الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله... أما بعد
فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز:{إنا كل شيء خلقناه بقدر}[1] الله سبحانه وتعالى قد علم مقادير الخلائق بعلمه
القديم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنه[2].
والإيمان بالقدر من أركان الإيمان الستة، التي لا يُقبل إيمان المرء
إلا بها. ورغم أهمية هذا الموضوع، إلاّ أنه كان محلاً للاختلاف منذ بداية عصر الإسلام،
فظهرت فرق كالقدرية والجبرية والقائلون بالكسب. وفي
هذا البحث سأسلط الضوء على القدرية وهم المعتزلة، حيث موقفهم من القدر والمسائل المتعلقة به، مع نقدها في ضوء الكتاب والسنة، والله الموفق.
مشكلة البحث وحدوده:
مسألة القدر من المسائل العقدية الجوهرية
في عقيدة المسلم، ورغم أن المعتزلة فرقة قديمة، إلا أن هناك من الكتاب المعاصرين من لازال يتبنى فكرهم
في حلة جديدة، مثل: التنوير
واليسار والليبرالية وغيرها. فكان لابد من بيان انحراف هذا
الفكر والتصدي لمن تبناه.
وسيقتصر هذا البحث على نبذة تاريخية
لبداية القول بالقدر في الإسلام وبيان
مفهومه عند المعتزلة. مع التصدي لبعض المسائل المتعلقة به:
كالتحسين والتقبيح والاستطاعة وغيرها، مع نقد ذلك كله في ضوء منهج أهل
السنة والجماعة.
أهداف البحث:
1.
التعريف بتاريخ
القول بالقدر في الإسلام.
2.
التعريف بالمعتزلة.
3.
بيان مفهوم القدر عند المعتزلة، ونقد ذلك في ضوء الإسلام .
4.
بيان رأي
المعتزلة في أفعال العباد ونقد ذلك في ضوء الإسلام.
5.
بيان موقف
المعتزلة من بعض المسائل المتعلقة بالقدر كالاستطاعة والتحسين والتقبيح وغيرها، مع بيان موقف أهل السنة من ذلك.
تساؤلات البحث:
1-
متى نشأ القول بالقدر في الإسلام؟
2-
من هم المعتزلة؟
3-
ما هو مفهوم القدر عند المعتزلة؟ وهل هو موافق
لمنهج أهل السنة؟
4-
ما
موقف المعتزلة من أفعال العباد؟ وما رأي أهل السنة في ذلك؟
5-
ما
هو موقف المعتزلة مع المسائل المرتبطة بالقدر كالاستطاعة والتحسين والتقبيح
وغيرها؟ وما موقف أهل السنة من ذلك؟
أهمية البحث وأسباب اختياره:
تكمن أهمية البحث، في أن الوضع السائد
الآن في المجتمعات الإسلامية-وللأسف- الاستقلال بالعقل. وهذا
الذي أدى إلى الانحرافات العقدية الكثيرة
التي منها الانحراف في مسألة القدر. ونظراً
لأن منهج المعتزلة مازال سائداً حتى اليوم، وإن
اكتسى بحُلة جديدة، فإنه من الواجب بيان الحق في هذه
المسألة، فأرجو أن يكون لبحثي المتواضع
إسهام ولو كان بسيطاً في هذا المجال.
الدراسات السابقة:
لقد توفرت على بعض الدراسات السابقة في
هذا المجال، وهي متوسعة وشاملة وقد استخدمت
بعضها كمراجع في بحثي، واذكر منها:
1.
فلسفة القدر في
فكر المعتزلة ،للدكتور سميح دغيم.
2.
القضاء والقدر في
ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه، وهي رسالة ماجستير للدكتور عبد
الرحمن بن صالح المحمود.
3.
المعتزلة وأصولهم
الخمسة وموقف أهل السنة منها، لعواد بن عبد الله المعتق.
وفي هذه الدراسات، تمت
مناقشة موضوع القدر عند المعتزلة وانحرافهم فيه بشكل مستفيض، حيث
في كتاب الدكتور سميح دغيم، تم تناول الموضوع من إطار فلسفي. أما
الدكتور المحمود ،فقد تكلم عن مفهوم القدر عند أهل السنة مقارناً بينه وبين الفرق
المنحرفة ومنهم المعتزلة. وأما الأستاذ عواد المعتق، فقد تكلم عن الأصول الخمسة عند المعتزلة، وقضية القدر مندرجة تحت أصل العدل، فناقش بعض المسائل فيها. وأريد
في بحثي هذا تسليط الضوء على مسألة القدر عند المعتزلة، محاولة
الاشتمال على جميع المسائل المرتبطة بها، في
ضوء الشريعة الإسلامية، والله الموفق.
منهج البحث:
سيكون منهج بحثي بإذن الله المنهج الاستقرائي، حيث سأتتبع بعض ما كتبه المعتزلة، وما كُتب عنهم في
مسائل القدر على قدر ما يقع بين يدي من كتب. مع
المنهج المقارن، حيث سأقارن ذلك بمنهج السلف في هذه
القضية.
مصطلحات البحث:
o
القدر: وهو
تقدير الله الأشياء في القدم، وعلمه سبحانه بأنها ستقع وكتابته لها، ومشيئته لها، ووقوعها حسب ما قدرها.[3]
o
المعتزلة: فرقة
كلامية نشأت في أواخر العهد الأموي. وقد اعتمدت على العقل المجرد في العقيدة، مما
أدى إلى انحرافها، ومن أسمائها: القدرية والعدلية .[4]
o
التحسين
والتقبيح: المراد به في الشرع، هو كيف يُعرف حُسن الأفعال من قبحها؟ هل بالعقل أم
بالشرع؟[5]
o
الاستطاعة: هي
عرض يخلقه الله في الحيوان، يفعل به الأفعال الاختيارية .[6]
إجراءات البحث:
بدأت أولاً بكتابة خطة البحث، ثم سأقوم
بتجميع المادة العلمية. بالإضافة إلى الإدلاء بملاحظاتي ونتائجي المستخلصة من
البحث. مع الالتزام في كل ما سبق بالمنهج العلمي، حيث:
1.
سأعزو كل قول إلى
قائله، مع توثيق الآيات والأحاديث.
2.
عند نقل الكلام
بنصه سوف أضعه بين علامتي تنصيص " " وسأذكر المراجع في الهامش. أما
المنقول بمعناه أو بتصرف فلا يكون بين علامتي تنصيص، ويحال إلى موطنه بلفظ (أنظر)
قبل اسم المرجع.
3.
إعداد فهرس
للمراجع والمصادر.
4.
وفي الهامش سأعرف
فقط باسم المرجع واسم المؤلف، وسيكون التعريف الكامل بالمرجع من حيث (الطبعة –
تاريخ النشر – دار النشر) في قائمة المصادر.
5.
سيكون ترتيب
قائمة المصادر بالترتيب الأبجدي حسب اسم المرجع.
البحث بصورة مبدئية:
يتكون البحث من مقدمة، وتمهيد، ومبحثين،
وخاتمة، كالتالي:
1.
مقدمة وفيها
توطئة للموضوع، مع أسباب اختياره وأهميته.
2.
تمهيد وفيه تاريخ
نشأة القول بالقدر.
3.
المبحث الأول:
التعريف بالمعتزلة ومفهوم القدر عندهم عرض ونقد. وفيه ثلاثة مطالب.
أ- المطلب الأول: تعريف موجز بالمعتزلة.
ب- المطلب الثاني: مفهوم القدر.
ج- المطلب الثالث: أفعال العباد.
4.
المبحث الثاني: مسائل
متعلقة بالقدر عند المعتزلة عرض ونقد. وفيه سبعة مطالب.
أ- المطلب الأول: التحسين والتقبيح.
ب- المطلب الثاني: تعليل أفعال الله.
ت- المطلب الثالث: فعل الصلاح والأصلح.
ج- المطلب الرابع: الاستطاعة.
د- المطلب الخامس: تكليف ما لا يطاق.
ه- المطلب السادس: المشيئة واشتمالها
المحبة والرضا.
و- المطلب السابع: الظلم.
خاتمة وفيها أهم النتائج والمستخلصات من
البحث
تمهيد
إن بدعة القول بالقدر لم يكن لها ظهور في عهد النبوة، لأن النبي عليه الصلاة
والسلام كان بين ظهرانيهم، يستقون من معين الشريعة الصافي، ولكن لم يخل الأمر من
بعض التساؤلات التي أجاب عنها الرسول –صلى الله عليه وسلم – جواباً شافياً حاسماً.
وذلك مثل قصة خروجه على الصحابة وهم يتناقشون في القدر، وغضبه عليهم ونهيه إياهم
عن مثل هذا الأمر.[7] ثم
بعد ذلك كف الصحابة عن هذا الأمر، وآمنوا وسلموا بقدر الله على الوجه الحق .[8]
ومسألة ظهور بدعة القدر بعد ذلك مختلف فيها، وأرجح الأقوال أنها ظهرت عند
المسلمين على يد معبد الجهني في البصرة، في أواخر عهد الصحابة. ثم أخذها عنه غيلان
الدمشقي، الذي يُعد ثاني من تكلم في القدر بعد معبد، وهؤلاء يسمون القدرية الأولى
.[9]
يقول شيخ الإسلام: "ثم في آخر عهد الصحابة حدثت القدرية، وأصل بدعتهم
كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله، والإيمان بأمره ونهيه، ووعده ووعيده
وظنوا أن ذلك ممتنع"[10]
ويقول أيضاً: "وكان أول من ظهر عنه ذلك بالبصرة ،معبد الجهني"[11]
وكان هؤلاء قليلي العدد، فلم ينتشر قولهم، خاصة وأن الصحابة وقفوا منهم
موقفاً صارماً. ثم جاءت بعد ذلك المعتزلة، وهي طائفة كبيرة، لها الكثير من الأتباع
والمؤيدين، فأشهروا ونشروا هذا القول. يقول شيخ الإسلام: "وبدعة القدر حدثت
قبل ذلك (يقصد المعتزلة)، بعد موت معاوية، ولهذا تكلم فيهم ابن عمر وابن عباس
وغيرهما.... فلما حدثت المعتزلة، وتكلموا بالمنزلة بين المنزلتين، وقالوا بإنفاذ
الوعيد وخلود أهل التوحيد وأن النار لا يخرج منها من دخلها، ضموا إلى ذلك القدر
فإنه به يتم "[12]
وبعد ذلك انشر القول بالقدر في الإسلام، ورغم أن المعتزلة ليسوا هم مبتدعي هذا
القول، إلا أنه ارتبط بهم اشد الارتباط، فسموا بالقدرية. وفي هذه الأثناء ظهرت
فرقة الجهمية، على يد الجهم بن صفوان، والتي حملت لواء الجبر المقابل لبدعة القدر
عند المعتزلة. والجهم أخذ مقالته من أستاذه الجعد بن درهم الذي قال بالجبر قبل
المعتزلة، ولكن مذهبه لم ينتشر إلا مع ظهور فرقة الجهمية على يد الجهم بن صفوان.[13]
ورغم أن هاتين الفرقتين قد بادتا، إلا أن أفكارهم في القدر مازالت موجودة
في العصر الحاضر، فجميع المذاهب المعاصرة قد تعرضت لهذا الموضوع، مثل الداروينية
والماركسية الذين يسقطون الإرادة الحرة، فهؤلاء امتداد لمذهب الجبر. وفي المقابل
توجد الوجودية التي تقول بالحرية المطلقة.[14]
ولا يخفى
تبني الكثير من أبناء العالم المسلم لهذه النظريات. إذن نخلص إلى أن بدعة القدر
ظهرت على يد معبد الجهني، ومازالت موجودة حتى اليوم.
المبحث الأول
التعريف بالمعتزلة ومفهوم القدر
عندهم عرض ونقد
وفيه ثلاثة مطالب
1-
التعريف
بالمعتزلة
2-
مفهوم
القدر
3-
أفعال
العباد
المطلب الأول: التعريف بالمعتزلة.
المعتزلة
فرقة إسلامية ظهرت أواخر العهد الأموي، وازدهرت في العصر العباسي، وهي فرقة كلامية،
قالت بأصول خمسة هي (التوحيد-العدل –الوعد والوعيد -المنزلة بين المنزلتين– الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر) فمن قال بهذه الأصول فهو معتزلي. وقد فسروا هذه الأصول
تفسيراً عقلياً منحرفاً، فتنج عن التوحيد نفي صفات الكمال عن الله سبحانه وتعالى
والقول بخلق القرآن. ونتج عن العدل قولهم أن العبد خالق أفعاله، حتى يتحقق عدل
الله –حسب زعمهم- ونتج عن الوعد والوعيد إنكار الشفاعة لأهل الكبائر وخلودهم في النار. ونتج عن المنزلة بين
المنزلتين اعتزالهم لجميع المسلمين ،فهي البدعة التي خالف بها واصل بن عطاء الحسن
البصري. وأما الأصل الخامس، فنتج عنه وجوب الخروج على الحاكم إذا خالف الحق.
وكما ذكرت سابقاً، أن المعتزلة كفرقة إن بادت، فإن أفكارها ما زالت حية
على يد بعض الكتاب والمفكرين المعاصرين، مثل
سعد زغلول وقاسم أمين ولطفي السيد وطه حسين وغيرهم كثير. [15]
المطلب الثاني: مفهوم القدر
إن قدر
الله عند المعتزلة هو إقدار الله العباد على الفعل وإعلامهم به مع علمه بأفعالهم،
حيث أنهم ينسبون إرادة الفعل وخلقه للعباد أنفسهم دون الله وحجتهم في ذلك أن
العباد قد يفعلون المعاصي وأفعال الشرك، فكيف يريدها الله ويفعلها لهم ثم يحاسبهم
عليها؟
يقول
القاضي عبد الجبار الهمذاني: " فأما المعاصي والكفر، فمعاذ الله أن يكون عز
وجل خلقها وقضاها وقدرها إلا بمعنى أنه أعلمنا واخبرنا عنها كما قال عز وجل:{وقضينا
على بني إسرائيل} بمعنى أعلمناهم وكيف يصح أن يكون قد قضى الكفر ثم يعاقب
عليه؟" [16]
إذن
فالمعتزلة تنفي مرتبتي القدر الثالثة والرابعة عن الله وتثبتها للإنسان، وهذا
مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة من أن الإيمان بالقدر يتضمن أربعة مراتب، وهي:
1. العلم: وهو الإيمان بأن الله عالم بكل شيء
جمله وتفصيلاً، منذ الأزل وذلك يشمل أفعاله سبحانه وأفعال عباده .
2. الكتابة: وهي الإيمان بأن الله سبحانه كتب
ذلك العلم في اللوح المحفوظ
يقول سبحانه وتعالى :{ألم تعلم أن الله يعلم ما في
السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير}[17]،
ففي هذه الآية إثبات للمرتبتين السابقتين.
3. المشيئة والإرادة: وهي الإيمان بأن جميع
الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى، وذلك يشمل فعله سبحانه وفعل مخلوقاته.
يقول تعالى عما يتعلق بفعله:{ويفعل الله ما يشاء}[18].
ويقول سبحانه في فعل عباده:{ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون }[19]
4. الخلق: وهو الإيمان بأن كل ما في هذا
الكون مخلوق لله ،وذلك يشمل الذوات والصفات والحركات والأفعال [20].
يقول الله سبحانه وتعالى:{والله خلقكم وما تعملون }[21]
إذن فهذا
هو الإيمان الصحيح بالقدر، وهو إثبات هذه المراتب الأربعة، بخلاف المعتزلة التي
تثبت المرتبتين الأوليين فقط .
ومما تجدر
الإشارة إليه ،أن هناك بعض الغلاة من المعتزلة من أنكر حتى العلم والكتابة، وقدرة
الله على أفعال العباد ،لذلك يسمون مجوس هذه الأمة، لأنهم جعلوا مع الله شركاء في
الخلق وهم العباد وإن كان هدفهم تنزيه الله عن خلق الشر، فهم في ذلك شابهوا المجوس
القائلين بإلهين في الكون: إله النور وهو خالق الخير، وإله الظلمة وهو خالق الشر.[22]
يقول شيخ
الإسلام عن هؤلاء الغلاة:" وأما الإقرار بتقدم علم الله وكتابته لأفعال
العباد، فهذا لم ينكره إلا الغلاة من القدرية وغيرهم"[23]
وبالنسبة لمسألة إرادة الله الكفر والمعاصي،
فهناك نوعين من الإرادة: كونية وشرعية.
الإرادة
الكونية تشمل المؤمن والكافر، والبر والفاجر، و بها يريد الله المعاصي. ولا يلزم
منها محبة الله ورضاه عن المراد ولكن يلزم وقوع المراد وتحققه، بخلاف الشرعية التي
توافق محبة الله ورضاه ولا يلزم تحققها. [24]
فالله سبحانه أراد المعاصي والكفر، بمعنى
أنه شاء وقوعها، ولا يلزم من هذه المشيئة إجبار البشر على الكفر، فالله سبحانه علم
بعلمه الأزلي أن بعض البشر سيقع منهم المعاصي والكفر، فشاء وقوعها لأن لا شيء في
الكون يخرج عن مشيئته سبحانه. والله أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فمن عصى وكفر
استحق العقاب.
المطلب الثالث: أفعال العباد
تفرق
المعتزلة بين نوعين من أفعال العباد:
1. الأفعال الاختيارية المباشرة: وهي التي يفعلها
الإنسان بقدرته واختياره.
2. الأفعال المتولدة: وهي التي تتولد دون
مشيئة وقدرة واختيار وقصد مثل: الإدراك الحاصل عند فتح البصر ونحوه.
أما
الأفعال الاختيارية، فالذي عليه غالبيتهم العظمى أنها من خلق الإنسان وليس لقدرة
الله وإرادته فيها أي تأثير. يقول عبد الجبار الهمذاني: "فإن قيل فما الدليل على أن أفعال العباد
ليست مخلوقة لله تعالى وأنها أفعالهم؟ قيل له: لو كانت فعلاً لله تعالى لما حسن أن
يأمرنا بحسنها وينهانا عن قبحها... وأيضاً فلو كان الله عز وجل يفعل أفعالنا، لما
وقعت بحسب قصودنا ودواعينا "[25]
وخالف
في ذلك بعضهم ، حيث يرى الجاحظ ومعمر أن
أفعال العباد من صنع الطبيعة، أي اضطرارية
كإحراق النار، وإنما نسبت إلى لفاعليها مجازاً وليس لهم إلا الإرادة. وهناك
من المعتزلة من وافق أهل السنة والجماعة وقالوا بأن الله خالقها وهؤلاء قله، وهم
ضرار بن عمرو وحفص الفرد، كما أورد ذلك ابن حزم في الفصل .[26]
وأما
الأفعال المتولدة، فقد اختلفوا فيها والرأي الذي عليه معظمهم، هو تقسيمهم
للمتولدات إلى قسمين:
1. تولد عن غير الحي، مثل: حرق النار وتبريد
الثلج. واختلفوا فيه، فقال بعضهم أنه فعل الله عز وجل، وقال البعض فعل الطبيعة وقال
آخرون بل هي أفعال لا فاعل لها.
2. تولد عن الحي، وقالوا فيه أنه من فعل
الإنسان، وبهذا قال القاضي عبد الجبار.[27]
إذن نخلص
إلى أن المعتزلة يقولون بخلق العباد لأفعالهم، بغض النظر عن مسألة التولد التي هي
من إحداث بشر بن المعتمر. وهذا القول مخالف للاعتقاد الصحيح الذي عليه سلف الأمة، من
أن الله سبحانه وتعالى هو خالق العباد وخالق أفعالهم، وهذا ليس فيه اختلاف ولا شك
بينهم بل لم يظهروا القول فيه إلا بعد أن أحدثته الفرق الضالة.
يقول ابن
تيمية :"أفعال العباد مخلوقة باتفاق سلف الأمة وأئمتها... وكان السلف قد
اظهروا ذلك لما أظهرت القدرية أن أفعال العباد غير مخلوقة لله، وزعموا أن العبد
يحدثها أو يخلقها دون الله. فبين السلف والأئمة أن الله خالق كل شيء من أفعال
العباد وغيرها "[28]
ويقول الطحاوي:" وأفعال العباد خلق الله ، وكسب
من العبد"[29]
فأفعال العباد كسب لهم، أي أنهم هم الموصوفين بها
وفاعلين لها حقيقة. وخلق من الله، أي أن الله هو الذي أحدثها. يقول شيخ الإسلام
شارحاً معنى الكسب: "إن الكسب هو الفعل الذي يعود على فاعله بنفع أو ضر".[30]
إذن فالعباد هم المصلين والصائمين، والمطيعين
والعاصين، فهي أفعالهم على الحقيقة. والله سبحانه هو الذي خلقهم وخلق أفعالهم
وقدرتهم وإرادتهم، فخلق الله لأفعال العباد لا يعني سلب المشيئة والقدرة منهم، ولكن
يعني أن مشيئتهم وقدرتهم خاضعة لمشيئة الله وقدرته .يقول الله سبحانه وتعالى:{لمن
شاء منكم أن يستقيم *وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين}[31].[32] فهذا هو المذهب الموافق للواقع والعقل، فالإنسان
يعلم أن له مشيئة وقدرة، بهما يفعل وبهما يترك. ويميز بين ما يقع منه بإرادته مثل
المشي وما يقع منه بغير إرادته مثل الارتعاش. بالإضافة إلى أن الكون كله مملوك لله
تعالى، والإنسان جزء من هذا الكون، ولا يمكن للمملوك أن يتصرف في ملك المالك إلا
بمشيئته وإذنه.[33]
المبحث الثاني
مسائل متعلقة بالقدر عند المعتزلة
عرض ونقد
وفيه سبعة مطالب
1.
التحسين والتقبيح
2.
تعليل أفعال الله
3.
فعل الأصلح
والصلاح
4.
الاستطاعة
5.
تكليف ما لا يطاق
6.
الإرادة
واستلزامها الرضا والمحبة
7.
الظلم
المطلب الأول: التحسين والتقبيح
التحسن
والتقبيح من المسائل العقدية المتعلقة بالقدر، وهي من المسائل التي كثر الاختلاف
فيها. ففي البداية سأبين تعريف المعتزلة للحسن والقبيح.
ترى المعتزلة أن الفعل الحسن هو الفعل الذي لا يستحق
فاعله الذم عليه. وفي المقابل الفعل القبيح هو ما استحق مرتكبه الذم عليه. وذهبت المعتزلة
إلى أن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأفعال
فهي لها في نفسها جهة مُحسِّنة أو مُقبِّحة ،ويقتصر دور الشرع على الكشف،
فهو يكشف لنا عن حسن الأفعال أو قبحها. فالحكم على الفعل بأنه حسن أو قبيح راجع
إلى العقل بناء على صفات الحسن والقبح الذاتية في الفعل، أما الشرع هو مجرد مبين
لتلك الصفات.[34]
يقول
القاضي عبد الجبار: "وكل عاقل يعلم بكمال عقله قبح كثير من الآلام كالظلم
الصريح وغيره وحسن كثير منها كذم المستحق للذم وما يجري مجراه"[35].
وهذا
مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، فهم يرون أن الأفعال قد يدرك
العقل حسنها أو قبحها، لكن لا يترتب عليها ثواب أو عقاب إلا بالشرع، فلا تلازم بين
إدراك الحسن والثواب كما أنه لا تلازم بين إدراك القبح والعقاب، فالأفعال في نفسها
حسنة أو قبيحة لكن لا يترتب عليها ثواب أو عقاب إلا بالأمر أو النهي. فمثلاً الكذب
فعل قبيح في ذاته، ولكن العقاب عليه مشروط بالشرع . [36]
وقد دل على ذلك القرآن في قوله تعالى:{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}.[37]
يقول شيخ
الإسلام مؤيداً ما قلناه سابقاً:" وقد يعلم بالعقل و الشرع قبح ذلك... لكن لا
يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك، وهذا
مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح "[38]
ويميز شيخ
الإسلام بين ثلاثة أنواع من الأفعال:
1. هو الفعل الذي فيه مفسدة أو مصلحة حتى مع
عدم ورود الشر ع بها، فهذه الأفعال حسنة أو قبيحة لكن لا يترتب عليها ثواب أو عقاب
إلا بالشرع.
2. الفعل الذي يكتسب صفة الحسن أو القبح
بخطاب الشارع.
3. الفعل الذي يأمر الشارع به لامتحان العبد،
ولا يكون المراد فعل المأمور، مثل أمر الله إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه.
فالحكمة
منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به ، وهذين النوعين الأخيرين لم يفهمهما
المعتزلة، فأدى إلى انحرافهم في هذه المسألة.[39]
إذن
فالتحسين والتقبيح فيه تفصيل، فلا يقال أنه بالشرع مطلقاً مثل الأشاعرة، ولا
بالعقل مطلقاً مثل المعتزلة[40]
المطلب الثاني: تعليل أفعال الله
وهذا
المبحث من أجل وأهم المباحث المتعلقة بالقدر، والمقصود به، هل لأفعال الله سبحانه
وتعالى حكمة؟ أم أنه يفعلها هكذا لمحض المشيئة وصرف الإرادة؟ ورأي المعتزلة هنا
قريب من أهل السنة ولكنهم ضلوا في ذلك قليلاً. حيث يقولون أن الله سبحانه وتعالى
يخلق ويفعل ويأمر لحكمة محمودة ولكن هذه الحكمة مخلوقة منفصلة عنه، لا تعود عليه. فهم
يثبتون الحكمة مثل أهل السنة، ولكنهم ينحرفون بها عن الحق. فيرون أن الحكمة من أفعاله
سبحانه هي إحسانه إلى الخلق، والحكمة من
أمره تعريض المكلفين المأمورين للثواب. ولا يعود لله سبحانه من هذه الحكمة شيء، ولا
يقوم به فعل أو نعت.[41]
فالمعتزلة
أثبتوا التعليل ولكن بشكل باطل، يقول شيخ الإسلام: "والمعتزلة أثبتت التعليل،
لكن على أصولهم الفاسدة في التعليل والتجويز وأما أهل الفقه والعلم وجمهور
المسلمين الذين يثبتون التعليل، فلا يثبتونه على قاعدة القدرية ولا ينفونه نفي
الجهمية."[42]
فالمذهب
الصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة، هو أن الله سبحانه وتعالى حكيم، لقوله
تعالى{فاعلموا أن الله عزيز حكيم}[43].
فالله سبحانه يفعل ما يفعل لحكمة يعلمها سبحانه، وقد يعلم العباد أو بعضهم من
حكمته، وقد يتفرد سبحانه بعلمها. ولكنهم
لا يقولون مثل المعتزلة، أن الحكمة صالح العباد وهي مخلوقة منفصلة عنه. فهذا كلام
باطل، فالله سبحانه من صفاته الحكمة، وهو يفعل بإرادته وحكمته ما يشاء.
ويذكر شيخ
الإسلام سبب انحرافهم في ذلك، فيقول: "فإذا خلق شيئاً لحكمة يحبها ويرضاها لم
يجز أن يقال: هو مفتقر إلى غيره، إلا إذا كان هناك خالق غيره يفعل ما يحبه ويرضاه،
وهذا يجيء على قول القدرية الذين يزعمون أنه لم يخلق أفعال العباد "[44].
فالمعتزلة حيث اثبتوا لأفعال الله حكمة منفصلة عنه، حصروا هذه الحكمة في المخلوق، ثم
زعموا أنها لا تتم إلا بكون العباد خالقين لأفعالهم والله غير خالق لها وكل هذا
حتى لا تنتفي عنه صفة العدل، وهو أحد أصولهم الخمسة. وهذا مخالف لمذهب أهل السنة
الذين يرون أن الله سبحانه حكيم، يفعل بحكمته التي هي صفة له سبحانه ،من صفات
كماله .يقول شيخ الإسلام: "إنه خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، فلم يوجد
إلا ما خلقه هو، وله في ذلك من الحكمة البالغة ما يعلمه هو على وجه التفصيل، وقد يعلم بعض عباده من ذلك ما يعلمه إياه، إذ لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء".[45]
المطلب الثالث: فعل الصلاح والأصلح
فعل
الصلاح أو الأصلح من المبادئ المتعلقة بمباحث القدر، حيث انه يبحث في قضية الله
سبحانه وهل هو يفعل ما هو في صلاح العباد أو حتى الأصلح لهم؟ وهل ذلك واجب عليه؟
أم أنه تفضل منه سبحانه؟
وهذه المسألة
متعلقة بخلق أفعال العباد، فالمعتزلة يوجبون على الله فعل ما هو في صالح العباد، لأنه
يؤدي إلى القول بأن العباد هم خالقي أفعالهم لأن الله سبحانه لو خلقها ثم عاقبهم
عليها، لكان في ذلك ظلم لهم ناهيك على أن يفعل شيء ليس في صالحهم.[46]
فالمعتزلة
يرون وجوب فعل الصلاح للعباد، بل ويتعدون ذلك إلى أن الله لا يستطيع إلا أن يفعل
ما فيه صلاح عباده، ولكنهم اختلفوا في مسألة الأصلح، وهي أنه الله يفعل ما هو أصلح
وليس صالح، فهناك الصالح وهناك الأصلح. فقال جمهورهم أنه يجب عليه فعل الأصلح ما
عدا بشر بن المعتمر الذي يوجب فعل الصالح فقط، بحجة أن الأصلح لا غاية ولا نهاية
له.[47]
واختلفوا أيضاً
في هذه المسألة على فريقين:
1. فريق معتزلة بغداد ،الذين أوجبوا على الله
فعل الأصلح للعباد في دينهم ودنياهم، حيث أنه لا يجوز عليه أن يبقي أي صلاح ممكن
لعباده في العاجل أو الآجل إلا أن يفعله وإلا
كان ظالماً بخيلاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فكل ما ينال العبد في دينه
ودنياه هو الأصلح له، فمرضه وصحته، وحياته وموته كلها في صلاحه. حتى دخول النار
والخلود فيها صلاح له، لأنه لو خرج منها لعاد إلى ما كان عليه.
2. فريق معتزلة البصرة، الذين أوجبوا على
الله فعل الأصلح في الدين فقط، وهذا الذي عليه عبد الجبار المعتزلي.[48]
إذن
فالمعتزلة يوجبون الصلاح والأصلح على الله، وإن خالف بعضهم أو اختلفوا فيما بينهم،
وهذا مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة، الذين لا يقولون بوجوب شيء على الله سبحانه وتعالى، بل باستحالة ذلك، لاستحالة موجب
فوقه يوجب عليه شيئاً. فكل نعمة من الله على خلقه هي تفضل منه وتكرم، حتى ما أوجبه
الله على نفسه ،فهو من باب التفضل، لأنه لم يوجبه عليه أحد. فالله أمر العباد بما
فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، وهو سبحانه يفعل ما فيه صلاح العباد، ولكن ليس
على سبيل الوجوب.[49]
يقول شيخ
الإسلام: "وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا
قول القدرية، وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول. وأهل السنة متفقون
على أنه سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن
العباد لا يوجبون عليه شيئاً".[50]
المطلب
الرابع: الاستطاعة
الاستطاعة مثل فعل الأصلح، وجه ارتباطها
بالقدر هو أفعال العباد. وقبل أن نبين رأي المعتزلة في هذا الأمر، نوضح أنواع
الاستطاعة.
فهناك نوعين من الاستطاعة:
استطاعة قبل الفعل، وهي مناط التكليف، فإذا
لم توجد فلا تكليف. مثل: الصحة، وحصول الأسباب التي لابد منها في الفعل .
استطاعة مقارنة للفعل، وهي التي تكون معه، و
بها يكون، وهي ليست مناطاً للتكليف، بل الله يمنحها لمن يشاء.
والاستطاعة الثانية نفتها المعتزلة، وأثبتت
الأولى لأن الله عندهم لا يقدر أن يهدي أحداً، ولا يضل أحداً، بل العبد هو الذي
يتصرف في نفسه.[51]
يقول عبد الجبار الهمذاني: "فإن قيل
فما الدليل على أن القدرة قبل الفعل؟ قيل له: لأنها لو كانت مع الفعل لوجب أن لا
يقدر كافر على الإيمان ولو لم يقدر عليه لم يحسن من الله تعالى أن يأمره به، لأن
الله تعالى لا يكلف العباد ما لا يطيقون"[52].
فالاستطاعة السابقة للفعل، والتي تثبتها
المعتزلة، تشمل القدرة على الفعل وعلى ضده،
وهي غير موجبة للفعل. بخلا ف
الاستطاعة المقارنة، التي لا تصلح لغير الفعل. وقول المعتزلة في الاستطاعة يتماشى
مع بقية أقوالهم في القدر.[53]
يقول عنهم شيخ الإسلام: "وقوم جعلوا
الاستطاعة قبل الفعل، وهو الغالب على النفاة من المعتزلة والشيعة ...والقدرية أكثر
انحرافاً، فإنهم يمنعون أن يكون مع الفعل قدرة بحال، فإن عندهم المؤثر لا بد أ ن
يتقدم على الأثر لا يقارنه بحال، سواء في
ذلك القدرة والإرادة والأمر"[54].
ومذهب المعتزلة في هذه المسألة كسائر
مذاهبهم في القدر، مخالف للمذهب الصحيح ، الذي عليه أهل السنة والجماعة، حيث أنهم
–أهل السنة – يثبتون الاستطاعتين.
يقول الطحاوي – رحمه الله - :
"والاستطاعة التي يجب بها الفعل، من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف
المخلوق به، فهي مع الفعل. وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة
الأدوات فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب"[55].
ويقول شيخ الإسلام: "والصواب الذي دل
عليه الكتاب والسنة، أن الاستطاعة متقدمة على الفعل، ومقارنة له أيضاً، وتقارنه أيضاً
استطاعة أخرى لا تصلح لغيره. فالاستطاعة نوعان: متقدمة صالحة للضدين، ومقارنة لا
تكون إلا مع الفعل، فتلك هي المصححة للفعل المجوزة له، وهذه هي الموجبة للفعل
المحققة له "[56].
ويضرب شيخ الإسلام أمثلة للنوعين:
الاستطاعة
السابقة، مثل قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم }[57]
،فالمراد هنا الاستطاعة المتقدمة. ولو أريد الاستطاعة المقارنة، لما وجب على أحد
من التقوى إلا ما فعل فقط، إذ هو الذي قارنته الاستطاعة.
الاستطاعة المقارنة، مثل قوله تعالى:{ما
كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون }[58]،
فهم في الواقع مستطيعين السمع استطاعة
متقدمة، لكنهم لا يسمعون الحق .[59]
إذن فأهل السنة يثبتون النوعين بخلاف
المعتزلة التي تثبت الاستطاعة المتقدمة فقط.
المطلب الخامس: تكليف ما لا يُطاق
وهذه
المسألة متفرعة من الاستطاعة، فما لا يطاق هو ما لا يستطاع. ومذهب المعتزلة في
ذلك، أن تكليف ما لا يطاق غير جائز، وذلك لأنه قبيح عقلاً مثل تكليف الأعمى نقط
المصاحف.
وكلامهم هذا
مبني على مذهبهم في الاستطاعة، حيث أنهم كما -عرفنا سابقاً- لا يثبتون إلا
الاستطاعة السابقة على الفعل التي بها يتحقق التكليف ومن ثم يترتب عليه الثواب
والعقاب، ويمنعون الاستطاعة المقارنة له لأنها لو أثبتت، كان تكليف الكافر
بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق، لأنه إذا أطاقه لوقع منه. وتكليف ما لا يطاق قبيح
والله لا يفعل القبيح.[60]
يقول عبد
الجبار الهمذاني: "ومما يدل أن على أنه لا يكلف العبد ما لا يطيقه، أنه لا
يجوز أن يأمر من لا مال له بالزكاة ، لأن الزكاة لا تصح بلا مال "[61].
إذن فمذهب
المعتزلة أن تكليف ما لا يطاق لا يجوز، وهو من باب العدل الذي هو أحد أصولهم
الخمسة، فيجب عندهم على الله إقدار العباد على التكليف تمام الاقدار، فكما أنه
كلفهم، يجب عليه إقدارهم.
فهذا هو
رأي المعتزلة في هذه المسألة، وهو مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة، الذين يفصلون
في هذه المسألة كالتالي:
1. أن إطلاق القول في هذه المسألة بدعة، يقول
شيخ الإسلام: "فإطلاق القول بتكليف مالا يطاق من البدع الحادثة في الإسلام"[62].
2. إن تكليف ما لا يطاق على ضربين:
أ- تكليف ما لا يطاق لوجود ضده من العجز، فهذا لا يطاق
لأن الإنسان عاجز عنه، لوجود ضده، مثل: تكليف المقعد القيام والأعمى الخط والكتابة.
فهذا انعقد الإجماع على عدم جوازه، لأن عدم الطاقة فيه راجعة إلى الامتناع
والاستحالة.
ب- تكليف ما لا يطاق مع عدم وجود ضده من العجز، فهو
غير مستحيل ولا معجوز عنه، ولكنه ترك وأنشغل عنه بضده. مثل: الكافر إذا كلف
بالإيمان، فهو غير عاجز عنه، وليس مستحيل منه ولكنه ترك الإسلام لانشغاله بالكفر وهذا
النوع جائز بإجماع الفقهاء وأهل العلم كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.[63]
المطلب السادس: الإرادة واستلزامها
الرضا والمحبة
فهل إرادة
الله للأمور والأفعال، يلزم منها محبته لها ورضاه عنها؟
المعتزلة
تذهب إلى أنهما متلازمان، فالإرادة تستلزم الرضا والمحبة يقول شيخ الإسلام: "
فإن الجهمية والمعتزلة كلاهما يقول: أن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين بلا
مرجح. وكلاهما يقول: لا فرق بين الإرادة والمحبة والرضا"[64].
فإرادة
الله للأفعال عندهم مستلزمة لمحبته ورضاه، فقالوا: من المعلوم بالكتاب والسنة
والإجماع أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح ويكره الكفر والفسوق والعصيان، فيلزم من ذلك أن تكون كل المعاصي التي في الوجود
واقعة دون مشيئته وإرادته، وبخلاف أمره ومحبته ورضاه. فالمحبة والرضا عن أفعال
العباد بمثابة الأمر بها، وكذلك الإرادة ، فالله عندهم غير مريد إلا لما أمر به.
وبناء على ذلك أولوا كل ما في القرآن من الآيات والدلائل الصراح لإرادة الله كل ما
يحدث في هذا الكون.[65]
إذن فالله
عندهم مريد للخير فقط في هذا الكون، وهذا امتداد طبيعي لقولهم بأن العباد هم خالقي
أفعالهم. وهذا مخالف للعقل والشرع والفطرة، فمعلوم أن هناك فرق بين الإرادة
والمحبة والرضا، فقد يريد الإنسان شيئاً ولا يحبه مثل الدواء. وهذا يعلمه الإنسان
بعقله وفطرته، أما بالنسبة للشرع فقد نص القرآن أن كل ما في هذا الكون هو بمشيئة
الله وقدرته، يقول تعالى:{وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين }[66]،
حتى ضلال البشر فهو بإرادة الله، يقول سبحانه:{فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره
للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً}[67].
فهناك نوعين للإرادة -كما بينا في موضع سابق من هذا البحث- نوع يسلتزم رضا الله
ومحبته وهي الإرادة الشرعية، ونوع غير مسلتزم لذلك، وهي الإرادة الكونية فإرادة
الله لضلال الإنسان من قبيل الإرادة الكونية وإرادته لهدايته من قبيل الإرادة
الشرعية ويظهر ذلك في قوله تعالى:{والله لا يحب الفساد}[68]،
فرغم أنه أراد ضلال الإنسان إلا أنه لا يحبه ولا يرضاه. فالمعتزلة لم يفرقوا بين
نوعي الإرادة، فأوقعهم ذلك في الضلال والانحراف.
المطلب السابع: الظلم
تعرف
المعتزلة الظلم بأنه: كل ضرر لا نفع فيه، ولا دفع ضرر، ولا استحقاق ولا الظن
للوجهين المتقدمين. ويذهب أكثرهم إلى أن الله سبحانه وتعالى لا يفعل الظلم مع
قدرته عليه. ولكن بعضهم يقول أن الله لا يستطيع فعل الظلم، مثل: النظام والجاحظ، بحجة
أن ذلك يوجب النقص عليه حسب زعمهم. وقاسوا هذا الظلم على أفعال العباد، فضربوا له
من أنفسهم الأمثال ولم يجعلوا له المثل الأعلى، فحرموا عليه وأوجبوا بناء على هذه الأقيسة
الباطلة، وبنوا على ذلك بعض الأمور الباطلة، ومنها: أن الله لا يهدي ضالاً ولا يضل
مهتدياً، وأنه سبحانه إذا أمر العبد بتكليف معين ولم يعنه عليه بجميع وجوه
الإعانة، كان ظالماً له، والله عندهم عدل لا يظلم، لذلك ليس هو خالق أفعال العباد،
بل هم خالقي أفعالهم بدون مشيئته وقدرته، لأنه لو خلقها ثم عاقبهم عليها لكان ذلك
ظلماً. إلى غير ذلك من الأمور الباطلة.[69]
يقول عبد
الجبار: "كل قبيح يقع في العالم فهو من أفعال العباد، والله تعالى غني عن
فعله"[70].
وكلامهم
هذا مخالف لقول أهل السنة، فالظلم عند أهل السنة هو وضع الشيء في غير موضعه، أي أن
الظلم الذي حرمه الله على نفسه وتنزه عنه هو أن لا يُحَّمل المرء سيئات غيره، ولا
يُعذبه إلا بما كسبت يداه، ولا يُنقص من حسناته. والله سبحانه قادر على الظلم،
ولكنه تركه، لذلك استحق الحمد والثناء. فعقوبة الإنسان بذنب لم يرتكبه ظلم يتنزه
الله عنه، وإثابة المطيع فضل وإحسان منه[71].
يقول الرسول –صلى الله عليه وسلم –في الحديث القدسي:{يا عبادي إني حرمت الظلم على
نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا .[72]
الخاتمة
في ختام هذا البحث، أحمد الله وأشكره أن جعلنا من أهل السنة والجماعة الذين
يستمعون القول ويتبعون أحسنه. وأحمد الله الذي وفقنا إلى استخدام عقولنا فيما فيه
صلاحنا، ولا يسعني القول إلا كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:{ربنا لا
تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا }[73].
وفيما يلي النتائج المستخلصة من البحث:
1.
أن أول من قال بالقدر
في الإسلام هو معبد الجهني، ثم أخذه عنه غيلان الدمشقي، فكان هؤلاء وأتباعهم يسمون
القدرية الأولى، ثم جاء بعدهم المعتزلة.
2.
أن المعتزلة وإن
كانت فرقة قديمة، إلا أن أفكارها ما زلت موجودة إلى اليوم في حلل جديدة.
3.
القدر عند
المعتزلة هو إقدار العباد على الفعل فقط دون المشيئة والخلق، فهم ينفون المرتبتين
الثالثة والرابعة للقدر بخلا ف أهل السنة.
4.
العباد عند
المعتزلة هم خالقي أفعالهم، بقدرتهم واختيارهم، وليس لقدرة الله ومشيئته فيها أي
تأثير.
5.
ابتدع بشر بن
المعتمر مسألة الأفعال المتولدة، واختلف المعتزلة فيها، وأكثرهم أنها مخلوقة
للبشر.
6.
الحسن والقبح عند
المعتزلة صفتان ذاتيتان في الأفعال، والعقل يحكم عليها بذلك، أما الشرع فهو مجرد
كاشف عن ذلك.
7.
ترى المعتزلة أن
الله يفعل لحكمة محمودة، ولكنها مخلوقة منفصلة عنه لا تعود عليه.
8.
توجب معظم المعتزلة على الله فعل الأصلح للعباد، فهو حسب
زعمهم لا يستطيع إلا ذلك تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
9.
تنحرف المعتزلة
بالاستطاعة عن الحق، فلا يثبتون إلا الاستطاعة السابقة للفعل، الشاملة للفعل وضده.
10.
تكليف ما لا يطاق
عند المعتزلة غير جائز مطلقاً، بخلاف أهل السنة والجماعة الذين يفصلون في هذا
الأمر.
11.
الإرادة عند
المعتزلة مستلزمة للرضا والمحبة، وهذا يتماشى مع قولهم بخلق العباد لأفعالهم.
12.
انحرفت المعتزلة
في معنى الظلم عن أهل السنة، وبعضهم يرى عدم استطاعة الله فعل الظلم.
13.
انحرفت المعتزلة
فيما سبق كله عن مذهب أهل السنة والجماعة.
هذا والله أعلم، وصلى والله وسلم على
نبينا محمد، عليه أشرف الصلاة وأتم التسليم.
المراجع
1.
اقتضاء الصراط
المستقيم، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ط1، 1325 هـ 907 م، المطبعة
المشرفية.
2.
الاحتجاج بالقدر،
لشيخ الإسلام ابن تيمية، المكتب الإسلامي، إشراف زهير الشاويش.
3.
الأصول الخمسة، للقاضي
عبد الجبار الهمذاني،1998م، مكتب النشر العلمي، ط1، تحقيق د. فيصل عون.
4.
الإيمان بالقضاء
والقدر، محمد بن إبراهيم الحمد ط 2، 1416هـ ، دار الوطن.
5.
التعريفات،
للشريف علي الجرجاني، ط 1، المطبعة الخيرية بجمالية مصر.
6.
القضاء والقدر
عند السلف، علي الوصيفي، دار الإيمان للنشر والتوزيع.
7.
القضاء والقدر في
ضوء الكتاب والسنة، د. عبد الرحمن المحمود، ط 2، 1418-1997م.
8.
المرجع الكامل في
الفرق والجماعات والمذاهب الإسلامية، صلاح أبو السعود، مكتبة النافذة، ط 1، 2005.
9.
المعتزلة وأصولهم
الخمسة، عواد بن عبد الله المعتق، مكتبة الرشد، ط 2، -1416-1995م.
10.
الموسوعة
الميسرة للأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، إشراف د.
مانع الجهني، ط 5، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر.
11.
درء
تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية ،تحقيق محمد رشاد سالم، ط، 2،1411 هـ
-1991م، بمناسبة افتتاح المدينة الجامعية.
12.
شرح
العقيدة الطحاوية، للشيخ عبد الرحمن البراك، ط 2،1431 -2010م، دار التدمرية.
13.
شرح
العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، شرحها الشيخ محمد بن صالح العثيمين، ط 5،
1419، دار ابن الجوزي.
14.
شرح
ثلاثة الأصول، للشيخ محمد بن عثيمين، ط، 4، 1418-1998م، دار الثريا للنشر
والتوزيع.
15.
فلسفة
القدر في فكر المعتزلة، د. سميح دغيم، ط،1،1992م، دار الفكر اللبناني.
16.
مجموع فتاوى شيخ
الإسلام ابن تيمية، تحقيق فريد الجندي وأشرف الشرقاوي، دار الحديث القاهرة،
1427-2006
م.
[10]
مجموع الفتاوى لابن تيمية ، ج7 ، ص 22.
[15] انظر الموسوعة الميسرة، مرجع سابق، ص 64 وص 68
وص 72-73، وانظر المرجع الكامل في الفرق والجماعات، صلاح ا بو السعود، ص 123-125.
[22] انظر
المعتزلة وأصولهم الخمسة، لعواد المعتق، ص 170 والقضاء والقدر عند السلف، لعلي
الوصيفي، ص87 وانظر الإيمان بالقضاء والقد، لمحمد الحمد، ص 173-174.
[34] انظر
القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة، ص 251-252، وانظر موقف ابن تيمية من المعتزلة
في مسائل العقيدة، لقدرية شهاب الدين، رسالة دكتوراه، ص 404.
جزاكم الله خيرا
ردحذف