منذ
القرن السابع عشر عصر ديكارت أخذ مبحث (الوعي) في الفلسفة اهتماما استثنائيا في
أعقاب إطلاق كوجيتو ديكارت أنا أفكر.... الذي كان قمّة الوعي الذاتي المثالي في
جعل الواقع الخارجي وجودا لا أهمية له في امتلاك الوعي الفردي القصدي لمعرفة الذات..
في أعقاب مجيء فلاسفة عديدين على مراحل
زمنية متباعدة ظهر الفيلسوف برينتانو بمقولته (إن اللا وجود القصدي هو ككل هدف
قصدي موضوع ومضمون مختلفان) وسنجد تأثير هذه العبارة على سيرل.. ليعقب –برينتانو- تلميذه هوسرل مستعيرا قصدية الوعي منه في شرح
معنى إدراك الذات على أنها إشباع لوعي معرفي هادف في شيء محدد مقصود سلفا في وجوب الإدراك بلوغه.. وبذلك تأثر تلميذه
من بعده، هيدجر في اعتباره الوعي القصدي هو نتاج الواقع المادي الذي لا يكون له
معنى ما لم يكن وعيا ديناميكيا في عالم مؤكدا أهمية الوجود المجتمعي ومقصّيا وعي
الفردية الذاتية في سلبيتها. وجاء سارتر ليتوّج ذلك في الوجودية أن الوجود سابق
على الوعي به ليلتقي بالفهم المادي الماركسي من غير رغبة منه بذلك وإنما مكرها
لخلاصه من مثالية ديكارت الذاتية المقفلة في علاقة الأنا بكل من الفكر والوجود.. وخروج
سارتر لاحقا على الماركسية نفسها في جوانب فلسفية خلافية عديدة أفادت منها الفلسفة
البنيوية كثيرا في نقدها القاسي للماركسية لدى كل من التوسير، وشتراوس، وفوكو،
وبياجيه.. وغيرهم.
الفيلسوف
الأمريكي المعاصر جون سيرل ناقش موضوع الوعي والقصدية من منطلق مغاير تماما هو
تعالق فعاليات اللغة والعقل والوعي والقصدية وحاسة البصر والإشباع والشخصانية في
تحقق تجربة الإدراك بما أطلق عليه فلسفة العقل واللغة وهو مبحث تخصصه الفلسفي.. وكان
سيرل أبرز الفلاسفة المعاصرين الذين تناولوا دور القصدية في الوعي وارتباطها مع كل
من الإدراك الذاتي واللغة والعقل، وكان في فلسفته قريبا من فينجشتين الذي أعتمده
في بعض طروحاته في فلسفة اللغة، مبتعدا عن جاك دريدا الذي فهم اللغة فهما تجريديا
جعلها تدور في فلك التقويض غير الهادف لتحقيق فائض المعنى، وأعتبر اللغة على أنها
كلمات في ترتيب معيّن مجّرد عن نيّة وقصدية المتكلم، مؤكدا سيرل قدرة العقل على تمّثل
الأشياء، وأن جميع الحالات القصدية أنما هي سعي نحو شيء معين نتمّثله إدراكيا.. وبهذا
الفهم الوظيفي القصدي للعقل واللغة خرج سيرل تماما على مقولة دريدا الذي يفهم
التفكيك اللغوي نظام استراتيجي من التقويض والهدم المستمر في تناول النص اللغوي
بمعزل عن أية علاقة له بغيره.. وفي إلغاء دريدا مبدأ الإحالة على أيّا مما أطلق
عليها لمرجعيات الميتافيزيقية الثابتة التي يأتي في مقدمتها إلغاء هيمنة العقل باعتباره
من سرديات ميتافيزيقا الحداثة الواجب مجاوزته كما بشّرت به ما بعد الحداثة لاحقا
لتفتح الطريق واسعا أمام استهداف البنيوية لمرتكزات الحداثة في العقل ومركزية الإنسان
وما أطلق عليه السرديات الكبرى من ضمنها الماركسية.. وتبنى دريدا هذه المباحث في التفكيكية
بتطرف لغوي لا يزال مثار جدل واسع....
جون سيرل وقصدية الوعي
يذهب
سيرل أنه استنادا إلى تقليد معرفي في الفلسفة المثالية فرضية خاطئة معتمدة تلك هي
أننا لا يمكننا إدراك العالم الحقيقي بصورة مباشرة، وهي تشبه محاولة شخص تطوير علم
الرياضيات على افتراض عدم وجود الأرقام[1].
بضوء ما
مر بنا في عبارة سيرل أن إدراك العالم الحقيقي لا يتم عبر الإحساسات المنقولة
للدماغ بصدقية يعتمدها الإدراك العقلي المباشر وهو طرح سليم ودقيق، ومن هنا يكون
الإدراك العقلي منقوصا ويفقد الواقع الحقيقي كموضوع للإدراك الكثير من مزاياه، هذا
من جهة.. من جهة أخرى يتمّثل عدم إمكانية معرفة الواقع على حقيقته في تعّذر الإدراك
الحقيقي المباشر له، إن وسيلة العقل الإدراكية للعالم الخارجي تقوم أساسا على تأطير
صادرات الإحساسات المنقولة إلى الدماغ بزمن إدراكها الذي يجعلها متعيّنا مكانيا –
زمانيا- في بنية واحدة لا تنفصم، وبغير هذه الآلية يتعذّر على الإدراك العقلي أن
يكون واقعيا وسليما في إدراكه الأشياء المنّظم فكريا بعيدا عن الإدراكات الهلاوسية الناقصة،
فجوهر الإدراك هو الوعي بموضوع يأتي الدماغ ويستلمه عبر منفذ الحواس، أي بمادة خام
يكون مصدرها بالنسبة للعالم الخارجي الحواس والزمن الذي يحتويها وجودا، أو بالنسبة
لموضوع الخيال المستمد من الذاكرة تأمليا استرجاعيا في فعالية ذهنية تجريدية لا
يكون فيها الموضوع متعّينا وجودا في عالم الأشياء.. وبخلاف هذين الآليتين لا يكون
هناك إدراك للواقع الحقيقي سليم يعتمده العقل أو الدماغ تحديدا.. ويبقى الإدراك
القصدي ناقصا تماما في تعّذر إدراك العالم الحقيقي مباشرة بفهم يمّكن العقل من
معالجته لمواضيع ادراكاته بالمقولات التي تجعل من المدركات مواضيع معرفية وليس مواضيع
إشباعات بيولوجية خالصة.. ويوجد فرق بين الإدراك المعرفي والإدراك الغريزي يتضح
معنا لاحقا أكثر..
إننا
نفهم الوعي المثالي المتطرف عند كل من بيركلي وهيوم وجون لوك باعتبارهم موضوعات
العالم الخارجي ما هي سوى انطباعات في الذهن وأفكار العقل المجردة، وأنكر بيركلي
وجود المادة ليتبعه هيوم بتطرف أكثر في إلغائه العقل ونظام السببية معتبرا إياها
خبرة متراكمة تجريبية يتعوّدها العقل بالتكرار المستمر ليجعل منها قانونا يحكم
نظام الأشياء في العالم الخارجي والطبيعة..
وينتقد
سيرل ديفيد هيوم حول مفهوم السببية بشراسة قائلا: (في الفلسفة التحليلية عانت
المناقشات حول مفهوم السببية تقليديا من المفهوم الهيومي–نسبة الى هيوم – القاصر
على نحو سخيف، فمن هذا المنظور التقليدي تكون السببية دائما علاقة بين أحداث
منفصلة تعمم قانونا، وأما العلاقة السببية وهي العلاقة الضرورية فلا يمكن معايشتها
أبدا، هذا الرأي غير كاف فنحن نعيش في بحر من السببية التي نعايشها بصورة واعية،
وعلى العكس تماما في كل مرة تدرك فيها أي شيء أو تقوم بأي شيء عن قصد فإنك بذلك
تمارس وتشهد علاقة سببية[2])
والصحيح
أيضا أن العقل وتحديدا وسيلته الإدراكية الحواس والدماغ لا يتعامل مع مواضيع
مدركاته المادية أو الخيالية إلا بتجريد فكري تصوري ذهني يتم داخل الدماغ،
والحقيقة التي لا يجهلها العديدون أن النظرة أو المنهج المثالي هو نفسه ينطبق عليه
التفكير المادي بالاحتكام كليهما إلى مرجعية العقل، فالمثالية التجريبية تعطي
العقل أرجحية قصوى في الإدراك، ومثلها وربما أكثر تنحو المادية في اعتمادها العقل
كمنهج وحيد في المعرفة العلمية والحقيقية... اشتراك كل من الفلسفتين المادية
والمثالية في مرجعية العقل في اختلاف جوهري لا يمكن طمسه أو إغفاله، فالمثالية
تعتمد العقل في إنتاجه الواقع المجرد فكريا بالذهن, بينما المادية تعتمد العقل انعكاسا
للوجود المادي لعالم الأشياء في إنتاجية الفكر جدليا مع الواقع بعرى وثيقة من الديالكتيك
متخار جبينهما..ولا وجود مادي مدرك لا ارتباط مع فكر إنساني...
لكن
يبقى العقل في أي نوع من التفكير الإدراكي والمعرفي بحاجة إلى متعّين مادي يكون
مادة خام لوعيه الإدراكي يمثّل موضوعه.. وهذا ما تتوفر علية الأشياء في عالم
الموجودات الواقعي عبر الحواس أو عالم الموضوعات في وجودها الافتراضي المستمد من
الذاكرة التخيلية الاسترجاعية وهذا يقاطع مقولة سيرل (التجربة الواعية ليست موضوعا
للإدراك، فهي في الواقع تجربة الإدراك[3]).
في هذه
المقولة نعجز عن فهم محدّد ماذا يعني لنا الوعي، وماذا تعني لنا القصدية، وماذا
يعني لنا الإدراك العقلي، وماذا يعني لنا موضوع الإدراك، فجميع هذه الفعاليات الإدراكية
وتوابعها تجمعها تلك المقولة في ما أطلق عليه (تجربة)الإدراك.. الوعي الإدراكي
القصدي يحتاج إلى إشباع معرفي لمدركاته لا تنفصل عن مواضيعها الإدراكية من خلال
التجربة الإدراكية لموضوعات معرفية تختلف تماما عن إشباع القصدية لغرائز إدراكية
بيولوجية مثل إشباع العطش والجوع والجنس.. في هذا النوع من الإدراك البيولوجي يكون
الإشباع استهلاكيا بمعنى نهاية تجربة الإدراك في الإشباع البيولوجي، بخلاف الإشباع
الإدراكي المعرفي فهو يدّخر خزينا استراتيجيا معرفيا في الذاكرة..
التجربة
الإدراكية في المعرفة فعالية من فعاليات العقل (الدماغ) لكن موضوع الإدراك هو في
كل الأحوال شكل ومضمون (محتوى) لموجود متعّين في عالم الأشياء غير مرتهن وجوده بأهمية
الإدراك العقلي له.. ولا يمكن للإدراك القصدي المباشر الفصل بين محتوى الشيء ومضمونه،
فالمرتبة الأولى للإدراك هي في معرفة الشيء كوجود فينومينولوجي موّحد بصفاته
البائنة الخارجية التي ربما تكون معرفتها هي معرفة ماهيّة الشيء المحتجبة خلفها،
وفي نفس المعنى تقريبا فعل منهج الفينامينالوجيا في إدراك الظواهر الخارجية
فينومين والماهيات غير المدركة للوجود بذاته (نومين) وجاء هذا التمييز الذي أصبح
تقليديا راسخا في فلسفة كانط..
فإدراكنا
وجود كرسي هو إدراك شخصاني انفرادي لموضوع يتألف من شكل ومحتوى متعيّن انطولوجيا،
ولا يوجد مضمون من دون شكل يلازمه..كما لا يوجد شكل من دون مضمون يلازمه ويفصح عن
ماهيته الانطولوجية كجوهر.. والإدراك يكون قصديا هادفا لإشباع رغبته الفطرية
الغريزية أوفي الإشباع المعرفي، فإشباع غرائز فطرية عند الإنسان مثل الجوع والعطش
والجنس هي من باب الإشباعات البيولوجية لأهداف الإدراكات القصدية، وهذه القصدية الإدراكية
الإشباعية أنما تكون بعفوية بيولوجية تختلف عن قصدية الإدراك المعرفي للأشياء.. فالفعاليات
الإدراكية القصدية الغريزية العفوية البيولوجية كما في حالات إشباع العطش والجوع
والجنس وغيرها لا يكون العقل المدرك لإشباعها ملزما بتجربة أدراك قصدي هي أبعد من
المتحقق الإشباعي البيولوجي لها.. وتكون القصدية هنا شخصانية مكتفية ذاتيا.. وهذه
تختلف عن قصدية إشباع الموضوع غير الفطري الغريزي في الإلمام بتفسيره كمعرفة خالصة
تبغي معرفة الشيء المدرك بخصائصه البائنة أو ماهيته المحتجبة لما يجعله العقل
خزينا معرفيا استراتيجيا في الذاكرة.. ويختلف الوعي بحقائق الموجودات في الإدراك
المعرفي عنه في الإشباع البيولوجي وفي هذا النوع من القصدية المعرفية (لا يكون
الوعي بالشيء وعيا حقيقيا ألا بمقارنته الشخصانية الفردية بغيره من حالات الوعي الأخرى
كجزء من الوعي الشخصاني الكلّي[4])
وهذا لا يتم بغير اعتماد الخزين المعرفي الاستراتيجي في الذاكرة التي هي بنك
المعلومات المكتسبة بالخبرة العقلية والتجربة. فقد تكون موضوعات الوعي هي أداكات
تتم في الذهن والخيال ألاسترجاعي من الذاكرة ولا يقابلها وجود متعيّن وحضور موضوعي
في عالم الأشياء (وتمثل الأحلام شكلا من أشكال الوعي المختلف تماما عنه في حالات
اليقظة )(5)أي الإدراك في موضوعات الخيال المستمد من الذاكرة جميعها تعتمد الشعور
المسيطر عليه عقليا بينما لا يكون الشعور حاضرا في الأحلام لذا يكون الإدراك
الحلمي اللاشعوري تداعيات متقطعة لا ينظمها إدراك تحسّسي مترابط ولا زمن تنظيمي
لها..
سبق لي
في غير هذه المقالة أني أشرت بالفارق بين أحلام اليقظة وأحلام المنام أن الأولى
تقترن بالشعور المنّظم زمنيا، والثانية هي تداعيات لا شعورية لا يقوم الزمن الإدراكي
بتنظيمها.. لذا تكون الإدراكات في أحلام المنام ناقصة فهي تأتي على شكل تداعيات
صورية ذهنية متقافزة تتخللها قطوعات تفتقد الزمن الإدراكي المنتظم لها مما يجعلها
عسيرة على الفهم القائم على الوضوح الإدراكي المنظّم زمانيا كما في اليقظة..
خصائص الوعي القصدي
-
الوعي حقيقي غير قابل للاختزال[5].
بمعنى غير قابل للقفز من فوق آليات السياق الإدراكي الذي يبدأ بالحواس ولا ينتهي
بالدماغ والجملة العصبية..
-
الوعي نوعي بمعنى ( هناك نوعية تجريبية لكل
حالة واعية، والوعي شخصاني أنطولوجي لا تتم معايشته ألا من قبل موضوع بشري أو
حيواني[6].
-
جميع ملامح الوعي ناتجة من دون استثناء عن
عمليات بيولوجية – عصبونية داخل الدماغ ومنظومة الجهاز العصبي[7].
-
تجربة الوعي الإدراكي القصدية النوعية
الشخصانية بكاملها هي جزء من مجال وعي إدراكي كلي[9].
بمعنى اشتراك أكثر من حاسة واحدة في تجربة الإدراك من جهة، وكل تجربة شخصانية
تعتبر محدودة بالنسبة لتجارب لا حصر لها من ادراكاته وعي كلي متنوع بتعدد موضوعاته
من جوانب أخرى.
-
مضمون الوعي القصدي يفيد معنى شروط الإشباع[10] بمعنى
غاية وهدف الإدراك هو إشباع الرغبة في تحريك القصد نحو تحقيق غاية محددة يتوجب
بلوغها..والوعي القصدي وعي هادف يتحدد بالذهن سلفا..
مفهوم التجربة الإدراكية
يأخذ
سيرل على الفيلسوف أ.ج. آير صاحب كتاب (أسس المعرفة التجريبية) في معرض بناء حجته
على آراء مستمدة من هيوم بأن ما ندركه هو بيانات حسيّة.. ليطرح سيرل بضوء ذلك سؤاله
:ما الموضوع الذي نحن واعون به مباشرة في حالة الإدراك إذا لم يكن جزءا من أي شيء
مادي[11]؟ طبعا
هنا كان تركيز سيرل على الإدراك والوعي القصدي الناتج عن رغبة الإشباع المعرفي
التي تفترض سلفا تحقق الوجود الانطولوجي لمواضيع العالم الخارجي للأشياء كمجال إدراكي
واقعي، وأغفل أمكانية قيام الإدراك على غير متعيّن مادي يحضر كموضوع كما ألمحنا له
سابقا، فالعقل يقوم بفعل الإدراك القصدي في معالجته مواضيع إدراكية غير مادية
مستمدة من الذاكرة التخيلية إلى جانب إدراكه مواضيع الواقع المادي, ولا وجود في
حالة الإدراك القصدي التخيلي شرطا لموضوع يكون جزءا من شيء مادي كما في رغبة سيرل
في عبارته السابقة.. ليس شرطا أن يكون الوعي الإدراكي بموضوع يمّثل جزءا من واقع
مادي حصرا، فالخيال الإدراكي يستطيع التعامل مع موضوعات لا وجود لعلاقة أنطولوجية
لها تربطها بحواس الإدراك ..
ويضرب
سيرل مثالا: عندما يرى الرجل سرابا
في الصحراء فهو بالتالي لا يدرك أي شيء مادي، لأن الواحة التي يعتقد أنّه يراها
غير موجودة أصلا[12]..
ويأخذ سيرل على (آير) أنه هو وفلاسفة آخرون يقولون مع هذا (أن تلك التجربة في رؤية
الواحة ليست تجربة تتعلق بلا شيء ومن هنا فلها مضمون محدد[13]).
وبضوء هذا الفهم الإدراكي يتضح معنا أباحة صحة الذهاب إلى أن الإدراك هو معايشة
بيانات حسية مستمدة من الذاكرة والذهن كما يرى هيوم، ولا يختلف الحال مع أدراك
موضوع ماثل متعّين وجودا أو مع موضوع غير موجود واقعيا حقيقيا.. يكونان سببا في
بعث إدراكات الإحساسات، وهو تأويل صحيح في تتبعنا آلية الوعي الإدراكي وليس قصديته...
من
الملاحظ رفض سيرل أن المضمون في حد ذاته يمّثل موضوع التجربة مؤكدا على ما عزاه
أنه خطأ (آير) قوله (أن تجربة الواحة للرائي ليس تجربة لا تتعلق بلا شيء، بل التجربة هنا تتحدد بموضوع محدد[14]).
ولتوضيح هذا الالتباس يذهب سيرل الى (أن المضمون القصدي
الذي هو الموضوع في المعنى البنيوي – يقصد في واقع تجربة الإدراك الحقيقي النسقي
الكلي– ليس هو ذات الموضوع في المعنى القصدي[15]).
في هذا التفريق يؤكد سيرل وجهة نظره الفلسفية أن تجربة الإدراك
إنما تقوم على موضوع يتخذ صفته ومعناه الوجودي – البنيوي في ممارسة تجربة الإدراك
الواقعة عليه في وجوده وفي غيابه على السواء.. فالموضوع هو في المحصلة النهائية
التي تفرض نفسها هو وجود أنطولوجي مستقل بذاته في حالتي الإدراك المباشر له أو في
حالة معاملته كموضوع للإدراك يفتقد الوجود المادي المتعيّن واقعيا..وربما لا ينطبق
هذا على مثال سراب الواحة كما أوحى سيرل بذلك..
هل يتم
الوعي القصدي خارج الدماغ؟
ينقل
جون سيرل عن الفيلسوف الأمريكي (الفا نوي) في مقال لهذا الأخير بعنوان (تجربة من
دون رأس) إلى أن الوعي الإدراكي القصدي يمكن أن يتم خارج الدماغ ,موضحا قوله (أن
تجربتنا في الوعي غير معتمدة فقط على ما يتمّثل في أدمغتنا، بل يعتمد على تفاعلات
دينامية بين أقطاب الوعي – الدماغ -
والجسم - والبيئة[16]).
الوعي القصدي عند سيرل يشمل جميع حالات الذهن ولا ينفك
عنها، حتى أنه يرى في تصّور حالة ذهنية غير واعية، عبارة متناقضة ذاتيا، وبحسب
رأيه الوجود مادة صماء فمن أين يأتي الوعي؟ ويرى أن الوعي لا بل العقل كله ظاهرة
بيولوجية مادية بالكامل وهو المذهب المعروف بالطبيعانية البيولوجية.. نلاحظ للمرة
الثانية سيرل يكرر فهمه الفلسفي أن موضوع الإدراك القصدي هو المتعّين انطولوجيا في
عالم الأشياء فقط، وقد قمنا توضيح هذه المسألة في سطور سابقة من هذه الورقة
البحثية..
اللغة والعقل في الوعي القصدي
سعى
سيرل إلى اكتشاف طبيعة الارتباط بين اللغة والعقل فهما يتوّجهان إلى أدراك الأشياء
معا، فيتمّثل العقل الشيء ويقصده بالتزامن مع استحضار لغة التعبير فيه، تزامنا
يكاد يكون آنيا ويطرح سيرل بهذا المعنى سؤالا لمن تكون الأسبقية للعقل أم للغة؟
ويجيب على تساؤله عن الأسبقية للعقل مؤكدا وجهة نظره التي ضمنها مقدمة كتابه (القصدية
) حيث جاء في فلسفة العقل من الكتاب المنشور عام 1983، أن الافتراض الأساسي القائم
وراء تناولي لمشكلات اللغة هو أن فلسفة اللغة هي فرع من فلسفة العقل[17].
ويطلق
سيرل على أن الهلوسة الإدراكية (الواعية) لا تمتلك موضوعا من أيّ نوع كان ,
وتعقيبنا أن هلاوسا الإدراكات غير (واعية) تماما بموضوعها وليس كما ورد أنها (واعية)
في امتلاكها مضمونا ولا تمتلك موضوعا، ويتعّذّر التفكير في وعي إدراكي لا يحمل
موضوعه المتعيّن كمادة إدراكه الملازمة له، ولا يشترط في موضوع الإدراك أن يكون
متعينا انطولوجيا بل من الممكن أن يكون الموضوع مستحدثا من الذاكرة الاسترجاعية، وبخلاف
الهلاوس غير المنتجة تكون إدراكات الاسترجاعات التذكرّية واعية تحمل موضوعها معها
في ملازمة تخليق الإدراكات المجردة في الذهن.. وحالة الإدراكات الهلاوسية تكون
حالة من تداعيات الصور الذهنية المرتبطة الدلالة بغير موضوع واحد محدد، وتجارب
الهلوسات الإدراكية التي لا تحمل موضوعها الإدراكي معها بوعي كاف لا تعبّر عن
تجربة واقعية من الممكن تصديق حدوثها الواقعي.. وإلا كيف لنا تعليل سلسلة الإدراكات
التي يمتزج بها اللاشعور الهلاوسي مع الوعي الشعوري التام بأكثر من موضوع تخيلي
كما نجده في معظم الإبداعات الفنية والأدبية وبالتحديد في الشعر؟؟ ففي مثالنا هذا
لا نستطيع القطع أن تلك التجارب الإدراكية هي من نوع الهلاوس غير المنتجة التي
تفتقد موضوعها..بل هي تمتلك موضوعها بكل جدارة واستحقاق.
تلخيص ختامي
1) يذهب سيرل أن الوعي الإدراكي القصدي ظاهرة بيولوجية, أي أنه وعي شخصاني
نوعي أنطولوجي وهو جزء من مجال وعي كلي شامل[18].
هنا بضوء هذا التعريف يجب التفريق بين موضوع الإدراك
المعرفي الذي لا يشترط حسب فهمنا أن يكون إشباعا بيولوجيا كما في مثال الإشباع
الغريزي الجنس والجوع والعطش وغيرها، وبين الموضوع المدرك في الوعي القصدي في مجال
المعرفة والسعي لاكتسابها.. الذي يكون إدراكا نوعيا يخص بيولوجيا الإنسان كركن
أساس تحديدا في اكتسابه المعرفة شخصانيا.. فهو إدراك بيولوجي على مستوى الشخص
المدرك للأشياء وليس بيولوجيا على مستوى موضوع إدراكه..ومواضيع الإدراك القصدي
نوعين موضوع أدراك معرفي, وموضوع أدراك غريزي فطري.. وكلاهما يشكلان هدفين
متمايزين لتجربة الإدراك في إشباعهما...
2) ينطلق سيرل من نظرة أحادية فينامينالوجية في الإدراك، تقوم على مرتكز محوري
أن موضوع الإدراك هو المتعيّن انطولوجيا في عالم الأشياء المادية فقط، ويهمل الإدراكات
الفكرية التي يكون منشؤها الذاكرة الاسترجاعية في أدراك موضوعاتها, ولا يناقشها في
صفحات كتابه الموسوم (رؤية الأشياء كما هي) كفعالية إدراكية لا يمكن إهمالها.. وعنوان
كتابه رؤية الأشياء.. أنما تقوم في تركيزه على المدركات الحسّية في الواقع فقط.. علما
أن مدركات مواضيع الإدراك المستمد من الذاكرة أنما تنتج عنها جميع ضروب الإبداع في
الأدب والفكر والثقافة والفنون وجميعها إدراكات قصدية حيوية في حياتنا وهكذا..
3) يحدد سيرل أن محددات أي أدراك قصدي تتألف من ثلاثة عناصر فقط يؤكد عليها هي
المدرك (بكسر الراء) أي الشخص، وثانيا موضوعه، أي موضوع الإدراك، وثالثا حاسّة الإبصار
العين، التي تكون البداية منها في استقبالها ضوء الشيء المدرك الصادر منه, أي ضوء
الموضوع المنبعث منه في تجربة الإدراك الساقط على شبكية العين.. ولا نعرف أهمية الإدراكات
الناجمة عن بقية الحواس عند الإنسان كالسمع واللمس والتذوق والشم فجميعها تعتبر
مصادر الإحساسات الأولية في عمليات الإدراكات لم يعرها سير لاهتمامه..كما لم يعر
انتباها إلى الدماغ ومنظومة الجهاز العصبي الفاعل في أتمام عمليات الإدراكات.. ركّز
كثيرا على أهمية العين فقط في تجربة الوعي الإدراكي المادي..وعنونة الكتاب هو (رؤية)
بمعنى الإبصار في العين وعلاقتها بالوعي الإدراكي القصدي فقط هو محتوى الكتاب
كاملا...
4) ورد على لسان سيرل أن علاقة الإدراك في الهلوسة لا تنطبق على حالات الإدراك
الحقيقي السليم, كون إدراكات الهلاوس لا تمتلك موضوعا حتى وأن امتلكت (وعيا)
إدراكيا في مضمون متعيّن إدراكا، وناقشنا هذا الغموض في أسطر سابقة، فالوعي القصدي
في إدراكات الهلاوس لا يمتلك وعيا مثمرا لكنه لا يعدم امتلاكه موضوعات إدراكية لا
يشترط أن تكون مستمدة انطولوجيا من واقع الأشياء بل يمكن أن تكون مواضيع الإدراك
الهلاوس منطلقها تداعيات الفكر الصادر عن الذاكرة... والوعي هو وعي بموضوع يتألف
من شكل ومضمون ولا وعي من غير موضوع يدركه، لكن الموضوع المستقل لا يشترط بالوعي
ملازما له..
5) لكي يقوم سيرل في تأكيد رغبته أن إدراكات الهلوسة السيئة لا تمتلك (موضوعا)
وقد تمتلك (مضمونا) إلى التفريق بين الموضوع ومضمونه في تجربتي الإدراك الحقيقية
والسيئة أي بين تجربة الإدراك السليم وتجربة الهلوسة, وهذا التفريق لا يلغي ولا
يلعب دورا حاسما بين التجربتين ويعبّر عن هذه الإشكالية المفتعلة قوله (في
التجربتين– يقصد الحقيقية والهلاوسية- يتكرر لدينا نفس الموضوع القصدي بالضبط ولكن في
وجود موضوع قصدي في أحدى الحالتين فقط دون الأخرى[19])
لا نعتقد العبارة سليمة من ناحية ترابط المعنى
في خلوّها من التناقض بمعنى توفر الموضوع القصدي في التجربة الحقيقية وانعدامها في
تجربة الهلوسة حتى وأن امتلكت مضمونا وليس موضوعا.. علما أن عبارة سيرل تشي
باشتراك التجربتين في إدراكهما موضوعا واحدا....كما لا يمكن استساغة التفريق بين
الموضوع ومضمونه في تجربة الإدراك الخطأ الذي زرعته الفينامينالوجيا في تكريسها
ثنائية أدراك الظاهراتية هذا واستحالة أدراك النومين ذاك، عندما فصل منهج الفينامينالوجيا
أدراك الأشياء في ظاهرياتها البائنة عنها في عدم أمكانية أدراك ومعرفة ماهيتها
التي كان رسّخها كانط قبل هوسرل.. وفي العودة إلى علاقة شكل الموضوع مع مضمونه نرى
استحالة أدراك مضمون متحرر عن موضوعه في (شكل) أنطولوجي يمكن إدراكه منفصلا غير مرتبط
بموضوعه، فالمضمون هو محتوى ملازم لموضوع محدد في شكل..وأدراك موضوع كشكل أنطولوجي
لا ينفصل عن مضمونه حتى وأن لم يدرك المضمون مباشرة كماهية أو جوهر..ولا يمكننا
تصور إدراك مضمون بلا موضوع يؤطره.. ما يدرك كموضوع يدرك وحدة واحدة شكلا ومحتوى
والثالث مرفوع على حد تعبير الفلاسفة..
6) يطرح سيرل تساؤلا إشكاليا صعبا, يذهب إلى تدعيم صحته وصوابه كلا من فلاسفة
الشكيّة التقليديين ديكارت وبيركلي وهيوم ولوك وكانط، هو أن كل ما يمكننا إدراكه
هو تمثّلات تجاربنا الشخصية الفردانية صوريا عن الواقع, فهل يمكننا تعميم حقيقة
مدركاتنا على الجانب الأخر(مجموع الآخرين[20]).
لن نأخذ
بتفنيد سيرل لهذا الادعاء لأن تفنيده يقوم على حجّة إشكالية قوامها مرتكز حاسة
البصر (العين) في التجربة الإدراكية، وهناك إجماع على حقيقة ثابتة لا يمكننا
العبور من فوقها هولا تتمكن الحواس من أدراك الأشياء على حقيقتها بصورة كاملة، كما
لا يمكن للعقل تكوين أفكاره عن مدركاتنا كحقيقة قاطعة, وتبقى على الدوام إدراكاتنا
ناقصة في معرفة العالم .. من جهة أخرى سحب سيرل التساؤل المار ذكره إلى مضمار
التعبير اللغوي الالتباسي المعقد كما يطرحه فينجشتين, وهذا ما لا يعتمده فلاسفة
الشكيّة الكلاسيكية بدءا من ديكارت وليس انتهاء بفلاسفة التحليلية الانجليزية جورج
مور وبراتراندرسل من حيث أن الحواس خادعة ولا تحمل أكثر من نصف الحقيقة على الدوام
كما هي اللغة أيضا خادعة ومخاتلة ومعرفة الواقع على حقيقته أمر غير متيّسر لا
بالإدراك ولا بتعبير اللغة... كذلك فأن مخاتلة اللغة تنسحب على التعبير عن التجربة
الفردية كما تنسحب على تعبير الإدراكات الجماعية أيضا ولا منجاة لأحد مما يعرف
بخيانة اللغة...التجربة الحقيقية بالإدراك الشخصاني يمكننا تعميم بعض استنتاجاتها،
من حيث أن مواضيع الإدراك في غالبيتها تكون متعّينات إدراكية ثابتة انطولوجيا
تقريبا، بينما يكون الإدراك الذاتي متغيّرا ومتعددا بالنسبة لموضوع وجوده في حكم الإدراك الثابت أو ظاهرة تتسم بالثبات النسبي، وكذلك
فالإدراك الفردي لا يتوّصل إلى حقائق علمية قاطعة بل الإدراك قسمة مشاعة أمام
الجميع في ممارستها ضمن الإمكانيات المتعددة في تنوع الإدراكات الشخصانية في الإشباع
القصدي، عليه تكون نتائج الاستدلال الإدراكي لا تلزم غير صاحب التجربة من الأخذ بها
لدى أصحاب زوايا رصد متباينة أخرى.. يوجد تفاوت إدراكي بين شخص وآخر لكن لا يوجد
تفاوت في إدراكنا حقيقة الوجود يسبق إدراكاتنا الفكرية عنه.. مما يجعل أمكانية
الخطأ الجمعي متراجعا في أدراك الموضوع الواحد..
علي محمد اليوسف /الموصل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق