الجمعة، 15 نوفمبر 2024

حرية الإنسان عند ابن رشد من خلال كتاب "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة"

 الأستاذ محمّد الشبة 


     في كتاب "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة"، تناول أبو الوليد بن رشد إشكالية الحرية الإنسانية في إطار علاقتها بمسألة القضاء والقدر، واعتبر أن مسألة القضاء والقدر هذه «من أعوص المسائل الشرعية؛ وذلك أنه إذا تؤملت دلائل السمع في ذلك وجدت متعارضة. وكذلك حجج العقول»[1]

     إذا تأملنا في هذا القول الرشدي، تبين لنا أن التفكير في حرية الإنسان داخل الفضاء الثقافي العربي الإسلامي في العصر الوسيط تم في إطار التأويل المنصب على النص الديني، مع تعزيز هذا التأويل أو ذاك بأدلة مستمدة من العقل والواقع، فمن جهة النص الديني، ذهب ابن رشد إلى القول بوجود تعارض، ولو ظاهري، بين الآيات القرآنية التي تثبت حرية الإنسان أو تنفيها، في علاقة هذه الحرية بالمشيئة الإلهية. فهناك إذن، حسب ابن رشد، «آيات كثيرة تدل بعمومها على أن كل شيء بقدر، وأن الإنسان مجبر على أفعاله»[2]، وهناك بالمقابل «آيات كثيرة تدل على أن للإنسان اكتسابا بفعله، وأنه ليس مجبورا على أفعاله»[3]. وقد قدم ابن رشد بعض الآيات التي تدل على الجبر، مثل قوله تعالي: ﴿إنا كل شيء خلقناه بقدر﴾ (القمر، 49)، وقوله: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك عند الله يسير﴾ (الحديد، 22). كما قدم آيات أخرى تدّل على حرية الاكتساب لدى الإنسان، مثل قوله تعالى: ﴿والذين كسبوا السيئات﴾ (يونس، 27)، وقوله: ﴿وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾ (فصلت، 17). كل هذا سيؤدي إلى اختلاف المتكلمين في فهم وتأويل الآيات القرآنية، وبالتالي اختلاف تصوراتهم لحرية الإنسان، بين من يثبت الإرادة الحرة للإنسان ويحمله مسؤولية الفعل، وبين من ينفيها عنه ويجعله مجبرا باعتبار أن الله هو الفاعل الحقيقي لكل شيء. لكن ابن رشد، بحسه الفلسفي وتكوينه العلمي، سيحاول أن يقدم تصورا علميا لمفهوم الحرية يستوعب مقولة القضاء والقدر الدينية ويعمل على عقلنتها؛ وذلك في أفق رهان المصالحة بين العلم والدين، ونزع ذلك التعارض الذي قد يحصل بينهما في سلوك الإنسان المسلم.

التصور الكلامي للحرية كما يقدمه ابن رشد:

    يرى ابن رشد أن المسلمين افترقوا إلى فرقتين رئيستين؛ إحداهما تقول بحرية الاختيار وقدرة الإنسان على الفعل، وهي فرقة المعتزلة، والأخرى تنفي الحرية على الإنسان وتقول إنه مجبور على أفعاله، وهي فرقة الجبرية. بينما نجد فرقة أخرى حاولت أن تقف موقفا وسطا بين الفرقتين السابقتين، وهي فرقة الأشاعرة، حيث قالوا: «إن للإنسان كسبا وإن المكتسب به والمكسب مخلوقان لله تعالى. وهذا لا معنى له. فإنه إذا كان الاكتساب والمكتسب مخلوقان لله سبحانه، فالعبد ولا بد مجبور على اكتسابه»[4]. ويظهر من كلام ابن رشد هذا، أن موقف الأشاعرة هو أيضا موقف جبري، مما يعني أننا في آخر المطاف أمام موقفين متعارضين من مسألة حرية الإنسان، موقف يثبتها وينسب الفعل إلى الإنسان وآخر ينفيها وينسب كل الأفعال إلى الله، باعتباره الفاعل الحقيقي لكل شيء. يرجع ابن رشد الاختلاف الحاصل هنا بين الفرق الكلامية الإسلامية، في ما يخص تصورها لحرية الفعل الإنساني في علاقته بالمشيئة الإلهية، إلى اختلاف أوّل يتعلق بالسمع؛ أي بقراءة وتأويل كل فرقة للآيات القرآنية وفهمها لها، بينما يتعلق الاختلاف الثاني بالعقل؛ أي إلى تعارض الأدلة العقلية المتعلقة بهذه الإشكالية العويصة؛ ذلك أنه إذا قلنا إن الإنسان هو خالق أفعاله، فإننا سننفي المشيئة الإلهية وسنقول إن هناك أفعالا لا تجري على مشيئة الله واختياره، وإن هناك خالقا غير الله، بينما أجمع المسلمون أن لا خالق إلا الله سبحانه. وإذا قلنا إن الله هو الخالق لكل شيء وإن الإنسان مجبور على أفعاله، فإن التكليف سيصبح «من باب ما لا يطاق. وإذا كلف الإنسان ما لا يطيق لم يكن فرق بين تكليفه وتكليف الجماد؛ لأن الجماد ليس له استطاعة. وكذلك الإنسان ليس له فيما لا يطيق استطاعة. ولهذا صار الجمهور إلى أن الاستطاعة شرط من شروط التكليف كالعقل سواء»[5].

     هناك إذن حسب ابن رشد تعارض في المسموع والمعقول معا، فيما يخص الحسم في حرية الإنسان من عدمها، وقد ترتب عن هذا التعارض وجود فرقتين إسلاميتين رئيستين إحداهما تقول بالجبر (الجبرية) والأخرى تقول بالاستطاعة (المعتزلة)، بينما موقف الأشاعرة حسب ابن رشد هو موقف «لا معنى له»[6]. وهو نوع من الجبرية المقنعة لا أقل ولا أكثر. إذا كان الأمر كذلك، فإن ابن رشد سيدلي بدلوه في هذا النقاش الدائر حول مسألة الحرية، وسيسعى إلى تقديم حل لهذا التعارض الحاصل في المسموع والمعقول، في الشرع والعقل، لكي يقدم تصوره الخاص كفيلسوف مسلم لحرية الإنسان في علاقتها بإرادته وطبيعته الخاصة من جهة، وعلاقتها بالطبيعة العامة وبمسألة القضاء والقدر من جهة أخرى.

تصور ابن رشد لحرية الفعل الإنساني:

     يرى فيلسوف قرطبة أن الحق في هذه المسألة المتعلقة بالحرية وبالقضاء والقدر، يكمن في اتخاذ حل وسط بين الموقفين السابقين المشار إليهما أعلاه، وهما الموقف الجبري والموقف المعتزلي؛ وذلك من خلال الجمع بينهما وليس التفريق بينهما؛ لأن «الظاهر من مقصد الشرع ليس هو تفريق هذين الاعتقادين. وإنما قصده الجمع بينهما»[7]. لكن كيف سيبلور أبو الوليد تصورا يحقق من خلاله هذا الجمع الذي من شأنه أن يرفع اللبس ويزيل التعارض الحاصل على مستوى المسموع وعلى مستوى المعقول؟

        لقد ظهر لابن رشد أن الله وهب للإنسان القدرة على الفعل والاكتساب، وأن لهذا الكائن البشري الحرية في أن يختار فعل الشيء أو ضده. لكن قدرته على الاختيار حسب ابن رشد تظل مشروطة بموافقة الأسباب الطبيعية الخارجية، التي تتحكم فيها قوانين حتمية وضعها الله فيها أصلا. من هنا، فقيام الإنسان بالفعل هو أمر يتم انطلاقا من إرادته الحرة أولا، وموافقة الأفعال التي من خارج ثانيا، وهذه الأفعال الخارجية في نظر ابن رشد هي «المعبر عنها بقدر الله».[8] وبهذا، نجد أن ابن رشد يقدم تفسيرا علميا وسببيا لمقولة القضاء والقدر الدينية، يتمثل في القول إن الإرادة الإنسانية لا تفعل إلا في إطار الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج. فهذه الأسباب الطبيعية هي التي قد تسمح لنا بالفعل أو قد تحول بيننا وبين القيام به. وهذا ما جعل أبا الوليد يرى أن الإرادة البشرية «إنما هي شوق يحدث لنا عن تخيل ما، أو تصديق بشيء. وهذا التصديق ليس هو لاختيارنا، بل هو شيء يعرض لنا عن الأمور التي من خارج»[9]. ومعنى ذلك أن الإرادة عنده لا تعني القدرة المطلقة على الاختيار انطلاقا من الذات، بل إنها مرتبطة بمؤثرات الطبيعة الخارجية من جهة، وبمؤثرات الطبيعة الداخلية للإنسان من جهة أخرى، مما يجعلها إرادة مشروطة بمحددات طبيعية تعود إلى فطرة الإنسان وغريزته، التي تحتم عليه بالضرورة القيام ببعض الأفعال. وقد وضح ابن رشد هذا الأمر بمثالين اثنين يتعلق أحدهما بفعل الاشتهاء، والثاني بفعل الهرب؛ حيث يقول: «إذا ورد علينا أمر مشتهى من خارج اشتهيناه بالضرورة من غير اختيار، فتحركنا إليه. وكذلك إذا طرأ علينا أمر مهروب عنه من خارج كرهناه بالضرورة من غير اختيار، فتحركنا إليه»[10]. ويبدو من هذا، أن إرادة الإنسان غير ناتجة فقط عن اختياره الحر، وليست بالإرادة الحرة بشكل مطلق، وإنما هي مرتبطة عند ابن رشد بنوعين من الأسباب الطبيعية هي بتعبير أبي الوليد؛ "الأسباب التي من خارج" من جهة، و"الأسباب التي خلقها الله تعالى في داخل أبداننا" من جهة أخرى.

     هكذا، نجد ابن رشد يربط بين الإرادة والطبيعة، ويرى أنهما لا ينفصلان، سواء تعلق الأمر بطبيعة الأشياء المحكومة بقوانين وأسباب أزلية، أو تعلق الأمر بطبيعة الجسم البشري المحكوم بدوافع فطرية وغريزية. مما يجعلنا نستنتج أن حرية الإنسان نسبية، وأنها تتم في إطار أسباب داخلية وخارجية، وهذه الأسباب بنوعيها هي ما يطلق عليه ابن رشد القضاء والقدر، حيث يرى أن «النظام المحدود الذي في الأسباب الداخلة والخارجة، أعني التي لا تخل، هو القضاء والقدر الذي كتبه الله تعالى على عباده، وهو اللوح المحفوظ»[11]. من هنا، فقد فسر ابن رشد المقولة الدينية الإيمانية المتعلقة بالقضاء والقدر تفسيرا عقليا وعلميا، فربطها بنظام الضرورة والسببية الذي يحكم الأفعال البشرية، مما يجعل هذه الأخيرة مشروطة سواء بدوافع الإنسان الغريزية أو بقوانين الكون الطبيعية. ويظهر من هذا أن تفكير ابن رشد في حرية الإنسان هو تفكير محكوم بالنص الديني، وبمبادئ العقيدة الإسلامية، وبمقولة القضاء والقدر التي تتحكم في تفكير العقل الإسلامي الكلاسيكي في مسألة الحرية، لكن ابن رشد مع ذلك، وبحكم تكوينه الفلسفي والعلمي، حاول تجاوز آراء الفرق الكلامية الإسلامية من هذه المسألة، إذ لم يجعل الفعل حبيسا لعلاقة الإنسان بالله ويتأرجح بينهما، حيث إذا نسبناه إلى الإنسان ألغينا الخلق الإلهي الواسع والشامل، وإذا نسبناه إلى الله وقعنا في مشكلة تكليف الإنسان بما لا يطاق، بل قارب ابن رشد الفعل الإنساني في علاقته بالطبيعة التي تشرطه وتسيجه وتضع له قيودا وحواجز، حيث لا يمكنه أن يتخطاها أو يقفز عليها. وهذه الطبيعة، إما داخلية تتعلق بالبدن وقوانينه الغريزية، أو خارجية تتعلق بالقوانين التي تتحكم في الأشياء التي تحيط بالإنسان. لكن مع ذلك، فالله حاضر في قلب هذه الطبيعة، باعتباره خالقا لها، وهو الذي وضع لها نظاما وترتيبا محددا ومسبقا، وهذا النظام والترتيب هو عينه ما يسمى بالقضاء والقدر. ولهذا، نجد فيلسوف قرطبة يقدم تفسيرا فلسفيا وعلميا لمقولة لاهوتية ودينية، وكأني به يسعى كعادته إلى إبراز التوافق الحاصل بين ما أتى به الشرع من جهة، وما يقول به العقل والنظر البرهاني من جهة أخرى، إذ «لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له»[12]. لقد جمع ابن رشد إذن في تصوره لحرية الإنسان بين القول بالحرية والإرادة من جهة، والقول بالقضاء والقدر الإلهي من جهة أخرى، من أجل تفادي التصادم الممكن بين المشيئة الإنسانية والمشيئة الإلهية، ورأى أن الجمع بين التصور الجبري والتصور المعتزلي ضمن تصور تركيبي واحد وجديد هو الأمر المطلوب؛ ذلك أنه قد «تبين لك كيف لنا اكتساب، وكيف جميع مكتسباتنا بقضاء وبقدر سابق. وهذا الجمع هو الذي قصده الشرع بتلك الآيات العامة والأحاديث التي يظن بها التعارض، وهي إذا خصصت عموماتها بهذا المعنى انتفى عنها التعارض. وبهذا أيضا تنحل جميع الشكوك التي قيلت في ذلك؛ أعني: أن كوّن الأشياء الموجودة عن إرادتنا يتم وجودها بالأمرين جميعا؛ أعني: بإرادتنا وبالأسباب التي من خارج»[13].

     ويفهم من هذا أن مشيئة الإنسان تحضر من خلال سعيه إلى ما يريده ويرغب فيه، لكن مشيئة الله تحضر أيضا من خلال النظام السببي الذي خلق الله لكي تجري وفقه أفعالنا، وهذا النظام هو ما يسميه ابن رشد بالقضاء والقدر الذي كتبه الله على الإنسان، والذي سطر من قبل في لوح محفوظ. ويتجلى هذا النظام في طبائع الأشياء والنفوس من جهة، والقوانين التي تحكم الأجسام والظواهر الطبيعية والأجرام السماوية من جهة أخرى. ولكي يجعل ابن رشد لله حضورا في الأفعال التي تصدر عن الإنسان، وعن الموجودات عموما، خصوصا وأن المسلمين اتفقوا أن لا خالق إلا الله، لجأ إلى التمييز في الموجودات الحادثة بين الجواهر والأعراض، حيث يكون الله هو خالق الجواهر. أما الأسباب المقترنة بتلك الجواهر، فإنما يكون لها تأثير على الأعراض فقط، وهو ما يفهم منه أن الإنسان يصنع الأسباب التي تطال الأعراض. أما خلق الجواهر، فيبقى من اختصاص الله وحده. ولتوضيح هذا الأمر، قدم ابن رشد مثالين توضيحيين؛ يتعلق أحدهما بمني الرجل الذي يزود دم الطمث لدى المرأة بالحرارة فقط. أما خلق الجنين ووضع الحياة فيه، فيظل أمرا صادرا عن الله وحده. ويتعلق المثال الثاني بالفلاح الذي «إنما يفعل في الأرض تخميرا وإصلاحا ويبذر فيها الحب. وأما المعطي لخلقة السنبلة، فهو الله تبارك وتعالى»[14]. وبهذا، جعل ابن رشد الله هو وحده الخالق، مادام هو من يخلق الجواهر. أما الإنسان، فهو فاعل للأسباب فقط، ذلك «أن اسم الخالق أخص بالله تعالى من اسم الفاعل، لأن اسم الخالق لا يشركه فيه المخلوق، لا باستعارة قريبة ولا بعيدة: إذ كان معنى الخالق هو المخترع للجواهر. ولذلك قال تعالى: ﴿والله خلقكم وما تعملون﴾ (الصافات، 96)»[15].

     خلاصة يتبين لنا مما سبق، أن الفيلسوف ابن رشد يقرّ بحرية الإرادة لدى الإنسان، وبقدرته على الاختيار بين أشياء هي أضداد، لكنه ربط هذه الإرادة بفكرة السببية، إذ لا يستطيع الإنسان أن يفعل ويكتسب الأشياء إلا في إطار نظام السببية الذي يحكم أبداننا من جهة، ويحكم العالم الخارجي من حولنا من جهة أخرى. فإذا كانت تلك الأسباب الداخلية والخارجية مواتية لإرادتنا المتعلقة بشيء ما فإننا نفعله ونقدر عليه، وإذا لم تكن مواتية ومتوافقة فإننا لا نستطيع فعله. ولكي يكون لله حضور في أفعالنا، مادام أن النص الديني يقول إن الله خالق كل شيء، فقد جعل ابن رشد إرادة الله ومشيئته هي نظام السببية نفسه، باعتبار أن هذا النظام هو القضاء والقدر الذي كتبه الله على عباده. وبذلك، تظهر لنا نزعة ابن رشد التوفيقية واضحة؛ حيث يوفق بين العلم والدين، من خلال الجمع بين القول بالسببية من جهة والقول بالقضاء والقدر من جهة أخرى، ويوفق بين مشيئة الإنسان ومشيئة الله، من خلال القول إن الإنسان فاعل للأعراض لكن الله هو الخالق للجواهر. وبهذه المقاربة الفلسفية والعلمية، تمكن ابن رشد من كسب رهان الجمع بين التصور العلمي والتصور الديني لمسألة القضاء والقدر، فجعل السببية الموجودة في الطبيعة هي نفس ما يسمى بالقضاء والقدر، وهو ما جعله ينتصر للعلم والدين معا، من مسألة الحرية الإنسانية، وعمل على تجاوز المآزق التي وقعت فيها الفرق الكلامية، إذ سقطت جميعها إما في تغليب المشيئة الإلهية على المشيئة الإنسانية، أو في تغليب المشيئة الإنسانية على المشيئة الإلهية. أما فيلسوف قرطبة، فإنه تمكن من خلق توازن محمود بينهما، فالتزم الوسط الذهبي الذي نجد فيه موطئ قدم لله وللإنسان، للدين وللعلم، دون أن تميل كفة أحدهما على حساب الكفة الأخرى. وقد ساعد أبا الوليد على انتهاج هذا المسلك الوسطي المتوازن والحكيم، اطلاعه الواسع والعميق على العقيدة الدينية وحفظه للقرآن الحكيم من جهة، واطلاعه الواسع والعميق على المعرفة العلمية والفلسفية في عصره من جهة أخرى. ونحن نعلم بكل تأكيد أن هذه المعرفة لم تكن سوى علم وفلسفة أرسطو الذي كانت تحكم النظام المعرفي في العصر الوسيط، خصوصا وأن ابن رشد كان معجبا بالفيلسوف اليوناني أرسطو، ولم يكن يتفوق على هذا الإعجاب سوى إعجابه بالقرآن الحكيم.

المصادر والمراجع

01- أبو الوليد ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثالثة، 2007، ص 186.

02- أبو الوليد ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، ص 186.

03- نفس المصدر والصفحة.

04- المصدر السابق، ص 187.

05- المصدر السابق، ص 188.

06- المصدر السابق، ص 187.

07- المصدر السابق، ص 188.

08- المصدر السابق، ص 189.

09- نفس المصدر والصفحة.

10- نفس المصدر والصفحة.

11- نفس المصدر والصفحة.

12- أبو الوليد ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثالثة 2002، ص 96.

13- ابن رشد، الكشف، ص 190.

14- المصدر السابق، ص 192.

15- المصدر السابق، ص 193.

الأحد، 22 أكتوبر 2023

تفكك مفهوم الدولة وضرورة المراجعة

 ما يهمني هو بيان كيف تحطم مفهوم “الأمة” وتم تفكيكه لصالح دعاة الطائفية السياسية والحزبية والمصالح والولاءات الضيقة؛ بحيث لم يَعُد عند أي من هؤلاء أي ولاء للأمة أو للملة، وذلك ليعلم من بقي من أبناء الأمة أننا في حاجة ماسة، بل في حالة اضطرار إلى العمل الجاد لتحقيق أمرين اثنين

     الأول: توحيد الله -تعالى- وإفراده بالألوهية والربوبية والصفات وتكريس ولائنا -كله- له وحده لا شريك له من حكومة أو طائفة أو حزب أو قبيلة أو سواها.

     الثاني: العمل على إعادة بناء الأمة -مفاهيم وكيانا- لعل ذلك يساعد على إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وأهم ما نحتاجه لتكون البداية سليمة أن نقوم -جميعا- بعملية مراجعة جماعية على مستوى الأمة -“سابقا”- لتراثنا كله، منذ وفاة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- والتحاقه بالرفيق الأعلى، وحتى الساعة التي نحن فيها.

     وهذه المراجعة يجب أن تكون مراجعة منهجية تنهض بأعبائها الجسام جامعات متخصصة ومراكز بحوث تضم صفوة من علماء الأمة المتخصصين في كل فروع المعرفة. وهذه المراجعة ليست من قبيل الترف الفكري، بل هي مراجعة ضرورية يستحيل بناء مشروع يستهدف إعادة بناء “الأمة” من دونها. فإننا في كثير من محاولات الإصلاح والتجديد السابقة كنا نهرع إلى المواجهات التي تُفرض علينا، أو نتصدى لها دون قيام بالمراجعة فنفرح بانتصار شكلي أو غلبة مؤقتة لا تلبث أن تتبخر في مواجهة أخرى، وهكذا. فبقيت سلبياتنا الفكرية تتراكم، وأخطاؤنا وانحرافاتنا تترسخ حتى بلغنا هذا الحضيض الذي نتردى فيه.

     إننا في حاجة إلى المراجعات الشاملة لعلومنا وثقافاتنا ونظمنا وحركاتنا وتاريخنا -كله- ومهما أخذت هذه المراجعة من جهد ومال ووقت فإنها ضرورة لا بد منها، وشرط مسبق لا بد من تحقيقه، ولا يقبل -بحال- تجاوزه. وقد يكون لي أن أقترح على إخواني المؤرخين تقسيم تاريخ الأمة إلى مراحل ثلاث:

·      المرحلة الأولى: هي المرحلة الممتدة من عصر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وحتى عصر التدوين.

·      المرحلة الثانية: من عصر التدوين حتى بداية مرحلة الاحتكاك بالغرب من موقع الضعف والفرقة والتمزق.

     المرحلة الثالثة: وهي التي بدأت فيها الأمة محاولة اللحاق بالركب الغربي الأوربي، ولا ترى مانعا من تبني رؤيته وأفكاره ونظمه وعلومه لإحداث التجديد أو بلوغ الحداثة، ويمكن اعتبار نهاية المرحلة الثانية وبداية المرحلة الثالثة من عصر سليم الثاني، أو دخول نابليون مصر أو أي مفصل تاريخي مؤثر آخر.

     وإذا كنا قد ذهبنا إلى اختيار هذا الفاصل؛ لأنه يمثل فاصلا حقيقيا في مجال الرؤية الكلية والمعرفة والثقافة والفكر والتشريع وأنماط السلوك والحياة، فهذه -كلها- في المرحلة الأولى كان المنطلق فيها من الإسلام؛ فهو المرجعية المطلقة والوحيدة فيه.

     أما المرحلة الثانية فقد تغيرت المرجعية فيها فصارت مزدوجة تجرى فيها مقاربة معطيات مرجعية -من فلسفة وعلوم موروثة عن الأوائل وسواهم- بالإسلام. وفي المرحلة الثالثة دخلت المرجعية الغربية إلى الساحة بالمقاربة ثم المقارنة، وهكذا حتى ألف المسلمون ذلك وهيمنت المرجعية الغربية على حياة المسلمين كلها؛ من النظام السياسي إلى نظام إدارة المساجد والمؤسسات الدينية. وأرزت المرجعية الإسلامية، وانكمشت لتحصر في دائرة ما عرف بـ”الأحوال الشخصية”. وحتى هذه بقيت المرجعية الغربية تزحف عليها وتنقصها من أطرافها حتى لم يبق منها إلا القليل الذي تجرى الآن عملية إنهائه والتخلص منه.

مقاييس مقترحة للمراجعة: ولقائل أن يقول: وماذا عن “الصحوة الإسلامية” والبنوك الإسلامية والتعليم الإسلامي، بل والانقلابات الإسلامية، والحكومات الإسلامية، والحكومات التي انبثقت عنها، بل هناك “السياحة الدينية” بتكرار الحج والعمرة لدى فريق، وزيارة أضرحة الصالحين وشهداء آل البيت، ألا يدل ذلك على أن المسلمين ما يزالون بخير؟ فأقول: إن هذه الممارسات -كلها- تنطلق من فكر المقاربات والمقارنات، ومن إحساس عميق بالهزيمة والإحباط، ورغبة شديدة في الغياب عن الشهود، فالشهود قاسٍ معذب مؤرق موجع، والكل يحب الغياب، ولكلٍّ وجهته في التخلص من عذاب الشهود بالغياب، أي غياب، لكن ذلك -كله- لا يغير من حقائق الواقع شيئا. إن مراجعة تفاصيل تراث المراحل الثلاث ضرورة لا بد منها، ولا بد أن يتم ذلك وفقا لمقاييس صارمة مطردة منعكسة لا تحابي أحدا ولا تجامل فرقة ناجية أو هالكة. وهذه المقاييس المقترحة للمراجعة يمكن تحديدها إذا طرحنا على كل معنيٍّ بجانب من جوانب المراجعة الأسئلة التالية لعلها تعيد بناء وترميم حاسة المراجعة لدى هؤلاء، وهي:

     الأول: كيف بنى الله (جل شأنه) هذه الأمة، وكيف صنعها على عينه؟ وما هي دعائم ذلك البناء، وما هي الخصائص الذاتية التي أودعها الله ذلك الكتاب وأناط بها بقاءه واستمرار تقدمه ودوامه، أو غرس فيها قابليات التجدد وقابليات الانهيار، واستعدادات الاستقامة، وبذور الانحراف.

     الثاني: بعد أن يجري تحديد ذلك بأقوى وأعلى ما يمكن من أوجه الدراسة المتعمقة، والتحليل الدقيق يطرح السؤال التالي: كيف يمكن أن نصحح العقيدة والرؤية الكلية القائمة عليها بحيث نجعل منهما وسيلة ومنطلقا لإيجاد وعي عقيدي صادق يتسم بالحيوية والحياة والحركة، قادر على فهم التاريخ، وتحليل عناصره، واستيعاب دروسه، وتحويلها إلى رافد يرفد الوعي، ويزيد في حركيته، وعي يستطيع إدراك العلاقات المتينة بين سلامة العقيدة، وصحة الرؤية الكلية، وقوانين القوة والطاقة المادية والمعنوية، هذه القوانين التي بثها الله (تبارك وتعالى) في القرآن والإنسان والكون، وهي قوانين وسنن ثابتة لن تجد لها تحويلا ولا تبديلا، الإنسان مسئول مسئولية مباشرة عن اكتشافها، ومعرفة كيفية توظيفها بصرامة منهجية لا تقل عن ثبات السنن وصرامتها، وذلك لإحداث حالة “العلو”، “الإسلام يعلو ولا يعلى عليه” وتجاوز حالة “الاستعلاء المفتعل”. فبلوغ ذلك يمنح الأمة “حالة التفوق”. “والجمع بين القراءتين” الذي ننادي به ونصر عليه، هو السبيل للكشف عن تلك السنن وبلوغ تلك القوانين، وهو الذي يقود بدوره إلى:

     الشرط الثالث: وهو مراجعة الحالة العقلية والنفسية للأمة مراجعة شاملة ودقيقة، من شأنها أن تمكن من الكشف عن سائر العناصر السلبية في فكر الأمة، وكيف نشأت، ومم نشأت، وما الذي أدت إليه، وكيف يمكن تطهير عقلية ونفسية الأمة من تلك الإصابات؟ وكيف يمكن إيجاد جهاز مناعة يمنع من إصابة العقلية والنفسية الإسلامية بهذه السلبيات في المستقبل؟. ولا بد من الكشف عن مبادئ ووسائل تكوين آلية عقلية ونفسية تعمل على تشكيل طاقة فكرية سليمة ومعطاءة تؤدي إلى توليد ذاتي لعناصر المناعة والقوة، وإيجاد الأفكار السليمة باستمرار لئلا يكون هناك فراغ تمتد الأفكار السلبية فيه، وهذه الآلية هي التي تجعل العقل المسلم قادرا دائما على قراءة المعطيات الكونية وموجهات القرآن لفهم القوانين والسنن التي تجعله ممسكا على الدوام بعناصر القوة المعنوية والمادية في توازن تام.

     الرابع: إدراك فعل الزمن وصيرورته في تغيير مستويات القوة والتفوق، وأثر ذلك في تغيير الوسائل والإمكانات التي تمكن من توظيف مؤشرات الوحي وقوانين الكون وسننه، والطاقات الإنسانية بشكل علمي منهجي مترابط قادر على توليد عناصر القوة المناسبة للمستويات المختلفة، فلا يحدث خلل أو فراغ أو تعطيل في أي جانب.

     الخامس: إدراك العلاقات الجدلية القائمة بين الغيب والإنسان والكون. هذا الإدراك من دونه يتعذر أن يتمكن العقل المسلم من القيام بمتطلبات النقد والمراجعة التي تقود الإنسان المسلم إلى حالة التجدد والتجديد. إن لأمريكا ولأوربا والصين وروسيا والدولة العبرية أهدافا محددة واضحة من بلوغ “حالة التفوق”، وهي باختصار: توجيه مقومات هذا التفوق بكل أنواعه لكسر إرادة الآخر، ودفعه إلى الاستسلام لإرادته أو القضاء على مصادر هذه الإرادة، وهي عقيدة ذلك الآخر ورؤيته الكلية، ونموذجه المعرفي والتنظيمي، وقدراته الإنتاجية. أو حمله على قبول مبدأ التبعية لتلك الذات، أو القضاء عليه ذاته، ولذلك تتنوع وتتعدد الوسائل المستعملة من قبل الذات ضد الآخر من وسائل سياسية إلى ثانية عسكرية، إلى اقتصادية وفكرية وثقافية وإعلامية وعلمية. وقد تستعمل -كلها- مرة واحدة، وذلك بحسب ما يراه الطرف المتمثل بالذات، وتقديره لمستوى إرادة الطرف الآخر وما ينبغي توجيهه ضده لتحقيق الهدف وكسر الإرادة.

     ونستطيع القول: إن ما استُعمل ضد الشعوب العربية والإسلامية التي كانت تشكل “الأمة المسلمة” في تاريخنا الحديث كان شاملا لكل تلك الوسائل لم يستثن شيء منها، فقد أخضعت لضغوط عديدة تحت شعار “حماية الأقليات غير المسلمة” أو أي شعار آخر، وحين اكتشفوا ضعفها عن المقاومة، وذلك -كله- على خلاف ما اعتادوه منها في تاريخه البعيد، أخضعوا أهم حواضرها لقبول الاختراق التعليمي والتجاري والمالي والسياسي، ثم الغزو العسكري، والاحتلال المباشر لتفكيك منظوماتها العقيدية والفكرية والسياسية والقضائية والشرعية، وتفريغها وجعلها على استعداد لقبول البدائل الغربية، وذلك -كله- تمهيدا لإدماجها في تيار “العولمة الحداثي” أو ما بعد الحداثي. وهذه هي المرحلة التي نحن فيها. مرحلة تفكيك سائر ما بقي من البنى وجميع أطلال المنظومات تمهيدا لإعادة تشكيل الأمة المسلمة وفقا للتصور الغربي الصهيوني.

     إن ابتلاء الأمة بالمصائب والكوارث، ومنها كوارث الاحتلال، وهيمنة الأعداء يفترض فيه أن يدفع الأمة -غالبا- إلى عمليات المراجعة والنقد، إذ إن الصدمات التي تحدثها عالية جدا في طاقاتها بحيث تدفع بكل فصائل ذلك الشعب أو الأمة إلى وقفة مع النفس وبحث عن الأسباب، ومجموعة المشاعر التي تحدثها تلك الصدمات كفيلة بإخراج الناس من سائر مؤثرات الحالة الرتيبة والسلبيات التي تكتنفها إلى حالة مراجعة تحقق التجديد. * درس من التاريخ الأوربي: إن في فتك الكنيسة بالعلماء أمثال “جاليليو” في بداية عصر الأنوار دلالة واضحة على أمرين:

·      الأول: أن الكنيسة كانت ترفض أية مراجعة حتى للمسلمات الخاطئة حول الأرض، وعناصر الكون؛ لأن المراجعة سوف تهز القواعد العقيدية التي تمثل المرجعية لتوليد الرؤية الكلية، المولدة لأصول ومنطلقات القوة.

·      الثاني: أنها ترفض -في الوقت ذاته- أن تفتح الباب أمام اتخاذ أية مرجعية أخرى، ومنها مرجعية العلم؛ لأن ذلك يعني أن مرجعيتها في تقديم المضمون الفكري والعلمي للبشرية سوف تنتهي، أو في أحسن الأحوال سوف تتقلص، وبالتالي تنتهي هيمنتها على مصادر التكوين العقلي والنفسي وتوليد أصول القوة. ولذلك فإن علينا أن ندرك أن لدينا قوى كثيرة ترفض المراجعة، والاعتراف بالقصور، وتمارس حالات استعلاء كاذب لا أساس له. وهذه القوى موزعة بين تياري التراث والحداثة معا. ولذلك فإن مهمتنا ستكون شديدة الصعوبة، ومعاركنا ضد هذه القوى الرافضة للمراجعة طويلة المدى، لكن الله معنا، وحركة التاريخ لصالحنا، فكيف نقوم بتسخيرها؟.

     * شروط الاستعداد للتجدد وممارسة الدور: من هنا فإن على المعنيين بقضية “الخلاص والإصلاح” في الأمة المسلمة أن يكونوا:

     أولا: على وعي تام بقواعد وأسباب الحركة التاريخية، وأن يقودوا عمليات المراجعة لتاريخ الأمة وتراثها وحاضرها بعد الكشف عن تلك القواعد والوعي بها.

     ثانيا: هم في حاجة ماسة إلى الوعي بالأبعاد العقيدية وأركان العقيدة وأصولها -كما يقول الكلاميون- وعلاقاتها بأصول القوة، وقوانين الحركة التاريخية.

     ثالثا: الوعي بالعلم، والإيمان بأنه ركن لا يصلح شيء دونه، وأن الأمة تكتسب من عناصر القوة ومصادرها بقدر ما تكتسب من العلم. وأنه إذا كان الله -تبارك وتعالى-قد فرض بالدليل القطعي من القرآن على الأمة الأخذ بسائر أسباب القوة المادية والمعنوية بقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ (الأنفال: 60)؛ فإن ذلك فريضة محكمة وقانون إلهي وكوني لا يمكن للإنسان أن يتدين به ويطبقه من دون العلم، فإن الخطاب القرآني العالمي يتعامل مع كل عصر بحسب سقفه المعرفي، والوسائل والتقنيات التي تتحكم بحركة كل عصر وسائل تختلف. وهنا أود أن أنبه إلى أن خروج المسلمين من عهدة الفرض الإلهي في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ (الأنفال:60) لا تتحقق بشراء واستيراد الأسلحة الجاهزة منهم. بل هو ذنب آخر يبوء به المسلمون المستوردون لتلك الأسلحة. كما أن الاعتماد على الغير، ومن ذلك الغير تلك المنظمات المسخ التي لا يعتد بها إلا الضعفاء، ونسبة الوهم الآخر الذي يسمونه بـ”الشرعية الدولية”!! وطلب النصرة منها فقط اعتمادا على غير الله، وطلب للنصر من سواه، فلا بد أن ينسب النصر ويحصر بالله تعالى خالق الكون والإنسان والحياة، وواضع السنن والقوانين، وهو القادر على تحقيق نتائج القوانين والسنن، وترتيب المسببات على تلك الأسباب.

     رابعا: الوعي بأهمية المال والدور الخطير الذي يؤديه في بناء أسباب القوة للأمم، ولذلك اشتد اهتمام القرآن به وبتنظيم عوامل الحصول عليه، وتوظيف سائر قوانين التسخير للكون والخلق للحصول عليه، وتنظيم وإنماء عوامل ووسائل الإنتاج. وتناول القرآن المجيد وسائل التوزيع ووسائل استعمال الفائض إن وجد، ونهى عن وضع ذلك بأيدي السفهاء، وهو وصف في غاية الخطورة، فقد وصف به المنافقون، قال الله (تعالى): ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ (النساء:5) ويقول في المنافقين: ﴿..أَلَا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:13) ذلك يعني أن المال مصدر من أهم مصادر بناء الأمم وتشييد قوتها. وهنا لا بد لحمَلة ألوية التجديد والإصلاح في الأمة من الوعي بخطورة كبائر تمكين أعداء الأمة من أموالها ومواردها، سواء بالهبة أو الإيداع، أو خفض الأثمان. ورهن مصادر أموال الأمة لدى أعدائها بطريق القروض والرهون وما إليها من وسائل معاصرة لتبديد أموال الأمة.

     خامسا: الوعي بأهمية الإنسان عقلا ونفسا وجسما، وهنا يتم تشغيل مجموعات هائلة من القواعد القرآنية والسيرة النبوية العطرة والسنن الثابتة لبناء الإنسان السوي الذي يصلح أن يكون لبنة صالحة سليمة قوية في بناء الأمة. ورصد القرآن سائر السلبيات التي شلت إنسان هذه الأمة ونزلت به عن مستوى النموذج الذي رسمه القرآن بقوله (تعالى): ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (النحل:75، 76). فمن هو المؤمن القوي الذي فضله رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- على المؤمن الضعيف، إنه القوي الأمين الغني القادر على أن يسد احتياجاته وينفق على نفسه وسواه سرا وجهرا. إنه الهادي المهتدي الذي يعرف كيف يكون على صراط مستقيم حين تلتبس بالناس السبل، ويعرف كيف يأمر بالعدل ويحققه، ويجعله مع القيم الأخرى واقعا تستظل البشرية بظلاله الوارفة. إنه المؤمن الذي يدرك كيف يكتسب كل أنواع العلوم والمعارف والخبرات ويستفيد من التجارب، ويوظف سائر قواه وطاقاته العقلية والنفسية والجسمية أحسن توظيف. وفي مقدمتها قوى وعيه الثلاث “السمع، والبصر، والفؤاد”.. ذلك هو المؤمن القوي. وذلك هو العنصر الصالح لأن يكون عضوا في هذه الأمة.

     سادسا: فإذا اجتمعت كل تلك العناصر فلا بد من الكشف عن كل قوانين التأليف بين هذه العناصر وسائر القوانين المضادة لتلك القوانين. والقرآن المجيد لم يغادر شيئا من هذه القوانين إلا وتناوله، وكل المطلوب نهوض أهل الذكر بأعباء الفهم والتحليل والعمل على تفعيل هذه القوانين بعد استيفاء ما تقدم لبناء القوة الفريدة “الأمة”. إن الأمة حين تقوم بالوعي بكل ما تقدم وتحسن مراجعته، تكون قد قامت بالمراجعة واستوفت شروط الاستعداد للتجدد ولممارسة الأدوار المنوطة بها بشكل لا يخالطه أي شك ببلوغها أهدافها إن شاء الله تعالى. إننا نأمل أن تكون وقائع القرنين الماضيين وبدايات هذا القرن قد أفرزت وشكلت دوافع، لا نقول كافية، بل زائدة عن الحد لحمل أبناء أمتنا على القيام بالمراجعة والوقوف على طريق التجديد بعون الله تعالى وفضله وعزته ونصره ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق:37) .

     وحين بنى الله (تبارك وتعالى) هذه الأمة الشاهدة أوضح بما لا يدع مجالا للنقاش أن الباني لهذه الأمة وواضع أسس بنائها هو الله -جل شأنه- وأن من كلف برفع قواعد هذا البناء -الأمة- هو رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- متبعا في ذلك ما أوحي إليه من ربه. إذ إن الأمة هي خليفته من بعده في مهمة الشهادة على البشرية، والحضور الدائم بينها حتى قيام الساعة ﴿.. وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (الحج:78). والله (عز وجل) تكفل بعصمة رسول الله من الناس ﴿..وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .. ﴾ (المائدة:67)  فما نال منه أحد. وتكفل بحفظ القرآن ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر:9) فلم يستطع أحد النيل منه، لا في عصر نزوله ولا فيما تلاه، وسيبقى محفوظا بحفظ الله (تعالى)  إلى يوم الدين.

     والأمة المسلمة تكفل الله -بذاته العليا- بالتأليف بين قلوبها مشروطا دوامه وبقاؤه باعتصامها بحبل الله. فإذا أرخى المؤمنون أيديهم عن التمسك بحبل الله (تعالى) سقطت حالة التأليف، وعادت حالة العداء. ولقائل أن يقول: ولِمَ لم يكن الأمر قدرا حتما كما كان الحال في “عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم” وحفظ القرآن؟ والجواب: أن الإنسان حُمل أمانة الاختيار، فباختياره يعتصم بحبل الله، أو يفرط فيه، وللاعتصام شروطه ودرجاته، وللتفريط دركاته. والله (تبارك وتعالى) هو الذي يعلم من الأمة استيفاءها لشروط التأليف، فيؤلف بينها ﴿..لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال:63) أو عدم استيفائها لتلك الشروط، وآنذاك لن تجتمع على شيء، ولن يستطيع أحد جمع كلمتها. وعلى هذا، فعلى عناصر الأمة المفرقة الممزقة أن تسعى لاستيفاء شروط التأليف في كل عصر بحسبه، ثم تتعرض لنفحات الله (تبارك وتعالى) ليمن عليها بالتأليف بينها، وإعادة وحدتها وكيانها.

     * فتنة حديث “افتراق الأمة”: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب بعد أن ضرب الإسلام فيها ونزل قوله (تعالى): ﴿..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا..﴾(المائدة:3)، كما يئس من اجتيال الأمة -كلها- عن دينها. ورضي من دون ذلك بما يحقر الناس من أعمال. ولم يستطع إبليس اللعين بكل ما أجلب على القرآن من خيل ورجال وكهانة وسحر ومحاولة معارضة وتشويش أن يخترق هذا القرآن، الذي حال الله -تبارك وتعالى- بينه وبين اختراقه وحفظه وحرسه بنسفه، فعمد اللعين إلى فتنة التفسير والتأويل وفتنة الأحاديث. أما فتنة التفسير فقد استطاع اللعين وأنصاره أن يحملوا على القرآن المجيد فيه كل التراث الزائف المريض الذي حفل به تراث الأمم السالفة -مستغلين تماثلا موهوما بين بعض موضوعات ومحاور القرآن، وتراث تلك الأمم في قضايا الخلق وقصص الأنبياء والأحداث الكبرى كالطوفان وما إليه. وشتان بين ما أورده القرآن في هذه الأمور، وما جاء في التراث المريض الموبوء، فالقرآن في كل ذلك جاء بالصدق وصدق به. أما ذلك التراث فقد زيف الصادق، وحرف الكلم عن مواضعه، وكان الكذبة -والويل لهم- ﴿..يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ..﴾ (البقرة:79).

     وأما التأويل فقد أسرفوا فيه، وبالغوا، بل أتوا فيه بالعجائب. وأما فتنة الأحاديث فقد كانت فتنة عمياء مضلة، حيث قامت حركة وضع وفبركة وأكاذيب تداعى لها الوضاعون ومحترفو الكذب، فنسبوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الألوف من الأحاديث الموضوعة التي نزه الله لسان نبيه الشريف عن قول شيء منها. ونسبوا إلى الصحابة من الآثار ما لم يقل أحد منهم شيئا منها. ومع أن جهابذة علماء الأمة قد أسسوا علوم الإسناد وعلوم الرجال، وجعلوها من الدين وبذلوا فيها من الجهود ما لم تقم أمة بمثل جزء منه. بيد أن أعدادا محدودة من تلك الآلاف الكثيرة قد نفذ من معايير ضوابط الأسانيد، وضوابط نقد المتون فوصل إلى عقول الناس واشتهر على ألسنتهم، وشاع بين القصاصين والواعظين والراغبين في نقل وتناقل الغرائب، فتوهم الناس أنه صحيح، فتمسكوا به، وعملوا بمقتضاه، فولد ثقافة مريضة، وأفكارا معطوبة، وسلوكيات منحرفة أورثت الأمة فرقة وضعفا وانحرافات غاية في الخطورة. وبعض علماء الفرق والمذاهب والطوائف وجدوا في بعض هذه الأحاديث ما يستطيعون دعم بعض آرائهم ومواقفهم به إذا اتخذوه شاهدا أو دليلا، فابتكروا دعوى “التواتر المعنوي” لما عز عليهم أن يجدوا له سند صحة فضلا عن دليل تواتر. وأضافوا إلى تلك الدعوى دعوى غامضة أخرى لا تندرج تحت أية قاعدة منهجية، وهي: “تلقته الأمة بالقبول”. وكلتا الدعويين “التواتر المعنوي”، و”تلقته الأمة بالقبول” دعاوى غامضة لا تلتقي مع المناهج التي وضعها المحدثون أنفسهم، ومع ذلك فقد استعملت في تصحيح وتعزيز أحاديث تعلقت بموضوعات في غاية الأهمية.

     والحديث الذي يهمنا تناوله من بين تلك الأحاديث في بحثنا هذا حديث “تفرق الأمة” وهو نموذج من أخطر النماذج التي تسللت إلى عقل الأمة تحت ستاري “التواتر المعنوي” و”تلقته الأمة بالقبول”. وهذا الحديث بألفاظه المختلفة قد أحدث في بناء الأمة شروخا ما تزال تعاني منها إلى اليوم. ولا ندري متى تتمكن الأمة من الانعتاق منه ومنها. بعد أن تأسست علوم صارت تشكل أقساما دراسية في جامعاتنا وكلياتنا المعاصرة وحوزاتنا العلمية. فعلم “الفرق والملل والنحل” قد قام على أساس من هذا الحديث. إن حديث “افتراق الأمة” جاء بألفاظ كثيرة تتجاوز العشرين لفظا، من طرق عديدة، منها: طريق علي -رضي الله عنه- وأبي هريرة، وأنس بن مالك، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم. وقد أخرج الترمذي وأبو داود وأحمد وابن عبد البر وابن وهب في جامعه، وروايته أغرب الروايات حيث زاد في عدد الفرق زيادة لم نجدها في روايات غيره، حيث أورده بلفظ: “إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وثمانين ملة، وستفترق أمتي على اثنتين وثمانين ملة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة”.

     وقد اختلفت ألفاظه اختلافا شديدا، فلم نجد لفظين منها قد اتفقا. كما أن أسانيده -كلها- لم يخل واحد منها من راو أو أكثر ضعيف، أو مجهول، أو مخطئ، أو مختلف فيه أو صاحب بدعة أو منكر الحديث. وقد جمع المحدث الكبير الشيخ محمد يحيى سالم عِزّان روايات حديث “افتراق الأمة” فوجد كما وجدنا أن ألفاظه شديدة الاختلاف، وأن تلك الاختلافات في نقل ألفاظه كانت ذات تأثير كبير في اختلاف معانيه.

     وحين نستعرض ما جمع من روايات الحديث يُلاحظ أن الروايات التي حظيت بتصحيح بعض المحدثين وتخريجهم جاءت بألفاظ تخبر بأن هذه الأمة سوف تتعرض إلى (داء الاختلاف) كما عرض ذلك الداء لأمم خلت من قبلها. ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حين يحدث الأمة بمثل هذا الحديث فإنه يعظها، ويقوم بعمليات تحذير مسبقة لتحصينها من ممارسة ما قد يؤدي بها إلى الفرقة والاختلاف المدمرين لكيانات الأمم. فهو ليس كما فهم الكثيرون بأنه -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يخبر بذلك باعتباره نبوءة أو كما سموا مثله (أعلام النبوة) فيكون بمثابة قدر مقدور لا حيلة للأمة بدفعه ولا بد من وقوعه. بل هو وعظ وتحذير من الوقوع في مستنقع الاختلاف. فإذا وقع الاختلاف بالرغم من جميع الاحتياطات التي اتخذتها الأمة، فهنا لا بد من الوقوف في وجه الباغي حتى يثوب إلى رشده، إذ إن هذا الحديث بذلك -وحده- يصبح منسجما مع قوله (تعالى) ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات:9). وبذلك تكون الأحاديث الصحيحة واردة أساسا على تحذير المؤمنين ووعظهم أن يسقطوا في براثن الاختلاف؛ فإن حدث ووقع ذلك بينهم فالمخرج منه ما ذكره الله (تبارك وتعالى) من الاحتكام إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في حياته، وبعد وفاته إلى الكتاب الكريم وبيانه من السنة.

     أما ذلك الفهم الذي أدى إلى قيام “علم الملل والنحل والفرق” فإنه نظر إلى هذه الأحاديث على أنها إخبار من الصادق الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- بوقوع ذلك الافتراق حتما. ونظرا إلى وجوب تصديق رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في كل ما يخبر به، فقد اعتبروا أن الافتراق والاختلاف والتنازع قدر حتم لا راد له، وما علينا إلا أن نستسلم له ونرضخ ونتنازع من هي الفرقة الناجية والهالكة. وهذا ما لا يمكن أن يكون مراد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يتفق مع ظاهر القرآن في التوكيد على التأليف بين المؤمنين، وجمع كلمتهم ونبذ ما يفرق بينهم، والعمل على احتوائه والتقليل من آثاره عندما يحدث.

     * إشكالية الفرقة الناجية: إن الاختلاف بينهم في ألفاظه ومعانيه ورجاله وأسانيده، وضعفه ووضعه وصحته بلغ الغاية، ومع ذلك فإن جل الفرق قد تبنت تداوله والاستشهاد به، لأن كل فرقة وجدت فيه ما يمكن أن يعزز موقفها، ويجعلها الناجية، الحافظة لسنن رسول الله والممثلة للجماعة. وبعض هذه الفرق وضعت من الألفاظ ما يناسب مرادها، وكل ذلك يرفع إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وينسب إليه، وحاشاه صلوات الله وسلامه عليه أن يأتي بما لا يقبله كتاب الله -تبارك وتعالى- وأنى للقرآن أن يقبل ذلك، وهو الباني لهذه الأمة لبنة لبنة والحارس لوحدتها.

     والحديث قد أفرد له الشيخ محمد سالم عزان دراسة خاصة نشرت في مجلة المسار، ثم نشرت مستقلة، وقد استقرأ فيها رواياته -كلها- عند سائر الفرق المسلمة، وبيّن ما في كل رواية من ضعف أو وهن أو إرسال أو تدليس أو جهالة، وقام بنقده ألفاظا وأسانيد، وخلص إلى أن الحديث لا يصح بحال وفق مناهج المحدثين لدى أية فرقة أو طائفة، وقد اتضح من دراسته أن تصحيح الألباني لبعض ألفاظ الحديث لا يركن إليه، فهو تصحيح في حاجة إلى تصحيح. ولعلنا نوفق إلى إفراد هذا الحديث بدراسة خاصة أخرى نبين فيها الآثار النفسية والعقلية والاجتماعية التي أحدثها هذا الحديث في البناء التربوي للأمة. وقد أثرنا هذا الموضع المتخصص في هذه الدراسة التي لِمَ نوجهها للمتخصصين، بل لجمهرة الأمة؛ لأننا رأينا أننا لا بد أن نصارح علماء السنة والشيعة -معا- في العراق بأن النجاة والهلاك أمران أخرويان، وأن الحكم في أي منهما منحصر بالله (تبارك وتعالى) فهو الذي يحكم بين عباده فيما هم فيه يختلفون.

     أما الدنيا فهي دار العمل والابتلاء ﴿..لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.. ﴾ (تبارك:2)، ولن يغفر الله لمن يشرك به بعد أن يتضح له طريق التوحيد، ولن يغفر لأولئك الذين يفرقون كلمة الأمة، ويجعلونها شيعا وأحزابا، وينساقون وراء الطائفية السياسية – الذين يرون في كرسي السلطة مهما كان حجمه ما رآه بنو إسرائيل في العجل، إذ قال لهم السامري: ﴿..هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى.. ﴾ (طه:88) ، فالله (تبارك وتعالى) قال: ﴿..وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (الروم:31-32)، وتبرأ منهم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كما تبرأ منهم آله وأصحابه ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ..﴾ (الأنعام:159) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على منع التفرق، وجعله مقرونا بالشرك. وقوله (تعالى): “شيعا” أي جماعات قد فارق بعضها البعض، ليسوا على تآلف ولا تعاضد ولا تناصر، بل على ضد ذلك. فإن الإسلام واحد، وأمره واحد، وحبل الله واحد، فلا بد أن يكون المسلمون -شيعة وسنة، وعربا وكردا وتركمانا وغيرهم، وأهل مدينة وأهل بادية- يدا واحدة، وقلبا مؤتلفا واحدا. فإن ما حدث في الماضي ما كان ليحدث لولا تفرق كلمة أبناء الشعب، واختلاف قلوبهم. ولعله قد تبين من دراستنا لحديث الفرق أنه لا أحد يستطيع تحديد الفرقة الناجية غير الله (تبارك وتعالى). على أن النجاة والهلاك في الآخرة والجزاء والعقاب والثواب كل أولئك أمور تتعلق بالفرد من حيث هو فرد ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى﴾ (النجم:39-41) . ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- نادى في آل بيته، ومنهم بضعته الطاهرة فاطمة الزهراء عليها سلام الله وبركاته: (يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا) فكيف تغني الطائفة أو الفئة أو الحزب عن المنتمين إليها، أحسنوا أم أساءوا. إنه لا يغني أحد عن أحد. فليس لأهل السنة أن يفاخروا الشيعة والمذاهب الأخرى بحجة أنهم “الفرقة الناجية”. وليس للشيعة أن يفعلوا ذلك بحجة أنهم شيعة آل البيت وأنصارهم. فالمسلمون كلهم في حب آل البيت والانتصار إليهم سواء إلا الهالكين. وليس ذلك للإباضية ولا للزيدية ولا للسلفية، ليس لأحد من هذه المذاهب أن يدعي أن طائفته هي “الفرقة الناجية”. فالحقيقة كنز مدفون لا يعلم أبعاده -كلها- ولا يحيط بها إلا الله (تبارك وتعالى) والبشر في محاولة مقاربتها والوصول إليها سواء، كلٌّ وجهده وتوفيق الله له. فعلى الجميع أن يتمسكوا ويستعصموا بكتاب الله وحبله المتين لا بمقولات تاريخية أكل الدهر عليها وشرب ولم يبق منها إلا تلك الهياكل التي يبعث بها الحياة دعاة “الطائفية السياسية” عندما يرون لهم في ذلك مصلحة ومنفعة. فينبغي ألا يستخف مثل هؤلاء بين الحين والآخر بأبناء الأمة ليدمروا مقوماتها.

     وقد تبين أن الأحزاب اللادينية -بعثية كانت أو شيوعية أو تغريبية- لا علاقة لها بالدين، ولم تكن الأديان في يوم من الأيام نسبا وصهرا، بل هي إرادة واختيار وتبن لرؤية كلية وإيمان ويقين وعبادة ونظام حياة، يتبع الإنسان فيه رسلا مبشرين ومنذرين يوحي الله إليهم بإذنه ما يشاء. فالأديان ليست برامج حزبية ولا أطرا حركية. وبالتالي فدعوى أي من هذه الأحزاب النطق باسم دين ما أو مذهب ما هي دعوى لا تقبل على عواهنها ولا تؤخذ كما هي لمجرد إظهار احترام بعض رجال تلك الأحزاب لبعض الشعائر التي يتحول احترامها أو التنويه بها إلى رصيد دعائي لذلك الحزب.

     إن الأحزاب الإسلامية ذاتها كثيرا ما تغير برامجها بعد الوصول إلى السلطة تحت ضغط عجلة السياسة، وتبدأ بإعطاء التفسيرات والتأويلات لما كانت تنادي به لعله بذلك يصبح منسجما مع ممارساتها السياسية. فكيف بتلك التي بنيت منذ البداية على اعتبار الدين معوقا للتقدم، معرقلا للتنمية، منافيا للمجتمع المدني، مقيدا للحريات؟!. إنه ما من منصف حتى لو كان ذا انتماء بعثي يستطيع أن يقول: إن السنة في العراق بعثيون، أو إن حزب البعث في العراق حزب سني. فلعلنا قد وفقنا لإبراز ذلك من خلال التحليل الدقيق الذي سبق لنا لمفهوم “السنيين” ومفهوم “البعثيين”. وقد قادنا البحث إلى تناول ذلك الحديث الذي كان له أبلغ الأثر في بناء نفسية التعصب ورفض الآخر وتحقيره والتعالي عليه بحجة وجود فرقة ناجية، وكل الأمة وفصائلها بعد ذلك هالكة!. ولعلنا نوفق مستقبلا لتناول “الكرد” والقضايا التي أدت إلى سائر المشاكل التي عانوها في ظل الدولة العراقية. وسوف نحاول أن نتبين ما إذا كان لم يزل هناك أمل في رأب الصدع، ولمِّ الشمل، واستنباط دروس الماضي لبناء حاضر جديد، ومستقبل مشرق إن شاء الله، أو أن ذلك سيكون جزءا من التاريخ. اللهم إن هذه الأمة قد عانت الكثير فهيئ لها أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. إنك سميع مجيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

د. طه جابر العلواني: مفكر من مواليد العراق، رئيس المجلس الفقهي في أميركا الشمالية، ورئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية

السبت، 13 مايو 2023

منهج الفن في الإسلام

هل للإسلام صلة بالفن؟ والحال أن الإسلام دينا والفن فنا لا صلة له بالدين، وعليه فما علاقة هذا بذاك؟ بل إن  كانت هناك علاقة فهي علاقة نفور وخصام وتدافع، ذلك أن الدين يبحث عن الحقيقة  والفن  يبحث عن  الجمال، وفرق بين الحقيقة المقيدة، وبين الجمال الذي لا يتقيد بشيء، فهو هائم طليق الخيال. وأن الدين يحرس على الأخلاق والضوابط، فالإسلام ما هو إلا حكم ومواعظ وإرشاد، والجمال لا يتقيد بشيء فهو طليق وليد الخيال، والفن يكره القيود بما فيها قيود الأخلاق.

     إن هذا الكلام هو فهم ضيق للدين وللفن، ذلك أن الدين يلتقي بالفن فكلاهما انطلاق من عالم الضرورة، وكلاهما شوق مجنح لعالم الكمال، وكلاهما ثورة على آلية الحياة. فحينما تتبلد النفس لا يمر الإنسان بهذا الكون برؤية ثابتة، ولا يراه ولا يحس به في أعماقه، ولا يتحرك فيه الشوق العلوي، ولا تتفتح نفسه لما فيه جمال وحركة وحياة ولا لما فيه تناسق بين أجزاء الكون، وبذلك يكون قد ضيق على النفس. حين تتبلد النفس فيمر الإنسان على الوجود مرورا آليا لا يتفتح لغاياته وأهدافه وروابطه، ولا يستجيب لما يربطه بالله والكون والحياة والناس من صلات، ولا تنطلق نفسه من الأفق الأعلى الذي تلتقي فيه كل هذه الصلات، وبذلك يكون قد ضيّق على نفسه وحصر عالمه في نطاق ضيق محصور، وقد أغلق نفسه دون عالم العقيدة، ومن هنا يلتقي الفن والعقيدة في أعماق النفس كما يلتقيان في أعماق الوجود.

     والفن الإسلامي ليس بالضرورة هو الفن الذي يتحدث عن الإسلام، وهو ليس الوعظ المباشر والحث على إتباع الفضائل، وليس هو حقائق العقيدة المجردة، فليس هذا أو ذاك فنا عل الإطلاق وإنما هو الفن الذي يرسم صورة الوجود من زاوية التصور لهذا الوجود، هو التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان من خلال تصور الإسلام. هو الفن الذي يهيئ اللقاء الكامل بين الجمال والحق، فالجمال حقيقة هذا الكون والحق هو ذروة الجمال، ومن هنا يلتقيان في القمة التي تلتقي عندها حقائق الوجود.

     قد يكون في الحسبان أن العرب لم يستفيدوا من القرآن ولا من الإسلام في إنتاجهم الفني فقد مرت عليهم فترة من الزمن في أول الإسلام انصرفوا فيها عن كثير من الفنون، ربما كان لهذا أسباب متعددة أهمها الانشغال بنشر الإسلام وايصاله للبشرية وبناء العقيدة الجديدة داخل النفوس وفي واقع المجتمع، ومجاهدة القوى المعرقلة لهذا العمل سواء في واقع الحياة أو داخل الضمير، وهذا يستنفد جهدا نفسيا ضخما ويستنفد الطاقة الحيوية كلها ولا يدع فيها فضلة تدخر للتعبير الفني. أما إذا لاحظنا المراحل التي يمر خلالها الإنتاج الفني والتي لا يتن إلا بها وهي الانفعال النفسي بالتجربة الجديدة ثم استيطان هذا الانفعال داخل النفس حتى يمتزج بأعماقها ويعطيها من لونه ويأخذ من ألوانها، ثم ارتداد التجربة إلى الخارج في صورة إفراز أو تعبير.

     لقد كانت العقيدة الجديدة تنشئ النفوس إنشاء جديد، وكانت تغسلها من أدران وموروث الجاهلية ومن الانحرافات والتصورات الخاطئة، وتملأها بتصورات وسلوك وعمل وسلوك جديدة، ومن ثم لم الرصيد القديم صالحا لإحياء الفن فقد كان غير موجود في النفوس التي استجابت للعقيدة الجديدة، وتخلصت من كل تراث قديم، وانسلخت من كل ماضيها من مشاعر وأعمال ووشائح قربي وصارت تحس نحوه بنفرة وتقزز، ولم يكن الرصيد الجديد قد تجمع بعد في الصورة التي تصلح للأداء الفني الذي يعبر عن شحنة مخبأة تريد الانطلاق لا هن شحنة في دور التكوين قبل أن تمتلئ بها النفس ثم تفيض بالتعبير. ومن أسباب انقطاع التعبير الفني في تلك الفترة أن الأغراض التقليدية التي كان يقال فيها الشعر فن العرب الأول قد تغيرت من أساسها بفعل العقيدة الجديدة فصارت تلك الأغراض نشاز فنيا وشعورا لا يصلح للقول فيه، ذلك أن أغراض الشعر الجاهلي متعلقة بمشاعر الماضي الذي انسلخت منه النفوس الحاملة للعقيدة الجديدة، ومن ثم لم تعد هذه الأغراض صالحة للقول بينما الأغراض الجديدة التي يمكن أن يقال فيها لم تتبلور بعد بلورة فنية. فليست المشاعر المخبأة التي تدفع إلى التعبير الفني لم تكن قد تجمعت بعد، وكذلك أن أغراض التعبير وطرائقه لم تكن قد تبلورت بعد لتساوق المعاني والآفاق الجديدة وكل غرض فني وكل طريقة أداء جديد تحتاج إلى فترة من الحضانة قبل أن تظهر في صورة إنتاج فني. وقد كانت المعاني والآفاق الجديدة التي كانت جديرة بأن تعدل أغراض التعبير وطرائقه شديدة الضخامة بالنسبة للعالم النفيسي والبيئي المحصور الذي كان يعيش فيه الشاعر العربي في ظل القبيلة الجاهلية وكانت في حاجة إلى حضانة فنية عميقة واعية قبل أن تنبثق في ثوبها الجديد. ومن تلك الأسباب أيضا وقع القرآن في نفوس العرب، فقد تلقوه مأخذين مبهورين حتى الذين لم يؤمنوا منهم كما يتجلى ذلك في حديث الوليد بن المغيرة الذي قال فيه: "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو وما يعلى". هذا الانبهار الذي تلقى به العرب القرآن يمكن أن يكون من أسباب توقفهم فترة عن التعبير الفني، فقد كانت شحنته الفنية العجيبة تملأ نفوسهم فتستوعب منهم كل طاقة الفن وتغنيهم موقتا عن جمال الأداء بجمال التلقي والانفعال.

     عندما نعود إلى هذه الأسباب نجد أن الفرصة لم تكن مواتية لمثل هذا التعبير، فقد كانت الشحنة النفسية لا تلبث حتى تنطلق بالتعبير الفني في المواجهة التي تشمل المجتمع والنفس، وكانت الأغراض والطرائق الجديدة لم تتبلور بعد لتجد سبيلها إلى التعبير الفني، وكان القرآن يتنزل في تلك الأحداث فيصفها في بلاغة فنية معجزة تغني عن جمال التعبير بجمال التلقي والانفعال. تلك الأسباب كلها أو بعضها قد صرفت العرب المسلمين فترة عن التعبير الفني لكنهم حين هادوا إلى التعبير لم يلجئوا مع الأسف إلى الرصيد الجديد يستمدون منه مشاعرهم وإيحاءاتهم وأغراض تعبيرهم وطرائقه وإنما عادوا إلى الجاهلية كاملة في مجال التعبير أغراضه وطرائقه سواء، وعادت مقاييسهم الفنية هي ذاتها مقاييس الجاهلية بحذافيرها، وهنا تطرح الأسئلة:

          - هل عادت النفوس إلى الجاهلية الشعورية وارتدت عن الإسلام؟

          - هل مر من الإسلام على ظاهر نفوسهم فقط ولم يتعمق فيها؟

          - هل هم أولئك العرب ذوو طبيعة فنية ضحلة لم تستطع أن تستوعب إيحاءات الإسلام في عالم الفن فانحسرت عنها وعادت إلى رصيدها القديم؟

     هذه الأسئلة تحتاج إلى جواب وقبل ذلك تحتاج إلى بحث، ومع أنه ليس من همي القيام بهذا البحث وإنما هدفي أن أرسم بعض الخطوط العريضة لمنهج الفن الإسلامي فإني أرى أن الإجابة على هذه الأسئلة بالإيجاب القاطع فيه ظلم كبير للواقع، فقد ارتدت بعض النفوس حقا عن بعض الآفاق الإسلامية العالية لكن لم يحدث قط الارتداد الكامل الذي يلغي الإسلام من النفوس ويجعلها كأن لم يكن. فمنذ انطلقت الشرارة الأولى فأضاءت صفحة الكون بضوئها الباصر لم تنطفئ الشعلة أبدا ولم يخب نورها إلى حد الظلام، ثم أن العرب نهنا يكن مستواهم الفني بالنسبة للإنتاج العالمي ليسوا بالضحالة التي قد توحي بها البيئة الصحراوية، فقد ثبت من التاريخ أنهم قد استوعبوا مستويات أعمق وآفاقا أوسع واستطاعوا أن ينتجوا بدرجة الإبداع.

     ومن الأسباب الأخرى فقد تكون السياسة لعبت دورا في ذلك، فمنذ العهد الأموي وإلى عصبية جاهلية قبلية وجرفت معها الفنانون (الشعراء) الذين تحلقوا حول السلطان فغمرتهم في تيارها فإذا هم حين يعبرون يرتدون إلى مشاعر القبلية في الجاهلية فيتخذون فنون القول السلطة بوعي أو بغير وعي. وقد يكون النقاد الأوائل مستولين أيضا عن ذلك، فالنقد يبحث دائما عن القواعد وغالبا ما يبحث عن القواعد الموجودة بالفعل لا عن القواعد التي يمكن أن تستحدث، إذ النقد تقعيد في طبيعته وليس إنشائيا كالتعبير الفني، ومن ثم جمد هؤلاء النقاد على ما كان موجودا بالفعل في رصيدهم الفني وهو طرائق الجاهلية وأغراضها وقيدوا الفنانين بها فصاروا في نطاق ذلك القيد. هذا ما نجده عند النقاد والفنانين المعاصرين الذين جرفهم الفن الغربي فإذا هم حين يعبرون يرتدون إلى مشاعر وأفكار الغرب التي بنيت على فصل الدين عن الحيلة فيتخذون فنون القول الغربية بوعي أو بدون وعي، وذلك بناء على القواعد الفنية المتاحة بالفعل لا عن القواعد التي تنهي القطيعة مع الإسلام الذي هو شوق مجنح لتعاليم الكمال، وهو ثورة على آلية الحياة لا تتوقف، وهو يدفع النفس إلى رؤية ثابتة للكون، ويجعل الإنسان يرى ويحس بالفن في أعماقه فيتحرك في الشوق العلوي فتنفتح النفس لما فيه جمال وحركة وحياة، وتناسق بين أجزاء الكون. هذا الانفتاح الآخر ونبذ الأصالة أدى إلى علاقة نفور وخصام بين الإسلام والفن ومن ثم جمد الفن على ما هو مستورد وما أصبح في رصيد الفن شيء من طرائق وأغراض الإسلام، وقد الفن بطرائق وأغراض الفن الغرب وساروا في نطاق ذلك القيد لا يتزحزحون عنه.

     وأيا ما كان الأمر فقد خسي الفن العربي فرصة هائلة للاستمداد في رصيد الإسلام الضخم، وظل في تاريخه الطويل مجانبا في أكثر الأحيان لهذا الرصيد مبتعدا عن ثرائه محروما من القدرة على إبداع لون من الفن، كان حريا أن يكون أروع الفنون العالمية وأبدعها لو وجد التوحيد الصالح والقدرة الفنية المواتية، وعليه فمن الواجب توضيح سمات الفن الإسلامي الإنساني الرفيع. وعليه فمن الواجب توضيح سمات هذا الفن الإسلامي الإنساني الرفيع لعل المسلمين الذين لا يجدون في تراثهم الفني ما يغنيهم، فيروجون من فنون الغرب صالحها وفاسدها بغير تمييز لعلهم أن يفيئوا إلى كنزهم الضخم الي أهملوه، وأن يفيئوا إلى أنفسهم حين يقيئوا إلى هذا الرصيد فيجدون أن ما في مكنتهم أن يتقدموا لا أن يكونوا متخلفين في الطريق ينتهبون ما يتناثر من الفتات.

                                                        الحبيب بن ميلاد لشهب                  

الأحد، 6 نوفمبر 2022

معالم التنوير في فلسفة ابن رشد

                         ثابت سلطان                           

إنّ التنوير الإسلامي العربي –إن صحت هذه التسمية– كان ملهما للتنوير الأوروبي في كثير من الأطروحات: في أهدافه القريبة والبعيدة من جهة، وفي آلياته ومحركات الفعل فيه من جهة أخرى، على الرغم من أن جوهر التنوير الإسلامي لا يصل إلى نفس حجم مقولات وجوهر نظيره الأوروبي. وحين كان أنّه ما لم يتم العثور على نموذج للتنوير في التراث الفكري والفلسفي العربي فإن المحاولات التنويرية العربية لن تنجح، فالعقلية العربية ترسخ في أعماقها توجس وتخوف من الآخر المختلف، وبالتالي فإن طرح التجربة التنويرية الأوروبية دون سند تراثي لن تفلح، وعلى أثر هذه الفكرة جرت محاولات جمة في البحث عن "نموذج" من التراث الفلسفي العربي، يمكن الاستناد على مقولاته الفكرية، لغاية تبيان أثر هذا الفكر العربي العقلي على الفكر التنويري الأوروبي في أحيان والاستناد على مقولاته الفكرية لتأسيس حراك تنويري عربي في أحيان أخرى، وهنا كانت الخيارات التي حاول البعض حصرها في بعض المقولات المعتزلية، إلا أن شخصية فلسفية عربية حازت على الاهتمام والعناية دون سواها هي شخصية وفكر ابن رشد (520-595ه/1126-1198م)، لكونه قدم نسقا فلسفيا محكما يعد تعبيرا عن ثورة العقل وانتصاره قبل ثماني قرون كاملة. 

     ويتجلى البعد التنويري في فلسفة ابن رشد بصفة واضحة في الكثير من الجوانب المتعلقة بهذا الفيلسوف دون غيره  سواء فيما تعلق بمنهجه أو قضايا فكره أو حتى طريقة تناوله ومعالجته للقضايا الفلسفية التي سادت عصره، فقد كان ابن رشد حريصا في تناوله للعديد من المشكلات التي تصدى لدراستها على الالتزام بالعقل ومنهجه، فمـصطلح التنوير وإن كان قد جاء متأخرا عن عصر ابن رشد بعدة قرون إلا أنه عُرف التنوير لديه إضمارا أنه الجرأة على معرفة الذات وأنه هو بداية التخلص من حالة القصور، وبالتالي فإن التنوير من هذا المنطلق هو نمط وجود الحاضر الذي يتجلى من خلال روح فلسفية كامنة في النقد، هذا النقد الذي يسعى إلى الدفع ما أمكن بالعمل اللا محدود للحرية بعيدا عن تمثلات التيارات الفكرية الإسلامية في عصره، وهنا نتساءل: ما هي الأسباب التي ساهمت في جعل ابن رشد رائدا للفكر التنويري داخل أداءات الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية؟ وهل حمل فكره بُعدا يمكن القول عنه أنه مشروع فلسفي؟ ولماذا نجحت الرشدية في رفع العقل الأوروبي من حالة الركود إلى حالة الحركية وفشلت في المقابل على العقل العربي  الإسلامي؟

      I.          قراءة في مناهج وقضايا فلسفة ابن رشد  التنويرية:

       بداية لابد من الإشارة أن فلسفة ابن رشد ذات أصول تعتمد على الشروح الأرسطية، أي أنها ذات بُعد يوناني، فبعض من أفكار أرسطو تعد  جزءا لا ينفصل عن نظرياته الفلسفية بحيث لا يمكن فهم نظرية من نظرياته إلا بفهم وتأويل تلخيصه وشروحه على أرسطو بوجه خاص، إذ أنه كثيرا ما يعمد إلى عرض آراءه الخاصة في سياق هذه الشروح، فهو لا يقتصر على تفسير كتب أرسطو والتعليق عليها فحسب، بل يتجاوز التفسير والتعليق عليها، بل يتجاوز التفسير والتعليق ويتطرق إلى بعض الجوانب الفلسفية واللاهوتية، كما نلمس في ثنايا شروحه كذلك دعوة إلى اللجوء للبرهان وتجاوز ما عداه من أساليب إقناعية وخطابية وجدلية، ومن هنا فإن شروح ابن رشد على أرسطو تعتبر من الجوانب التي تبرز لنا فلسفته، فهو يناقش ويحلل ويفنّد آراء بدت له خاطئة .

        وتحتل الفلسفة عند ابن رشد مكانة خاصة، "بل إنها تعتبر أهم النشاطات العلمية التي شغف بها حبا وأولاها جهده واهتمامه ونظر من خلالها نظرته الى الوجود.[1]

        ويقسم الدارسون فلسفته إلى قسمين:

o      أحدهما تركيبي وهو الذي قصد به الجمع بين الدين والفلسفة، فبصورة أوضح هو هنا يحدد العلاقة التي يراها بين الوحي والعقل وعلى أي أسس يجب أن تقوم. فمن المؤكد أن ابن رشد لم يعتد بالدين وحده  دون العقل، ولا بهذا وحده دون ذلك، بل أنه سلك طريقا وسطا، وذلك ببيان أن كلا من الشريعة والحكمة في حاجة لكل منهما للأخرى، فهو بذلك يتخذ موقفا توفيقيا[2] بالتالي فهو  يؤكد على العلاقة الوثيقة بين الدين والفلسفة، تلك العلاقة التي تقوم برأيه على أسس واضحة يقرها الدين والشرع وتسندها براهين العقل والمنطق.

o      والقسم الثاني من فلسفته فتحليلي نقدي، فهنا يتناول الآراء ويمحصها مبيّنا أصولها وغايتها بشكل تحليلي منطقي "وكان ابن رشد من الفلاسفة القلائل الذين حاولوا أن يبنوا نظامهم الفلسفي انطلاقا من نظرة نقدية لكل التيارات الفلسفية التي سبقتهم، وله آراء وانتقادات مختلفة للمذاهب الفكرية والفلسفية وكان له الفضل أيضا في الكشف عن المغالطات التي وقع فيها المشاؤون الإسلاميون[3].

     لقد كان ابن رشد حريصا في تناوله للعديد من المشكلات التي تصدى لدراستها على الالتزام بالعقل ومنهجه،  فقد دعا إلى تأويل النص الديني، إن هذه الدعوة تعد دعوة تنويريـــة في المقام الأول فمـصطلح التنوير وإن كان قد جاء متأخرا عن عصر ابن رشد بعدة قرون، إلا أن فكـر ابن رشد يعد تعبيـرا عما يقصد بهذا المصطلح، والقول أن ابن رشد رائد للفكر التنويري الإسلامي يرجع باعتقادنا إلى ثلاثة أسباب:

o      السبب الأولأن قيمة العقل في فكر ابن رشد مركزية وجوهرية، والعقل عند ابن رشد هو العقل البرهاني الصارم وليس العقل الجدلي أو الخطابي الذين قد تلبس بموروث أصبح بحد ذاته عائقا للعمل النهضوي والتنـويري، فيما العقل البرهاني بقي على الأقل، وبالتالي فهو بشكل كبير مستخلص من التراكمات المعيقة.

o      السبب الثانيأن شخصية ابن رشد مطمئنة للمتوجس، فهو الفقيه الكبير، والقاضي المعتبر، والموثوق على المذاهب الأربعة، وصاحب الفضل في التوفيق بين الشريعة (الدين)، وأختها الحكمة (الفلسفة)، بوصفها حقين، والحق لا يعارض الحق[4]، وابن رشد كما يقول الجابري: “هو الذي دافع عن الفلسفة ليس بالفلسفة بل دافع عنها بالفقه[5].

o      السبب الثالث: أن الفكر الرشدي قد أثبت فعاليته وأثرا واضحا في البيئة الأوروبية من خلال ما يعرف “بالرشدية اللاتينية”، من حيث أنه يعبر من الممهدين للرؤية العلمية الحديثة في أوروبا إبان القرنين 17 و18م، بحكم أنه قدم أرسطو لأوروبا مما سبب إشكالا في الفكر الوسيط الذي كانت تحميه الكنيسة آنذاك، ولا أدل على ذلك من أن كتب ابن رشد قد أحرقت بقرار من مجلس كنسي إقليمي في جامعة باريس ومنع تدريسها بين عامي 1210 و1215[6]، ولئن كانت هذه الفكرة في كثير من الأحيان قد فهمت ابن رشد فهما آخر لا يعبر عن فكره فقد أخذت الرشدية اللاتينية من ابن رشد جانب العقل فقط وأرادت من وراء ذلك استخدام ابن رشد كسلاح في معركتها ضد سلطة الكنيسة، ولم يكن من صالح الرشدية اللاتينية أن تأخذ بفكر ابن رشد كله بوجهيه الديني والفلسفي، لأن ذلك لم يكن ليساعدها في معركتها مع السلطة اللاهوتيــة، ومن هنا وجدنا أن ابن رشد قد أصبح في فهم الرشدية اللاتينية واحدا من عمالقة الزنادقــة، وهكذا صار ابن رشد كبش الفداء الذي يحمله كل واحد رأيه الإلحادي.[7] وقد أطلق “رينان” على هذا الفهم لفكر ابن رشد “أحدوثة القرون الوسطى المسيحية.[8]

o      السبب الرابع: من المعروف عند مؤرخي الفكر الأوروبي في القرن 12 و13م أن الرشدية كان لها التأثير الكبير في تطوير الأسكلانية (المدرسية)، ودفع العقل إلى الصدارة الرسمية في المسيحية، فهو إذن فكر مجرب وأثبت فاعليته.

o      السبب الخامس: أن شخصية ابن رشد مغلفة بتـراجيديـا مثيرة للفيلسوف الإسلامي الكلاسيكي، فهو يذوب ويتماهى مع محيطه الثقافي والديني السائد، وكأن الظروف لم تتغير إذا ما قارنا تحديات المثقف والمفكر العربي الراهن وابن رشد، فالاضطهاد باسم الديـن والسياسة لازال المثقف العربي يعانيه مثلما عاناه ابن رشد، فإن كان ابن رشد قد أحرقت كتبه ونفي إلى قرية يهودية (ألسيانة جنوب شرق قرطبة)، فإن أحوال المفكرين العرب الحاليين ليست بالأحسن والأفضل، فنجد غالبيتهم منفيين إلى دول أوربا وأمريكا بالدرجة الأولى.

     وهكذا فإن مشروع ابن رشد الفلسفي التنويري شكل بحضانة مالكية مستنيـرة وعبر فقه مالكي اجتهادي، وفي فضاء أرسطو أهم العقول الفلسفية في العصر القديم والوسيط، ولاشك أن تشكيل هذا المشروع لم يعتمد على هذه المواد الخام، بل على جهود ابن رشد في توظيف كافة هذه العناصر عبر التركيز على أغنى ما فيها مضمونيا، أي شد كافة الخيوط على منول الحرية والعلم الموضوعي لإنتاج نسيج مختلف على كافة هذه العناصر المبعثرة في الفضاء العربي الإسلامي،[9] إن كل عنصر كالمالكية والأرسطية والتحـررية الاجتماعية الأندلسية له تاريخه الغني الخاص، وعملية التركيب بين هذه العناصر التي تعود إلى أزمنة مختلفة وهياكل اجتماعية متعددة، ولحظات صراع متفاوتة، تعتمد على ذلك النقل الذي غزل به ابن رشد هذه العناصر وشكل منها فلسفته المتميزة في العصر الوسيط والحديث، والتي غدت قمة العقلانية الدينية في العصر الوسيط،[10] وإن كان القول بالحضانة الملكية لفكر ابن رشد ليس صحيحا بالضـرورة فإنه يمكن اعتباره صائبا إلى حد مـا اعتبارا وآخذا بضرورة تاريخـية تفرض نفسها وهي أن كافة مشروعات النهضة الفكرية في المشرق والمغرب تعتمد على وجود ملك متنـور، تبلغ فيها الفئات الوسطى أقصى لحظات تطورهـا، ويلوح فيها أفق حداثة، بسبب ضخامة البناء الثقافي المتنور والعقلي، وهو الذي يجعل بعض الملوك والفلاسفة منساقيـن إلى الاعتقاد بقدرة هذا البناء الثقافي على حل كافــة المعضلات وتحقيق نهضة، حدث ذلك في أيام كسرى الفارسي، والخليفة المأمون العباسي والخليفة الراهن لابن رشد وهو أبو يعقوب يوسف المنصور.

    II.          أسس التنوير الرشدي :

    يعتبر ابن رشد من المفكرين الإسلاميين  الذين نجدهم يذهبون في تعيين حدود التنوير، فيرى في استخدام العقل لإعادة قراءة النص الديني وتكريس آليات التفكير العقلاني داخله عملية فكرية ثقافية، ولكن في الوقت نفسه لا ينفي عنه البُعد الفلسفي وماله من دور جوهري فيه. وتتوضح هذه الرؤية لديه بما هو معروف حاليا بمفهوم "تغيير معرفة الواقع أو عقلانية الفكر"، وجوهر هذه الفكرة لديه هي رفض مقولات الكلية والشمولية في أي خطاب أو نص ديني، والحال أن مقولة تغيير القراءة النصية والفكرية الجامدة التي يحمل ابن رشد لوائها وجوهرها هي في الحقيقة تغيير معرفة الواقع أو إدراكه من خلال مقولات  عقلانية جديدة تتطلب معرفة من نوع آخر. وهنا من الضرورة بمكان إيضاح المبادئ التي يقوم عليها الفكر التنويري الرشدي لفهم أعمق لأبعاد هذا المشروع ويمكن اختصار هذه المبادئ كالتالي:

o      العقلانية: يشغل العقل أرفع المراتب عند ابن رشد، فهو المرجع الأخير في تفسير العالم، وحل المشكلات ذات الصلة بالنص وغيرها، ويمـاهي ابن رشد العقل مع النظام الكوني العام، الذي يحكمه مبدأ السببية وفحواه "وجود ارتباط ضروري بين الأسباب والمسببات"، وهو مبدأ اعتبره ابن رشد عماد العلم، واعتبر الخروج عليه قـولا بعشوائيـة الحوادث ونفيـا لحكمة الصانـع، ومن تجليات العقلانية عند ابن رشد قوله بتأويـل النص الديني في حال تعارض ظاهره مع الفلسفة بما يتفــق مع الفلسفة، ومناداتـه بأولية المنطق في التعليـم، أي يكون المنطق الموضوع الأول الذي يدرسه المتعلم قبل غيره من الموضوعات. بالتالي فإنه من هذه الناحية أراد بالمفهوم المعاصر لتأسيس ثورة فكرية على منطق إنتاج المعرفة، من منطق فقهي أو برهاني أو عرفاني إلى منطق استكشافي يرتكز على الرياضيات والتجربة، وبذلك تحرر البحث المعرفي من سلطة النص، لا بل تحدى هذه السلطة ومن ثمّ رفض قدسية الأفكار ووضعها جميعها في دائرة الشك المنهجي والتحليل والاختبار. وحين كانت المعرفة التي اكتسبها العرب عن أنفسهم آنذاك، إنما هي بمعظمها معرفة يونانية أو شرقية قديمة في الأصل، فالمعرفة التي يعرفها العرب المعاصرون حسبه عن أنفسهم ليست معرفة ذاتية، كان لابد من ربط هذه "المعرفة العربية الاسلامية" من دون نكران او خجل أو تجاهل بالمعرفة "اللاعربية إسلامية" التي يتوجس منها الكثير من مفكر الاسلامي حتى وقتنا الراهن.

o      الانفتاح على الآخر: يصدر الانفتاح على الآخر عند ابن رشد عن رؤيتـه لتـكامل الخبرة البشرية في المعرفة، وموضوعية الفكر الإنساني الذي لا يعتمد على الهويات والعصبيات. وبالتالي رؤية جديدة آنذاك تبناها ابن رشد وهي ثقافة الانسجام والعيش المشترك برؤية إنسانية عقلية بحتـة بعيدا عن الخطاب الديني المستأسد والطاغي حتى وقتنا الحالي والتي تتضمن على سبيل المثال لا الحصر دعوة القرآن المسلم إلى حسن الجوار ونبذ العنف …الخ، ولعل أبرز دليل في هذا الطرح هو أن فكر ابن رشد نفسه يمثل الانفتاح على كل التيارات، يأخذ منها ما يأخذ ويرفض منها ما يرفض، فقد أخذ من كل الثقافات وخاصة الثقافة اليونانية باعتبارها حسبه إنتاجا إنسانيا خالصا ولم يعتبرها بأي حال من الأحوال كفرا أو زندقة، بالتالي يصدر موقف الانفتاح على الآخر عموما عند ابن رشد عن رؤيتـه لتـكامل الخبرة البشرية في المعرفة وشموليتها وعدم اعترافها بالحدود والزمن وموضوعية الفكر الإنساني الذي لا يعتمد على الهويات والأعراق والعصبيات، وبالتالي حاول التأسيس لرؤية جديدة  تبناها في فلسفته وهي ثقافة الانسجام والعيش المشترك برؤية إنسانية عقلانية بحتـة بعيدا عن الخطاب الديني والإيديولوجي السائد والطاغي حتى وقتنا الحالي والتي تتضمن على سبيل المثال لا الحصر  التفاعل الايجابي وحسن الجوار ونبذ العنف والتعايش السلمي والايجابي بيننا وبين هذا "الآخر" المختلف عنا.

o      مرجعية الطبيعة والواقع: تنتـمي فلسفة ابن رشد الأرسطية الجذور إلى الفلسفات المادية التي يتقدم الواقع فيها على الفكر، بل إنـه يرتفع بالتفكير في الطبيعة إلى القداسة حيث يقول "إن الشريعة الخاصة بالحكماء (الفلاسفة) هي الفحص عن جميع الموجودات، إذ كان الخالق لا يعبد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته سبحانه"،[11] والعامل المشترك في الحالتيـن: التفكير في الطبيعة والعبادة إنما هو مبدأ السببية.

o      دور الإنسان في صنـع التاريخ: يتبين دور الإنسان في صنع التـاريخ عند ابن رشد في التفسيـرات التي قدمها لتحول المدن الفاضلة وغيرها –الواحدة إلى الأخرى- من خلال تأثرها بعوامل اقتصادية واجتماعية وحتى نفسيــة، وينطبـق هذا القول أيضا على التطبيقات التي قدمها لتحول الدول في التاريخ العربي القديم والمعاصر له، كما يتبين هذا الدور أيضا من مخالفته لرأي أفلاطون القائل بصعوبة تحقق المدينة الفاضلة عمليا، وذلك لافتراضه أن هذا لا يتأتى إلا بمصادقة وجود شخص تجتمع له صفات الملك وصفات الفيلسوف، وهو أمر بعيد الاحتمال، ويطرح ابن رشد بديلا آخر وهو تراكم التحسينات الممكنة الوقوع في الدولة إلى أن ينتهي الأمر فيها بقيام الدولة المدنية المطلوبة.

o      المسـاواة بين الجنسينهذا المبدأ قد يكون مفاجئا لكن نجد هذا القول في أكثر من موضع في فكر ابن رشد حتى وإن كان بالتعبير غير المباشر أو بالمفهوم السائد حاليا داخل الحركات النسوية.[12]

     وكذلك يمكن القول أن منهجيـة ابن رشد تقوده إلى الوقوف على سطوح الظاهرات العامة الاجتماعية والسياسية، أي إلى تفسير التطورات الموضوعية عبر أفـراد، ومع ذلك فهو تفسير يتطرق إلى تلك المظاهر الموضوعية، فهو يسدد ضربات نقدية عنيفة للتفكير القدري والغيبي المطلقين، وللاستبداد، مقتربا من قراءة عميقة لهذه الظاهرات الصعبة.[13]

      ولم يتأتى هذا إلا بكونه قد تميز بحس نقدي من النادر أن نجد له مثيلا في فكرنا الفلسفي العربي، ومن الواضح أن الفلاسفة الذين يتميزون بحس نقدي، إنما يقفون على قمة عصورهم الفلسفية، فأرسطو على سبيل المثال يقف على قمة عصر الفلسفة اليونانية لبروز حسه النقدي، وما يقال عن أرسطو، يقال عن ابن رشد، إذ أن هذا الأخير قد وقف وقفة نقدية شاملة ودقيقة في أكثر الاتجاهات التي كانت موجودة حتى عصره وبالأخص نقده المشهور لأفكار الغــــزالي، ولقـــد نقد الصوفية نقدا عنيفا، فالصوفية حين يتحدثون عن أذواق ومواقف ومقامات،  فإن هذا يعد معبرا عن طريقة فردية ذاتية، وليست ذاتية، لأن العقل يعد طريقا عاما مشتركا، كما نقد الأشاعرة أيضا في آرائهم وفي اتجاههم الجدلي، لقد عرض آراء الأشاعرة عرضا أمينـــا، وقام بعد العرض بتوجيه العديد من أوجه النقد.[14]

     وكان هذا شيئا متوقعا من جانبه، إذ أن الأشاعرة كفرقة كلامية، تعد في أدائها معبرة عن الطريق أو المنهج الجدلي، في حين أن ابن رشد يلتزم بالمنهج البرهاني، والبرهان هو أعلى صور اليقين، إنه كالذهب الخالص كما يقول ابن رشد، أما الجدل فإنه يعد أقل مرتبة من البرهان. وتجدر الإشارة إلى ما يقال عن نقده للصوفية ونقده للأشاعرة ينطبق على موقفه النقدي من الغزالي، فالغزالي يعد أساسا في آرائه معبــرا عن الاتجاه الأشعري الصوفي.

  III.          تاريخيـــــــــــــة النص الديني وإشكالية قراءته على ضوء المنهج النقدي الرشدي:

         تتمثل تاريخية النص الديني عند ابن رشد في مراعاة بنية ظاهر النص لإدراك الجمهور الذي يعتمد في تفكيره على المعطيات الحسيـة، في غالب الأمر. وتجدر الإشارة إلى نقطة مهمة ومفصلية في جعل  ابن رشد لقراءة ونقد النص في الفكر الإسلامي العربي، وهي طبيعة النص في حد ذاته، فهو لا يعني بالنص النص الديني المقدس فحسب، إنما جميع أنواع النصوص التي يسقى منه المعرفة والمعلومة والقانون والسلطة، وهنا نقصد تجاوزه لمفهوم النص الذي تناوله الغزالي والمعتزلة، اللذين ركزوا على إشكالية الموقف من النص القرآني بالذات: مفهومه وآليات اشتغاله وأنماط توظيفه ضمن ما يعرف بإشكالية النص الديني .

         فيرى ابن رشد بأن للنص داخل اللغة العربية ذاتها له قوة سحرية، أي وجود قوة مؤثرة داخل النص تقدم نفسها على مستويين، المستوى الظاهري للنص بكليته، والمستوى الباطني للمقولات اللغوية، ويمكننا بسهولة فهم المستوى الأول، أي وظيفة القوة الموجِّهة للنص مما يمدنا من تعابير بلاغية وشكلانية، وهذا ما يفسر تقدم الفكر اللاعقلي للفكر الإسلامي، وبالتالي نفهم من هنا كيف تعامل ابن رشد مع النص بوصفه إمكانا للبحث والكشف، فاهتم بطاقته الرمزية وتركيبته المجازية، وبحث في قواعد اشتغاله، فالبحث في النص وتعرية دوره في إرساء الفكر السائد هو سؤال أولا حول ماهية هذا النص، وهو نفس السؤال بمعناه الشامل والأوسع الذي طرحه بعض من معاصريه من المعتزلة وإخوان الصفا مع إشكالية قيام معركة فكرية بين موقفين من النص، هذين الموقفين في جوهرهما تصورين أو طريقين في التعامل مع هذا النص، أي معركة بين قراءتين: قراءة كانت ولا تزال طبقا لآليات العقل الغيبي الغارق في "الخرافة والأسطورة"، والعامل "المُعرَي" لهذا النص وسلطته هي القراءة الثانية حسبه،  بالتالي فإن أي نص تحاول عبره هذه اللغة منع الخلق والإبداع وتشجيع الحفظ والتكرار ووضع النص التراثي فوق كل نص.

       لم يعد اليوم-كما هو معروف- من السهولة على قارئ ما لأي نوع من النصوص حرا تمام الحرية في اختيار نوع الانتماء النظري الذي يسلكه أو المنهج الذي يتبعه “دون أن يكون لمؤثرات أخرى فاعلة في ميدانه أن تفعل فعلها في طريقة الاختيار ونوعية التوجه، إن الناقد لا يمكنه بأي حال أن يعكس رؤيته المجردة فقط المبنية على ذاتيته المستنبطة في اختياراته، سواء منها في المنهج أم في ميدان الدراسة النصية للنص المختار، إنما أصبح الناقد والقارئ عرضة لمؤثرات فاعلة تتحكم وتضغط وتدفع في اتجاهات محددة تفرضها طبيعة ما هو سائد ومطروح على الصعيد الأدبي والثقافي،[15] وبالتالي فإن إعادة النظر في تحليل النص وقراءته لا يمكن لها أن تغفل بأي حال من الأحوال مقاومة التيارات القبلية الموائمة مع تفكير وطبيعة القارئ للنص، وهذا يعني أنه متأثر كما هو مؤثر، ومنفعل كما فاعل، ومنساق بطبيعة الحال مع طبيعة القيم والإيديولوجيات السائدة في واقعه الثقافي والفكري والسياسي والحضاري، وهذا ما ينطبق خصوصا على النص الديني الذي نقده ابن رشد وعالج محتوياته "الإيديولوجية" والخطابية المهيمنة.

     فالخطاب  المهيمن آنذاك وحتى وقتنا الراهن في مجال الدين والمقدس (النص الديني بالخصوص) هو خطاب الفقيه أو الإمام، ذلك الخطاب الذي يقدم نفسه على أنه يتطابق مع المقصد الإلهي الكلي والنهائي للنصوص المقدسة، بمعنى أنه يمتلك قدرات خارقة تمكنه من إدراك الإلهي بشريا إدراكا صحيحا، ويغدو بذلك خطابا وثوقيا يكفر بكل رأي مغاير لرأيه ولا يقبل إلا بنمط واحد من التأويل والتفسير ولا يعترف بوجود اتجاهات متعددة في التأويل والفهم والتنزيل.

     إن كل نقد حقيقي أو كل قراءة منتجة تنطوي على كشف وتعرية، "فلا تحليل ولا كشف من دون تعرية ومن غير فضح، ولكن الكشف الحقيقي ليس مجرد فعل أيديولوجي يقوم على فضح دعوة أو تعرية أدلوجة، وإنما هو قراءة في أنطولوجية الخطاب المقروء لاستكشاف إمكاناته، واستكشاف النص ليس مجرد عمل سلبي وإنما هو في حقيقته كشف معرفي أو انجاز فكري يقوم به القارئ الناقد، باستخدام مصطلحات أو أدوات أو مناهج جديدة في الدرس والتحلي"،[16] هذا التحليل والنقد للنص لا يتأتى إلا عبر إعادة بناء شبكة المصطلحات والمفاهيم، ومن هذا المنطلق فإن هذا ابن رشد  حاول من خلال دعوته إلى قراءة ثورية للنص، من خلال نقد ينتج معرفة بالنص، والنقد بمعناه المنتج هو قراءة تمكن من يمارسها من أن يكون له حضوره الفاعل في النتاج الثقافي في المجتمع، أي من أن يكون معنيا بالحياة التي تنمو وتتغير حوله، “فالنصوص ليست في آخر الأمر إلا تعبيرا عن الواقع والتجربة التي نمر بها كما هو معروف.

 IV.          المسألة التي تفرض نفسها هنــا هي لمـاذا نجحـت الرشديـة هــذا النجاح الباهر في رفع العـقل الأوربي مــن حضـيض القرون الوسطى إلى ذروة النهـضة والتنوير، في حين فشلت في زحزحة العقل العربي فشلا ذريعـا؟

     ناقش المفكرون العرب هذه المسألة الخطيرة، وعـزوا ذلك الفشل إلى عدة أسباب، ولعل أوضح سبب هو ذلك الذي وضحه المفكر محمد أركون في كتابه "قضايا في نقد العقل الديني" حين قال: "تاريخ الجمود يـــؤرخ لــــــه بموت ابن رشد في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، والدخول في عصور الانحطاط الطويلة منذ بداية القرن الثالث عشر ميلادي والأطر الاجتماعية للمعرفة هي التي تستقبل الفكر الفلسفي أو لا تستقبله، وهي التي تتيح له أن يزدهر أو تضييق عليه الخناق، وقد كانت هذه الأطر متوافرة في القرون الأولـى من الإسلام، وبخاصة في القرنين الثالث والرابع هجــري، فازدهرت العلوم والفلسفات بشكل لم يسبق له مثيل وشكلت ما يسمى بالعصر الذهبي للفلسفة العربية الإسلامية، ثم ابتدأت هذه الأطر الاجتماعية تتقلص وتضيق بعد مجيء السلجوقييـن في القرن الخامس هجري/الحادي عشر ميلادي وأصبحت محبـذة للفكر الطرقي (الصوفي أو الفقهي) الشعبوي، ومعادية أكثر فأكثر للفكر الفلسفي، وهكذا دخلنا فيما يدعوه المؤرخون بعصور الانحطاط أو إقفال باب الاجتهاد… نقصد بتقلص الأطر الاجتماعية المحبذة للمعرفة ما يلي: انهيار "البرجوازية" التجارية في بغداد والعواصم الإسلامية الأخـرى، وكانت هذه البرجوازيـة هي التي تشكل الدعامة المادية لـعقلانية المعتزلة والفلاسفة والعلماء في آن معا، ونقصد بها أيضا الخوف الذي ابتـدأ يلف المجتمع بسبب الخطر الصليبي في الخارج، وبسبب النزاع الداخلي مع الخلافة الفاطمية (الإسماعيلية) في الداخل.[17] وعندما يخشى المجتمع على نفسه ويشعر بأنه مهدد بالانقراض فإنه لا يعود يفكر بشكل عقلاني هادئ، وإنما يصبح ميالا إلى الفكر الإيديولوجي التعبوي الذي يجيش الجماهير من أجـل الجهاد والكفاح ومكافحة الأخـطار، وهكذا انـــــــتقد الفكر التقليــدي المـحافظ على الفكر التقليــدي العقــلانـي، والفكر الفلسفي لا يستطيع أن يزدهر في أي جو، وإنما تلزمه أطر اجتماعية ملائمة لكي ينفتح ويزدهر،[18] ربما يكون هذا التفسير الذي قدمه أركون قابلا للتطبيق في العصر الحاضر أيضا حتى وإن اختلفت المسميات والمصطلحات.

     ولكن هناك على الطرف الآخر  من يـخشى أن نقع في متاهات وحبائل ابن رشد، بـمعنى أن نقـع في سلفية رشدية، بينما المشروع التنويري مغاير تماما إن لم نقل مضاد للسلفية في منطلقاته ومناهجه وأهدافـــــه، فابن رشد بحسب هذه النـظرة، مهما علت قيمته يمثل فكر القرون الوسطى، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نستلهم فكر القرون الوسطى في عصر الحداثة وما بعد الحداثة، ولهذا فإن القضية تتحدد إلى حد كبير في المنهج الذي نتعامل به مع فكر ابن رشد، فإن كان منهجا تسليميا متلقيا بسلبية تحت تأثير الهالة ويعتقد أن ابن رشد يملك كل الحلول، فإنه يترجم السلفية التي  نعرفها بتجلياتها، أما إن تم التعامل مع تراث هذا الفيلسوف بروح النقد ورغبة التجاوز بحكم أنه يحتوي على بذور العقلانية التي يمكن من خلالها زراعة أشجار تـخصنا نحن ونزرعها بأيدينا نحن،[19] فإنه يمكن اكتساب في آفاق قريبة حراكا فكريا وثقافيا تنويريا يحاول فك الكثير من الاحتقانات الفكرية والثقافية التي تكاد توقف وتعطل كل عمل تنموي وتنويري خصوصا في قضايا العقل والعلاقة بين الدين والفلسفة، بل حتى لغوي، فمن المعلوم أن ابن رشد له مساهمات في النحو واللغة.

خاتمة:

    إننا نتحدث اليوم عن قضايا التنوير، وقضايا التطرف والإرهاب، وقضايا الأصالة والمعاصرة وما يرتبط بها من الحديث عند البعض عن الغزو الثقافي والهجوم على الحضارة الغربية، لقد تقدمت أوروبا لأنها اتخذت ابن رشد نموذجا لها وقامت فيها حركة رشدية  قوية، والواقع أن ابن رشد عن طريق حسه النقدي الدقيق يقف على قمة عصر الفلسفة العربية، وانتهى وجود الفلسفة حين مات ابن رشد، كون أن فلسفته تعدّ تعبيرا عن ثورة العقل وانتصاره، ولهذا اعتبر فيلسوف العقل الإسلامي لأن آراءه كانت إلى حد كبير ردا على الآراء التي ابتعدت عن العقل بصورة أو بأخرى وخاصة آراء الغزالي في المشرق الإسلامي آنذاك. ولهذا فإننا نشهد حاليا تراجعا عن طريق العقل وتضييقا لمساحته، وبحيث ارتفع داخل أطر الفكر الفلسفي العربي الإسلامي عموما صوت اللامعقول حتى زادت مساحته عن مساحة المعقول باعتبار إهمال العقل الذي حاز جانبا معبرا إن لم نقل كليا في فلسفة ابن رشد ذات البعد التنويري، إذ دعى ابن رشد إلى التنوير حين سعى كل قوته إلى شرح كتب أرسطو، وكأنه يريد أن يبين أن الثقافة المحلية وحدها تعد تعبيرا عن الطريق المظلم، أو تعبيرا عن العدم، ويمكن القول أنه يذهب في هذا المنحى ما ذهب إليه ابن سينا في مناجاته لله تعالى "فألق ظلمة العدم بنور الوجود"، وهذا يعني ارتباط العدم بالظلام وارتباط النور بالوجود، وفي هذا تتجلى ثنائية رفض ابن رشد لنوعين من الفلسفة: رفض تام للفلسفات المادية أو الإلحادية، ورفض جزئي للفلسفات المؤمنة بقدر ما تدعي معرفة الله في ذاته بمعزل عن مصنوعاته التي تدل على عنايته واختراعه، وانطلاقا من هنا يتضح لنا أن تنوير ابن رشد يختلف اختلاف أساسيا عن التنوير الأوروبي بمعناه التقليدي فقد كانت ظروفه الخاصة ومبرراته حينذاك مما لم يكن له نظير في عصر ابن رشد، ولكن لا مناص من الإقرار على أن ابن رشد تنويري من الطراز الأول، ولكن ليس بالفهم الذي يريده البعض، ولكن بطريقته الخاصة التي تتمسك بالعقل والدين معا. ومن هنا اتخذ التنوير الأوروبي طريق العقل مبتعدا عن الدين، في حين انصهر الدين والعقل في بوتقة التنوير الرشدي في تركيبة فريدة.



[1]  ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، إشراف محمد عابد الجابري، دار الطلائع، بيروت، ط1، 2006.

[2]  ابن رشد، فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال، إشراف محمد عابد الجابري، دار الوطن، بيروت، 1976.

[3]  أحمد عبد الكريم أحمد، فلسفة النقد من الإجراء إلى النظرية، دار الكتاب الحديث للنشر والتوزيع، أربد، الأردن، ط1، 2015.

[4]  أرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ددار المعارف للنشر، القاهرة، 1975.

[5]  بول كريش، مؤتمر ابن رشد والتنوير، الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية، القاهرة، 1994.

[6]  حمادي العبيدي، ابن رشد وعلوم الشريعة الإسلامية، دار الفكر العربي، بيروت، ط1، 1991.

[7]  عاطف العراقي، الفلسفة العربية مدخل جديد، الشركة المصرية العالمية للنشر، القاهرة، 2000.

[8]  عاطف العراقي، العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر، دار الوفاء للطباعة، الإسكندرية، مصر، ط4، 2012.

[9]  عبد الله خليفة، الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، دار الطليعة، بيروت، ط2، 2005.

[10]  علي حرب، النص والحقيقة، نقد النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط2، 1995.

[11]  محمّد يوسف موسى، بين الدين والفلسفة، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط1، 1968.

[12]  تعرف النسوية أو Féminisme  بالفرنسية أنها منظومة فكرية أو مسلكية مدافعة عن مصالح المرأة وداعية إلى توسيع حقوقها، أو أنها النظرية التي تنادي بمساواة الجنسين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتسعى كحركة سياسية إلى وصول المرأة لمراكز القيادة والقرار، وإزالة التمييز الجنسي الذي تعاني منه المرأة، أي جعلها في مكانة موازية للرجل ومشاركته بجميع الحقوق التي يتمتع بها، وبالتالي فهي حركة فكرية مهتمة بحقوق المرأة وتنادي بتحسين وتأكيد دورها وتشجيعها على الإبداع.

[13]  محمّد العريبي، ابن رشد وفلاسفة الإسلام من خلال فصل المقال وتهافت الفلاسفة، دار الفكر اللبناني، ط1، 1992، ص 79.

[14]  محمود حمدي زقزوق، مقدمة في الفلسفة الإسلامية، دار الفكر العربي، القاهرة، مصر، 2003.

[15]  محمّد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة بيروت، ط1، 1998.

[16]  علي حرب، النص والحقيقة، نقد النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط2، 1995، ص 205.

[17]  محمد آركون، قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة: هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1998. ص300.

[18]  م.ن، ص 301.

[19]  عاطف العراقي، العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر، دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية، ط4، 2012، ص 71.