هذه المقالة منقولة من مدونة الأخ أحمد أبو رتيمة و هي تتناول القصة في القرآن الكريم أو الأسلوب القصصي التجريدي كما يسميه.
مما يلفت النظر في الأسلوب القصصي في القرآن الكريم أنه يكاد يكون خلواً من أسماء الأعلام كالأشخاص والأماكن والتواريخ، بعكس ما يميل إليه البشر في أسلوب القصص من حشوها بالتفاصيل الظرفية لتحقيق عنصر التشويق والتسلية، وهذا يعني أن هدف القصص القرآني لم يكن التسلية ولا الترف الفكري، ويعني أيضاً استعلاء النص القرآني على طبائع البشر وأساليبهم..
حين يقص عليك أحد البشر قصةً يفصل لك أسماء أبطالها وأعمارهم ومواصفاتهم واسم القرية التي يسكنون فيها والمهنة التي يعملون فيها وعدد الأولاد وأسمائهم واسم الزوجة وصفاتها، وهكذا تمتلئ القصة بحشو من التفاصيل التي لا تتعلق مباشرةً بموطن العبرة من القصة بل تهدف إلى الجذب والتسلية، أما القرآن الكريم فتجده يجرد القصة من كل هذه التفاصيل ويقدم لك العبرة خالصةً من أي ملابسات، وهذه ميزة من الوفرة والكثافة في القرآن بحيث لا تخطئها عين المتدبر، فلو بدأنا بأول سور القرآن البقرة مثلاً نجد أن القرآن يقص علينا قصة ذلك الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، دون أن يذكر لنا اسمه ولا اسم القرية ولا الزمان الذي وقعت فيه، كل ما يهتم به القرآن هو موطن العبرة وهو تبيان آية الله في إحياء الموتى، وفي سورة يوسف ورغم كونها المثال النموذجي للقصة في القرآن فلا بد من توافر أسلوب الحبكة والتشويق فيها، وهو ما لا تخلو منه السورة إلا أننا في الوقت ذاته نجد أن ميزة التجريد حاضرةً بقوة.ولو عقدنا مقارنةً بين أسلوب القرآن وأسلوب الكتاب المقدس في قصة يوسف وهو ما فعله مالك بن نبي في كتابه الظاهرة القرآنية لوجدنا فرقاً واضحاً فبينما نجد الكتاب المقدس محشو بالتفاصيل الظرفية لهذه القصة ويكثر من الاستطراد ومن التكرار في غير ضرورة نجد أن القرآن يعتمد أسلوب الإيجاز والتغاضي عن التفاصيل غير الضرورية، والتركيز على المعاني المجردة وحدها.
في الكتاب المقدس تزخر قصة يوسف بتفاصيل الأسماء والأماكن فنجد فيها مثلاً (أرض كنعان، بني بلهة، بني زلفة، وادي جبرون، شكيم، دوتائين، رأوبين، قافلة من الإسماعيليين، جلعاد، يهوذا، عشرين من الفضة، فوطيفار رئيس الشرط، شوع، عيرا، أرض مصر، شمعون، بنيامين، أرض جاسان)، وكل هذه التفاصيل في أسماء الأعلام لا نجدها في القرآن، ولا نرى استطراداً وتوسعاً في التفاصيل الثانوية، وحين يعالج القرآن المشهد الذي دار بين يوسف وامرأة العزيز فإنه يكتفي بالتلميح بكل أدب، وبعد ذلك لا يذكر لنا القرآن عدد السنين التي قضاها يوسف في السجن، ولا يذكر لنا اسم الملك، ولا الحقبة التاريخية التي حدثت فيها وقائع القصة، وهذا الإسقاط المتعمد لكل هذه التفاصيل يبقي قلب الإنسان معلقاً بموطن العبرة وحده، ولو كان القرآن كما يزعم المبطلون اقتبس قصصه من الكتب المقدسة قبله لكان من باب أولى أن يقتبس هذه التفاصيل الظرفية، ولكن هذا الاختلاف في أسلوب القرآن يؤكد تفرده وتميزه..
أمثلة أخرى نجدها في سورة الكهف التي تقص ثلاث قصص رئيسية، في القصة الأولى قصة أصحاب الكهف لا يذكر لنا القرآن متى وقعت هذه القصة وما هي الشريعة التي كان الفتية يؤمنون بها وكم عددهم وما هي أسماؤهم وما اسم المدينة التي خرجوا منها وما اسم الكهف الذي آووا إليه، ومن هو الملك الذي حاربهم وما اسم العملة التي كانت بحوزتهم، كل ما يركز عليه القرآن هو إيمان هؤلاء الفتية وتضحيتهم في سبيل هذا الإيمان والمحنة التي تعرضوا لها، بل إنه يذم في هذه القصة ذاتها انشغال الناس بالجدل في الأمور الثانوية مثل عدد أصحاب الكهف وينهى عن الجدل في ذلك لأن هذه التفاصيل ليست هي مراد القصة.
ونفس الشيء في قصة موسى وفتاه فهو لا يذكر لنا اسم الفتى ولا اسم العبد الصالح ولا اسم البحرين اللذين التقوا عند مجمعهما، ولا اسم القرية التي دخلوها، وكذلك في قصة ذي القرنين هذا الملك الذي جاب مشارق الأرض ومغاربها، ورغم ما يبدو من الأهمية التاريخية لهذا الملك وإنجازاته إلا أن القرآن لا يكشف لنا عن هويته، ولا عن الحقبة الزمنية التي عاش فيها ولا عن خط سير فتوحاته، بل إنه يحذف كل هذه التفاصيل ويركز على موطن العظة وهو الدور الأخلاقي المطلوب من القوة العظمى في الأرض بنشر العدالة ومكافأة الصالحين ومعاقبة المفسدين..
سارع بعض الجهلة إلى الزعم بأن هذا الخلو للقرآن من التفاصيل الظرفية يدل على فقر معرفي عند محمد، وأنه لو دعم القصص بالأسماء لكان ذلك أكثر مصداقيةً، والرد على هذه الدعوى هو بأن هذه الميزة ليست قاصرةً على جانب القصص التاريخي، بل هي بارزة أيضاً في أسلوب معالجة القرآن للأحداث المعاصرة لفترة تنزله على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الفترة التي لم يكن ينقص النبي معرفةً غيبيةً بها، ومع أن القرآن كان يغطي ثلاثاً وعشرين سنةً من الدعوة والأحداث الساخنة بين محمد صلى الله عليه وسلم وقريش إلا أنك بالكاد تلمس تعبيراً صريحاً يكشف بأن هذه الآيات تقصد أحداث فترة النبوة، ففي كل القرآن لم يصرح باسم قريش إلا مرةً واحدةً في سياق بعيد عن المواجهة بينها وبين محمد وهو سياق نشاطها التجاري، أي أنه لم يصرح باسمها ولا مرة في حديثه عن المواجهة بينها وبين محمد، ومن بين كل رءوس الكفر الذين حاربوا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم لم يذكر إلا اسم أبي لهب، ولو كان القرآن من عند محمد لملأه بهجاء المكذبين له وتحديد أسمائهم لفضحهم.. وحتى لا يقال إن الهدف من إغفال ذكر قريش وصناديدها هو التقليل من شأنهم فإننا نجد نفس الشيء في الجهة المقابلة فالقرآن يخلو من ذكر أسماء الصحابة سوى موطن واحد يذكر فيه اسم زيد، وعدا ذلك لا نجد أي تصريح بأسماء أي من الصحابة الذين كان لهم ثقلهم الوازن طوال فترة تنزل القرآن، فرجل بثقل أبي بكر رضي الله عنه لا يذكر في القرآن ولا مرة وحين تتنزل آيات تتناول شأناً يكون لأبي بكر أو غيره من الصحابة علاقة به فإنه يلمح إليه تلميحاً مثل قوله تعالى "إذ يقول لصاحبه"، "ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى"، بل إن هذه الميزة طالت حتى محمداً ذاته وهو المخاطب الأول في القرآن الكريم ورغم ذلك لم تكن الآيات تأتي بصيغة القول (يا محمد) ، فهي إما أن تربط النداء بالوظيفة مثل قوله "يا أيها النبي"، "يا أيها الرسول"، أو أنها غالباً تذكر الأمر مباشرةً دون تحديد النبي بالاسم حتى تشمله وتشمل أمته من بعده.
هذا الخلو للقرآن الكريم من أسماء الأعلام استعاض عنه بالأسماء الموصولة ( الذي، التي، الذين) وهذه الأسماء الموصولة بالآلاف في القرآن ووجودها كما يذكر المفكر المغربي أبوزيد الإدريسي مؤشر على تركيز القرآن على الأفعال وليس على الأشخاص، فحين يسرق شخص اسمه خالد، وتراه فتقول رأيت خالداً فهذا يعني أن هوية الشخص هي موضع الاهتمام، لكن حين تقول رأيت (الذي سرق) فهذا يعني البعد عن الشخصنة، والاهتمام بالفعل مجرداً أياً كان الفاعل. ومشكلة القرآن لم تكن مع قريش من حيث أشخاصهم، ولكن مع كفرهم وتكذيبهم، وبذلك فإن أسلوب التجريد في القرآن يعني الابتعاد عن الشخصنة والتعامل مع الأفعال مجردةً فتدان هذه الأفعال لأنها خطأ بغض النظر عن شخص الفاعل..
أسلوب التجريد في القرآن الكريم هو الذي يؤهله للخلود وللعالمية فلو أنه كان كتاباً مستغرقاً في ذكر التفاصيل الظرفية لزمن نزوله لما وجدنا فيه اليوم ما يلبي حاجات عصرنا ويجيب على تحدياتها، وتصوروا لو أن القرآن اعتمد الأسلوب البشري المعهود في سرد القصص، وأسهب في وصف حياة البادية والخيام والجمال والخيول والسيوف وغير ذلك من المظاهر التي كانت تميز مرحلة تنزله وطالعه اليوم رجل عصري، إذاً لألقى به وقال: وما علاقتي بهذه القصص البالية التي حدثت قبل ألف وأربعمائة عام، وفي أحسن الأحوال كان سيتعامل معه على أنه أثر تاريخي يوثق فترةً زمانيةً من تاريخ البشرية، لكن أسلوب القرآن يبدو متعالياً على الظروف الزمانية والمكانية للمجتمع الذي تنزل فيه، ولا يبدو للبيئة التي جاء فيها أي أثر على أسلوبه.
بأسلوب التجريد تحول القرآن إلى ما يمكن تشبيهه بقالب تستطيع أن تملأه في كل مرحلة بما يلائمها من نماذج تطبيقية، فنفس الآيات التي نزلت تتحدث عن قريش تستطيع أن تسقطها في هذه المرحلة على أي قوم يسيرون على نفس طريقة قريش في الأفكار والأفعال دون أن تشعر إطلاقاً بأن هذه الآيات تتناول قريش..
وبذلك فإن إنسان هذا العصر حين يقرأ القرآن فسيشعر أنه يخاطبه مباشرةً، وأنه يتنزل لتوه عليه، لا أنه وثيقة تاريخية استنفدت فاعليتها، وسيجد لكل آية من آياته تطبيقاتها العملية المعاصرة، فهو سيرى في القرآن وصفاً عاماً للنفاق، ولن يرى استغراقاً في مهاجمة شخص ابن أبي سلول، وسيرى خصائص عامةً للظلم، وليس حديثاً خاصاً عن قوم من الأقوام. وسيكون بإمكان أي إنسان في أي زمان أو مكان أن يجد في بيئته نماذج تطبيقية جديدةً لهذه الأوصاف دون قصرها على نموذج واحد حدث في زمن النبي، وسيظل القرآن كتاباً حياً متجدداً..
إن اعتماد القرآن أسلوب التجريد والتعالي على التفاصيل الظرفية هو مصدر ثراء له.
لقد فهم علماء المسلمين من هذه الميزة القرآنية فوضعوا قاعدةً قالوا فيها إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أي أن علينا أن نتعامل مع الآيات بألفاظها العامة وكأنها تتنزل علينا، لا أن يقتصر فهمنا لها وكأنها تخص زمن نزولها وحسب، لكن واقع الحال هو أن بعض التفاسير تتعامل مع الآيات بخصوص السبب لا بعموم اللفظ فتستفيض هذه التفاسير في شرح ملابسات النزول على حساب المعاني العامة الثرية التي تحتويها الآية مما يرسخ الانفصال بيننا وبين القرآن، فتصير إسقاطاتنا الذهنية حين نسمع آيات القرآن متوجهةً إلى زمن النبي بدل أن تتوجه إلى واقعنا المعاصر اليوم وتكتشف ما فيه من عناصر تدخل في إطار المفاهيم العامة للآية، فإذا تلي علينا مثلاً قوله تعالى "إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر" استفضنا في الحديث عن غزوة الخندق وعن حصار المدينة ووصف الحال التي كان عليها النبي والصحابة في تلك اللحظات العصيبة.. وفهم أسباب النزول لا شك أنه يعين على فهم مقاصد الآيات..لكن الخطأ هو أن نظل في هذه الدائرة لا نتجاوزها فنفس الآية بألفاظها العامة المجردة تصلح لوصف مواطن كثيرة في حياتنا، وكل موقف يواجهنا في حياتنا تحيط فيه الشدائد بنا من كل جانب يصلح أن نسقط عليه هذه الآية ، وهذا المنهج هو الكفيل بأن يحيي فاعلية القرآن في حياتنا ويعمق صلته بواقعنا أن نتلو القرآن وكأنه يتنزل علينا..
تجد قوماً آخرين أوتوا الجدل فهم يشغلون أنفسهم فيما سكت الله عليه، ولو علم الله أن في معرفتنا به خيراً لذكره لنا فتجد كل انشغالهم بطرح سؤال من المقصود في هذه الآية، وما اسم القرية التي تعنيها تلك الآية، وما اسم العبد الصالح الذي قابله موسى، ومن هو ذو القرنين، ومن هو الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، ومن هي التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، ومن هو فتى موسى، وما اسم ابن نوح الذي آوى إلى الجبل، وما اسم الشجرة التي أكل منها آدم..هذه الأسئلة تكثر في المسابقات، وربما لجأ أحدهم إلى تأليف كتاب لحل ألغاز هذه الأسماء، وهم يظنون أن ذلك من علامات التقوى والاهتمام بكلام الله ولم يتفطنوا إلى أنهم يسيرون بذلك في الاتجاه المعاكس لمراد القرآن، فالقرآن تعمد إسقاط هذه التفاصيل ليبقي اهتمامنا منصباً على موطن الفعل والفاعلية، والمنهج الأقرب للصواب حين نقرأ هذه الآيات أن نفترض أنها تتناول نماذج موجودةً بيننا وأن نفتش في أنفسنا حتى لا يكون قد أصابنا نصيب من هذه الآيات ففي كل عصر هناك من يؤتيه الله آياته فينسلخ منها، وفي كل عصر هناك من ينقض غزله من بعد قوة أنكاثاً، وكل إنسان منا أمامه شجرة محرمة ينبغي أن يحذر من الاقتراب منها، والقرآن يحتوي على لغة ترميزية عميقة تتجاوز الفهم السطحي المحدود.
إن شرط الاستفادة من كنوز القرآن المذخورة هو أن نعيد تفعيل وظيفته الاجتماعية فنفهم آياته وأحكامه وأمثاله في ضوء واقعنا المعاصر وتطبيقاته المستجدة، لا أن نبالغ في الاهتمام بأسباب النزول ونغفل عموم الألفاظ وإطلاقها، فهذا من اتخاذ القرآن مهجوراً أن يكون نصيبنا منه هو ترديد أحرفه وآياته وحسب دون أن نتنبه إلى أن الوحي متجدد وأنه يتنزل علينا لتوه لتكون له كلمته في مشكلاتنا المتجددة..
"أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً".
*******