الأحد، 12 أبريل 2015

موقف ابن رشد من مسألة البعث



في تحديد مسألة البعث ينطلق ابن رشد من فهمه للنفس طبقا للتصور الذي كان سائدا لدى جلّ الفلاسفة المسلمين وقد أثر ذلك على تصوره لحالة طبيعة البعث و الصفة التي يكون عليها. حيث أنكر حشر الأجساد في الآخرة والاكتفاء بالبعث الروحاني فقط.
     فلم يتبن فكرة البعث الجسماني التي قال بها بعض المتكلمين والفلاسفة و ذلك لاعتقاده بقدم المادة حيث يتفق أبن رشد مع الغزالي في الردّ على الذين ينكرون خلود النفس. إلا أنه في المقابل  ينفي عن الفلاسفة إنكارهم لمسألة  حشر الأجساد. وإذا ما وجد لواحد منهم هذا الأمر ففيه نظر يقوم على فكرة تتمثل أساسا أن أجسام الموتى تستحيل إلى تراب ونبات وأناس آخرين، و بالتالي فإن المادة الواحدة بعينها توجد في أكثر من شخص في أوقات مختلفة. ومثل هذه الأجسام ليس ممكنا أن توجد كلها بالفعل لأن مادتها هي واحدة. فالأجسام التي تعود في مثل الأجسام التي كانت في هذه الدار، لا بعينها، لأن المعدوم لا يعود بالشخص، وإنما يعود الموجود لمثل ما عدم لا لعين ما عدم. ذلك أن ما عدم، عدم ثم وجد فإنه واحد بالنوع، لا واحد بالعدد بل اثنان بالعدد. مع الإشارة أنّ قضية عودة الأجسام بعينها ليست من أصل الشرع ليكّفر من لا يعتقد بها، و قد اعترف ابن رشد بهذا صراحة فقال: "وذلك  أنه يظهر أن مواد الأجسام التي هاهنا توجد متعاقبة،  ومتنقلة من جسم إلى جسم.  مثال ذلك أن إنسانا مات واستحال جسمه إلى التراب ثم إلى نبات فاغتذى إنسان آخر من ذلك النبات، فكان منه مني تولد منه إنسان آخر.."[1]. والغزالي نفسه جوّز عودتها من مادّتها الأولى أو غيرها. ولتوضيح ذلك أضرب مثلا – ولله المثل الأعلى – إذا كان شخص يصنع تماثيل من مادة محددة ولتكن طين صلصال مثلا، وهذه المادة التي عنده تكفي لصنع عشر تماثيل؛ فبديهي أنه لا يستطيع صناعة تماثيل أخرى إلا إذا هدم التماثيل الأولى وأعاد  تشكيل مادتها من جديد بأشكال وأحجام مختلفة. ومعروف أن الكائنات لا تظهر في الوجود دفعة واحدة: فالناس تموت وتتحلل أجسادهم، وتصبح جزءا من التربة التي تنبت النبات الذي يتغذى عليه الحيوان والإنسان، فكأن الناس يتغذى بعضهم على بعض، و يتولد بعضهم من بعض فإذا كانت المادة أزلية غير مخلوقة فإنه يستحيل بعث جميع الأجساد من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة دفعة واحدة، ومن ثم أنكر هؤلاء المشاؤون المعاد الجسماني. 
     إن النفس عند أرسطو هي صورة الجسم، وهذا معناه أنها تفنى بفناء البدن، لكن ابن رشد تبنى تفسير ثامسطيوس قائلا: "إن أرسطو ينص على أن العقل الهيولاني[2] أزلي"[3] ولعله أراد بالعقل الهيولاني الأزلي العقل في النوع الإنساني الذي يبقى أو لعله أراد الأخذ بالتقية وإخفاء فكرته الحقيقية في زوال العقل والنفس معا على تفسيرات أخرى لمذهب أرسطو. وهذا التصور لا يخرج حقيقة عن تعريف أرسطو للنفس حتى أن الفلاسفة المسلمين إذ عرفوها بأنها " كمال أول لجسم آلي ذي حياة بالقوة  أو هي  تمامية جرم طبيعي ذي آلة قابل للحياة  كما عند الكندي والفارابي."
        ويعرفها ابن سينا بحسب أقسامها فيقول " والنفس كجنس واحد ينقسم بضرب من القسمة إلى ثلاثة أقسام:
Ø    أحدها النباتية: وهي كمال أول لجسم طبيعي من جهة ما يتولد و يربو ويتغذى.
Ø    الثاني النفس الحيوانية: و هي كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة.
Ø    الثالث  النفس الإنسانية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلى من جهة ما يفعل الأفعال الكائنة بالاختيار الفكري و الاستنباط بالرأي و من جهة ما يدرك الأمور بالكلية.
     والذي يهمنا في بحث المعرفة هنا هو النفس الإنسانية أو العاقلة التي هي عندهم جوهر الإنسان. وهذه النفس الإنسانية تحدث حسب – نظرية الفيض – من خلال فيضها عن العقال الفعّال، الذي هو الملك المشرف على حركة فلك القمر، والذي يطلقون عليه واهب الصور.                   
      وحدوث النفس وتعريفها على طريقة الفيض له الأثر البالغ على تفسير نظرية المعرفة ذلك أنه إذا كانت النفس الناطقة هي جوهر الإنسان على التحقيق، فالمعرفة الحقة هي سبيل الصعود إلى العالم العلوي، هذا على مبدأ أفلاطون.
      أما ابن رشد فيعترف بصعوبة تعريف النفس وبيان حقيقتها، ومع ذلك يعرفها بأنها ذات وليست بجسم، حية عالمة قادرة مريدة بصيرة متكلمة، وبأنها الجوهر الذي هو الصورة. ينقسم الكلام عن النفس عنده إلى ثلاثة أقسام يتعلق أولها بعدم جواز فناء النفس أو بخلودها، ويرتبط ثانيها بالعلاقة بين الوحدة والكثرة، بينما ينصب ثالثهـا على تصوره للمعاد الجسماني أو الإنساني بعد الموت.
   مسألة خلود النفس: 
     يعترف ابن رشد بأنّ مشكلة النفس من أعقد المشكلات الفلسفية على الحل، بسبب الإبهام الذي يكتنفها بقوله: "فالكلام في أمر النفس غامض جداً وإنما اختصّ الله تعالى به من الناس العلماء الراسخين في العلم، ولذلك قال سبحانه وتعالى مجيباً في هذه المسألة اليهود عندما سألوه، بأن هذا الطَّوْر من السؤال ليس هو من أطوارهـم في قوله سبحانه:" ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً"[4] وأما تشبيه الموت بالنوم ففيه استدلال ظاهر في بقاء النفس من قِبل أن النفس يبطل فعلها في النوم ببطلان آلتها، ولا تبطل هي، فيجب أن يكون حالها في الموت كحالها في النوم لأن حكم الأجزاء واحدٌ دليلٌ مشتركٌ للجميع لائق بالجمهور في اعتقاد الحق للعلماء على السبيل التي منها يوقف على بقاء النفس[5]. وذلك بـيّن من قوله سبحانه وتعالى: "الله يتوّفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"[6]
     يتضح من هذه النصوص الرشدية استحالة الفناء على النفوس البشرية، بعد مفارقتها للجسد مؤيداً في ذلك قول الفلاسفة الذي أورده الغزالي في كتاب تهافت الفلاسفة من أنّ " النفوس الإنسانية يستحيل عليها العدم بعد وجودها وأنها سرمدية، لا يُتَصوَّر فناؤها"[7]  ويورد ابن رشد حجج الفلاسفة على ذلك بقوله : " للفلاسفة على أن النفس يستحيل عليها العدم بعد الوجود دليلين أحدهما: أن النفس إن عُدِمت لم يخل عدمُها من ثلاثة أحوال إما أن تُعدم مع عدم البدن، وإما أن تُعدم من قبل ضدٍّ موجود لها أو أن تُعدم بقدرة القادر، وباطل أن تُعدم بعدم البدن، فإنها مفارقة للبدن، وباطل أن يكون لها ضد فأن الجوهر المفارق ليس له ضد، وباطل أن تتعلق قدرة القادر بالعدم على ما سلف"[8]
      ولتوضيح ذلك نقول: إنه يستحيل فناء النفس بفناء البدن إذ أن البدن ليس محلاً لها وإنما هو آلة تستعملها النفس بواسطة القوى التي في البدن، وفساد الآلة لا يوجب فساد مستعمل الآلة، هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى، إن للنفس فعلاً بغير مشاركة البدن، وفعلاً بمشاركته، أما الفعل الذي لها بمشاركة البدن ـ التخيل والإحساس والشهوات والغضب ـ فلا جرم يفسد بفساد البدن ويقوى بقوّته، وأما فعلها بغير مشاركة البدن، فهو فعل بالذات، وهو إدراك المعقولات المجردة عن المواد، ولا حاجة في كونها مدركـة للمعقولات إلى البدن ولم تفتقر في قوامها إلى البدن[9] فلا مَحَلَّ لها فيه، وهي بفعلها هذا لا تفسد بفساد البدن ومفارقتها له، فبقاؤها سرمدي بقاء العلة والمعلول،
     وأما القول بعدم النفس المفارقة بضدّ يطرأ عليها فهو قول باطل لأنها جوهر والجواهر لا ضد لها، وكل جوهر ليس في محل فلا يتصور عدمه بالضد،إذ لا ضد لما ليس في محل، فإن الأضداد هي المتعاقبة على محل واحد، وبالتالي لا ينعدم في العالم إلا الأعراض والصور المتعاقبة على الأشياء التي محلها المادة، والمادة جوهر لا ينعدم قط، فجميع الحواس تفسد بفساد البدن، والبدن نفسه ينعدم بفساده فيتحول إلى صور وأعراض جديدة محلها المادة نفسها، أمّا النفس العاقلة فهي جوهر لا محل له فلا تنعدم بالضد لعلة عدم وجود محل لها، وأما انعدامها بقدرة القادر فقول باطل، لأن القدرة تتعلق بوجود شيء بينما العدم ليس شيئاً حتى يتصوَّر وقوعه بالقدرة[10]، إذ لا وجود له على الإطلاق وبالتالي يستحيل فناؤها، إذاً القول بفناء النفس بعد الموت هو قول باطل حسب رأي الفلاسفة و(ابن رشد)، وعليه فالنفس الإنسانية العاقلة هي نفس خالدة باقية.
     من ناحية أخرى لم يتوسع (ابن رشد) في الدفاع عن حجج الفلاسفة حول موضوع النفس وبعث الأجساد، فيكتفي بتلخيص الأفكار التي يوردها (الغزّالي) في النفس ولا يسوق عباراته نفسها - أي عبارات الغزالي - جرياً على عادته، ولعلّه لم يفض في الحديث عن النفس لأن الحديث عنها معقد جداً، لذلك يتناولها بحذر شديد فيكتفي ويسوق بعض ما قيل عنها، كالقول: بأنها ذات غير جسمانية، ولا هي في جسم، حيةٌ، عاملةٌ، مريدةٌ، قادرةٌ، متكلمةٌ، سمعيةٌ، بصيرةٌ، وهو اعتقادٌ لدى المعتزلة أولاً و الأشعرية ثانياً، إلا أن الأشعرية دون المعتزلة اعتقدوا بأن هذه الذات هي الفاعلة لجميع الموجودات بلا وساطة… فهؤلاء وضعوا مبدأ الموجودات نفساً كليّة مفارقة للمادة من حيث لم يشعروا[11] لاعتقادهم بأن هذه الذّات الحيّة، العالمة، المريدة، السّميعة، البصيرة، القادرة، المتكلّمة، موجودة مع كل شيء وفي كل شيء أي متصلة به اتصال وجود[12] بمعنى أنها في علاقة مركّبة تجمع بينها وبين الأشياء الأمر الذي أوقعهم في بعض العثرات الناجمة عن هذا الفهم، منها أن تسليمهم بأن العلاقة التي تربط بين النفس والأشياء هي علاقة وجود لا انفصام فيها، يتعارض مع قولهم بأن مبدأ الموجودات نفساً كلّيّةً مفارقة للمادة، كذلك تصنيفهم للموجودات إلى موجودات حية وأخرى جامدة ثم إنكارهم للأفعال الصادرة عن الموجودات التي هي جمادات، وحصرها على الموجودات الحية، هو إنكار للأفعال الصادرة عن الأمور الطبيعية[13]  وتعارضٌ مع مبدئهم القائل بأن النفس موجودة مع كل شيء وفي كل شيء وبأنها حية عالمة قادرة مريدة ...[14]
      فيأخذ على الأشعرية قولهم (بوجود النفس مع كل شيء وفي كل شيء في علاقة مركبة) ومن ثم اعتبارهم لها ذاتاً فاعلةً لجميع الموجودات بلا واسطة، مع تقريرهم بأن النفس ذاتٌ غير جسمانية، وأنه ليس بين النفس وهذا الوجود فرق إلا أن النفس هي في جسم، وهذا الموجود هو نفس ليس في جسم، فإنه بالضرورة أن يكون ما كان بهذه الصفة مركّب من ذات وصفات، وكل مُركَّب فهو ضروري يحتاج إلى مُرَكِّب، مما ينـزع صفة الخلود عنه وفقاً لقول (ابن رشد) بأنّ: "المُكَوَّن ليس شيئاً غير المركَّب، فكما أن لكل مفعول فاعلاً، كذلك لكل مُركَّب مُركِّباً فاعلاً، لأن التركيب شرط في وجود المركَّب"[15]  وبالتالي يستحيل ما كان مركَّباً أن يكون علّة لوجوده، لذلك كانت (المعتزلة) أقرب إلى الصواب والمنطق من (الأشعرية) من وجهة نظره، بتقريرهم كون الشيء موجوداً، وواحداً، وأزلياً، وغير ذلك..، ومذهب الفلاسفة في المبدأ الأول، هو قريب من مذهب المعتزلة[16] كما يقول ابن رشد نفسه. إن قول (ابن رشد) بخلود النفس وبقائها ليس معزولاً عن آرائه الفلسفية في الله والعالم، وعن إنكاره لوجود العدم المحض، وتسليمه بوجود الله والعالم وجودا أزلياأبدياً، وأنّ النفس العاقلة هي نفس خالدة لا تفسد كونها صادرة عن العقل الهيولاني الذي لا يفسد أبداً، والذي تصدر عنه نفوس أفراد النوع الإنساني التي وإن تعددت بتعدد أفراد النوع الإنساني، إلا أنها تبقى واحدة من حيث الجنس المشتقة منه كما سيظهر من خلال تناول موضوع النفس في علاقتها بالوحدة و الكثرة.
   النفس بين الوحدة و الكثرة:
     يعتقد (ابن رشد) بأن النفس الإنسانية واحدة بالصورة مصدرها الهيولى، وأما الكثرة التي تلحقها فهي من قبل المواد الموجودة فيها، الأمر الذي أوقعه في اختلاف شديد مع التفسير الذي يرجع النفوس الفردية المتعددة إلى نفس واحدة هي (آدم)، وليس إلى الهيولى التي قال بها هو نفسه مما أدى إلى حدوث خصومات شديدة مع رجال الدين مسلمين ومسيحيين.
   يقول (ابن رشد)" وأما وضع نفوس من غير هيولى كثيرة بالعدد، فغير معروف من مذهب القوم لأن سبب الكثرة العددية هي المادة عندهم، وسبب الاتفاق في الكثرة العددية هي الصّورة، وأما أن توجد أشياء كثيرة بالعدد واحدة بالصورة، بغير مادة فمحال، وإنما يفترق الشخص من الشخص من قبل المادة"[17] وعليه فإن عامل الكثرة في النفس هو المادة المتعلقة بها، ولو انتزعت المادة عنها لانتفت الكثرة فلم يتبقّ إلا الوحدة أي الصورة النوعية للنفس، وإن انقسام النفس إلى أنفس متجانسة إلى ما لا حصر له من الأنفس لا يفقدها سمة الوحدة ولا يدخلها في حالة من التمايز بحال من الأحوال، ولأن التمايز الحقيقي من وجهة نظر (ابن رشد) هو تمايز في المادة المتعلقة بالنفوس الفردية، والنفوس الفردية ليست إلا أجزاء من جنس واحد، لدى أفراد النوع الإنساني بأكمله، وما تمايز الأفراد بعضهم عن بعض إلا من قبل الأجساد والعناصر المتكوّنة منها، الأمر الذي يجعل من علم عمرو بشيء علماً خاصا به لا يعلمه زيد لأن مراكز القوى الحاسّة والعاقلة وغيرها في جسد عمرو ليست هي عينها لدى زيد.
     لقد ميز (ابن رشد) بين النفس المفارقة وهي النفس النوعية الواحدة وبين النفس المخلّقة، أي النفوس الكثيرة المتعددة بتعدد أفراد النوع الإنساني، إذ أن النفس المفارقة هي نفس واحدة لدى جميع الأفراد، وهي نفس عاقلة، وأما النفس المخلّقة، فهي متعددة بالعدد بتعدد أفراد النوع الإنساني، وتدخل في علاقة حية مع الأجساد الموجودة فيها. وإذا ما فسدت تلك الأجساد، فحال النفس تصبح معطلة عن الفعل لافتقادها إلى الآلة التي تعمل بواسطتها، لكنها لا تَعْدَم بل يمسكها الله إليه أو إنها تنعتق من علاقتها بالجسد لتبقى في الهيولى خالدة خلود الهيولى ذاتهـا أو بمثلٍ تشبيهي أن النفس الفردية المفارقـة تعـود للاندماج بالنفس الكلية الواحدة.
     ويسوق ابن رشد بعض الحجج المؤيدة للكثرة في النفس وتمايزها بين الأفراد بتمايز الأجساد الموجودة فيها، كحجج (ابن سينا) في هذه المسألة بقوله: " فإن المختار عند ابن سينا أن تكون النفس متعددة بتعدد الأبدان،لأنّ كون النفس واحدة من كل وجه في جميع الأشخاص تلحقه محالات كثيرة منها: أن يكون إذا علم زيد شيئاً علمه عمرو، وإذا جهله عمرو جهله زيد، إلى غير ذلك من المحالات التي تلزم عن هذا الوضع، وأما القول بأنها إذا نزلت متعددة بتعدد الأجسام لزم أن تكون مرتبطة بها، فتفسد ضرورة بفساد الأجسام"[18]. أي أن النفس الإنسانية يستحيل أن تُفهم في علاقتها بالوحدة والكثرة بمعزل عن الأبدان التي توجد فيها، وأن النفس المفارقة للأبدان لا بد وأن تعود إلى مادتها الروحانية اللطيفة عودة الجزء إلى الكل من وجهة نظر (ابن رشد)، وحتى يقرب (ابن رشد) طبيعة العلاقة بين الوحدة والكثرة في النفس فإنه يسوق تشبيهاً تمثيلياً آخر لها، بالضوء ومصدره " فكما أن الضوء ينقسم بانقسام الأجسام المضيئة، ثم يتحد عند انتفاء الأجسام كذلك الأمر في النفس مع الأبدان "[19]
     وحاصل القول: أن النفس واحدة بالنوع متعددة بالعدد بتعدد الْمَحال التي تتواجد فيها وما أن تفسد تلك الْمَحال حتى يبطل ذلك التعدّد فتبقى الوحدة النوعية الكلية للنفس بقاء أبدياً، ولعل قوله تعالى: "يا أيتها النفس المطمئنة أرجعي إلى ربك راضية مرضية فأدخلي في عبادي وأدخلي جنتي"[20] دليل على وحدة النفس على الرغم من دخولها في أعداد كثيرة من الناس.
     يعتقد ابن رشد بأن عودة الأنفس إلى الأبدان بعد الموت، هي عودة تختلف عن الحال التي كانت فيها الأنفس مع الأبدان قبل الموت، ذلك أن الأبدان بعد الموت يطرأ عليها الفساد والتغير، مما يعني أنها لن تعود إلى عين الحال التي كانت عليها قبل الموت وإنما ستعود على شبه الحال التي كانت عليها قبل الموت، أما مصير النفوس فيتحدد تبعاً للأحوال التي كانت عليها قبل الموت  فإن كانت التقـوى هي الغالبـة عليـها فإن الله سيحسن جزاءها وإن كان الفجور هو الغالب عليها فإن الله سيعيدها إلى أجساد شقيـّة تتألم فيها بأشد المحسوسات أذى وهي النار. يقول (ابن رشد): " إن الله اخبرنا بأنه يعيد النفوس السعيدة إلى أجساد تنعم فيها الدهر كله بأشد المحسوسات نعيماً وهي الجنة، وأنه يعيد النفوس الشقية إلى أجساد تتألم فيها الدهر كله بأشد المحسوسات أذى وهي النار، أما تمثيل المعاد للجمهور بالأمور الجسمانية فهو أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية، فهو أحث على الأعمال الفاضلة "[21]  وعليه فإن الأجساد التي يعيد الله الأنفس إليها، ليست هي عين الأجساد التي كانت في الحياة الدنيوية، إذ أن الأجساد عند موتها تفسد وتتحلل إلى عناصر تدخل في التربة، فمنها ما يتحول إلى عناصر يتغذى بها النبات وينتقل بعد ذلك إلى الحيوان والإنسان، مما يعني استحالة عودة الأجساد المعدومة لعين ما عُدِمت عليه لأنه إذا كان ذلك كذلك فإن الأجساد الميتة تصبح مشترِكة مع الأجساد اللاحقة عليها المتغذية بها في التركيب المادي، وإنّ فصل مركبات الأجساد عن بعضها في محاولة لإعادة الأجساد لعين ما كانت عليه سَيُلحق تغيراً محتوماً على تلك الأجساد إلى حد تفقد فيه كثيراً من عناصرها الماديّة، وبالتالي فإن " المرجَّح إزاء ذلك هو أن يعيد الله الأجساد المعدمة من مادة مثلية للمادة التي كانت عليها و ليس عينها"[22] وعليه يمتنع عودة الشخص من كل جهة، فليس يمكن أن يعود الشخص، والنفس تتخذ جسماً آخر غير جسمها الحالي لأن هذا الجسم يفنى بالتراب ولا يعود من غير أسباب[23]  الأمر الذي اعتبره علماء الدين من المسلمين والمسيحيين يشكل تحدياً آخر يضاف إلى آرائه الفلسفية في مسألة قدم العالم، فقدم العالم إنكار صريح من جانب (ابن رشد) للقول بأن العالم مخلوق من عدم وفي أوقات مختلفة ، كما هو الحال عند (الغزالي) و(ألبرت) و(توما) والقول ببقاء النفس النوعية الواحدة إنكار لقول الوحي ببقاء النفس الفردية وتهيئـتها لحساب اليوم الآخر، والقول بعودة أجساد الأشخاص لمثل ما كانت عليه هو إنكار صريح لقدرة الله في بعث من في القبور بأنفسهم وبحواسهم عينها، كي تشهد عليهم فيما كانوا يفعلونه في الحياة الدنيوية.
     ولعل (ابن رشد) كان أكثر صراحة في تناوله لمشكلة قدم العالم، منه في مشكلة النفس، لأن المجاهرة الفلسفية بأمور النفس لا تخلو من مخاطر كبيرة لا يقوى على احتمال نتائجها، فاقتصر على ذكر بعض ما قاله الفلاسفة، مع إشارات تعَبّر عن مواقفه إزاء بعض المسائل المتعلقة بها لكون الحديث عنها يكتنفه الغموض كما جاهر بذلك في تهافت التهافت بقوله: " وقد رأيت أن أقطع هاهنا القول في هذه الأشياء والاستغفار من التكلم فيها، ولولا ضرورة طلب الحق مع أهله، و هو كما يقول جالينوس رجل واحد خير من ألف و التصدي إلى أن يتكلم فيه من ليس أهله  -ويقصد بهم العلماء الراسخون في العلم- ما تكلمت في ذلك من علم الله بحرف."[24] 
     على أية حال فإن ما قدمه (ابن رشد) من آراء فلسفية في بحثه لمشكلتي العالم والنفس، سيجد آثاره المباشرة وغير المباشرة على التغيرات التاريخية الهامة في المجتمعات الأوروبية في العصور الوسطى، كولادة حركات الإصلاح الديني إذ وجدت الظروف مواتية لقيامها، بفعل حركة الجدل العقلي الواسعة بين علماء اللاهوت والفلاسفة الرشديين، إزاء فلسفة (ابن رشد) بعامّة، وفلسفته في العالم والنفس بخاصّة، الأمر الذي جعل العقل يشغل مكان الصدارة، فهو الحكم الذي يحَتكم إليه الخصوم من رجال الدين والفلاسفة على حد سواء، بعد أن ظل مقيداً لقرون من الزمن أمام سلطة اللاهوت بوصفها (سلطة للوحي) لا يجرؤ إنسان على إبداء الرأي بها أو الاعتراض عليها، فلم يكن بالإمكان وقتئذ حدوث تلك التغيرات في ظل تلك الظروف ومنها قيام حركات الإصلاح الديني على الصورة التي قامت عليها فيما بعد بخاصة تلك التي ظهرت بزعامة (مارتن لوثر) و(جون كالفن) في القرن السادس عشر، إلاّ بعد أن أسهمت  الفلسفة الرشدية في خلق بعض الشروط الضرورية لولادتها.



1 الكشف عن مناهج الأدلة ص 245
2 الهيولى: كلمة يونانية الأصل و براد بها المادة الأولى و هو كل ما يقبل الصورة و ترجع إلى أرسطو ثمّ أخذها المدرسون من بعده. المعجم الفلسفي مجمع اللغة الغربية بمصر  ص 286
3 تلخيص كتاب النفس ص 96
4 القرآن الكريم سورة الإسراء الآية 85
 أنظر ابن رشد تهافت التهافت القسم الثاني ص 833 / 834 تحقيق سليمان دنيا 5
 سورة الزمر الآية 42 6
7 تهافت الفلاسفة ص 274 : أبو حامد الغزالي
 8 تهافت التهافت: ابن رشد ص 858 / 859
 9 راجع كتاب تهافت الفلاسفة ص 274
 نفس المصدر ص 275 10
 تهافت التهافت: ص 357 / 358 11
 نفس المصدر ص 358 12
 ن.م ص 360 13
 ن.م ص 358 14
15 ن.م ص 367
 ن.م ص 368 16
17 تهافت التهافت : ص 88 / 89
 تهافت التهافت: ص 859 / 860 18
 ن.م ص 861 19
 سورة الفجر الآيات: 27 / 28 / 29 / 30 20
 تهافت التهافت: ص 870 21
 عبد الرحمان بدوي: موسوعة الفلسفة ج 1 ص 33 / 34 22
 أنطوان فرح:ابن رشد و فلسفته ص 51 23
 تهافت التهافت: ص 874 24

هناك تعليق واحد: