كلمة الوجود المتداولة في حياتنا
اليومية تحمل معنيين: الأول يشير إلى هذا العالم الممتد الذي نعيش فيه مدركين انفصالنا اللحظي عنه، والذي نتفاعل معه
مؤثرين ومتأثرين منذ لحظة التخلق الجنيني إلى لحظة الموت، والمعنى الثاني هو
المصدر من الفعل "وَجَدَ" بمعنى الصيرورة والتشكل والكينونة لأشياء والأفكار سواء في
الذهن أو في الواقع. والوجود بهاذين المعنيين من أبسط المفاهيم وأكثرها وضوحا كما يرى المعنى ابن سينا
الفيلسوف[1]، ولا تحتاج إلى مزيد تعريف وتوضيح، إذ يعرف نفسه بنفسه. ولكنه لا يبدو
كذلك عندما يتوغل فيه الفيلسوف، لاهثا وراء أسئلته التي لا تنتهي، محاولا تجميع
أطراف الخيوط المتبعثرة حول طبيعته وماهيته ومراتبه وأحواله وتفرعات مسائله
الكثيرة. ولما كانت الفلسفة هنا مجرد أداة لما هو أهم وأبعد وهو الوصول إلى حقيقة
الوجود وماهيته وعلاقة الإنسان به، فإنه لا غنى لأي باحث عنها بأي حال من الأحوال،
ومهما اختلفت آراء الفلاسفة حول الوجود فإنه لا يُنظر إلى اختلاف الفلاسفة فيما
يتفلسفون فيه كنوع من التناقض والتضارب بقدر ما يكون عملهم ونتاجهم يكمل بعضه
بعضا، حيث تختلف زوايا النظر للموضوع الواحد، وما يهتم الواحد منهم فيه أكثر من
غيره، كما لا يُطرح السؤال أيهم صاحب الفلسفة الصحيحة، إذ أن مباحثهم ونظرياتهم
عبارة عن رؤى ووجهات نظر تُقيّم بقدرتها على الإقناع. يقسم كانط الفلسفة إلى أربعة
تساؤلات كبرى: ما نستطيع معرفته، وما يجب أن نفعله، وما يسمح لنا أن نأمله وأخيرا
ما هو الإنسان؟ ويتولد من السؤال الأول علم ما بعد الطبيعة (الميتافيزيقا) بفرعيه:
الثيولوجيا (الإلهيات) والأنطولوجيا (علم الوجود أو علم المعرفة العامة)، ومن
الثاني فلسفة الأخلاق والفلسفة السياسية، ومن الثالث فلسفة الدين والجمال والفن،
ومن الرابع علوم الإنسان (الأنثروبولوجيا)[2]. إن مبحث الوجود ينتمي إلى السؤال
الأول وفق تقسيمة كانط الآنفة الذكر، فهو البحث فيما وراء الطبيعة لمحاولة فهم هذا
الوجود. ومبحث الوجود هو الفلسفة الأولى لدى أرسطو، ولا يكاد توجد فلسفة إلا
وتناولت مبحث الوجود وقدمت الرؤى والتصورات حول المسائل التي يعالجها، لهذا
فالاختلافات شديدة ومتباينة بين الفلاسفة حول الوجود، فاختلفوا حول معنى الوجود
وفيم إذا كان الوجود هو حقيقة الأشياء وماهيتها المتحققة في الواقع أو الذهن، أم
هو خاصية لاحقة لها ومنفصلة عنها. كما اختلفوا فيم إذا كان الوجود متغير ومتبدل
ويتخلله اللاشيء أم أنه كلٌّ ثابت وساكن وسرمدي لا يخلو منه شيء. ثم أنهم اختلفوا
في مسألة الوجود بالقوة والوجود بالفعل، وهل يمكن للأشياء أن ترتقي أو تتنقل
بينهما. واختلفوا في الفرق بين واجب الوجود وممكن الوجود، وفي الفرق بين الجوهر
والعرض، وفي الفرق بين الوجود والكون، وفي الفرق بين الوجود والعدم، وفي طبيعة
الوجود فيم إذا كان واحدا أم ثنائيا أم متعددا. وأثاروا فوق كل ذلك مسائل أخرى
كمراتب الوجود وأحوال الوجود. وبالنسبة للفلسفة الحديثة والمعاصرة فالاختلافات
تنحى منحى آخر، وتتجه إلى التركيز على معرفة علاقة الإنسان بالوجود أكثر من الوجود
نفسه. وما يمكننا الخروج به من كل ذلك الجدل هنا هو أن الوجود ينقسم إلى وجود مطلق
ووجود متعين، والوجود المطلق هو أكثر التصورات تجريدا، فهو أظهر من كل ظاهر وأخفى
من كل خفي كما عند أبو البركات البغدادي[3]، وهو الحد المتعالي عن كل الحدود
والمتسامي عن الأجناس والأنواع والاشتراك مع الموجودات. وهو بهذه الخصائص لا ماهية
له، إذا لا يُتعرف عليه إلا بآنيته التي تظهر لنا جليا نتيجة تغيرنا فيه عبر
حركتنا في الزمن. وانقسم الفلاسفة في الوجود المطلق بين مؤكد له كأفلاطون
والفلاسفة العرب وديكارت والتيار المثالي في الفلسفة المعاصرة، وبين فلاسفة آخرين
ألغو الوجود المطلق واعتبروا أن الوجود فقط هو الوجود المتعين كما عند فلاسفة
الوضعية المنطقية والفلاسفة التحليليين والماديين
والتجريبيين عموما. وأما الوجود المتعين فهو إما أن يكون وجودا بالموضوع يشمل
الأشياء الخارجية المتغيرة ضمن الزمان والمكان من كائنات في الواقع أو أفكار في
الذهن، وهي تحيل بعضها إلى بعض إذ لا تدرك ذاتها بذاتها، وإما ان يكون وجودا
بالذات ويشمل الذوات الواعية التي تدرك نفسها بنفسها ولا تحتاج إلى شيء من خارجها
لتدرك وجودها وتتسم بالحضور والحيوية الوجودية[4]. بعيدا عن الفلسفة؛ يمكننا القول
إن الوجود هو الشعور الداخلي والإحساس المتولد كنتاج لتفاعل الإنسان مع هذا الكون،
بحيث أن هذا الاتصال المتبادل بيننا كبشر وبين عناصر وأجزاء الكون هو ما يكسب
الوجود معنى الوجود. فالوجود ما هو إلا الترجمة التي تنطبع في أذهاننا عن الكون،
وسواء انفصل الوجود واستقل عن معرفتنا به أم لم ينفصل، فإنه يبقى بلا معنى ولا
أهمية بالنسبة لنا كبشر إلا بإدراكنا له، فالإنسان بذلك هو محور الوجود ما دام هو
المتفرد في الإحساس بالوجود. وهذا لا ينفي أن يكون هناك كائنات من نوع آخر قد
تمتلك حظ الإنسان من الإدراك، ولكن سيكون لها وجودها الخاص بها الذي هو مجرد افتراض
بالنسبة لنا، إلى هنا نحتاج أن نتوقف عن المحاولة في معرفة ماهية الوجود وننطلق
نحو معرفة ودراسة الموجودات إذ هي الأهم بالنسبة لنا، وكما يقول مارتن هايدجر:
"الوجود هو في كل مرة وجود الموجود"[5]. أي أننا ننطلق نحو الفيزياء
متسلحين برؤية معينة لما وراء الفيزياء. ويمكن أن ألخص الرؤية التي أتوقع أن تكون
كافية لمسألة الوجود في ثلاث نقاط هي: الأولى أن مسألة الوجود من المسائل القديمة
للميتافيزيقا والتي أنتجت الفلسفات الخالدة التي نسمع عنها، وهي غير قابلة للحسم
بالنظر إلى تعصي تعريف الوجود على الجميع، فالاطمئنان إلى تعريف محدد وتصور نهائي
للمسألة يكون أقرب إلى الانتحار العقلي، فلم يزعم ذلك أحد من الفلاسفة والعلماء
على مر التاريخ. والنقطة الثانية أن الميتافيزيقا لا يقصد بها الغيب أو الأساطير
والخوارق، بل هي القضايا التي تتناولها الفلسفة ولا يستطيع العلم تناولها، والتي
تبحث في المسائل السابقة للعلم والمعرفة، وبالتالي فإن إجاباتها ذات طابع وجودي
عام وتكون على شكل رؤى ونظريات يتم تقديرها وتقييمها بقدرتها على الإقناع وليس
بالتجارب الحسية. والنقطة الثالثة أن الموجودات هي التجلي المتعين للوجود، فأي بحث
ودراسة وتأمل للوجود سيتجه تلقائيا إلى الموجودات لأنها هي القابلة لأن تخضع
للمعالجات العقلية، فالموجود في الفلسفات المعاصرة هو نقطة الانطلاق سواء للفلسفة
أو للعلم. إن الأنطولوجيا وهي علم الوجود تعني تحديدا المعرفة العامة والسابقة على
أي موجود[6]. فإذا كان علم الإلهيات كفرع من الميتافيزيقا يتعلق بمبحث وجود الله،
فإن الأنطولوجيا وهي الفرع اﻵخر للميتافيزيقا تتعلق بالمعارف العامة الأخرى
للميتافيزيقا، وهي بذلك تكون من العلوم القديمة قدم تاريخ الفلسفة، والمسار الطويل
الذي عبرته خلال هذا التاريخ لم يغير من جوهرها إلى اليوم كونها بحثا ميتافيزيقيا،
غير أن الاختلاف الذي جرى هو مجال اهتمامها، فإذا كانت أنطولوجيا أرسطو تعلقت
بماهية الوجود فإن أنطولوجيا كانط اهتمت بعلاقة الموجود بالوجود، وأنطولوجيا
هايدجر نست الوجود، وصولا إلى الأنطولوجيا المعاصرة التي أصبحت تهتم باللغة
والتقنية. ولا شك أنه لا يمكننا الرجوع إلى المباحث القديمة للأنطولوجيا وخصوصا
نحن نعيش عصر الثورة المعلوماتية، حيث تغيرت المفاهيم بشكل كبير وأصبحنا نسمع عن
الآلة البيولوجية والجينوم ونظرية القوى الموحدة، فهناك ضغط كبير على الفلسفة
لتتحول إلى علم تطبيقي مثلها مثل بقية العلوم، ومن هنا فيجب ألا يخرج اهتمامنا
الأزلي بالوجود عن سياق العصر الذي يتجه بقوة نحو أنسنة الوجود، لتصبح الأنطولوجيا
هي كل نشاط الإنسان، بل يصبح كل الإنسان هو أنطولوجيا[7].
محمد العجمي
الهوامش:
[1] الموسوعة العربية مجلد 22 باب الوجود.
[2] معجم مصطلحات الفلسفة – باب الفلسفة ص 337
3 موسوعة الفلسفة لعبد الرحمن بدوي
– مادة الوجود
[4] الزمان الوجودي – عبد الرحمن
بدوي ص35
[5] جمال سليمان – مارتن هايدجر
الوجود والموجود. ص206
[6] مراد وهبة -المعجم الفلسفي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق