ما هو علم الاستغراب؟
أ/د علي الصولي –جامعة الزيتونة- تونس
هل الاستغراب هو علم معرفتنا بالغرب، أم أنه
علم معرفة الغرب بنفسه، أم المعرفتين معاً؟ ونضيف: هل يندرج اهتمامنا بعلم الاستغراب كميدان علمي
مستحدث أملته ضرورات حضارية، أم أنه ضرب من انفعال ارتدادي على ما اقترفه
الاستشراق من جنايات وهو يتاخم مجتمعاتنا خلال أحقابه المتعاقبة؟
الإجابات المحتملة قد تتعدى حدود وآفاق هذا
التساؤل المركب. فالاستفهام عمّا إذا كان الاستغراب يؤلف مفهوما حقيقيا في الواقع
أم أنه مجرد شائعة، هو استفهام مشروع. إذ حين تتحول مفردة ”الاستغراب“ من ملفوظ له منزلته في
عالم اللغة، إلى مصطلح له حقله الدلالي المفترض يصبح العثور على تحديد دقيق
للمصطلح ضرورة معرفية وحضارية في آن. وعلى ما بينت التجربة ففي كل محضر يستعمل فيه
مصطلح "الاستغراب" تتحول الأمور الى دائرة الإشكال. فعندما نستغرب أمرا
ما، نروح نُعرب عن استشعار تلقائي بغموضه، أو بعسر فهمنا له، حتى اقتربنا منه
متسائلين عن سر نشوئه، مستكشفين خرائطه ومبانيه ومآلاته، انفتح لنا احتمال إدراكه
وفهمه.
لكن لسائل أن يسأل لماذا ندرس الغرب؟ وكيف لنا أن ندرس هذا العالم الذي
سبقنا بمراحل عديدة أو بعدة قرون؟ إن الأمر ليس صعباً أو مستحيلاً؛ فإننا إذا
رجعنا إلى بداية الدعوة الإسلامية وجدنا أن المسلمين الأوائل حينما خرجوا لنشر
الدعوة الإسلامية في العالم كانوا على معرفة بعقائد وعادات وتقاليد الأمم الأخرى،
وكانوا يعرفونها سياسيا واقتصاديا وجغرافيا، ولذلك فإنّ المسلمين الأوائل لم يجدوا
صعوبة في التعرُّف على الشعوب الأخرى والتفاعل معها وأخذ ما يفيدهم ممّا لدى تلك
الأمم من وسائل المدنيّة، إذ أخذوا الديوان والبريد وبعض الصناعات المهمة مثل
صناعة الورق التي طورّها المسلمون حتى أصبحت صناعة إسلامية.
فالاستغراب ظاهرة وعلما، وقد يعني ظاهرة نفسية واجتماعية وثقافية معاصرة،
يتميز الأفراد الذين يجسّدونها بالميل نحو الغرب والتعلّق به ومحاكاته. وقد اتّخذت
محاولات استنهاض الشرق أشكالا عدّة، ولعلّ دراسة أحوال الأمم المتقدمة المتطورة
كان أحد هذه الأشكال، حيث اتجهت أنظار بعض المفكرين إلى الغرب، بوصفه آخذا بزمام
التقدّم التقني والعلمي للحضارة المعاصرة؛ وذلك للإفادة من تجربته في التطوّر
والتقدّم الذي أحرزه في معظم الأصعدة.
ولو رجعنا بالزمن قليلا إلى الوراء لوجدنا أن الاستشراق الذي مارسه الغرب خلال
تاريخ طويل ومسارات مختلفة، قد ضمن له السيطرة والتفوق المادّي والعلمي على الشرق،
بحيث كان الغرب هو الدارس، والشرق هو المدروس، والغرب هو الفاعل، والشرق هو المفعول،
حتى أصبح الشرق فيما بعد مجرّد منفّذ لسياسات الغرب ومخطّطاته، ومستهلك لمصنوعاته
ومنتجاته.
صورة تعبر عن الاستشراق السابق
للاستغراب، فكيف ندرس الغرب؟ لا بد من التخطيط الفعّال في هذه القضيّة إن أردنا أن
ننجح حقا في معرفة الغرب والإفادة من المعطيات الإيجابية للحضارة الغربية. ويحتاج
هذا الأمر إلى تضافر الجهود والتأسيس الرسمي المتين لذلك، أو لمراكز عديدة في
الجامعات العربية والإسلامية تنسق فيما بينها المشاريع لوضع الخطط اللازمة لهذه
الدراسات ونشرها. ولكن حتى يتم ذلك لا بد من التفكير في الطريقة المثلى لهذه
الدراسات.
لكن قبل هذا وذاك هل وقع الاتفاق
على تعريف محدد للاستغراب وإذا أردنا تعريفه بوصفه علما يمكن القول: هو الاختصاص
الذي يهتم بدراسة الغرب من جميع النواحي العقدية والتشريعية، والتاريخية
والجغرافية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
ربّما كانت أهم الأسباب التي جعلت العرب يتجهون بأنظارهم إلى الغرب، ضعف الانتماء
الإسلامي، وتردّي الحالة العربية سياسيا وتنمويا، كلّ ذلك كان يدفع بقوة إلى
مراجعة الذات ووضع اليد على المشكلات، والبحث عن الحلول، في سبيل نهضة الشرق،
وتأكيد الهوية.
من هذا
المنطلق فالاستغراب مصطلح مستحدث لا تزال أركانه النظرية والمعرفية في طور
التشكُّل.
وفي عالم المفاهيم يصبح الكلام على «مصطلح الاستغراب» أكثر تعقيداً. ومرجع الأمر
الى فرادته وخصوصيته، وحداثة دخوله مجال المداولة في الفكر الإسلامي المعاصر.
في عالم المفاهيم يصبح الكلام على ”مصطلح الاستغراب“ أكثر تعقيداً. ربما
لهذه الدواعي لم يتحول هذا المصطلح إلى منظومة معرفية مكتملة النصاب.
ذلك على الرغم من المجهودات الكبيرة التي بذلها مفكرون عرب ومسلمون من أجل تظهير
علم معاصر يُعنى بمعرفة الغرب، ويكون نظيرا مقتدرا مقابل علم الاستشراق وثقافته.
فلكي يتخذ المصطلح مكانته
كواحد من مفاتيح المعرفة في الفكر العربي الإسلامي وجب أن تتوفر له بيئات راعية،
ونخب مدركة، ومؤسسات ذات آفاق إحيائية، وكل ذلك في إطار مشروع حضاري متكامل.
لكن واقع الحال اليوم، يفيد بأنّ هناك بيئات
مترامية الأطراف من هذه النخب لم تفارق مباغتات الحداثة الغربية سواء في حقل
التعامل مع المفاهيم أو في الحقول المختلفة للمعارف والعلوم الإنسانية. وتلك حالة
سارية لا تزال تُعرب عن نفسها في المجتمعات المشرقية والإسلامية بوجوه شتى:
·
وجه يتماهى
مع الحداثة ومنجزاتها تماهيا تاما لا محل فيه لمساءلة أو نقد. وهو ما تبرز ظواهره
على أتِّم صَوِرها في تأسيس الاستشراق، وسيرورة حضوره التاريخي داخل المجتمعات
العربية والإسلامية.
·
ووجه تنحصر
محاولاته داخل منظومات ايديولوجية وطنية أو قومية أو دينية، إلاّ أنها تبقى محكومة
بتصورات رومانسية وأحكام انفعاليّة حيال مركزية الغرب وإمبرياليته الأكاديمية
والمعرفية.
·
وجه ثالث
يأتينا على صورة محاولات ووعود واحتمالات ثم لا يلبث أن يظهر لنا بعد زمن، قصور
أصحابها على بلورة مناهج تفكير تستهدي بها أجيال الأمة لحل مشكلاتها الحضارية.
لا يساورنا الشك في أن تحويل علم الاستغراب
الى حدث فكري، هو مشروع معرفي حضاري يستلزم جهدا ضخما يطابق الغاية التي طُرح من
أجلها. فإذا كان «الاستغراب» يعني «علم معرفة الغرب»، فمن أولى مقتضياته تسييل هذا
العلم من خلال التعرف على مناهج تفكير الغرب الفكرية والثقافية والأيديولوجية،
وإعادة قراءتها بروح نقدية عارفة. وعليه تقوم دراسته على خمس ضرورات:
·
ضرورة
توحيدية، ويفترضها التشظِّي الذي يعصف بالبلاد والمجتمعات الإسلامية ويجعل نُخبها
ومثقفيها ومكوناتها الاجتماعية أشبه بمستوطنات مغلقة، وتبعا لهذا التشظّي وكحاصل له،
تنحدر هموم الأمة الى المراتب الدنيا من اهتماماتها.
·
ضرورة
تنظرية، وتتأتى من الحاجة الى ايجاد مفاهيم ونظريات ومعارف من شأنها تحفيز منتديات
التفكير، وتنمية حركة النقاش والسجال والنقد.. وإلى ذلك كذلك، الحاجة إلى تسييل حركة الفكر العالمي من خلال التعريب والترجمة والنقد، على
نحو يسهم في تفعيل مشتغلات الفكر العربي الإسلامي المعاصر وإقامتها على نصاب
الحيوية والجَّدة.
·
ضرورة
معرفية، وتنطلق من أهمية بناء قاعدة للتواصل بين نخب المجتمعات الغربية والإسلامية
وطرح الأفكار والمعارف، وتمتد عبرها خطوط التعرف في ما بينها.
·
ضرورة
نقدية، ويتلازم فيها تفعيل نقد الذات بالتوازي مع نقد الآخر الغربي.
وتبعا لمقتضي مقاربة الاستغراب كمفهوم يرمز
الى منظومة تفكير حيال الغرب، ينبغي العناية بالحقول المعرفية التالية:
1.
التعرف على
المجتمعات الغربية كما هي في الواقع، وذلك من خلال مواكبة تطوراتها العلمية
والفكرية والثقافية والسياسية، وعبر ما تقدمه نخب هذه المجتمعات من معارف في سياق
تظهيرها للمفاهيم والأفكار والمشكلات التي يشهدها مطلع القرن الحالي.
2.
التعرف على
المناهج والسياسات التي اعتمدها الغرب حيال الشرق والمجتمعات الإسلامية على وجه
الخصوص، وذلك بقصد جلاء الحقائق وتبديد الأوهام التي استحلت التفكير الإسلامي
ردحاً طويلا من الزمن.
3.
المتاخمة
النقدية لقيم الغرب. وهي على أربعة أوجه:
·
الوجه
الأول: نقد قيّم الفكر الغربي وآثارها المترتبة فكريا على الانتلجنسيا
الإسلامية، وبيان آليات نقد الاستغراب السلبي الناجمة منها...
·
الوجه
الثاني: نقد الغرب لذاته وخصوصاً لجهة ما يكتبه الفلاسفة والمفكرون والباحثون
الغربيون من الرواد والمعاصرين حول القضايا التي تعكس أحوال مجتمعاتهم، والتحولات
التي تحتدم فيها تلك المجتمعات في الميادين المختلفة.
·
الوجه
الثالث: نقد النخب الإسلامية للغرب، انطلاقاً من معرفتها به واستيعابها لتاريخه
وسعيها الى مناظرته على أرض التكافؤ والتعادل والكلمة السواء.
ويكتسب هذا الحقل ضرورته
المعرفية والنقدية من ثلاثة مقتضيات:
أ- وجوب تفكيك اللبس الذي
تراكم في الوعي الإسلامي على امتداد أجيال من المتاخمة والاحتدام مع مواريث
الحداثة الغربية بوجهيها المعرفي والكولونيالي.
في سياق هذه المهمة يحدونا الأمل إلى بلورة نظرية معرفة ترسي قواعد فهم جديدة
للأسس والتصورات التي يقوم عليها العقل الغربي وهو الأمر الذي
يفتح باب الإجابة على التساؤل عما لو تيسر لنا أن نكوّن فهما صائبا عن غرب، انتج
شتى أنواع الفنون والقيم والأفكار، وجاءنا في الوقت عينه بما لا حصر له من صنوف
العنف والغزو والحروب المستدامة.
ب- جلاء حقيقة أن لمعارف
الغرب حواضن في المجتمعات العربية والإسلامية تتلقى تلك المعارف وترعاها، لتعيد
إنتاجها على النحو الذي يريده لها العقل الغربي نفسه. بيان ذلك أن هذا الأخير، يجد
لدى نخب تاريخية واسعة في مجتمعاتنا من يتماهى معه في خطبته وأفكاره، أو أن يمتثل
إلى معارفه المستحدثة.
وربّما انساق معه، فانخلع من بيئته، وتجرّد من ثقافته، ورأى في الحضارة الغربية
قدوة يحتذى بها في جميع المجالات، حتى أنّه غدا يتفاخر في كتاباته باقتباس مقاطع
من كلام الغربيين، ولكأنها نصوص مقدسة، تضفي على كلامه صفة العلم الرفيع والفهم
الشديد! هذا حال من جاز أن يُنظر إليهم وهم على نصاب
«الاستغراب السلبي». فما نعنيه بهذا النوع من الاستغراب، هو ناتج تفاعل مركّب بين
دهشة العربي المسلم بحداثة الغرب ومنجزاته من جهة، وطريقة تعامله معها من جهة
أخرى. فنتيجة هذا التركيب على الإجمال،
بدأ هذا «المستغِرب» في حالة استلاب وتبعية لمنظومة الغرب وخصوصياتها،
وتالياً كامتداد محلي لها.
أما حاصل الأمر، فكان أدنى الى استيطان
معرفي لا يفتأ يستعيد أسئلة الغرب وأجوبته على نحو الإذعان والتسليم. ولسنا نغالي
لو قلنا أن الاستغراب السلبي الذي نقصده لوصف أحوال شطر وازن من مثقفي العالم
الإسلامي هو فكر انتجته الدهشة،
ووسعته الترجمة، ورَّسخته الهيمنة، ثم لترتضيه نخب وازنة من مجتمعاتنا فتتخذه
سبيلا لفهم ذاتها وفهم غيرها، فضلا عن فهم العالم من حولها في الآن عينه.
ج ـ إنجاز تصورات لمنظومة
معرفية تفضي إلى إيجاد المعارف والمفاهيم الإسلامية ضمن تعُّرف خلاَّق لا تشوبه
التباسات ثقافة الاستشراق
وعيوبها. وما من ريب في أن الداعي الى هذا التعرف تجاوز الانسداد الحضاري الذي لا
نزال نعيش تداعياته وآثاره على امتداد خمسة قرون خلت من ولادة الحداثة.
كما تستهدف هذه المنظومة اجتياز الموانع
التاريخية التي تركها مسار الحداثة الغربية عندما أنشأ الاستغراب الإسلامي على هدي
كلماته ورؤاه من دون أن يحل فيه ما هو بنَّاء في نهضته وحداثته. فكانت الحصيلة أن
بلغ به الحال القابل حداً صار فيه مستغِرباً كل ما له صلة بعالم المفاهيم والأفكار
والابتكار.. ولأن الاستغراب المذموم بهذا المعنى والمسار، صار الوجه الآخر
للاستشراق، فقد أضاعت الانتلجنسيا الإسلامية ماهيتها وهويتها وسمتَها الخاصة، فإذا
هي مستلبة أو قاصرة، بل وغير قادرة على إنتاج فهم مطابق لروح الزمن الذي تعبره، لا
في مواجهة نفسها ولا في مواجهة الآخر.
يدخل علم الاستشراق ببعديه الكلاسيكي
والمستحدث كأداة أصيلة في دراسة الغرب. ولقد ابتنينا مسعانا في فهم علم الاستشراق
على خمس فرضيات تؤلف على الجملة مدخلاً لتنظير جديد من أجل التعرف على مبانيه
ومناهجه:
·
الفرضية
الاولى: تقوم على بيانات تاريخية مؤداها أن الغرب– بمؤسساته الفلسفية واللاهوتية
والأيديولوجية والسياسية، دخل في خصام عميق مع الإسلام.
لقد جاء بتهميش للقيم الإسلامية عبر منظومة شاملة من المعارف والنظريات والأحكام
الايديولوجية. حيث اشتغل على بناء هذه المنظومة وصياغتها حشد هائل من فلاسفة
ولاهوتيين وعلماء اجتماع في اطار حركة الاستشراق التي استهلت رحلتها المعادية
للإسلام بعد سقوط الأندلس عام 1492م. فلقد كان يوماً مشهوداً يذكره التاريخ
الدرامي لعلاقة الغرب بالإسلام لما دقت أجراس الكنائس في أرجاء أوروبا تعبيرا عن
الفرحة بالانتصار.
·
الفرضية
الثانية: أن الإستشراق يبتدئ مع الحداثة، التي اتخذت مجراها الفعلي بدءا من القرن
الرابع عشر الميلادي، ثم يتوقف عند أطوار ما بعد الحداثة السارية عبر التاريخ حتى
مستهل القرن الحالي فالاستشراق إذاً، فعل متجدد حفر مجراه في أرض الشرق منذ أن
تحيز الغرب كفضاء حضاري تحت مقولة الدولة – الأمة، ثم ليحمله تحيزه إلى الامتداد
والتوسع باتجاه شرق ما كان له من مناص حيال ذلك، إلا أن يتدرع بوحيه وإيمانه
وهويته الحضارية ليحمي نفسه من التعطيل والتكفير والاندثار.
·
الفرضية
الثالثة: أن مقاربة الاستشراق من جانب نخب المسلمين بدأت في الغالب كما لو أنها
تقليد معرفي لا مرد له. بل إنّ هذه المقاربة راحت تستغرق ما دامت ثنائية (غرب-
شرق) هي الحقل الذي منه تولد الأفكار والمعارف والمواقف وقوانين الاحتدام. ومن هذا
الداعي كذلك، نجد ما يستحثنا، كعرب ومسلمين على معرفة ما ينبغي معرفته بنظير يغشى
صورته ضباب كثيف. حيناً يظهر علينا كساحر يأتينا بإغراء
الحداثة وأنوارها وحينا ثانيا كسلطان معرفي مستغل يسوغ لحكوماته الغزو والاحتلال
والوصاية.
·
الفرضية
الرابعة: تقتضي إجراء تحويل جوهري في فضاء التناظر المعرفي بين الإسلام والغرب. قوام هذا التحويل، تفكيك التبعية التفكيرية للغرب ومناظرته على أرض
التضاد الإيجابي. الأمر الذي يقيم علم الاستغراب على نشأة معاكسة للمسار والمحتوى والغايات التي
أرادها له الاستشراق من سابق تصوّر وتصميم. إن ذلك يوجب وعي حقيقة بأن الإستشراق
المستأنف أنشأ القابل الإسلامي وفق كلماته ورؤياه من دون أن يحلَّ فيه روح حداثته.
أبقاه في غربته المستحدثة حتى صار مستغِرباً حيال كل ما له صلة بعالم المفاهيم
والأفكار والابتكار التقني. والنتيجة أن الشرق ظل شاهداً خارجياً على عقل الغرب،
ونظيره الضعيف في آن. حتى أن كثيرين من الدارسين الغربيين لم يروا في الحركات
الفكرية في الشرق إلاّ كظل صامت ينتظر من يهبه الحياة. الأمر الذي أدى إلى حضور
المستشرق الغربي حضورا بينا في إعادة تشكيل وعي الشرق وثقافته وفي طريقة تفكيره
حيال نفسه وحيال الغرب في آن.
وكل ذلك جرى في مقابل غياب همّ الشرق في فكر المستغرب –الإسلامي المعاصر المثقل
بداء الحداثة وثقافتها النيو ـ إمبريالية. ولأن الاستغراب بهذا المعنى والمسار،
صار الوجه الآخر للاستشراق، فقد أضاعت الانتلجنسيا الإسلامية ماهيتها وهويتها
وسْمتَها الخاصة، فإذا هي مستلبة أو قاصرة، بل وغير قادرة على إنتاج فهم مطابق
لروح الزمن الذي تعبره، لا بإزاء نفسها ولا بإزاء الآخر.
·
الفرضية
الخامسة: وهي تعنى بنظريات ما بعد الاستعمار التي تدخل كأصل منهجي في علم
الاستغراب إذ أن فهم الغرب في أزمنة ما بعد الحداثة هو أمر موصول بما صدر من
نظريات انتقادية حول سلوك السلطة الامبريالية الغربية حيال الشرق والإسلام نظراً
وعملاً. وتعد نظرية ما بعد الاستعمار، أو نظرية ما بعد الكولونيالية من أهم
النظريات النقدية ذات الطابع الثقافي والسياسي لكونها تربط الخطاب بالمشاكل
الحقيقية في العالم.
كما تعمل هذه النظرية على استكشاف مواطن الاختلاف وتحديد أنماط التفكير الغربي
حيال الشرق والإسلام.
الى ذلك تهدف نظرية «مابعد الاستعمار» إلى تحليل ما أنتجته الثقافة الغربية
باعتبارها خطابا يحمل في طياته توجهات استعمارية إزاء الشعوب التي تقع خارج
المنظومة الغربية. كما يمكن النظر إلى هذه النظرية بما هي قراءة للفكر الغربي في
تعامله مع الشرق، من خلال مقاربة نقدية بأبعادها الثقافية والسياسية والتاريخية.
وبتعبير آخر، تحلّل هذه النظرية الخطاب الاستعماري، في جميع مكوناته الذهنية
والمنهجية والمقصدية، بالتفكيك والتركيب والتقويض بغية استكشاف الأنساق الثقافية
المؤسساتية المضمرة التي تتحكم في هذا الخطاب.
يهدف التنظير الى التمهيد فتح آفاق التفكير ليستحث
على تظهير الأسئلة التي لم تُسأل بعد، أو تلك التي سئلت من قبل ولم يجب عليهاـ والتنظير
بحسب فرضيتنا غير موقوف على توصيف ظاهر الحدث وترّصده. فإنه قبل أي شيء، مجهود
متبصر يروم معاينة الَنشَآت الأولى الكامنة في الظواهر والأحداث والأفكار والمفضية
إلى ولادتها. تلقاء ذلك تنسلك مهمة المِّنظر في المستوى الانطولوجي
ولذا فهي مهمة طموحة تنظر إلى ما يتعدى الاستكشاف والتحري. لكنها توعز للمنظر بعد
أن فرغ من اختباراته المريرة في عالم الايديولوجيا وتحيزاتها أن يعبر إلى الضفة
الأخرى. إلى ما لا يتناهى التفكُّر فيه داخل منطقة فراغ يفترض أن يحرز المنظِّر
معها مَلكَة المبادرة إلى فتح معرفي يكون في الآن عينه مؤتمنا عليه، وعاملا على
تغذيته وتسييله. ولأن من شأن الفراغ أن يشهد على اللاّ
يقين، فمن شأن التنظير أن يسبر الأغوار، ويعيّن التخوم، ويقترح التصورات والأفكار.
يفضي الكلام على ضرورة تفعيل حقل التنظير،
لدى تناهيه إلى الاسماع اليوم، إلى الاستغراب من غير وجه.
·
أولاً:
لأنه ينطوي على استدارج إلى مطرح معرفي لا يُفهم منه للوهلة الأولى، إلاّ أنه دعوة
إلى إنشاء قولي لا حظ له من الواقع ولا يلوي على شيء. الباعث على مثل هذا الفهم
السلبي للتنظير يرجع –في غالب الظن- إلى واحدة من أشّق الابتلاءات التي سكنت تفكير
النخب في مجتمعاتنا وتجذرت فيه. سحابة تاريخ كامل، حتى بدأ
كما لو أن الحدث يسير من تلقائه على غير هدى، إن الفكر ليس غير سلوى لفظية لا موطن
لها ولا مستقر. لكأن شيطان الوهم استحكم بالمستغِرب فدعاه إلى الاشتغال عن ظهر قلب
بالمنقول من وافد المفاهيم، والإعراض عن معاينة المحلي بما يترتب على هذه المعاينة
من تنمية للأفهام.
·
ثانياً:
لأن سؤال التنظير، إن كان يحظى بحَّقانية الاعتناء ومقتضى الواقع، فقد بدأ للنسبة
الغالبة ممن َ يعنيهم الهمّ، وكأنه خارج السياق. ربما التبس الأمر على البعض فأرجأ
ما كان ينبغي أن يدلي به إلى وقت لاحق.. فيما شريحة واسعة من هؤلاء أخذتهم الحوادث
اليومية بغتة فاستغرقوا بدنياها وغفلوا عن أسئلة الما بعد.
·
ثالثاً:
لأن التنظير ينتمي إلى مقام مخصوص له من مراتب المسؤولية ما لا ينالُها إلاّ
الأقلون. أولئك الذين أنفسهم متاخمة الحدث ومعاينته وتأويله ليتبينوا ضميره
المستتر ثم ليدركوا منتهاه فيبنون على ذلك المنتهى مقتضاه.
·
رابعاً: من
المفارقات الغريبة أن يُطرح سؤال التنظير وسط وهن فكري يلقي بظلاله على أوسع
البيئات المشتغلة بعالم الأفكار.
·
خامساً:
حداثة الغرب في العقل النخبوي العربي، لا تزال تستعاد على النشأة التي قرأها
أصحابها الأصليون قبل أكثر من أربعة قرون. وما هو أدهي أن العقل المشار إليه وعلى
الرغم من الميراث النقدي الهائل الذي زخر به تاريخ الحداثة، بقي حريصا على متاخمة
سيرة الحداثة الأولى ومقالتها البكر، أي بوصفها أطروحة لمدينة فاضلة جاءت تستنقذ
العالم من فوضاه وجاهليته. ما يعني أن عقلا كهذا لا يملك إن يرى إلى حداثات الغرب المتعاقبة إلا بوصفها عالما متخيلا لا حظَّ له من الحقيقة الواقعية في شيء.
أكثر هؤلاء حملوا سؤال التقدم التاريخي على حسن الظن وسلامة النية. إلا أنهم لم يفارقوا دهشة الحداثة وأنوارها. جلهُّم لم يدرك أن أنوار الغرب مكثت في الغرب. ولم يأتِنا من حصادها سوى شراهة السيطرة ورعاية الاستبداد والعناية بالجاهليات المستحدثة. لا ينفك المشهد الراهن يظهر على النشأة نفسها، ولكن مع فارق جوهري، هو أن السواد الأعظم من النخب يغيِّبون سؤال التنظير، بل ويستغربونه كما لو كان سؤال فائضا عن الحاجة .
وما من ريب، فإن التعامل مع مثل هذا السياق كتحدٍ معرفي، يستلزم، إجراء تحويل جوهري في بنية التفكير. أما مصداق هذا التحويل فمن خلال تسييل المبادرة التنظيرية باتجاه عملية نقدية تبدد القناعات التي تزامنت مع تدفقات الحداثة الغربية؛ خصوصاً لما أنشأت القابل العربي الإسلامي على هَدْي كلماتها ورؤاها من دون ان تحُلِّ فيه ما هو بناء من أنوارها الاولى.
أ/د علي الصولي
المراجع:
1) إلهامي (محمد) نحو تأصيل إسلامي لعلم الاستغراب، دار التقوى، نشر دار التقوى للطباعة والنشر، القاهرة، 2015القاهرة.
2) الجندي (أنور) أخطاء المنهج الغربي الوافد في العقائد والحضارة واللغة.
3) حنفي (حسن)، الجابري (محمّد عابد)، جلول (فيصل)، حوار المشرق والمغرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1990.
4) الشيخ (أحمد) من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب المثقفون العرب والغرب، المركز العربي للدراسات الغربية، القاهرة، 2000.
5) حوارات في علم الاستغراب: مجموعة من المفكرين والباحثين، المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية.
6) النملة (علي بن إبراهيم الحمد) كنه الاستغراب المنهج في فهمنا للغرب، مكتبة بيسان، بيروت، 2016، ط 2.