السبت، 13 مايو 2023

منهج الفن في الإسلام

هل للإسلام صلة بالفن؟ والحال أن الإسلام دينا والفن فنا لا صلة له بالدين، وعليه فما علاقة هذا بذاك؟ بل إن  كانت هناك علاقة فهي علاقة نفور وخصام وتدافع، ذلك أن الدين يبحث عن الحقيقة  والفن  يبحث عن  الجمال، وفرق بين الحقيقة المقيدة، وبين الجمال الذي لا يتقيد بشيء، فهو هائم طليق الخيال. وأن الدين يحرس على الأخلاق والضوابط، فالإسلام ما هو إلا حكم ومواعظ وإرشاد، والجمال لا يتقيد بشيء فهو طليق وليد الخيال، والفن يكره القيود بما فيها قيود الأخلاق.

     إن هذا الكلام هو فهم ضيق للدين وللفن، ذلك أن الدين يلتقي بالفن فكلاهما انطلاق من عالم الضرورة، وكلاهما شوق مجنح لعالم الكمال، وكلاهما ثورة على آلية الحياة. فحينما تتبلد النفس لا يمر الإنسان بهذا الكون برؤية ثابتة، ولا يراه ولا يحس به في أعماقه، ولا يتحرك فيه الشوق العلوي، ولا تتفتح نفسه لما فيه جمال وحركة وحياة ولا لما فيه تناسق بين أجزاء الكون، وبذلك يكون قد ضيق على النفس. حين تتبلد النفس فيمر الإنسان على الوجود مرورا آليا لا يتفتح لغاياته وأهدافه وروابطه، ولا يستجيب لما يربطه بالله والكون والحياة والناس من صلات، ولا تنطلق نفسه من الأفق الأعلى الذي تلتقي فيه كل هذه الصلات، وبذلك يكون قد ضيّق على نفسه وحصر عالمه في نطاق ضيق محصور، وقد أغلق نفسه دون عالم العقيدة، ومن هنا يلتقي الفن والعقيدة في أعماق النفس كما يلتقيان في أعماق الوجود.

     والفن الإسلامي ليس بالضرورة هو الفن الذي يتحدث عن الإسلام، وهو ليس الوعظ المباشر والحث على إتباع الفضائل، وليس هو حقائق العقيدة المجردة، فليس هذا أو ذاك فنا عل الإطلاق وإنما هو الفن الذي يرسم صورة الوجود من زاوية التصور لهذا الوجود، هو التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان من خلال تصور الإسلام. هو الفن الذي يهيئ اللقاء الكامل بين الجمال والحق، فالجمال حقيقة هذا الكون والحق هو ذروة الجمال، ومن هنا يلتقيان في القمة التي تلتقي عندها حقائق الوجود.

     قد يكون في الحسبان أن العرب لم يستفيدوا من القرآن ولا من الإسلام في إنتاجهم الفني فقد مرت عليهم فترة من الزمن في أول الإسلام انصرفوا فيها عن كثير من الفنون، ربما كان لهذا أسباب متعددة أهمها الانشغال بنشر الإسلام وايصاله للبشرية وبناء العقيدة الجديدة داخل النفوس وفي واقع المجتمع، ومجاهدة القوى المعرقلة لهذا العمل سواء في واقع الحياة أو داخل الضمير، وهذا يستنفد جهدا نفسيا ضخما ويستنفد الطاقة الحيوية كلها ولا يدع فيها فضلة تدخر للتعبير الفني. أما إذا لاحظنا المراحل التي يمر خلالها الإنتاج الفني والتي لا يتن إلا بها وهي الانفعال النفسي بالتجربة الجديدة ثم استيطان هذا الانفعال داخل النفس حتى يمتزج بأعماقها ويعطيها من لونه ويأخذ من ألوانها، ثم ارتداد التجربة إلى الخارج في صورة إفراز أو تعبير.

     لقد كانت العقيدة الجديدة تنشئ النفوس إنشاء جديد، وكانت تغسلها من أدران وموروث الجاهلية ومن الانحرافات والتصورات الخاطئة، وتملأها بتصورات وسلوك وعمل وسلوك جديدة، ومن ثم لم الرصيد القديم صالحا لإحياء الفن فقد كان غير موجود في النفوس التي استجابت للعقيدة الجديدة، وتخلصت من كل تراث قديم، وانسلخت من كل ماضيها من مشاعر وأعمال ووشائح قربي وصارت تحس نحوه بنفرة وتقزز، ولم يكن الرصيد الجديد قد تجمع بعد في الصورة التي تصلح للأداء الفني الذي يعبر عن شحنة مخبأة تريد الانطلاق لا هن شحنة في دور التكوين قبل أن تمتلئ بها النفس ثم تفيض بالتعبير. ومن أسباب انقطاع التعبير الفني في تلك الفترة أن الأغراض التقليدية التي كان يقال فيها الشعر فن العرب الأول قد تغيرت من أساسها بفعل العقيدة الجديدة فصارت تلك الأغراض نشاز فنيا وشعورا لا يصلح للقول فيه، ذلك أن أغراض الشعر الجاهلي متعلقة بمشاعر الماضي الذي انسلخت منه النفوس الحاملة للعقيدة الجديدة، ومن ثم لم تعد هذه الأغراض صالحة للقول بينما الأغراض الجديدة التي يمكن أن يقال فيها لم تتبلور بعد بلورة فنية. فليست المشاعر المخبأة التي تدفع إلى التعبير الفني لم تكن قد تجمعت بعد، وكذلك أن أغراض التعبير وطرائقه لم تكن قد تبلورت بعد لتساوق المعاني والآفاق الجديدة وكل غرض فني وكل طريقة أداء جديد تحتاج إلى فترة من الحضانة قبل أن تظهر في صورة إنتاج فني. وقد كانت المعاني والآفاق الجديدة التي كانت جديرة بأن تعدل أغراض التعبير وطرائقه شديدة الضخامة بالنسبة للعالم النفيسي والبيئي المحصور الذي كان يعيش فيه الشاعر العربي في ظل القبيلة الجاهلية وكانت في حاجة إلى حضانة فنية عميقة واعية قبل أن تنبثق في ثوبها الجديد. ومن تلك الأسباب أيضا وقع القرآن في نفوس العرب، فقد تلقوه مأخذين مبهورين حتى الذين لم يؤمنوا منهم كما يتجلى ذلك في حديث الوليد بن المغيرة الذي قال فيه: "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو وما يعلى". هذا الانبهار الذي تلقى به العرب القرآن يمكن أن يكون من أسباب توقفهم فترة عن التعبير الفني، فقد كانت شحنته الفنية العجيبة تملأ نفوسهم فتستوعب منهم كل طاقة الفن وتغنيهم موقتا عن جمال الأداء بجمال التلقي والانفعال.

     عندما نعود إلى هذه الأسباب نجد أن الفرصة لم تكن مواتية لمثل هذا التعبير، فقد كانت الشحنة النفسية لا تلبث حتى تنطلق بالتعبير الفني في المواجهة التي تشمل المجتمع والنفس، وكانت الأغراض والطرائق الجديدة لم تتبلور بعد لتجد سبيلها إلى التعبير الفني، وكان القرآن يتنزل في تلك الأحداث فيصفها في بلاغة فنية معجزة تغني عن جمال التعبير بجمال التلقي والانفعال. تلك الأسباب كلها أو بعضها قد صرفت العرب المسلمين فترة عن التعبير الفني لكنهم حين هادوا إلى التعبير لم يلجئوا مع الأسف إلى الرصيد الجديد يستمدون منه مشاعرهم وإيحاءاتهم وأغراض تعبيرهم وطرائقه وإنما عادوا إلى الجاهلية كاملة في مجال التعبير أغراضه وطرائقه سواء، وعادت مقاييسهم الفنية هي ذاتها مقاييس الجاهلية بحذافيرها، وهنا تطرح الأسئلة:

          - هل عادت النفوس إلى الجاهلية الشعورية وارتدت عن الإسلام؟

          - هل مر من الإسلام على ظاهر نفوسهم فقط ولم يتعمق فيها؟

          - هل هم أولئك العرب ذوو طبيعة فنية ضحلة لم تستطع أن تستوعب إيحاءات الإسلام في عالم الفن فانحسرت عنها وعادت إلى رصيدها القديم؟

     هذه الأسئلة تحتاج إلى جواب وقبل ذلك تحتاج إلى بحث، ومع أنه ليس من همي القيام بهذا البحث وإنما هدفي أن أرسم بعض الخطوط العريضة لمنهج الفن الإسلامي فإني أرى أن الإجابة على هذه الأسئلة بالإيجاب القاطع فيه ظلم كبير للواقع، فقد ارتدت بعض النفوس حقا عن بعض الآفاق الإسلامية العالية لكن لم يحدث قط الارتداد الكامل الذي يلغي الإسلام من النفوس ويجعلها كأن لم يكن. فمنذ انطلقت الشرارة الأولى فأضاءت صفحة الكون بضوئها الباصر لم تنطفئ الشعلة أبدا ولم يخب نورها إلى حد الظلام، ثم أن العرب نهنا يكن مستواهم الفني بالنسبة للإنتاج العالمي ليسوا بالضحالة التي قد توحي بها البيئة الصحراوية، فقد ثبت من التاريخ أنهم قد استوعبوا مستويات أعمق وآفاقا أوسع واستطاعوا أن ينتجوا بدرجة الإبداع.

     ومن الأسباب الأخرى فقد تكون السياسة لعبت دورا في ذلك، فمنذ العهد الأموي وإلى عصبية جاهلية قبلية وجرفت معها الفنانون (الشعراء) الذين تحلقوا حول السلطان فغمرتهم في تيارها فإذا هم حين يعبرون يرتدون إلى مشاعر القبلية في الجاهلية فيتخذون فنون القول السلطة بوعي أو بغير وعي. وقد يكون النقاد الأوائل مستولين أيضا عن ذلك، فالنقد يبحث دائما عن القواعد وغالبا ما يبحث عن القواعد الموجودة بالفعل لا عن القواعد التي يمكن أن تستحدث، إذ النقد تقعيد في طبيعته وليس إنشائيا كالتعبير الفني، ومن ثم جمد هؤلاء النقاد على ما كان موجودا بالفعل في رصيدهم الفني وهو طرائق الجاهلية وأغراضها وقيدوا الفنانين بها فصاروا في نطاق ذلك القيد. هذا ما نجده عند النقاد والفنانين المعاصرين الذين جرفهم الفن الغربي فإذا هم حين يعبرون يرتدون إلى مشاعر وأفكار الغرب التي بنيت على فصل الدين عن الحيلة فيتخذون فنون القول الغربية بوعي أو بدون وعي، وذلك بناء على القواعد الفنية المتاحة بالفعل لا عن القواعد التي تنهي القطيعة مع الإسلام الذي هو شوق مجنح لتعاليم الكمال، وهو ثورة على آلية الحياة لا تتوقف، وهو يدفع النفس إلى رؤية ثابتة للكون، ويجعل الإنسان يرى ويحس بالفن في أعماقه فيتحرك في الشوق العلوي فتنفتح النفس لما فيه جمال وحركة وحياة، وتناسق بين أجزاء الكون. هذا الانفتاح الآخر ونبذ الأصالة أدى إلى علاقة نفور وخصام بين الإسلام والفن ومن ثم جمد الفن على ما هو مستورد وما أصبح في رصيد الفن شيء من طرائق وأغراض الإسلام، وقد الفن بطرائق وأغراض الفن الغرب وساروا في نطاق ذلك القيد لا يتزحزحون عنه.

     وأيا ما كان الأمر فقد خسي الفن العربي فرصة هائلة للاستمداد في رصيد الإسلام الضخم، وظل في تاريخه الطويل مجانبا في أكثر الأحيان لهذا الرصيد مبتعدا عن ثرائه محروما من القدرة على إبداع لون من الفن، كان حريا أن يكون أروع الفنون العالمية وأبدعها لو وجد التوحيد الصالح والقدرة الفنية المواتية، وعليه فمن الواجب توضيح سمات الفن الإسلامي الإنساني الرفيع. وعليه فمن الواجب توضيح سمات هذا الفن الإسلامي الإنساني الرفيع لعل المسلمين الذين لا يجدون في تراثهم الفني ما يغنيهم، فيروجون من فنون الغرب صالحها وفاسدها بغير تمييز لعلهم أن يفيئوا إلى كنزهم الضخم الي أهملوه، وأن يفيئوا إلى أنفسهم حين يقيئوا إلى هذا الرصيد فيجدون أن ما في مكنتهم أن يتقدموا لا أن يكونوا متخلفين في الطريق ينتهبون ما يتناثر من الفتات.

                                                        الحبيب بن ميلاد لشهب