الأحد، 26 أكتوبر 2014

تتبع أصول الأفكار التكفيرية ومنشأها دراسة منهجية للتيارات التكفيري

مقدمة:
   المنشأ: لا يكاد يختلف اثنان من الباحثين في أنّ نشأة التيارات التكفيرية ترجع أساسا إلى دعوة محمّد بن عبد الوهاب(1703-1792م) المتأثر بابن تيمية(661-728هـ) وتلميذه ابن قيم الجوزية(691-751هـ). وأصل هذه الدعوة المسماة بالسلفية التي تعني في اصطلاح الإسلاميين القدامى والمحدثين عملا تصحيحيا وترجع نسبة الكلمة إلى السلف الصالح الذين حملوا لواء الدعوة الإسلامية وعن طريقهم وصل الدّين إلى الأجيال اللاحقة.
   ولعل أبرز ما خاض ابن تيمية فيه الغمار أمور تتعلق:
·       بالعقيدة: مثل التوسل بالأموات بالنبي صلى الله عليه وسلم وزيارة القبور والتمسح بها.
·       بالشريعة: مثل التمسك بالمذاهب الفقهية وتقليد الأيمة المجتهدين وعدّ هذه الأمور انحرافا عن نهج السلف وكفرا وشركا أحينا وركز على وجوب العودة إلى ما سماه "العقيدة السلفية" كما هاجم المتكلمين والفرق الإسلامية كالأشاعرة والمعتزلة وغيرهم.
   وبالعودة إلى محمّد بن عبد الوهاب نجد أنه قد نهج نهجا متشددا لعله أكثره من ابن تيمية. وقد انقسم اتباعه إلى فرق أبرزها
·       السلفية العلمية
·       السلفية الجهادية
ولئن كانت السلفيتان تتفقان في المرجعية إلا أنّ السلفية الجهادية قد نحت منحًى دمويا تكفيريا لا يؤمن بغير الدم سبيلا، ولا يعترف بمخالف في الرأي.
     دراسة نقدية لمنزلة العقل في فكر التيارات التكفيرية:
لئن كانت هذه التيارات ترفض المذاهب الاجتهادية وتدعو إلى التعامل مع النص مباشرة وترفض التقليد المذهبي وتدعو إلى الاجتهاد إلا أنها تسقط في تقليد مشايخها إلى حد التقديس وتظهر في تعاملها مع النصوص(قرآن وسنة) تعاملا ظاهريا إلى حد أوقعها أحيانا في التجسيم خاصة فيما يتعلق بالصفات الإلهية كالاستواء على العرش، واليد... فترفض التأويل الذي يقصد به التنزيه عن مشابهة الحوادث.
   وتعادي العقل والمنطق برفضها تحكيمه وتجعل النص حاكما على العقل والمنطق ومعيارا لهما والحال أن العقل السلفي لا يراعي تغير الزمان والحال إذ بتغيرهما تتغير الأحكام الاجتهادية. ولا يراعي هذا العقل المصلحة التي هي علة الأحكام والمقصد من تشريعها.
   ولا يراعي أيضا الظروف الموضوعية للمجتمعات الإسلامية فيعمدون إلى إقامة الحدود على أي منطقة يسيطرون عليها بقوة السلاح فيقطعون الأيدي ويجلدون ويقتلون كما حصل في العراق ومالي وسورية. كل ذلك يضاف إلى أن هذا العقل بالقدر الذي يعلي من شأن العلوم الشرعية ويعظمها ويقدسها علما أن التقديس في أصله يكون لنصوص الوحي ذاتها لا لما استنبطه المجتهدون ومنها فيما ليس بقطعي الدلالة أو الورود أو الدلالة والورود معا.
   ونلاحظ أن هذا التيار يمارس الانتقائية في النصوص فما وافق اقوالهم تمسكوا به ودافعوا عنه وما خالفهم ردوه بإدعاء انه ضعيف أو مكذوب(هذا في ما يخص السنة) مثل نقد الألباني لبعض أحاديث البخاري.
   ومن مظاهر جُمُودِ العقل عندهم معارضة بعض شيوخهم للعلوم الصحيحة فهذا محمّد بن صالح العثيمين في اطار تعامله مع النصوص الشرعية بجمود وتحجر يقول حول دوران الأرض الذي أثبته علماء الفلك والذي يحصل به تعاقب الليل والنهار والذي لا يتعارض مع نص من نصوص الشريعة، فيقول: "خلاصة رأينا حول دوران الأرض أنه من الأمور التي لم يرد فيها نفي ولا إثبات لا في الكتاب ولا في السنة وذلك لأن قوله تعالى«وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم» النحل 15. ليس بصريح في دورانها وإن كان بعض الناس قد استدل بها عليه محتجا بأن قوله " أن تميد بكم" يدل على أن للأرض حركة لولا هذه الرواسي لاضطربت بمن عليها وقوله تعالى«الله الذي جعل لكم الأرض قرارا» غافر 64. "ليس بصريح في انتفاء دورانها لأنها إذا كانت محفوظة من الميلان في دورانها بما ألقى الله فيها من الرواسي التي صارت قرارا وإن كانت تدور[1]".
   ويمضي في اعتراضه على العلوم العصرية ويجعلها في مواجهة مع النصوص الشرعية فيقول في ص 58 من المصدر السابق "لو كان تعاقب الليل والنهار بدوران الأرض لقال الله تعالى«وترى الشمس إذا تبين سطح الأرض إليها تزاور كهفهم عنها أو نحو ذلك... وأما ما ذكره علماء الفلك العصريون فإنه لم يصل عندنا إلى حد اليقين فلا ندع من أجله ظاهر كتاب ربنا وسنة نبينا ونقول لمن أسند إليه تدريس مادة الجغرافية يبين للطلبة أن القرآن والسنة كلاهما يدل بظاهره على أن تعاقب الليل إنما يكون بدوران الشمس على الأرض لا بالعكس».
     نظرية مرجعية السلف في فكر التيارات التكفيرية
   إن النص التأسيسي مقدس باعتباره وحيا منزلا من عند الله تعالى سواء كان قرآن أو سنة صحيحة ولكن أقوال العلماء وفهمهم للنص يختلف باختلاف القدرات والزمان والمكان وبذلك تتغير الفتوى. وكل مجتهد يبذل الوسع في الاستنباط والفهم ولكن اجتهاده يبقى عملا بشريا فيه الصواب والخطأ. وهؤلاء يتناولون النص بالتوظيف لأفكارهم ويقفون عند ظاهره ولا يرون لغير ظاهر النص معنًى لذلك ظهرت بدعة التجسيم عند شيوخهم المتقدمين مثل ابن تيمية وغيره في قضية الاستواء على العرش واليد وسائر الصفات فكانوا مجسمين بامتياز.
   وهم وإن عابوا التقليد وكفروا أتباع المذاهب باعتبارهم مقلدين للأموات نجدهم يقدسون أراء أسلافهم وعلمائهم. ومن أمثلة ذلك ما جاء في مجلة الأيام المغربية حوارا مع الدكتور محمّد عابد الجابري في عددها بتاريخ 17 نوفمبر 2006 يقول الجابري:« فالناس الذين يفهمون عبارة النبي الأمي على أنها تعني النبي الذي لا يحسن القراءة ولا الكتابة إنما يبنون فهمهم على ما تلقوه وليس على ما بحثوا فيه. وعندما رأيت بعضهم من الجزيرة العربية يتعصب للأفكار المتلقاة قلت في نفسي إن مثل هؤلاء لا ينفع معهم إلا ما هو من جنس "وداوني بالتي كانت هي الداء" فأتيت بنص لابن تيمية يشرح فيه أن لفظ "الأمي " في القرآن هو نسبة إلى الأمة، والمقصود أمة العرب حينذاك سكتت الأصوات»
   فهؤلاء عقولهم مكبلة بالأفكار المتلقاة لا يرون إلا ما يرى شيوخهم مما ينتج التعصب والانغلاق والتزمت فلا يتوسطون في نقد خصومهم في حين يقدسون شيوخهم.
   وإن هؤلاء بأمس الحاجة إلى إعادة قراءة النص الشرعي قصد استثماره لا توظيفه، وإلى مراجعة فتاوى شيوخهم التي كبلتهم طويلا وحالت بينهم وبين التعامل النقدي الخالي من هالة التقديس الذي يحررهم ويجعلهم متزنين يميزون بين صوابها فيأخذون به ويحذرون أخطاءها فيستدركون عليها ذلك أن هؤلاء الشيوخ والمراجع أمثال ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب وابن باز وابن العثيمين والفوزان والمدخلي والألباني ليسوا إلا رجالا اجتهدوا فأصابوا في مواطن وأخطئوا في أخرى فيؤخذ من كلامهم و يرد.
   والخطر الكبير هو أن هؤلاء لا يقبلون النقد ويصرون على احتكار الحقيقة رغم ما يقع فيه مراجعهم من أخطأ ومن أمثلة ذلك موقف ابن عثيمين من قضايا علمية كدوران الأرض وإنكار ذلك وتوظيف النصوص وجعلها في مواجهة العلوم الفلكية.
   ونجد هؤلاء يتشبثون بأقوال شيوخهم حتى ما خالف منها صحيح السنة فيؤولونه، من ذلك ابن تيمية الذي يقول«وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينها ولدا وهذا كثير معروف[2] وهذا القول لم يقل به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا صحابته رضي الله عنهم.
   ونجده أيضا يقول«بأن الأشياء حادثة بالعين والجزئيات ولكنها قديمة بالنوع وسلسلة التوالدات» علما وأن جميع المسلمين باستثناء ابن رشد مجمعون على أن كل الأشياء محدثة بعد أن لم تكن. يقول ابن حزم:«اتفقوا أن الله عز وجل وحده لا شريك له، خالق كل شيء وغيره، وأنه تعالى لم يزل وحده ولا شيء غيره معه، ثمّ خلق الأشياء كلها كما شاء[3]»
   فهؤلاء التكفيريون المعاصرون سحبوا القدسية التي للنص على طريقة فهم السلف له. وأصبحوا ينظرون إلى فكر السلف وتأويلاتهم واجتهاداتهم على أنه لا يمكن أن يأتي الفكر البشري بمثلها وهذا مخالف ومعارض لما خلق الله تعالى عليه البشر من عدم العصمة وأن الصواب والخطأ ممكنان في اجتهاداتهم ولذلك نجد أن الصحابة أنفسهم وهم الذين عاصروا تنزيل الوحي قد اختلفوا في كثير من الاجتهادات والتأويلات.
   وإن هؤلاء الذين حادوا عن حقيقة الدين ونظروا للنصوص نظرة توظيفية نجدهم في حياتهم القتالية إباحيين وإلا فما معنى سُمي " جهاد النكاح" وإن كان بعضهم قد نفاه وزعم أنه مكذوب عليهم، والحقيقة أن أخبارا متواترة من كثير من نساء رجعن من سورية أخبرن مما وقع لهن بعد خداعهن والتغرير بهن وهن بنات سبعة عشر أو ستة عشر عاما، وكذلك ما يسمى بالزواج العرفي الذي يروج له أتباعهم فتحمل الكثير من النساء ويتنكر لهن ويجهضن وهذه فتن ومصائب كان العالم الإسلامي بعيدا عنها إلى أن ابتليت الأمة بشرها بسبب هذا الفكر الغريب.   
     الإيمان والكفر من وجهة نظر المذاهب الإسلامية والتيارات التكفيرية
   إذا كان الإيمان يعني التصديق القلبي الجازم الذي لا يخالطه ريب بما جاء به الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى وهو يزيد وينقص. قال صلى الله عليه وسلم«يخرج من النار كل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» متفق عليه. وبهذا تتفاضل ولاية الله وتتبعض بحسب ذلك.
   فإن التكفيريين يخلطون ويخبطون في تكفيرهم المسلمين ورميهم بالشرك والضلال والمتتبع لنصوصهم التي سنعرض البعض منها لاحقا يرى هذا الغلُو والمبالغة في إذاية المسلمين وإخراجهم من الملّة الإسلامية فهم يكفرون كل من خالفهم من الفرق الإسلامية شيعة وسنة، وقد حملوا على أهل السنة والجماعة الأشاعرة حملة في التكفير لا مثيل لها في التاريخ.
   ويلقنون التلاميذ في المدارس التي يسيطرون عليها ما يفيد هذا التكفير، جاء في كتاب التوحيد طبعة ثالثة لسنة 1424 هجرية بالرياض من تأليف الدكتور صالح الفوزان وهو كتاب يدرس لتلاميذ الصف الأول ثانوي: " فهؤلاء المشركون هم سلف الجهمية والمعتزلة والأشاعرة".
   يقول ابن عبد الوهاب عن كفار قريش: " كانوا يعرفون الله ويخافونه ويرجونه[4]"
   ويقول أيضا: "كانوا يتصدقون ويحجون ويعتمرون ويتعبدون ويتركون أشياء من المحرمات خوفا من الله عز وجل[5]".
   ويقول في مسيلمة: " مسيلمة يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّدا رسول الله ويصلي ويصوم[6]".
   وهو بذلك يسوي بين أهل السنة والجماعة من علماء الأشاعرة وبين مسيلمة ومن ذكر معه.
   يقول سليمان بن سمحان النجدي أحد أيمة ودعاة التكفيريين الوهابيين في كتابه "الضياء الشارق" «أن أهل الأرض كان عمّهم الشرك... وأما بلاد مصر وصعيدها وأعمالها قد جمعت من الأمور الشركية والعبادات الوثنية والدعاوي الفرعونية ما لا يتسع له الكتاب».
   وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن القرآن والسنة... انتشر هذا في مكة والمدينة، والطائف، ونجد، وحلب، ودمشق، والشام، ونجران، والعراق... وأحيوا به معاهد اللات والعزّى، وما كان عليه أهل الجاهلية. فلما تفاقم وجسم هذا الخطب وعظم وتلاطم موج الكفر والشرك في هذه الأمة وجشم الرسالة المحمدية انمحت منها المعالم في جميع البرية تجرد السيخ للدعوة إلى الله.
   ويسمى المذاهب الأربعة "عين الشرك" في كتابه الدرر السنية جزء 2 صفحة 59، رغم ادعائهم أنهم حنابلة، وهذا محمّد القنوجي أحد أتباعهم يقول تحت عنوان تقليد المذاهب من الشرك «تأمل في مقلدة المذاهب كيف أقروا على أنفسهم بتقليد الأموات من العلماء والأولياء[7]». والغريب أنهم يقلدون ابن تيمية وابن عبد الوهاب فلست أدري ماذا يصنفون أنفسهم؟
   ونجد أكثر من هذا شناعة في رمي الأمة الإسلامية كلها بالكفر حتى من قبله وزمانه.
    يقول محمّد بن عبد الوهاب:« لقد طلبت العلم وأعتقد من عرفني أن لي معرفة وأنا في ذلك الوقت لا أعرف معنى لا إله إلا الله ولا أعرف دين الإسلام قبل هذا الخير الذي منّ الله به. وكذلك مشايخي ما منهم رجل عرف ذلك، فمن زعم من علماء الأرض أنه عرف معنى لا إله إلا الله أو عرف معنى الإسلام قبل ذلك الوقت أو زعم من مشايخه احد عرف ذلك فقد كذب وافترى ولبّس على الناس ومدح نفسه بما ليس فيه[8]».
   فعلى قول ابن عبد الوهاب هذا أن جميع المسلمين وعلمائهم قبل دعوته كانوا كافرين لا يعرفون كلمة التوحيد وأن الإسلام قبل دعوته كان منقطعا. فإذا كان الأمر كذلك فمن أين جاءه هذا الخير الذي زعمه ومن اين استفاد علوم الدين إذا كان سنده منقطعا؟
   يقول عبد الرحمن بن محمّد بن قاسم في الدرر السنية في الأجوبة النجدية مجلد 1 صفحة 18 وما بعدها " فلقد ظهر هذا الشيخ المجدد(محمّد بن عبد الوهاب) في وقت كان أهله شرا من حال المشركين وأهل الكتاب في زمن البعثة من الشرك والخرافات... فأعاد نشأة الإسلام ".
    ويقول مفتي المملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز في كتاب "فتاوى في العقيدة" صفحة 13 متحدثا عن الحجاج والمعتمرين الذين يتوسلون بالأنبياء والأولياء ويستغيثون بهم " مشركون كفار لا تجوز مناكحتهم ولا دخولهم المسجد الحرام ولا معاملتهم معاملة المسلمين ولو ادعوا الجهل ولا يلتفت إلى كونهم جهالا بها بل يجب أن يعاملوا معاملة الكفار حتى يتوبوا إلى الله ".
   فهم يكفرون من خالفهم ولو في حلق اللحية أو الأخذ منها فقد جاء في كتاب "فتاوي وأذكار لإتحاف الأخبار" لبن باز والعثيمين صفحة 38، يقول العثيمين " حلق اللحية محرم لأنه معصية لرسول الله ولأنه خروج عن هدي المرسلين إلى هدي المجوس والمشركين وأخذ شيء منها داخل في المعصية والحلق أعظم ". وبهذا التكفير يستحلون دماء المخالفين.
   جاء في كتاب "السحب الوابلة على ضارئحي الحنابلة" لمحمّد بن حميد النجدي الحنبلي المتوفى سنة 1295 هجرية صفحة 276، قوله " وكان محمّد بن عبد الوهاب إذا باينه أحد ورد عليه ولم يقدر على قتله مجاهرة يرسل إليه من يغتاله في فراشه أو في السوق ليلا لقوله بتكفير من خالفه واستحلاله قتله ".
   والناظر في كتابهم المسمى "عنوان المجد في تاريخ نجد" لعثمان بن بشير النجدي الحنبلي يرى ما ذكر من غزوات غزاها الوهابية على أهل السنة في المدن والبلدان والمحافظات والقرى والأرياف وتعدادها و أسماءها وهي كثيرة جدا وكم غنموا فيها بزعمهم وكم قتلوا من المسلمين بدعوى أنهم مرتدون وكفار وكيف أنهم يفتخرون بسفك دماء المسلمين وهتك أعراضهم ونهب أموالهم وتقسيمها كما تقسم غنائم الكفار. 
     حرمة تكفير أهل القبلة في الكتاب والسنة وفكر علماء الإسلام
   لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد وبيّن أنه أمر أن يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منه دماءهم وأموالهم إلا بحقها وأمرهم إلى الله تعالى.
   وإن تكفير أهل القبلة حرام شرعا بنصوص قطعية وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من تكفير المسلم فمن ذلك:
   قال رسول الله صلى الله عليه وسلم«من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهم» رواه مالك في الموطإ.
   وفي رواية لمسلم " فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه"
   وفي رواية ابي عوانة الإسفراييني في مخرج على مسلم " فإن كان كما قيل وإلا فقد باء بالكفر"
   قال النووي في شرح مسلم " إذا قال لأخيه يا كافر فقد وجب الكفر، قيل معناه فقد رجع عليه بكفره فليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير لكونه جعل أخاه المؤمن كافرا فكأنه كفر نفسه أو لأنه كفّر من هو مثله أو لأنه كفّر من هو لا بكفره إلا كافرا يعتقد بطلان الإسلام ".
   قال رسول الله صلى الله عليه وسلم« لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه  بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك» رواه البخاري ومسلم.
   أخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «اخوف ما أخاف عليكم  ثلاثا، رجل أتاه الله القرآن حتى إذا رأى بهجته الإسلام أعاره الله ما شاء اخترط سيفه وضرب جاره ورماه بالكفر قالوا يا رسول الله ايهما أولى بالكفر الرامي أو المرمي؟ قال الرامي... » الحديث رواه البزار وحسنه الهيثمي.
   وإن سلف هذه الأمة رضي الله تعالى عنهم كانوا كثيري التورع والاحتراز من قضية التكفير ولم يشهدوا على أحد ممن انتسب إلى الأمة بكفر إلا أن يكون كفرا معلوما صريحا فيه من الله برهان.
   وقد جاء في كتاب (اتبعوا ولا تبتدعوا  فقد كُفيتم) وهو حوار لفضيلة الشيخ المرحوم محمّد متولي الشعراوي قوله " وأما السلف والأيمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة... ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء وإن كان من أصحابه ممن حكى في تكفير جميع أهل البدع من هؤلاء وغيرهم خلافا عنه... ومنهم من لم يكفر أحدا من هؤلاء إلحاقا لأهل البدع بأهل المعاصي. قالوا فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحدا  بذنب فكذلك لا يكفرون أحدا ببدعه[9]».
   قال رسول الله صلى الله عليه وسلم«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» رواه مسلم.
     أوجه الشبه الظاهري و العقائدي والعلمي للتيارات التكفيرية والخوارج
   إنه من المسلّم به أن جذور هذه التيارات التكفيرية ترجع إلى دعوة محمّد بن عبد الوهاب ولذلك نلاحظ أن أطروحتهم العقائدية ومسائلهم العلمية وأحكامهم الفقهية ومناهجهم في التعامل والسلوك وتناولهم للنصوص هي نفسها غلوّ وتشدد وتكفير للمسلمين.
   جاء في جامع الأصول لبن الأثير جزء 10 صفحة 78-79: "ولا شك أن بدعة الخوارج من شر البدع لأمور كثيرة منها:
·       أن ظاهر تمسكهم بالدين يوهم عموم النّاس ومن لا فقه له بأنهم أحق النّاس بالدين والإسلام وهم في الحقيقة على غير ذلك...
·       قال فيهم الإمام علي كرم الله وجهه حيث سئل عنهم " قوم أصابتهم فتنة فعموا وصمّوا" نفس المصدر.
·       نلاحظ أنّ هؤلاء التكفيريين وأصولهم يحاربون المسلمين ويتركون المشركين والكفار وهذا هو عمل الخوارج منذ القديم.
·       جاء في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ينشأ نشء  يقرؤون القرآن لا يجاوز طراقيهم كلما خرج فرق قطع حتى يخرج في أعراضهم الدجال».
·       وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى " صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه قال صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرّمية أينما لقيتهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة" متفق عليه.
   ونلاحظ أيضا أنهم كأسلافهم من الخوارج حين يقعون في مأزق يبطل دعواهم يدفعون عن أنفسهم الحجة إما برد النقل أو تأويله فتراهم يطعنون أحيانا في الإسناد وأخرى في المتن بالادعاء أن الحديث ضعيف أو موضوع... كما أنهم يكفرون المسلمين بالذنوب والمعاصي ويستحلون بذلك دماءهم وأموالهم ويعدون دار السلام دار حرب وجهاد وإلا فما معنى ما يقومون به من تفجيرات وتقتيل وتدمير في بلاد الإسلام وحرب على أهلها وقتل لجنودها وخطف لعلمائها ومواطنيها وإعدامهم بالمئات من مثل الجزائر والصومال وسورية و العراق واليمن...
   يقول الشيخ إسماعيل التميمي أحد علماء الزيتونة بتونس وقاض من قضاتها وهو من الأوائل من رد على محمّد بن عبد الوهاب في رسالته المطولة " المنح الإلهية في الرد على الضلالة الوهابية" في فصل في الوهابية والخوارج " وإذا قد انجز الكلام على الخوارج وعرفت منه ما سلكوا عليه من المناهج وما بنوا عليه سيرتهم، وأسسوا عليه بدعتهم فأعلم أن ذلك المذهب جرّهم إلى تكفير المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم ونكاح النساء في عدتهم وفي حياة أزواجهن من غير طلاق... وذلك لأنهم اعتقدوا كفر المسلمين... وقد ورد في الحديث ما يقتضي أن لهم علامتين
·       أحدهما قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان.
·       الثانية قراءة القرآن من غير ترو فيه و لا تأمل في قصده ومعانيه والقطع بالحكم لبادي النظر والرأي الأول. وقوله عليه السلام «يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم أو تراقيهم».
   وهو ما اشرنا إليه من العلامة، يعني والله أعلم أنهم لا يفقهون فيه حتى يصل إلى قلوبهم...
   فإذا تأملت ظهر لك أن هذه الفرقة الوهابية إن لم تكن من الخوارج فهي أختها الشقيقة[10]».
   ويلتقي التكفيريون مع الخوارج في آيات نزلت في المشركين جعلوها في المؤمنين... وكذلك تكفيرهم لأهل الإسلام بتأويل فاسد.
   يقول التميمي في كتابه السابق الذكر" وهؤلاء الجهلة ملحقون بالخوارج لأن مثال بدعتهم واحد والأصل المستمد منه هو الأخذ بمتشابه القرآن. وإن هؤلاء التكفيريون لا يتورعون عن الكذب حتى على مشايخهم من أجل اقرار باطلهم وخداع أتباعهم ولنا في هذا التصريح أصدق مثال " قال لنا محمود شعيب أحد قادة الصف الثاني للجماعة في ندوات المبادرة في سجن الوادي الجديد، إننا نحن قادة الصف الأول والثاني في الجماعة الإسلامية مخطئون لأن الدكتور عمر (يقصد الدكتور عمر عبد الرحمن) حينما قرأ بحث قتال الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام قال لنا أكتبوا آخر الصفحة أن هذا الكلام لا يطبق إلا بالنظر إلى فتوى الحال والواقع ولكننا كتبنا تحته راجعه وأقره عمر عبد الرحمن، دون أن نكتب كلامه الحقيقي. هذه شهادة جيدة في حق الرجل الذي ألصقت به تهم كثيرة هو منها براء[11] ". 

     السنة والبدعة في الفكر الإسلامي والتيارات التكفيرية 
   من المعلوم لدى كل مسلم أن الابتداع في الدين من أخطر المعاصي الواجب الحذر منها وقد دلت نصوص الكتاب و السنة على ذلك: منها قوله تعالى« أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله» الشورى 21.
   وقوله تعالى «ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب» النحل 116.
   وقوله صلى الله عليه وسلم«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» رواه البخاري ومسلم.
   وقال أيضا «إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمّد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» رواه مسلم.
   يقول الإمام أبو سليمان الخطابي البستي المتوفى سنة 388 هـ في شرح قوله كل محدثة بدعة «فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض وهي كل شيء أحدث على غير أصل من أصول الدين على غير عياره وقياسه، وأما ما كان منها مبنيا على قواعد الأصول ومردودا إليها فليس بدعة ولا ضلالة والله أعلم[12]».
   ويقول ابن رجب الحنبلي «والمراد بالبدعة ما أحدث ما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة[13]».
   قال الإمام النووي« قوله وكل بدعة ضلالة هذا عام مخصوص والمراد غالب البدع، قال اهل اللغة هي كل شيء عمل على غير مثال سابق، قال العلماء البدعة خمسة أقسام: واجبة ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة.
1.   فمن الواجبة نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك.
2.   من المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك.
3.   المباح التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك.
4.   والحرام والمكروه ظاهران.
   وقد أوضحت المسألة بأدلتها المبسوطة في "تهذيب الأسماء واللغات" فإذا عُرف ما ذكرته علم أن الحديث من العام المخصوص وكذا ما اشتبه من الأحاديث الواردة، ويؤيد ما قلناه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التراويح «نعمت البدعة». ولا يمنع من كون الحديث عاما مخصوصا قوله "كل بدعة" مؤكدا بكل بل يدخله التخصيص مع ذلك كقوله تعالى«تدمر كل شيء[14]»
   قال صلى الله عليه وسلم«من سن سنة في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» رواه مسلم.
   وهو في هذا الحديث شرع وهو صاحب الشريعة الأعظم المعصوم بالوحي بشرع ابتداء الخير في أي عصر دون قصر على أهل قرن بعينه فقصره على محدث الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين هو تقييد للحديث دون دليل.
   وقد قبل الناس ما جد بعد عهد الخلفاء الراشدين من تشكيل آيات القرآن ونقاط حروفه وتنظيم الأجزاء والأرباع والسجدات، ووضع العلامات على كل عشر آيات. وعد سور القرآن وترقيم آياته، وبيان المكي والمدني  في رأس كل سورة، ووضع العلامات التي تبين الوقف الجائز والممنوع، وبعض أحكام التجويد كالإدغام والتنوين ونحوها من سائر الاصطلاحات التي وضعت في المصاحف وكذلك قبل الناس تدوين علوم اللغة وأصول الفقه وأصول الدين وسائر العلوم الخادمة للشريعة.
   فكل هذه الأمور وقعت بعد عهده صلى الله عليه وسلم ولم يجعلها أحد من محدثات وبدع الضلالة، ولم يقل أحد أن حديث كل بدعة ضلالة يشملها، بل عدّوا ذلك من المستحسنات لأنها لا تصادم نصا ولا شيئا من أسس التشريع[15]».
   أما هؤلاء التكفيريين فقد عدّوا كثيرا من أعمال المسلمين بدعة وكفروهم بها ونعتوهم بالشرك والضلال ومن أمثلة ذلك عندهم علم الكلام والمنطق وقراءة القرآن على الموتى والاحتفال بالمولد النبوي الشريف ورفع اليدين في الدعاء والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك كثير بسبب جهلهم لحقيقة البدعة والسنة.  

     الحياة البرزخيّة (استماع الموتى)
   ينفي التكفيريون استماع الموتى ويستدلون على ذلك بقوله تعالى«وما أنت لا تسمع الموتى» النمل 80. وهم مع هذا يعارضون ما ثبت من نصوص صحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وينعتون بالشرك والكفر والضلال من دعا النبي صلى الله عليه وسلم أو توسل به بعد موته أو بولي وسنذكر طائفة من الأخبار والنصوص الصحيحة التي تفند دعواهم وتبطلها وتثبت الحياة البرزخية واستماع الموتى فيها وإجابتهم. والغريب أن ابن القيم تلميذ ابن تيمية في كتاب الروح يورد كثيرا من هذه المسائل ويؤكدها. فعجبا لهؤلاء يأخذون من النصوص والأخبار ما يوافق مذهبهم الباطل ويردّون ما لا يوافقه.
   ومن النصوص الصحيحة والأخبار الموثقة نورد هذه الطائفة على سبيل الذكر لا الحصر:
·       قال ابن عبد البرّ«ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال"ما من مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله روحه حتى يرد عليه السلام». فهذا نص في أنه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام[16].
·       وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى بدر فأٌلقوا في قليب، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم «يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا، فقال له عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جَيفوا؟ فقال: والذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون جوابا[17]».
·       ثبت عنه صلى الله عليه وسلم " أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه[18]".
·       يقول ابن القيّم في كتاب الروح" وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم السلام عليكم دار قوم مؤمنين[19] وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد[20]".
   والسلف مجمعون على هذا، وأن الأخبار متواترة عن السلف بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به، فمن ذلك:
·       قال أبو بكر عبد الله بن محمّد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتاب " القبور"باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء، حدثنا محمّد بن عون، حدثنا يحي بن يمان عن عبد الله بن سمعان عن زيد بن أسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ما من رجل يزور فبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم" .
·       قال ابن أبي الدنيا حدثني الحسين بن علي العجلي حدثنا محمّد بن الصلت، حدثنا إسماعيل بن عياش عن ثابت بن سليم، حدثنا أبو قلابة قال" أقبلت من الشام إلى البصرة، فنزلت منزلا فتطهرت وصليت ركعتين بليل، ثم وضعت رأسي على قبر فنمت ثم انتبهت فإذا صاحب القبر يشتكيني ويقول قد آذيتني منذ الليلة ثم قال إنكم تعملون ولا تعلمون، ونحن نعلم ولا نقدر على العمل، ثم قال الركعتان اللتان ركعتهما خيرا من الدنيا وما فيها، ثم قال جزى الله أهل الدنيا خيرا أقرئهم السلام فإنه يدخل علينا من دعائهم نور أمثال الجبال".
   وقد أكد علماؤنا الآخذون بالكتاب والسنة هذه المعاني فقد قال الشيخ القاضي اسماعيل التميمي " والعقيدة السنية أن الأرواح باقية إما منعمة أو معذبة كما في جمع الجوامع وشرحه ومثله في الرسالة القيروانية[21]".
   قال ابن عمر شارح الرسالة في شرحها " وهو مما يجب الإيمان به" وفي كتاب الاتحاف المذكور عن أبي منصور البغدادي" ونعتقد بثبوت الإدراكات كالسمع والعلم لسائر الموتى ولا هو يتوقف ذلك على البنية المخصوصة وإنما يتوقف على الحياة. وأما أدلتها في الأنبياء فمقتضاها أنها مع البنية وقوة النفوذ في العلم مع الاستغناء عن العوايد الدنيوية، ومن هنا قال الشيخ الأشعري " إن نبينا صلى الله عليه وسلم في حكم الرسالة بعد موته، فهو رسول الله الان وهذا مما يدل على حياتهم بأجسادهم إذ لو كانت الحياة للروح للزم أن لا تكون لهم مزية على غيرهم، وهو غير ما جرت به عادة الله تعالى معهم.
   عن أبي الدرداء قال صلى الله عليه وسلم" أكثروا علي الصلاة يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدا يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ  منها، قال قلت يا رسول الله وبعد الموت؟ قال وبعد الموت، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" قال القرطبي فنبي الله صلى الله عليه وسلم حي يرزق.
   وفي كتاب الاتحاف عن العتبي قال كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي وقال السلام عليك يا رسول الله، يا خير الرسل، إن الله أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما[22]" وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم بكى وأنشد:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
                                        فطاب من طيبهن القاع والاكم
                         نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
                                        فيه العفاف وفيه الجود والكرم
قال ثم استغفر وانصرف فحملتني عيناي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وقال يا عتبى إلحاق الأعرابي وبشره بأن الله تعالى قد غفر له، فخرجت خلفه فلم أجده.
   والآثار في هذه كثيرة لا ينكرها إلا جاحد مكابر ختم الله على قلبه.

     الإسلام دين السلام والمحبة و الرأفة والرحمة
   الإسلام الذي هو دين الله منذ آدم عليه السلام إلى نبينا محمّد صلى الله عليه وسلم يقوم على السلام الذي من أسماء الله تعالى وعلى المحبة التي جمع تعالى عليها القلوب، وألّف بين المختلفين «لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم[23]».
   والرأفة لأن الله تعالى رؤوف رحيم، والرحمة التي هي مشتقة من أسمائه، الرحمن والرحيم، وهي صفة من صفاته عز وجل، نعت بها نبيه الخاتم صلى الله عليه « بالمؤمنين رؤوف رحيم[24]».
   وقد أرسله الله تعالى رحمة للعالمين حيث قال «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين[25]» فهو رحمة لهم جميعا. عن أبي هريرة قال " قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال صلى الله عليه وسلم إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة[26]". وقال أيضا " إنما أنا رحمة مهداة[27]". وقال أيضا " أيما رجل سببته في غضبي أو لعنته لعنة فإنما أنا رجل من ولد آدم، أغضب كما تغضبون، وإنما بعثني الله رحمة للعالمين، فأجعلها صلاة عليه يوم القيامة[28]".
   وجاء في تفسير ابن كثير المختصر " فإن قيل فإني رحمة لمن كفر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس في قوله " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" قال من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف[29]".
   فالإسلام رحمة للناس كافة، ليأخذ بأيديهم إلى الهدى، هذه الرحمة التي جعلها الله للمؤمنين ولغيرهم. إن منهج الإسلام منهج تسعد به البشرية كلها. إذ تنزل حينها بلغت الإنسانية سن الرشد العقلي وهذا من لطف الله بها كفل الله تعالى للعقل البشري حرية العمل والتفكير في اطار أصول منهجية وضعها للناس، كما تنمو حياتهم وترقى وتبلغ الكمال البشري المقدر لها في هذه الأرض التي استخلفهم الله فيها.
   هذا المنهج المتوازن المتناسق الذي يوازن بين الروح والجسد فلا يعذب الجسد لتسمو الروح، ولا يهمل الروح لمتعة الجسد، يوازن بين الفرد والجماعة، فلا تقيد طاقات الفرد ورغائبه الفطرية السليمة لحساب الجماعة، ولا تطلق هذه النزوات والشهوات المنفلتة للفرد فتنفلت من الجماعة ورباطها.
   فالإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم رحمة تامة لقومه وللبشرية كلها من بعده، هذه الدعوة لا مكان فيها لفوارق الجنس والجغرافيا بل هي تجمع الناس في عقيدة واحدة ونظام اجتماعي واحد يراعي الاختلاف  ولا يفرض بالقوة على أحد شيئا، يستوي أمامه الجميع فلا عبودية إلا لله تعالى رب العالمين.
   فما بال الناس اليوم في حندس يتصادمون، أعداء الإسلام متكالبون على المسلمين ولا غرابة في ذلك فهم أعداء في العقيدة. أما من يدعون الإسلام وقد خلت قلوبهم من الرحمة يذبحون ويقطعون الأطراف ويحزون الرؤوس ويعلقونها ويسبون النساء والأطفال بعد قتل الرجال من المسلمين وغير المسلمين.
   إن الذي يحكمهم هو سلطان العصبية أوقد في نفوسهم نار حقد جعلت منهم ضوارى نفسيتها مستعدة لا ترى إلا الانتصار للذات والأنانية الجماعية يمتلكها سلطان العصبية المذهبية وحب الانتصار لذاتها فيوغر صدور أتباعها بالحقد والكراهية للمخالف فيحل في القلب القسوة محل الرأفة والحقد والبغض محل المحبة، والغلظة والجفاء، والشدة محل الرحمة والحرب محل السلم.
   وحري بكل مؤمن موحد صادق أن ينأى بنفسه عن هذه الصفات وأن يعمل على جمع الكلمة، لا يفرقها رأي، يترك كل اتهام أو تضليل لغيره أو تفسيق أو تبديع، أو تكفير.
   إن دين الله تعالى الذي جاءنا به خير الخلق أجمعين سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وحد بين القبائل المتحاربة والأجناس المختلفة وصهرها كلها في جماعة ضلت مضرب الأمثال في التآلف والاتحاد لا يمكن أن يكون اليوم مفرّق لوحدة جماعة المسلمين ومدمرا لحضارتهم ومخربا لعمرانهم وسافكا لدمائهم ومثيرا لعوامل البغضاء بينهم بما يثير دعاوى الشرك والكفر والضلال بين أتباعه كما يفعل التكفيريون اليوم باسم الإسلام، والإسلام من كل هذا براء.
   إن الإسلام دين الرحمة والسلام والرأفة والمحبة يعيش في كنفه وعدالة دولته المسلمون على اختلاف طوائفهم وتنوع أرائهم الاجتهادية يعملون فيما اتفقوا فيه ويعذر بعضهم البعض فيما اختلفوا فيه، لا حرج عليهم إن اتفقوا أو اختلفوا في نتيجة اجتهاداتهم طالما أنهم ملتزمون بنهج الإسلام وضوابطه وأصوله. ويعيش معهم غير المسلمين الذين لا يحاربونهم ولا يتحالفون مع أعدائهم فينعمون بعدالته ورحمته.


       
 
  



 إزاحة الستار عن الجواب المختار لهداية المحتار، محمّد بن صالح العثيمين، الرياض، دار طيبة 1402، ص 57.[1]
 الفتاوى مجلد19، ص 39.[2]
[3] نقلا عن كتاب السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي، البوطي، ص 165.
 الدرر السنية، ج 1، ص 146.[4]
 م.ن، ج 2 ص 118.[5]
 م.ن، ج 2، ص 44.[6]
 الدين الخالص، ج 1، ص 140.[7]
 الدرر السنية، ج 10، ص 51.[8]
[9]  اتبعوا ولا تبتدعوا  فقد كُفيتم، بيروت، المكتبة العصرية، ط 1، 2010، ص 32.
[10]  المنح الإلهية في الرد على الوهابية، ص 167- 168.
[11]  نقلا عن كتاب الخروج من بوابات الجحيم الجماعة الإسلامية من العنف إلى المراجعات، ماهر فرغلي ص 80.
[12]  معالم السنن الخطابي، ج 4، ص 301.
[13]  الاستذكار شرح الموطأ لبن عبد البرّ، ج 5، ص 152- 153.
[14]  شرح النووي على صحيح مسلم، ج 6، ص 154.
[15]  منهج السلف في فهم النصوص سبق النظرية والتطبيق، محمّد بن السيد علوي المالكي الحسني، ص 218-219.
[16]  نقلا عن كتاب اروح لابن القيّم، الشركة الجزائرية اللبنانية 2006، ص 10.
[17]  البخاري، ج 7، ص 300-301، مسلم رقم الحديث 2870.
[18] صحيح البخاري، ج 3، ص 305، أبو داود رقم الحديث 3231، النسائي، 4/96-97، مسلم رقم الحديث 2870، أحمد ج 2، ص 347-445، ج 3، ص 126-223.
 رواه مسلم 249.[19]
[20] كتاب الروح، ص 11
[21] المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية، ص 76-77.
[22] سورة النساء، الآية 64.
[23] سورة الأنفال، الآية 63.
[24] سورة التوبة، الآية 128.
[25] سورة الأنبياء الآية 107.
[26] رواه مسلم في صحيحه.
[27] ابن عساكر عن أبي هريرة مرفوعا.
[28] رواه أحمد وأبو داود.
[29] تفسير ابن كثير المختصر، دار القرآن الكريم، ط 7، ج 2، ص 525.