس وبعث الأجساد، فيكتفي بتلخيص الأفكار التي يوردها (الغزّالي) في النفس ولا يسوق عباراته نفسها - أي عبارات الغزالي - جرياً على عادته، ولعلّه لم يفض في الحديث عن النفس لأن الحديث عنها معقد جداً، لذلك يتناولها بحذر شديد فيكتفي ويسوق بعض ما قيل عنها، كالقول: بأنها ذات غير جسمانية، ولا هي في جسم، حيةٌ، عاملةٌ، مريدةٌ، قادرةٌ، متكلمةٌ، سمعيةٌ، بصيرةٌ، وهو اعتقادٌ لدى المعتزلة أولاً و الأشعرية ثانياً، إلا أن الأشعرية دون المعتزلة اعتقدوا بأن هذه الذات هي الفاعلة لجميع الموجودات بلا وساطة… فهؤلاء وضعوا مبدأ الموجودات نفساً كليّة مفارقة للمادة من حيث لم يشعروا[11] لاعتقادهم بأن هذه الذّات الحيّة، العالمة، المريدة، السّميعة، البصيرة، القادرة، المتكلّمة، موجودة مع كل شيء وفي كل شيء أي متصلة به اتصال وجود[12] بمعنى أنها في علاقة مركّبة تجمع بينها وبين الأشياء الأمر الذي أوقعهم في بعض العثرات الناجمة عن هذا الفهم، منها أن تسليمهم بأن العلاقة التي تربط بين النفس والأشياء هي علاقة وجود لا انفصام فيها، يتعارض مع قولهم بأن مبدأ الموجودات نفساً كلّيّةً مفارقة للمادة، كذلك تصنيفهم للموجودات إلى موجودات حية وأخرى جامدة ثم إنكارهم للأفعال الصادرة عن الموجودات التي هي جمادات، وحصرها على الموجودات الحية، هو إنكار للأفعال الصادرة عن الأمور الطبيعية[13]  وتعارضٌ مع مبدئهم القائل بأن النفس موجودة مع كل شيء وفي كل شيء وبأنها حية عالمة قادرة مريدة ...[14]
      فيأخذ على الأشعرية قولهم (بوجود النفس مع كل شيء وفي كل شيء في علاقة مركبة) ومن ثم اعتبارهم لها ذاتاً فاعلةً لجميع الموجودات بلا واسطة، مع تقريرهم بأن النفس ذاتٌ غير جسمانية، وأنه ليس بين النفس وهذا الوجود فرق إلا أن النفس هي في جسم، وهذا الموجود هو نفس ليس في جسم، فإنه بالضرورة أن يكون ما كان بهذه الصفة مركّب من ذات وصفات، وكل مُركَّب فهو ضروري يحتاج إلى مُرَكِّب، مما ينـزع صفة الخلود عنه وفقاً لقول (ابن رشد) بأنّ: "المُكَوَّن ليس شيئاً غير المركَّب، فكما أن لكل مفعول فاعلاً، كذلك لكل مُركَّب مُركِّباً فاعلاً، لأن التركيب شرط في وجود المركَّب"[15]  وبالتالي يستحيل ما كان مركَّباً أن يكون علّة لوجوده، لذلك كانت (المعتزلة) أقرب إلى الصواب والمنطق من (الأشعرية) من وجهة نظره، بتقريرهم كون الشيء موجوداً، وواحداً، وأزلياً، وغير ذلك..، ومذهب الفلاسفة في المبدأ الأول، هو قريب من مذهب المعتزلة[16] كما يقول ابن رشد نفسه. إن قول (ابن رشد) بخلود النفس وبقائها ليس معزولاً عن آرائه الفلسفية في الله والعالم، وعن إنكاره لوجود العدم المحض، وتسليمه بوجود الله والعالم وجودا أزلياأبدياً، وأنّ النفس العاقلة هي نفس خالدة لا تفسد كونها صادرة عن العقل الهيولاني الذي لا يفسد أبداً، والذي تصدر عنه نفوس أفراد النوع الإنساني التي وإن تعددت بتعدد أفراد النوع الإنساني، إلا أنها تبقى واحدة من حيث الجنس المشتقة منه كما سيظهر من خلال تناول موضوع النفس في علاقتها بالوحدة و الكثرة.
   النفس بين الوحدة و الكثرة:
     يعتقد (ابن رشد) بأن النفس الإنسانية واحدة بالصورة مصدرها الهيولى، وأما الكثرة التي تلحقها فهي من قبل المواد الموجودة فيها، الأمر الذي أوقعه في اختلاف شديد مع التفسير الذي يرجع النفوس الفردية المتعددة إلى نفس واحدة هي (آدم)، وليس إلى الهيولى التي قال بها هو نفسه مما أدى إلى حدوث خصومات شديدة مع رجال الدين مسلمين ومسيحيين.
   يقول (ابن رشد)" وأما وضع نفوس من غير هيولى كثيرة بالعدد، فغير معروف من مذهب القوم لأن سبب الكثرة العددية هي المادة عندهم، وسبب الاتفاق في الكثرة العددية هي الصّورة، وأما أن توجد أشياء كثيرة بالعدد واحدة بالصورة، بغير مادة فمحال، وإنما يفترق الشخص من الشخص من قبل المادة"[17] وعليه فإن عامل الكثرة في النفس هو المادة المتعلقة بها، ولو انتزعت المادة عنها لانتفت الكثرة فلم يتبقّ إلا الوحدة أي الصورة النوعية للنفس، وإن انقسام النفس إلى أنفس متجانسة إلى ما لا حصر له من الأنفس لا يفقدها سمة الوحدة ولا يدخلها في حالة من التمايز بحال من الأحوال، ولأن التمايز الحقيقي من وجهة نظر (ابن رشد) هو تمايز في المادة المتعلقة بالنفوس الفردية، والنفوس الفردية ليست إلا أجزاء من جنس واحد، لدى أفراد النوع الإنساني بأكمله، وما تمايز الأفراد بعضهم عن بعض إلا من قبل الأجساد والعناصر المتكوّنة منها، الأمر الذي يجعل من علم عمرو بشيء علماً خاصا به لا يعلمه زيد لأن مراكز القوى الحاسّة والعاقلة وغيرها في جسد عمرو ليست هي عينها لدى زيد.
     لقد ميز (ابن رشد) بين النفس المفارقة وهي النفس النوعية الواحدة وبين النفس المخلّقة، أي النفوس الكثيرة المتعددة بتعدد أفراد النوع الإنساني، إذ أن النفس المفارقة هي نفس واحدة لدى جميع الأفراد، وهي نفس عاقلة، وأما النفس المخلّقة، فهي متعددة بالعدد بتعدد أفراد النوع الإنساني، وتدخل في علاقة حية مع الأجساد الموجودة فيها. وإذا ما فسدت تلك الأجساد، فحال النفس تصبح معطلة عن الفعل لافتقادها إلى الآلة التي تعمل بواسطتها، لكنها لا تَعْدَم بل يمسكها الله إليه أو إنها تنعتق من علاقتها بالجسد لتبقى في الهيولى خالدة خلود الهيولى ذاتهـا أو بمثلٍ تشبيهي أن النفس الفردية المفارقـة تعـود للاندماج بالنفس الكلية الواحدة.
     ويسوق ابن رشد بعض الحجج المؤيدة للكثرة في النفس وتمايزها بين الأفراد بتمايز الأجساد الموجودة فيها، كحجج (ابن سينا) في هذه المسألة بقوله: " فإن المختار عند ابن سينا أن تكون النفس متعددة بتعدد الأبدان،لأنّ كون النفس واحدة من كل وجه في جميع الأشخاص تلحقه محالات كثيرة منها: أن يكون إذا علم زيد شيئاً علمه عمرو، وإذا جهله عمرو جهله زيد، إلى غير ذلك من المحالات التي تلزم عن هذا الوضع، وأما القول بأنها إذا نزلت متعددة بتعدد الأجسام لزم أن تكون مرتبطة بها، فتفسد ضرورة بفساد الأجسام"[18]. أي أن النفس الإنسانية يستحيل أن تُفهم في علاقتها بالوحدة والكثرة بمعزل عن الأبدان التي توجد فيها، وأن النفس المفارقة للأبدان لا بد وأن تعود إلى مادتها الروحانية اللطيفة عودة الجزء إلى الكل من وجهة نظر (ابن رشد)، وحتى يقرب (ابن رشد) طبيعة العلاقة بين الوحدة والكثرة في النفس فإنه يسوق تشبيهاً تمثيلياً آخر لها، بالضوء ومصدره " فكما أن الضوء ينقسم بانقسام الأجسام المضيئة، ثم يتحد عند انتفاء الأجسام كذلك الأمر في النفس مع الأبدان "[19]
     وحاصل القول: أن النفس واحدة بالنوع متعددة بالعدد بتعدد الْمَحال التي تتواجد فيها وما أن تفسد تلك الْمَحال حتى يبطل ذلك التعدّد فتبقى الوحدة النوعية الكلية للنفس بقاء أبدياً، ولعل قوله تعالى: "يا أيتها النفس المطمئنة أرجعي إلى ربك راضية مرضية فأدخلي في عبادي وأدخلي جنتي"[20] دليل على وحدة النفس على الرغم من دخولها في أعداد كثيرة من الناس.
     يعتقد ابن رشد بأن عودة الأنفس إلى الأبدان بعد الموت، هي عودة تختلف عن الحال التي كانت فيها الأنفس مع الأبدان قبل الموت، ذلك أن الأبدان بعد الموت يطرأ عليها الفساد والتغير، مما يعني أنها لن تعود إلى عين الحال التي كانت عليها قبل الموت وإنما ستعود على شبه الحال التي كانت عليها قبل الموت، أما مصير النفوس فيتحدد تبعاً للأحوال التي كانت عليها قبل الموت  فإن كانت التقـوى هي الغالبـة عليـها فإن الله سيحسن جزاءها وإن كان الفجور هو الغالب عليها فإن الله سيعيدها إلى أجساد شقيـّة تتألم فيها بأشد المحسوسات أذى وهي النار. يقول (ابن رشد): " إن الله اخبرنا بأنه يعيد النفوس السعيدة إلى أجساد تنعم فيها الدهر كله بأشد المحسوسات نعيماً وهي الجنة، وأنه يعيد النفوس الشقية إلى أجساد تتألم فيها الدهر كله بأشد المحسوسات أذى وهي النار، أما تمثيل المعاد للجمهور بالأمور الجسمانية فهو أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية، فهو أحث على الأعمال الفاضلة "[21]  وعليه فإن الأجساد التي يعيد الله الأنفس إليها، ليست هي عين الأجساد التي كانت في الحياة الدنيوية، إذ أن الأجساد عند موتها تفسد وتتحلل إلى عناصر تدخل في التربة، فمنها ما يتحول إلى عناصر يتغذى بها النبات وينتقل بعد ذلك إلى الحيوان والإنسان، مما يعني استحالة عودة الأجساد المعدومة لعين ما عُدِمت عليه لأنه إذا كان ذلك كذلك فإن الأجساد الميتة تصبح مشترِكة مع الأجساد اللاحقة عليها المتغذية بها في التركيب المادي، وإنّ فصل مركبات الأجساد عن بعضها في محاولة لإعادة الأجساد لعين ما كانت عليه سَيُلحق تغيراً محتوماً على تلك الأجساد إلى حد تفقد فيه كثيراً من عناصرها الماديّة، وبالتالي فإن " المرجَّح إزاء ذلك هو أن يعيد الله الأجساد المعدمة من مادة مثلية للمادة التي كانت عليها و ليس عينها"[22] وعليه يمتنع عودة الشخص من كل جهة، فليس يمكن أن يعود الشخص، والنفس تتخذ جسماً آخر غير جسمها الحالي لأن هذا الجسم يفنى بالتراب ولا يعود من غير أسباب[23]  الأمر الذي اعتبره علماء الدين من المسلمين والمسيحيين يشكل تحدياً آخر يضاف إلى آرائه الفلسفية في مسألة قدم العالم، فقدم العالم إنكار صريح من جانب (ابن رشد) للقول بأن العالم مخلوق من عدم وفي أوقات مختلفة ، كما هو الحال عند (الغزالي) و(ألبرت) و(توما) والقول ببقاء النفس النوعية الواحدة إنكار لقول الوحي ببقاء النفس الفردية وتهيئـتها لحساب اليوم الآخر، والقول بعودة أجساد الأشخاص لمثل ما كانت عليه هو إنكار صريح لقدرة الله في بعث من في القبور بأنفسهم وبحواسهم عينها، كي تشهد عليهم فيما كانوا يفعلونه في الحياة الدنيوية.
     ولعل (ابن رشد) كان أكثر صراحة في تناوله لمشكلة قدم العالم، منه في مشكلة النفس، لأن المجاهرة الفلسفية بأمور النفس لا تخلو من مخاطر كبيرة لا يقوى على احتمال نتائجها، فاقتصر على ذكر بعض ما قاله الفلاسفة، مع إشارات تعَبّر عن مواقفه إزاء بعض المسائل المتعلقة بها لكون الحديث عنها يكتنفه الغموض كما جاهر بذلك في تهافت التهافت بقوله: " وقد رأيت أن أقطع هاهنا القول في هذه الأشياء والاستغفار من التكلم فيها، ولولا ضرورة طلب الحق مع أهله، و هو كما يقول جالينوس رجل واحد خير من ألف و التصدي إلى أن يتكلم فيه من ليس أهله  -ويقصد بهم العلماء الراسخون في العلم- ما تكلمت في ذلك من علم الله بحرف."[24] 
     على أية حال فإن ما قدمه (ابن رشد) من آراء فلسفية في بحثه لمشكلتي العالم والنفس، سيجد آثاره المباشرة وغير المباشرة على التغيرات التاريخية الهامة في المجتمعات الأوروبية في العصور الوسطى، كولادة حركات الإصلاح الديني إذ وجدت الظروف مواتية لقيامها، بفعل حركة الجدل العقلي الواسعة بين علماء اللاهوت والفلاسفة الرشديين، إزاء فلسفة (ابن رشد) بعامّة، وفلسفته في العالم والنفس بخاصّة، الأمر الذي جعل العقل يشغل مكان الصدارة، فهو الحكم الذي يحَتكم إليه الخصوم من رجال الدين والفلاسفة على حد سواء، بعد أن ظل مقيداً لقرون من الزمن أمام سلطة اللاهوت بوصفها (سلطة للوحي) لا يجرؤ إنسان على إبداء الرأي بها أو الاعتراض عليها، فلم يكن بالإمكان وقتئذ حدوث تلك التغيرات في ظل تلك الظروف ومنها قيام حركات الإصلاح الديني على الصورة التي قامت عليها فيما بعد بخاصة تلك التي ظهرت بزعامة (مارتن لوثر) و(جون كالفن) في القرن السادس عشر، إلاّ بعد أن أسهمت  الفلسفة الرشدية في خلق بعض الشروط الضرورية لولادتها.



1 الكشف عن مناهج الأدلة ص 245
2 الهيولى: كلمة يونانية الأصل و براد بها المادة الأولى و هو كل ما يقبل الصورة و ترجع إلى أرسطو ثمّ أخذها المدرسون من بعده. المعجم الفلسفي مجمع اللغة الغربية بمصر  ص 286
3 تلخيص كتاب النفس ص 96
4 القرآن الكريم سورة الإسراء الآية 85
 أنظر ابن رشد تهافت التهافت القسم الثاني ص 833 / 834 تحقيق سليمان دنيا 5
 سورة الزمر الآية 42 6
7 تهافت الفلاسفة ص 274 : أبو حامد الغزالي
 8 تهافت التهافت: ابن رشد ص 858 / 859
 9 راجع كتاب تهافت الفلاسفة ص 274
 نفس المصدر ص 275 10
 تهافت التهافت: ص 357 / 358 11
 نفس المصدر ص 358 12
 ن.م ص 360 13
 ن.م ص 358 14
15 ن.م ص 367
 ن.م ص 368 16
17 تهافت التهافت : ص 88 / 89
 تهافت التهافت: ص 859 / 860 18
 ن.م ص 861 19
 سورة الفجر الآيات: 27 / 28 / 29 / 30 20
 تهافت التهافت: ص 870 21
 عبد الرحمان بدوي: موسوعة الفلسفة ج 1 ص 33 / 34 22
 أنطوان فرح:ابن رشد و فلسفته ص 51 23
 تهافت التهافت: ص 874 24

الخميس، 9 أبريل 2015

بين الغزالي وابن رشد

     ألف الغزالي كتابه تهافت الفلاسفة في القرن الحادي عشر الميلادي، ليهاجم فيه آراء الفلاسفة ومعتقداتهم، وواجه الفلاسفة آراءه بعد ذلك بالنقد والتمحيص، خاصة ابن رشد الذي ألف كتابا ردا على ذلك سماه تهافت التهافت، وذلك في القرن الثاني عشر الميلادي 
وقد تكلم الغزالي وابن رشد باسم الدين، واستخدم كلاهما النص الديني ـ سواء آيات القرآن الكريم أو الأحاديث الشريفة ـ لتأكيد رأيه، وظهرت آراؤهما متضاربة، الأمر الذي يجعل تحديد مدى صحة أيهما أو خطئه من النظرة الأولى، أمرا صعبا. ويدور البحث حول حوار الغزالي وابن رشد في كتابيهما.
     وهدفنا من هذه القراءة هو محاولة لفهم ما يقوله كلاً منهما، ومعرفة بعض الحوارات والاتجاهات الفكرية في تاريخ الفكر الإسلامي، ذلك لتنمية ثقافتنا الروحية. كما أردنا أن نعرف الصواب فيما يُعرض من خلال كتابي ابن رشد والغزالي، كما أنه قد شاع أن الغزالي قد وجه بكتابه تهافت  الفلاسفة، ضربة قاضية إلى الفلسفة لم تقم لها بعد قائمة.
     بداية أريد أن أوضح معاني بعض المصطلحات التي سيرد ذكرها كثيرا أثناء البحث منها:
     الفلسفة: هي حب الحكمة والبحث عن المعرفة الكلية والحقيقة المطلقة بالتأمل العقلي المجرد.
     الشريعة: هي كل ما جاء به الدين ويقصد بها في هذا البحث النقاط التي اختلفوا فيها من أصول الدين وخاصة كل ما يتعلق بالغيبيات مثل هل العالم قديم أم حديث؟ هل يتم الحشر بالأجساد أم بالأرواح؟ علم الله هل هو علم بالكليات والجزئيات أم هو علم بالكليات فقط؟
     الإلهيات : جميع المسائل التي تدور حول قدم العالم أو حدوثه ـ ذات الله وصفاته ـ نفي
الشريك عنه ...إلخ.
     الطبيعيات: كما عرفها أرسطو هي الأسباب التي يدين لها الجسم بالوجود وهى (المادة ـ الصورة ـ الفاعل ـ الغاية)
          نبذة عن الغزالي: (450 هـ - 505 هـ / 1058 م- 1111م)
     هو أبو حامد محمد ابن محمد الغزالي ولد في طوس في إقليم خراسان، نشأ في بيت فقير درس الفقه على يد الإمام الرازكاني والإمام أبي نصر الإسماعيلي، التحق بالمدرسة النظامية في نيسابور ودرس فيها علم أصول الفقه وعلم الكلام على يد الإمام الجوينى حتى برع فيهما وبرع في المنطق والفلسفة.
     اختاره الوزير السلجوقي (نظام الملك) للتدريس في المدرسة النظامية في بغداد عام 484هـ - 1091 م. وقد وصل الغزالي إلى أن يكون الشخصية العلمية الأولى بها، في هذا الوقت كانت فكرة الإمام المعلم المعصوم قد انتشرت على نطاق واسع في العراق عن طريق التنظيمات الباطنية الإسماعيلية التي كانت تعضدها الدولة الفاطمية في مصر والتي كانت تهدد الدولة السلجوقية والخليفة العباسي تهديدا شديدا، فأمره الخليفة المستظهر العباسي بكتابة كتابيه فضائح الباطنية وتهافت الفلاسفة. وكان لإضعاف المذهب الباطني لابد من زعزعة الأسس الفلسفية التي بني عليها هذا المذهب حيث أن الفلسفة السيناوية (نسبة لابن سينا) تلتقي في نقاط كثيرة مع الفلسفة الإسماعيلية (الباطنية - الشيعية) فكان لابد من إضعاف هذا الفكر السينوي بكتابه تهافت الفلاسفة.
     وعندما اغتال الباطنيين الوزير السلجوقي (نظام الملك) ترك الغزالي بغداد واتجه إلى الشام ثم إلى بيت المقدس معتكفا في مساجدها ثم إلى مكة والمدينة وعندما تولى الحكم فخر الملك ابن الوزير السابق نظام الملك عاد الغزالي مرة أخرى للتدريس في المدرسة النظامية بنيسابور بناء على طلب الحاكم ثم ترك التدريس مرة أخرى بعد اغتيال فخر الملك على يد أحد الباطنيين عام 500 هـ - 1106م. فعاد الغزالي إلى مسقط رأسه طوس، حيث بنى بها مأوى للطلاب الصوفية ممن يقصدونه وظل بها حتى توفي عام 505 هـ - 1106م.
          من مؤلفاته:
·       مقاصد الفلاسفة.
·       إحياء علوم الدين.
·       مشكاة الأنوار.
·       تهافت الفلاسفة (موضوع البحث).
·       فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة.
·       المنقذ من الضلال.
·       فضائح الباطنية.
          نبذة عن ابن رشد: (520 هـ - 595 هـ / 1126 م – 1198م)
      هو أبو الوليد محمد ابن أحمد ابن محمد ابن رشد ولد في أسره ذات نفوذ علمي كبير وسلطان قضائي ملحوظ فقد كان جده قاضيا لقرطبة كما كان من كبار فقهاء المذهب المالكي .
     عاش ابن رشد في الأندلس حيث كان قاضيا في قرطبة مسقط رأسه وكان يعيش في بلاط الموحدين طبيبا ومستشارا علميا كتب العديد من الشروحات على أعمال أرسطو والتي ترجمت إلى اللاتينية وقد كان لها أكبر الأثر في المدارس الفكرية في عصور أوروبا
الوسطى، فتح أمام علماء أوروبا أبواب البحث والمناقشة على مصراعيها.
     دافع ابن رشد عن الفلسفة وصحح لعلماء وفلاسفة سابقين له كابن سينا والفارابي في فهم بعض نظريات أرسطو، درس علم الكلام والفقه والشعر والطب والرياضيات والفلك والفلسفة.
     قدمه ابن طفيل الذي كان أستاذا له لخليفة الموحدين أبى يعقوب ابن يوسف الذي كان يؤثر العلوم والفقه واللغة إيثارا شديدا ورغب في تعلم الفلسفة وأمر بجمع كتبها مما شجع ابن رشد على إبداء أرائه الفلسفية.
     بعد موت الخليفة أبى يعقوب ابن يوسف تولى ابنه الخلافة فوشى أعداء ابن رشد ضده عند الخليفة ورموه بالزندقة والمروق فنفاه وسائر الفلاسفة وأمر بمنع علوم الفلسفة من أن تدرّس وإحراق كتب الفلسفة، ومن بينها كتب ابن رشد، ثم ما لبس أن عاد الخليفة إلى نفسه فاستدعاه إلى مراكش واعتذر إليه ولكن ابن رشد ما لبث أن توفى في مراكش عام 595 هـ -1198م. وضع ابن رشد أكثر من خمسين كتابا في مجالات مختلفة وكتب شروح وتلاخيص لأرسطو.
          ومن كتبه:
·        كتاب الكليات.
·        كتاب تهافت التهافت(موضوع البحث)
·        كتاب: التحصيل.
·        كتاب: الحيوان .
·        كتاب: المسائل في الحكمة.
·        كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه.
·        كتاب: شرح أرجوزة ابن سينا في الطب.
·        كتاب: فصل المقال فيما بين الحكمة من اتصال.
          لماذا كتب الغزالي كتابه تهافت الفلاسفة؟
     كتب الغزالي هذا الكتاب ليهاجم فيه الفلاسفة اليونانيين ومن اتبعهم من فلاسفة المسلمين
خاصة ابن سينا والفارابي. ويقول الغزالي في كتابه (ما دفعني إلى تأليف هذا الكتاب أنني رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء وقد رفضوا وظائف الإسلام واستحقروا شعائر الدين واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده بفنون من الظنون يتبعون فيها رهطا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ولا مستند لضلالهم إلا تقليد سماعي وأن مصدر ضلالهم سماعهم أسماء هائلة كسقراط وأفلاطون وأرسطو وأمثالهم فلما رأيت هذا العرق من الحماقة انتدبت لتحرير هذا الكتاب.
     ويقول الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة "نحن لم نخض في هذا الكتاب خوض الممهدين بل خوض الهادمين المعترضين ولذلك سمينا الكتاب تهافت الفلاسفة لا "تمهيد الحق" وأيضا جاء في كتابه "المقصود تعجيزكم عن دعواكم معرفة حقائق الأمور بالبراهين القطعية وتشكيككم في دعاويكم وإذا ظهر عجزكم ففي الناس من يذهب إلى أن حقائق الأمور الإلهية لا تُنال بنظر العقل بل ليس في قوة البشر الإطلاع عليها، وإنما إنكارهم عليهم بنسبتهم إلى الجهل بمسالك البراهين جاء في المقدمات الأربع في كتابه تهافت الفلاسفة الدواعي لتأليف هذا الكتاب ملخصها:
     في المقدمة الأولى ذكر أنه سيعتمد في الرد على الفلاسفة وعلى أرسطو خاصة على ما نقله ابن سينا والفارابي، ثم قال الغزالي أنه في ردوده على الفلاسفة سيقتصر على ما يتعلق النزاع فيه على أصل من أصول الدين كالقول في حدوث العالم وحشر الأجساد وصفات الصانع ويقول أنهم أنكروا جميعا ذلك وفي نفس هذه المقدمة ذكر أن مذهبهم لا يصدم أصلا من أصول الدين وأن إيمانهم بالرسل والأنبياء لا شك فيه وإنما هم تخبطوا في تفاصيل هذه الأصول وقد زلوا فيها فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل. وجاء أيضا في هذه المقدمات أن الغزالي سيجعل جميع الفرق ألبا عليهم أي انه سيضربهم ليس فقط بما في المذهب الأشعري بل سيجند ضدهم جميع الفرق، وأشار الغزالي إلى أن مذهبه هو الأشعري وانه هو المذهب
الحق الذي سيبني عليه جميع أفكاره وأرائه.
     وقد قال في كتابه "المنقذ من الضلال " بشأن ما كتبه في عهد الوزير السلجوقي (نظام الملك) عندما استدعاه في بغداد "وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكسب الجاه فأدعو إليه بقولي وعملي وكان ذلك قصدي ونيتي".

          لماذا كتب ابن رشد كتابه تهافت التهافت؟ 
     لما كان لكتاب تهافت الفلاسفة من آثار على أذهان الناس فقد جعلهم ينقسمون فريقين فريق يهاجم الفلسفة والفلاسفة وفريق آخر لا يهاجم الفلسفة والفلاسفة.
     وقد أشار في مقدمة كتابه هذا أن الغرض من هذا القول أن يبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب تهافت الفلاسفة لأبي حامد في التصديق والإقناع وقصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان.
     وهذه الأقاويل المثبتة كما عرفها أرسطو قال بها ابن رشد، من زاوية الصدق واليقين وهي:
1.   الأقاويل البرهانية.
2.   الأقاويل الجدلية.
3.   الأقاويل السفسطائية.
4.   الأقاويل الخطابية.
5.   الأقاويل الشعرية.
     وفي هذا الكتاب يخالف ابن رشد كلا من الغزالي والفلاسفة وابن سينا الرأي أحياناً، وأحيانا أخرى يوافقهم، ويقول ابن رشد في كتابه فصل المقال عند الرجوع إلى كتب السلف (ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرناهم منه وعذرناهم).
          المسائل التي كانت محل الخلاف:
     خالف الغزالي الفلاسفة في عشرين مسألة تدور ستة عشر منها حول الإلهيات التي تبحث في الغيبيات مثل قدم العالم وحدوثه، مسألة الخلود، ذات الله تعالى وصفاته ونفي الشريك عنه، الصانع أم الدهر، العلم بالجزئيات والكليات، أما الأربع مسائل الأخرى فإنها تدور حول الطبيعيات، مثل جوهرية النفس واستقلالها عن البدن وخلودها، وحشر الأجساد.
          حكم الغزالي على الفلاسفة بالكفر في ثلاثة مسائل وهي قولهم:
1.   قدم العالم، قضية القدم والحدوث.
2.   أن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات.
3.   إنكار حشر الأجساد في الآخرة والاكتفاء ببعث الأرواح فقط.
     ويرى الغزالي أن هذه المسائل لا تلائم الإسلام مطلقا ومن يعتقد في هذه الآراء فإنه يعد مكذبا للأنبياء ويكون بذلك خارجا عن العقيدة الإسلامية.
     وقد حكم بالبدعة في السبع عشرة مسألة الأخرى وهي:
1.   أبدية العلم وأزليته.
2.   صانع العالم ، مشكلة صدور الكثرة عن الواحد.
3.   في الاستدلال على وجود صانع العالم.
4.   أن الله واحد ونفي الكثرة في ذاته.
5.   الصفات هل هي عين الذات أم غيرها.
6.   في الوحدانية.
7.   الوجود والماهية في الذات الإلهية.
8.   التنزيه والتجسيم.
9.   الصانع أم الدهر.
10.                 العلم بالكليات، أن الأول يعلم غيره والأنواع والأجناس بنوع كلي.
11.                 هل يعقل الأول ذاته؟
12.                 طاعة السماء إقامة الدليل على أن السماء حيوان مطيع لله تعالى بحركته الدورية.
13.                 الغرض المحرك للسماء.
14.                 اللوح المحفوظ ونفوس السماء، وهي الملائكة المطلعة على جميع الجزئيات الحادثة في هذا العالم.
15.                 السببية أم العادة.
16.                 روحانية النفس ومسألة الخلود.
17.                 مسألة فناء النفوس البشرية.
          الفلاسفة: منهم من ذهب إلى القول
·       أن الله لا يعلم إلا نفسه.
·       أن الله لا يعلم الجزئيات فهو يعلم الأشياء علما كليا لا يدخل تحت الزمان ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن.
          يرى ابن سينا:
     الله يعلم الأشياء علما كليا لا يدخل تحت الزمان ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن، وأن الله لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي.
     قال الغزالي: لابد أولا من فهم مذهبهم ثم الاشتغال بالاعتراض، وحتى نفهم هذا المذهب سنبين هذا المثال، فمثلا الشمس تنكسف بعد أن لم تكن منكسفة ثم تتجلى فيحصل لها ثلاث أحوال، حال أن الكسوف معدوم ولكنه منتظر الوجود أي سيكون، وحال كائن وحال ثالث هو فيها معدوم ولكنه كان من قبل.
     وهذه الأحوال الثلاث توجب على من يعلمها التغير فهو كان جاهلا بها ثم علم بها ولو علم عند وجوده أنه معلوم كان جهلا وزعموا أن الله تعالى لا يختلف حاله في هذه الأحوال الثلاثة حيث أنه لا يتغير وما لم تختلف حاله لم يتصور أن يعلم هذه الأمور الثلاثة وإذا كان يعلم هذه الأمور بعلم يتصف به في الأزل فلا يعزب عن علمه شيء وأن العلم بوقت الكسوف هو إضافة إلى الزمان فلا يتصور أن يعلم هذا الزمان لأنه يوجب التغير وإما فيما ينقسم في المادة والمكان أعطى الغزالي مثلا كأشخاص الناس والحيوانات فإنهم يقولون لا يعلم عوارض زيد وعمرو وإنما يعلم الإنسان المطلق بعلم كلي فالله لا يعرف أفعال شخص بعينها لأن أفعاله حادثة بعد أن لم تكن لأنها أحوال تنقسم بانقسام الزمان وهذه الأمثلة توضح خبــل الفلاسفة حيث أن هذه الأحوال إذا تعاقبت على محل واحد أوجبت فيه تغيرا لا محالة فباختلاف العلم اختلف العالم فإن لم يعلم شيئا ثم علمه فقد تغير.
     ويقول الغزالي أن العلم بالكليات هو أيضا علم بالمختلف والمتعدد فالله يعلم الأشياء علم واحد في الأزل والأبد والحال لا تتغير وغرضهم نفي التغير متفق عليه ولا يصلح العلم الواحــد لان يكون علما بالمختلفات لأن المضاف مختلف والإضافة مختلفة فالعلم بالحيوان لا يسد مسد العلم بالجماد والعلم بالبياض لا يسد مسد العلم بالسواد والعلوم المختلفة كيف تنطوي تحت علم واحد وإذا لم يوجب الاختلاف جازت الإحاطة بالكل بعلم واحد في الأزل والأبد ولا يوجب ذلك تغيرا في ذات العالم.
          ابن رشد:
     قال أن: الأصل في هذه المشاغبة تشبيه علم الخالق بعلم الإنسان وقياس أحد العلمين على الثاني وأن تغير الإدراك بتغير المدركات وتعدد الإدراك بتعدد هذه المدركات ليس بعلم كما قال الغزالي.
     وقول الغزالي أن تعدد الأنواع والأجناس يوجب التعدد في العلم صحيح ولذلك الفلاسفة لا يصفون علمه سبحانه بالموجودات لا بكلي ولا بجزئي وذلك أن العلم الذي هذه الأمور لازمة له هو عقل منفعل ومعلول والعقل الأول هو فعل محض وعلة فلا يقاس علمه على العلم الإنساني لأن علمنا معلول للموجودات وعلمه علة لها. والفلاسفة يرون أن الرؤية الصادقة تتضمن الإنذارات للجزئيات الحادثة في الزمان والمكان، وأن ذلك العلم المنذر يحصل للإنسان في النوم من قبل العلم الأزلي والمدبر للكل والمستولي عليه، فكيف يفهم من قولهم أن الله لا يعلم إلا الجزئيات.
     العلم بالأشخاص هو حس أو خيال والعلم بالكليات هو عقل وتجدد الأشخاص أو أحوال الأشخاص يوجب شيئين تغير الإدراك وتعدده وعلم الأنواع والأجناس ليس يوجب تغيرا إذ أن علمها ثابت وأنهما يتحدان في العلم المحيط بهما وأنهما يجتمعان أي الكلية والجزئية في معنى التعدد.
     وأما قول الفلاسفة أن الله لا يعلم إلا نفسه فقد قام البرهان على أنه لا موجود إلا هذه الموجودات التي نعقلها ولما كان أنه لا يعقل إلا ذاته فلابد أن يتعلق علمه بها إذ لا يمكن أن يتعلق بالعدم وإذا وجب أن يتعلق بهذه الموجودات فإما أن يتعلق بها نحو تعلق علمنا بها وإما أن يتعلق بها على وجه أشرف من جهة تعلق علمنا بها وتعلق علمه بها على نحو تعلق علمنا بها مستحيل فوجب أن يكون تعلق علمه بها على نحـو أشرف لأن العلم الصادق هو الذي يطابق الموجود فللموجود إذاً وجودان وجود أشرف ووجود أخس والوجود الأشرف هو علة الأخس وهذا قول القدماء أن البارئ سبحانه هو الموجودات كلها وهو المنعم بها والفاعل لها ولذلك قال الصوفية"لا هو إلا هو" ولكن هذا كله هو علم الراسخين في العلم ولا يجب أن يكتب هذا ولا أن يكلف الناس اعتقاد هـذا وليس هو من التعليم الشرعي ومن أثبته في غير موضعه فقد ظلم كما أن من كتمه عن أهله فقد ظلم.
           مسألة إنكارهم حشر الأجساد في الآخرة اكتفاء بالبعث الروحاني فقط.
     ابن سينا:
     أنكر بعث الأجساد ورد الأرواح للأبدان ووجود النار الجسمانية ووجود الجنة وحور العين وسائر ما وعد به الناس لأن كل ذلك أمثلة ضربت لعوام الخلق، ويرى ابن سينا أن النفس جوهراً روحانيا مستقلا عن البدن كانت موجودة قبله وستبقى بعده وأنها وحدها دون البدن هي التي ستكون موضع ثواب أو عقاب في الآخرة.
     الغزالي:
     أن أكثر هذه الأمور ليست مخالفة للشرع فإننا لا ننكر أن في الآخرة أنواع من اللذات أعظم من المحسوسات ولا ننكر بقاء النفس عند مفارقة البدن ولكن عرفنا ذلك بالشرع إذ قد ورد فيه بالميعاد ولا يفهم الميعاد إلا ببقاء النفس، وإنما إنكارنا عليهم هو معرفة ذلك من خلال العقل.
     ولكن المخالف للشرع هو إنكار حشر الأجساد وإنكار اللذات الجسمانية في الجنة وإنكار الآلام الجسمانية في النار وإنكار وجـود الجنة والنار كما وصفت في القرآن فما المانع من تحقيق الجمع بـين السعادتين الروحانية والجسمانية وكذا الشقاوة فقوله تعالى " فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ[1] " وقوله تعالى في الحديث القدسي" ... أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ... " فوجـود هذه الأمور الشريفة لا يدل على نفي غيرها بل الجمع بين الأمرين أكمل.
     ويرى الغزالي أن النفس باقية بعد الموت، وهي جوهر قائم بنفسه، وأن ذلك لا يخالف الشرع، بل دل عليه الشرع في قوله "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[2]" وبقوله عليه السلام "أرواح الصالحين في حواصل طير خضر معلقة في العرش " وبما ورد من الإخبار بشعور الأرواح بالصدقات والخيرات، وسؤال منكر ونكير، وعذاب القبر وغيره، كل ذلك يدل على البقاء. وأن البعث سيكون بالبدن ـ أي بدن ـ سواء كان من مادة البدن الأول، أو من غيره، أو من مادة استؤنف خلقها.
     ابن رشد:
     يرى ابن رشد أنه لا ينبغي التعرض لمبادئ الشرائع بقول مثبت أو مبطل في مبادئها العامة مثل هل يجب أن يعبد الله أو لا يعبد هل هو موجود أم ليس موجود، وأن الشرائع جميعها اتفقت على وجود الحياة الآخرة بعد الموت وإن اختلفت في صفة الحياة الآخرة.
والفلاسفة تحدثوا في هذه المسألة لأنهم يرون أن الفلسفة تحقق وتمنح السعادة العقلية وتعلم صاحبها الحكمة والشريعة، تعلم الجمهور عامة ومع هذا فإن كل الشرائع نبهت بما يخص الحكماء واهتمت بما يشترك فيه الجمهور ويتم سعادة الحكماء -وهم الخاصة- بمشاركتهم للعامة من الناس، ومن فضيلة هؤلاء الحكماء أن لا يستهينوا بما تعلموه عندما كانوا من العامة.  
     ويرى ابن رشد أن فكرة حشر الأرواح وهى التي كفرهم فيها الغزالي وقال أن هذه المسألة أول من قال بها هم أنبياء بني إسرائيل الذين أتوا بعد موسى عليه السلام وذلك بيّن من الزبور ومن كثير من الصحف المنسوبة لبنى إسرائيل، وكذلك في الإنجيل وفي شريعة الصابئة .
     ورؤية ابن رشد في بعث الأجساد أن ذلك الوجود الأخروي سوف يكون له نشأة أخرى أعلى من هذا الوجود وطور آخر أفضل من هذا الطور واستند إلى قوله تعالى في الحديث القدسي عن الجنة فيها " ...مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" 
ويرى ابن رشد أيضا أنه عندما كفّر الغزالي الفلاسفة في قولهم أن البعث سيكون روحاني وحده فقد أخذ برأي الصوفية بالميعاد الروحاني في كتاب آخر له وأجاز القول بالميعاد الروحاني. وفي نفس الوقت كفر الغزالي هذه الفكرة في كتاب آخر له وهذا تخليط وبذلك فهذا الرجل أخطأ على الشريعة كما أخطأ على الحكمة.
     التعليق:
     أولاً: أن كلاً من ابن رشد والغزالي قد استخدم العقل في الخوض في مسائل غيبية، سبق أن اعترف كلاهما أنه لا يجوز الخوض بالعقل فيها، فهي أمور خارج دائرة إحاطة العقل، وعليه فإن ما وصل إليه كل منهما هو نتيجة ظنية وليست قطعية.
      ثانيا: بالنسبة للغزالي يؤخذ عليه:
1.   أنه وضع حكماً مسبقاً وهدفاً مسبقاً عند مناقشة آراء ومعتقدات الفلاسفة، وهو موقف غير محايد لا يصح اتخاذه كأساس لحوار موضوعي، يعطي نتائج موضوعية تحتمل قبول رأي الطرف الآخر كليا أو رفضه كلياً، أو قبول بعضه ورفض بعضه.
2.   أنه نسب إلى الفلاسفة آراءً وأقوالاً وأمثلةً لم يثبت صدورها عنهم، ثم قام بتحليل ما نسبه إليهم واستخلص منه نتائج، وبذلك تكون هذه النتائج غير مبنية على أساس واقعي. فقد وصف الغزالي الفلاسفة الإسلاميين أنهم مقلدون للفلاسفة اليونانيين، في حين أن ابن سينا كان يصرح بأنه سيأخذ ما صح فقط عند أرسطو، ويضيف هو من عنده ما لم يقل به أرسطو ولا أتباعه. ولم يرجع الغزالي في ذلك إلى نص الشرع الذي يدعي الدفاع عنه ويتثبت من نسبة الرأي أو القول إلى صاحبه قبل أن يصدر حكما عليه "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[3] "
3.   أن الغزالي حكم بوعيه في العقيدة و تأويله لأصول الدين على الفلاسفة في حين أن تجربة الإنسان الإيمانية ووعيه عن حقيقة الإيمان وكيفية إيمانه هي مسائل خاصة به يلتزم هو بها ولا يجوز فرضها على الآخرين. عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: " يَا حَارِثُ، كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ " قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ: " انْظُرْ مَا تَقُولُ، إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً " قَالَ: أَلَسْتُ قَدْ عَزَفْتُ الدُّنْيَا عَنْ نَفْسِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا يَعْنِي يَصِيحُونَ، قَالَ: " يَا حَارِثُ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
4.   أنه كتب كتاب تهافت الفلاسفة لأغراض سياسية وشخصية، وكذا كتابه فضائح الباطنية الذي قال في مقدمته أنه ألف هذا الكتاب تلبية للأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية، وبذلك لم تتوفر لديه الحيدة التي تؤدي إلى نظر موضوعي لرأي الطرف الآخر، وبالتالي الوصول إلى نتائج موضوعية منزهة عن الهوى، فقد تم ندبه من قبل الحاكم لتأليف كتابيه لإدانة آراء ومعتقدات الفلاسفة والباطنية، وقد استخدم الدين و طَوَّعه بغير حق في ذلك.
5.   أنه أنكر على الفلاسفة استخدام العقل والوصول عن طريقه إلى أمور أتى بها الشرع، وهذا منافي لتوجيهات الشرع من الحث على استخدام العقل، هذا بالإضافة إلى أنه هو نفسه قد وضع خمس مراتب للوجود وأقر أن من آمن بإحداها فقد صدق بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، و من هذه المراتب مرتبة الوجود العقلي، ومع ذلك فقد قام بتكفير الفلاسفة لاستخدامهم العقل، وهذه المراتب الخمس التي وضعها للوجود ـ كما وردت بكتاب تهافت الفلاسفة ـ هي (الوجود الذاتي، الحسي، العقلي، الشبهي، الخيالي).
6.   كما أكد هو نفسه أن الفلاسفة لم يصدموا أصلاً من أصول الدين، ومع ذلك فقد قام بتكفيرهم بسبب كيفية إيمانهم بهذه الأصول، وهذا أمر غير جائز شرعاً. "عن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى الْحُرَقَاتِ فَنَذِرُوا بِنَا فَهَرَبُوا فَأَدْرَكْنَا رَجُلًا، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَضَرَبْنَاهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا مَخَافَةَ السِّلَاحِ. قَالَ: " أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَهَا أَمْ لَا؟ مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ " فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أُسْلِمْ إِلَّا يَوْمَئِذٍ[4] " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ المَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ[5]" وهذا يدل على أنه إذا ألتزم الإنسان بظاهر الشرع فإنه مؤمن ولا يجوز تكفيره.
7.   وبالرغم من مهاجمة الغزالي للفلسفة والفلاسفة ليهدم فكرهم ومعتقدهم، إلا أنه أذكي الفكر الفلسفي بسبب صدى الآراء الهائل لهذا الكتاب، وواجه الفلاسفة بعد ذلك آراءه بالنقد والتمحيص، خاصة ابن رشد الذي كتب كتابه تهافت التهافت في القرن الذي تلي كتابه تهافت الفلاسفة. والفلسفة قد عرفت قفزة نوعية، بعد تأليف كتاب الغزالي، في الشرق والغرب وابن العربي الأندلسي الأشعري المذهب (مذهب الإمام الغزالي ) الذي التقى بالغزالي وسمع منه، والذي قال فيه قولته المشهورة:
"شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيأهم فما استطاع" وقال أيضا ابن تيمية "شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما استطاع"
     لذلك نرى أن الإمام الغزالي لم يستخدم منهجاً موضوعياً، يؤدي إلى نتائج يمكن الاطمئنان إليها أو الاعتماد عليها.
     إلا أنه يجب ألا نغفل أن الإمام الغزالي قد صحح موقفه تجاه استخدام العقل، وذلك في مؤلفاته بعد ذلك، فيقول عن علاقة العقل بالدين في كتابه: "مشكاة الأنوار" العقل أنموذج من نور الله " وفي كتابه "معارج القدس" يقول الغزالي: " العقل كالأس، والشرع كالبناء، ولن يغني أس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس، فالشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل ، وهما متعاضدان بل متحدان".
      يقول في كتابه إحياء علوم الدين "وظن ما يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن، فهذا ظن صادر عن عمى في عين البصيرة، نعوذ بالله منه، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض، فيعجز عن الجمع بينهما، فيظن أنه تناقض مع الدين، فيتحير به، فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين.
     كما أنه قال " إنه لا يقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل في أمثال هذه الأشياء " في كتابه فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة.
       ثالثاً: بالنسبة لابن رشد
1.   قد سلك ابن رشد مسلكاً موضوعياً عند النظر في آراء الآخرين، سواء فيما يتعلق بآراء الغزالي أو الفلاسفة المسلمين أو غيرهم من الفلاسفة، فلم يرفض كل ما قالوه ولم يقبل كل ما قالوه. ويقول ابن رشد في كتابه فصل المقال، عند الرجوع إلى كتب السلف (ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرناهم منه وعذرناهم).
ويعلق ابن رشد على الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة، فيقول: "فإن كان الرجل يقصد قول الحق في هذه الأشياء فغلط فهو معذور، وإن كان علم التمويه فيها فقصده، فإن لم يكن هنالك ضرورة داعية له فهو غير معذور، وإن كان قصد بها ليعرف أنه ليس عنده قول برهاني يعتمد عليه في هذه المسألة ـ كما يظهر من قوله ـ فهو صادق في ذلك، إذ لم يبلغ الرجل لمرتبة من العلم المحيط بهذه المسائل، وهذا هو الظاهر، وسبب ذلك أنه لم ينظر إلا في كتب ابن سينا، فلحقه القصور في الحكمة من هذه الجهة".
2.   اهتم ابن رشد في إظهار أن الشرع قد أوجب النظر في الموجودات واعتبارها، وذلك أخذا من قوله تعالى " فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ[6] " ويقول " أن العلاقة بين الفلسفة التي تمثل العقل، والشرع الذي يمثل الدين، هي أن الفلسفة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة، وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة، وأي خلاف بينهما إنما يرجع إلى أصحاب الأفهام الفاسدة والاعتقادات المنحرفة". ويعتمد ابن رشد علي القياس البرهاني في النظر إلى الموجودات، والبرهان هو كل ما ينطلق مما هو مشاهد ومحسوس. ويقول ابن رشد في كتابه تهافت التهافت "إن الفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع، فإن أدركته استوي الإدراكان، وكان ذلك أتم في المعرفة، وإن لم تدركه أعلمت بقصور العقل الإنساني عنه، و أن يدركه الشرع فقط" . 
3.   و يرى ابن رشد أن أصول الدين موضوع إيمان فلا يجوز للعقل الجدال فيها، لأنها تتعلق بموضوعات غيبية تقع خارج ميدان العقل وخارج البديهة والحس، أما مقاصده فهي حمل الناس علي الفضيلة بواسطة العمل ووفق ما يقرره الشرع، ومما تعطيه الشريعة من معرفة حول ظواهر الكون، هو إما من أجل تنبيه العقل إلى إمكانية توظيف قواه في إنتاج معرفة استدلالية، تذكي المعرفة الإيمانية التي تعطيها هذه الأصول، وإما من أجل توجيهه نحو إعمال العقل في تطبيق الشريعة حسب الظروف، لتوجيه الإنسان في كل وقت نحو الخير والفضيلة والسعادة. أما الفلسفة فلها أصول خاصة بها يضعها العقل ويسلم بها أو يبرهن عليها، يستقيها من الحس والتجربة وبديهية العقل، وهدفها هو بناء معرفة صحيحة بالكون بجميع ظواهره وأسبابه، وتهتم أيضا بسلوك الإنسان الفردي والجماعي، وهدفها توجيه الإنسان نحو الخير و السعادة.
ورغم ما تقدم فإن ابن رشد يؤخذ عليه، أنه استخدم العقل في الجدال في أمور غيبية، لينفيها ويثبت عكسها، مما يُفضي في النهاية إلى نتائج ظنية وغير قطعية.
     رابعاً:
     أنه لا يكفي أن يستخدم إنسان النصوص سواء كانت نصوص القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية الشريفة، لتكون حجة دامغة في مواجهة رأي الآخر، فقد يستدل شخصان بنص واحد لإثبات رأيين متضاديين في قضية واحدة، وذلك بسبب اختلاف مفهومهما حول النص، حيث أنه يستخدم فهمه في النص وليس معنى النص كما جاء من مصدره، وأن هذا الفهم هو فهمه الآن، وهو قابل للتغيير. ولهذا يجب أن يتفق المتحاورين على قواعد عند استخدام النصوص الدينية كمرجعية، فيجب أن يكون مفهوماً أن مسألة العقيدة (وخاصة كيفية الإيمان) هي مسألة بين العبد وربه وليس من سلطة أي إنسان الحكم عليها. كما أنه عند استخدام النصوص لتحقيق المصلحة العامة، يجب أن يتفق المجموع أو أغلبه على الرأي، في ضوء النص الديني وفي ضوء الهدف والمقصد منه.
     فقد استدل الغزالي بالحديث القدسي " أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ .." ويقول أن الجمع بين الأمرين أكمل.
     أما ابن رشد فقد أستدل بنفس هذا الحديث القدسي ويقول أن الوجود الأخروي سيكون له نشأة أخرى أعلى من هذا الوجود. وأستدل على أن ما ورد بالآية " مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ[7]..." هو أحث على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها عن المعاد، لذلك كان تمثيل المعاد لهم بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيلة بالأمور الروحانية ، فهو عنده مجرد تمثيل لما في المعاد.


     خامساً:
     وبعد اتفاق الغزالي( بعد تعديل موقفه) مع ابن رشد، في مفهومهما أنه لا يوجد تعارض بين العقل والشريعة، تكون النصوص الدينية ( الآيات والأحاديث)، هي المرجع لكليهما، حيث أنها تحث علــى استخدام العقل في الفهم والتفكر والتأمل والتدبر لنصوص الشرع وآلاء الله، وأُمر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، والآيات والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فأحي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[8]"
"الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار[9]ِ"
" أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[10]"
" وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ[11] "
" أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ[12] "
" أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ[13] "
 وقال صلوات الله و سلامه عليه: "أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم[14]"
      نتائج البحث.
1.   عند التعرض لأي فكر يجب التثبت من صحة انتساب رأى الآخر إليه، وأن يكون موقفنا في فهمه موقفا محايداً، وأن تكون لدينا مرجعية، نتفق أو نختلف مع الآخر، على أساسها، كما أن قبولنا أو رفضنا الآن لفكر الآخر يعتمد على إمكانياتنا الحالية، والتي نعلم أنها قد تتغير فيما بعد.
2.   لا يجوز الحكم على إنسان حكماً مطلقاً بالكفر نتيجة اختلاف الرأي، كما أن الحكم على كيفية الإيمان ليست من سلطه أي إنسان. ففهم الإنسان أو تجربته الشخصية فيما يتعلق بالغيبيات هي مسألة خاصة به، أو بمن يناسبه هذا الفهم أو هذه التجربة، وليس وعياً أو تجربةً يتم فرضها على الآخرين، أو الحكم عليهم من خلالها.
3.    وفي حاضرنا عند تلقي معلومات من الأرواح عن تجاربهم في العالم الآخر (كما في كتاب " الإنسان روح لا جسد" لرؤوف عبيد وغيره من الكتب) يجب أن يكون مفهوماً عندنا، أنها ـ في حالة صدق هذه التجارب ـ فهي وإن كانت تؤكد امتداد الحياة بعد الموت، ومدى تأثير فكر الإنسان ومعتقده وما كسبه، على الإنسان بعد انتقاله، إلا أنها تجارب شخصية في مستويات معينة، وهي تجارب خاصة بأصحابها وليست إخباراً عن كل ما في الجانب الآخر من أمورٍ وأحوال.
4.    لا يمكن التفكر في ذات الله، ولا يمكن الإحاطة بعلمه أو صفاته، ولا يجوز تشبيه الخالق بالمخلوق في الأفعال أو الصفات.
وإنما العلم عن الله وعن قوانينه، يصل إليه الإنسان ـ على قدره ـ من خلال ما يشاء الله له أن يحيط به من علمٍ عن الكون وعن نفسه (من عرف نفسه فقد عرف ربه) وهو علمٌ جزئي وليس علم إحاطة أو علماً كلياً، فالإنسان يعلم عن الكون وعن نفسه بصفتهما تجلياً لله وآلاءً له.
5.   إذا كان الإنسان مسئولاً عن رأى، فيجب أن يكون حريصاً عند إبداء هذا الرأي، خاصةً إذا كان سيترتب عليه نتائج يتأثر بها الآخرون.
6.    لا يجب الاحتجاج بالنصوص (القرآن والأحاديث النبوية) عند الحوار مع الآخر، ويجب أن يكون مفهوماً للطرفين أن كلاً منهما يحتج بمفهومه للنص، وليس بمعنى النص كما صدر عن مصدره. وفي العقيدة لا يجب فرض مفهوم شخص على آخر، أما بالنسبة لمصلحة الجماعة فيجب أن تقررها الجماعة، على ضوء مقاصد النصوص و أهدافها
7.    أنه لا يوجد تعارض بين العقل والدين، فاستخدام العقل في الفهم والتفكر والتدبر والتأمل في آيات الله وآلائه، أمر حثت عليه نصوص القرآن والسنة.
                                        




المراجع:
1.    تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي قدم له وعلق حواشيه جمال عبد الغني الدمشقي – دار الإسراء للنشر والتوزيع- عمان الأردن.
2.     تهافت التهافت: لابن رشد- سلسلة التراث الفلسفي العربي – مؤلفات ابن رشد دكتور عابد الجابري
3.   فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال تأليف أبو الوليد ابن رشد – ذخائر العرب 47 – دراسة وتحقيق دكتور محمد عمارة – دار المعارف – الطبعة الثالثة
4.    الدين والفلسفة والتنوير د/محمود حمدي زقزوق - سلسة اقرأ الثقافية.







 سورة السجدة الآية:[1]
 سورة آل عمران الآية 169.[2]
 سورة الحجرات: الآية 6[3]
 سنن أبي داود.[4]
 م.ن[5]
 سورة الحشر الآية[6]
 سورة الرعد: الآية 35.[7]
 سورة البقرة: الآية 164.[8]
 سورة آل عمران: الآية 191.[9]
 سورة النساء: الآية 82.[10]
 سورة الأنعام: الآية 98.[11]
 سورة الرعد: الآية 19. [12]
 سورة الروم: الآية 8.[13]
 إحياء علوم الدين: الغزالي ج 1، ص 144.[14]