تعتبر مسألة الإرادة الإنسانية و علاقتها بالفعل الإنساني من أبرز القضايا التي أثارت اهتمام الفكر الإسلامي فتناولها في إطار علاقتها بالذات الإلهية، وترتب عن هذا انقسام المفكرين إلى مدارس، و ارتبط البحث في مسألة الحرية الإنسانية بجانبين:
*جانب ذاتي يتمثل في شعور الإنسان بأن له إرادة حرة في اختيار الفعل و القدرة على تحصيله.
*جانب خارجي يتمثل في مضمون النص الديني(القرآن و السنة) و ما يشير إليه من دلالات تبدو متعارضة تفيد الجبر مرة و الحرية أخرى، من أجل هذا انقسم المسلمون في فهمهم للمسألة. و قد تنبه إلى هذا ابن رشد بقوله "هذه مسألة من أعوص السائل الشرعية و ذلك أنه إذا تأملت دلائل السمع في ذلك وجدت متعارضة، و كذلك حجج العقول. أما تعارض أدلة السمع في ذلك فموجودة في الكتاب و السنة. أما في الكتاب فإنه تلق فيه آيات كثيرة تدل على أن للإنسان اكتسابا في فعله، وأنه ليس مجبورا على أفعاله... و لهذا افترق المسلمون في هذا المعنى إلى فريقين فرقة اعتقدت أن اكتساب الإنسان هو المسبب للمعصية و الحسنة... و هم المعتزلة وفرقة اعتقدت نقيض هذا وقالت إن الإنسان مجبور على أفعاله و مقهور و هم المجبرة"
إن إحساسنا بكوننا أحرارا في اختيار الفعل و قادرين عليه يجد ما يؤكده من النص الديني مرة مثل قوله تعالى"كل نفس بما كسبت رهينة[1]" و قوله تعالى"و أما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى عن الهدى[2]
و ما يتعارض مع الإحساس بالحرية مرة أخرى كقوله تعالى"إنا كل شيء خلقناه بقدر[3]" و قال جل جلاله " ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب"[4]
نفهم من قولة ابن رشد هذه أن مسألة البحث في الحرية و علاقتها بالمسؤولية تعود في نشأتها إلى طبيعة النص القرآني. وبهذا تكون الأسباب الداعية إلى البحث في المسألة تعود إلى طبيعة البيئة الإسلامية في فهم النص الديني. وقد أكد هذا الاتجاه المستشرق الإيطالي كرلد الفونسو1872
1938الذي تراجع في حكمه فبعد أن أرجع سبب ظهور المسألة في الفكر الإسلامي إلى تأثره بالفكر اللاهوتي المسيحي حين قال"بعض المتكلمين قد بدؤوا تحت تأثير اللاهوت المسيحي في الشرق بطريقة غير مباشرة يبحثون هذا القدر و يحاولون أن يفسروه بمعنى يوافق اختيار الإنسان و حريته في أفعاله حتى يمكن تبرير وجود الثواب و العقاب في الدار الآخرة تبريرا تاما."
بعد هذا الحكم تراجع ليؤكد أن المسالة نشأت مرتبطة بالنص القرآني قال:"إن المسائل الكلامية في القرنين الأول و الثاني للهجرة نشأت كلها تقريبا عن اختلاف في تفسير عبارات و ألفاظ وردت في القرآن و من هذه الألفاظ القرآنية اشتقت المصطلحات الفنية المتعلقة بهذه المسائل و لفظ قدر ذو أصل قرآني واضح لا سبيل لنكرانه ".
إلى جانب هذا الاتجاه الذي أرجع البحث في القدر عند المسلمين إلى رغبتهم في فهم النّص القرآني أولا وهو الاتجاه الذي يبدو أكثر موضوعية لأنّ المسألة ظهرت عند المسلمين قبل احتكاكهم بالثقافات الأخرى. وجد اتجاه آخر ربط المسألة بتأثّر المسلمين بالفكر اللاهوتي المسيحي، ومن الذين روّجوا إلى هذا الرّأي نجد توماس أرنو لد الذي يقول : "من المحتمل أن تكون القدرية أو القائلون بالإرادة الحرّة من المسلمين قد استعاروا نظريتهم في حريّة الإنسان من المسيحية مباشرة".
إنّ اختلاف وجهات نظر المتكلّمين في مسألة حرية الإرادة عند الإنسان كان منطلقه الأساسي فهم النّص الديني وربطه الإرادة بالإلهية التامة هذا ما أدى إلى ظهور مدارس كلاميّة متباينة في فهم نسبة الفعل إلى الفاعل من أهمّها:
v مدرسة المجبرة
v مدرسة الاعتزال
v المدرسة الأشعرية
ثم حاول التوفيق بينها جميعا الفيلسوف ابن رشد.
I. الحرية والمسؤولية عند المجبرة:
نسب القول بالجبر إلى الجهم بن صفوان مؤسس فرقة الجهمية المدافعة عن القول بالجبر الخالص، وقد تبنّت الدولة الأموية عقيدة الجبر ودافعت عنها رغم ما ارتبط بها من انحرافات سلوكية وتحميل تبعاتها إلى اللّه تعالى.
يتخلص رأي هذه المدرسة في مسألة الفعل الإنساني، في قولها بنفي الإرادة الحرة والقدرة الفاعلة عن الإنسان، وإن الأفعال تنسب إليه عن طريق المجاز لا الحقيقة كما تنسب إلى الجمادات لأنّ الفاعل الحقيقي هو اللّه وحده دون سواه. يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: "قالت المجبرة في الإرادة أنّها من صفات الذات وأنّه تعالى لم يزل مريدا لكل ما يكون من فعله وفعل غيره".
تمسك المجبرة بنفي الإرادة الفاعلة عن الإنسان من أجل المبالغة في تقديس الذات الإلهية و قد أدى إصرارهم هذا إلى تقليص فكرهم. قال جمال الدين الأفغاني" كان بين المسلمين طائفة تسمى بالجبرية ذهبت إلى أن الإنسان مضطر في جميع أفعاله اضطرارا لا يشوبه اختيار، وزعمت أن لا فرق بين أن يحرك الشخص فكه للأكل و المضغ وبين أن يتحرك يقفقفه البرد عند شدته و مذهب هذه الطائفة يعده المسلمون من منازع السفسطة الفاسدة و قد انقرض هذا المذهب في أواخر القرن الرابع من الهجرة، ولم يبق لهم أثر[5]. تعرض هذا المذهب إلى النقد من طرف خصومه لتعارضه مع المقصد الديني المؤكد على أهمية التكليف و الجزاء و بهذا نزلت الشرائع. وظهر مقابل هذا الاتجاه مدرسة المعتزلة المدافعة عن حرية الإرادة الإنسانية وتأكيد المسؤولية على المكلف.
II. مدرسة المعتزلة و القول بالحرية:
ربط المعتزلة مسألة أفعال العباد بأحد أصولهم الخمسة الذي به اشتهروا فسموا بأهل العدل. يقول محقق كتاب الانتصار :"أمّا الأصل الثاني – العدل – فهو بلا شكّ موضوع للرّد على المجبرة وبعض من قالوا بوقوع الظلم من الله تعالى من الرافضة ، وكانت المجبرة قد قويت ونمت في ذلك الزمان ، وظهر على رأسهم جهم ابن صفوان الذي أقدم على ما لا يطاق من القول بالجبر وغالى فيه مغالاة لم يسبقه إليها أحد ، وثبت بالتاريخ أن المعتزلة القديمة ناظرت الجهمية[6] ".
دافع المعتزلة عن مبدأ العدل الإلهي منطلقين من أصل الشّرع فاللّه كلّف عباده وأنزل عليهم الشرائع ووعد بالحساب والجزاء. وهذا كلّه لا ينسجم مع القول بالجبر. لأنّه تعالى متصف بالعدل لا يثيب أو يعاقب على ما أكره عليه عباده، وعلى هذا الأساس لا بدّ من القول بحرية الإنسان في إتيان أعماله. فلو كانت الأفعال منه تعالى لبطل التكليف والجزاء.
يقول ابن حزم:"قالوا - المعتزلة - وجدنا من فعل الجور في الشاهد كان جائرا ، ومن فعل الظلم فهو ظالما، ومن أعان فاعلا على فعله ثم عاقبه عليه كان جائرا عابثا ، والعدل من صفات اللّه، والظلم والجور منفيان عنه[7]، قال تعالى :"وَمَا رَبُّكَ ِبظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ[8]". "وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[9]".
إن دفاع المعتزلة في القول بحرية الإنسان المكلف دفعهم إلى تأويل النّصوص التي ظاهرها الجبر تأكيدا للعدل الإلهي. وللتمييز بين ما يتصل بالإرادة الإنسانية، وما يتجاوز حدودها، قسم المعتزلة الأفعال إلى قسمين: أفعال إرادية و أخرى لا إرادية. يقول القاضي عبد الجبار هنا " إنّ الغرض من القول بخلق الأفعال هو الكلام في أنّ أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنّهم محدثون لها والذي يدل على ذلك أن نفصل بين المحسن والمسيء على إساءته ولا تجوز هذه الطريقة في حسن الوجه وقبحه ولا في طول القامة وقصرها حتى لا يحسن منا أن نقول للطويل لما طالت قامتك ولا للقصير لم قصرت[10] ؟" استدل المعتزلة على القول بنسبة الأعمال الإرادية إلى الإنسان وأنه فاعل لها على وجه الحقيقة بأصل العدل الإلهي الذي يقتضي أن لا يظلم اللّه العباد بدفعهم إلى الفعل ثمّ يعاقبهم عليه. وقدّموا مجموعة من الأدلّة النّصية مثل قوله تعالى :"فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرَ[11]" وقوله تعالى "وَ مَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ". واستنتجوا من عموم النّص القرآني أنّ القول بالجبر يتعارض مع مقاصد الدين المؤسسة على احترام الإنسان وتكليفه وابتلائه على ما التزم به من مهمة الاستخلاف.
إنّ أصل المسؤولية عند المعتزلة أن الإنسان لا يسأل إلاّ عمّا كان صادرا عنه وفي حدود إرادته واختياره وبما أنّه تعالى عدل في فعله حكيم في قراره لا يجوز أن تصدر عنه المظالم. وللتمييز بين الفعل الإرادي والفعل الاضطراري : أن كل فعل استطاع الإنسان أن يلوم نفسه عليه فهو من فعله وما لم يستطع اللّوم عليه فهو من اللّه . ومن هنا فالفواحش والمظالم لا يمكن أن تكون من اللّه للومنا فاعلها عليها، ولتتحقق الغاية من الدين وبعثة الرسل.
إنّ القول بنسبة الفعل الإرادي إلى الإنسان الفاعل وإثبات الإرادة الحرّة عنده أدى بالمعتزلة إلى تأويل النصوص. القرآنية التي تحمل في ظاهرها الجبر مثلا: قوله تعالى:"وَلَقَدْ ذرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ[12]". بمعنى أنّ اللّه علم بما سيكون عليه من الأحوال فأخبر تعالى عمّا سيكون منهم وفصّل هذا آخر الآية "لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنُ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَ لَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ." و قوله تعالى "و الله خلقكم و ما تعلمون" بمعنى أن الله خلقكم و خلق ما تعملونه أي خلق الأصنام التي تنحتونها كما تأولوا المشيئة في الآيات القرآنية بأن الله تعالى لا يشاء إلا ما شاءه الإنسان حتى يقيم عليه الحجة وفي قوله تعالى " يضل من يشاء ويهدي من يشاء[13]" بمعنى أن الله تعالى يحكم عليهم بالضلال فسمّاهم به لأنهم أحبوه فشاءه لهم بعد مشيئتهم له حتى لا يلزمهم بما لا يريدون[14].
. هذا مجمل تصور المعتزلة لمسألة الحرية و المسؤولية، فكل إنسان توفرت فيه شروط التكليف من عقل و قدرة و بلوغ فهو فاعل لما صدر عنه عن طريق الإرادة الحرة الفاعلة و من هنا فهو مسؤول عن كل أفعاله و أعماله ما لم تتوفر الموانع الدالة على عدم التكليف.
III. مدرسة الأشعرية و موقفها من الحرية و المسؤولية:
ربط الأشعري مسألة الحرية الإنسانية بالإرادة الإلهية المطلقة و بما أن الله هو الخالق و المسير و المهيمن فهو المتصرف في كل شيء و لا يحدث في عالمه ما هو خارج عن إرادته وقدرته. فالله الخالق للإنسان والخالق لقدرته و إرادته و الخالق للفعل ساعة حدوثه، و بهذا لم يبق للإنسان إلا كسب الفعل. ركز الأشعري نظرته إلى أفعال العباد على موقف أهل السنة و الجماعة الذي عبر عنه الشيخ أبو الحسن البصري في رسالته لعبد الملك بن مروان عندما سأله عن موقف السلف في نسبة الأعمال إلى العباد قال" إنه تعالى ليس بظلام العبيد و لم يكن أحد ممن مضى من السلف ينكر هذا القول و لا يجادل فيه لأنهم كانوا فيه على أمر واحد متفقين و إنما أحدثنا الكلام فيه حين أحدث النّاس الفكرة له(بمعنى تنكروا لموقف السّلف) و ارتكبوا الأهوية المضلة و الذنوب الموبقة وحرفوا كتاب الله تعالى[15]" ثم يبين أبو الحسن أنّ الله تعالى لا يحدث أمرا يتعلق بالعباد إلا استنادا إلى موقف منهم يقول " إنّ الله لم يكن مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم فكان بدء النعمة من الله و كان التغيير من العباد[16]."
وبعد عرض نصوص من الكتاب و السنة تقيد حرية العبد في إتيان أعماله مثل قوله تعالى "فمن شاء منكم أنّ يتقدّم أو يتأخر[17]" قال الأشعري المقصود بـ "ذلك أن الله قد جعل فيهم من القدرة ما يتقدمون بها و يتأخرون ليستحق المحسن الجنة و يستحق المسيء النار[18]"
إنّ مجمل ما عبر عنه شيخ أهل السنة و الجماعة هو أنّ الله محيط بكل شيء مع تحمل الإنسان مسؤولية عمله داخل الإرادة التامة و الشاملة. ولتوضيح هذه الفكرة سعى الأشعري إلى معالجة مشكل الخلاف بين المجبرة و المعتزلة و قال بأنّ الأفعال مخلوقة من الله تعالى و ليس للإنسان إلا التفكير و الإرادة و الحركة و سمى هذا كسبا. فالكسب هو تعلق القدرة الحادثة بالمقدور في محلها من غير تأثير. وهذا يعني أنّ الإنسان المخلوق و بالقدرة المخلوقة فيه ليس له فعل مؤثر في الموجودات لأن الفعل و الفاعل و الأداة المنفذة و القدرة المستطيعة كلها من الله تعالى. فالأفعال تنسب إلى الله تعالى خلقا و إبداعا و تنسب للإنسان كسبا و وقوعا. فالعبد له مجرد الرغبة في الفعل و السعي إليه، و الله تعالى هو الموجد له.
إنّ هذه المدرسة كانت محل نقد من طرف المعتزلة و ابن رشد الذي ارجع رأي الأشعري الأستاذ إلى مدرسة الجبر إلا إنّ مجبرة الجهم اتسمت بالغلوّ بحيث نفت عن الإنسان حتّى الرغبة أو السعي لأن عمله ينسب إليه مجازا لا حقيقة كالجمادات. أما الأشعري فكانت جبريته أقل غلوّا لاعترافه بقليل من الحرية عند الإنسان المعبّر عنها بنظرية الكسب (الرغبة و التوجه لإتيان الفعل)
يقول ابن رشد هنا " أما الأشاعرة فقد راموا أنّ يأتوا بقول وسط بين القولين فقالوا أنّ للإنسان كسبا و أنّ المكتسب به و الكسب مخلوقان لله تعالى[19]."
لقد حرص الأشعري من خلال قوله بالكسب على أمرين أساسيين:
1. الاعتراف بأن الله تعالى هو الخالق لكل شيء.
2. تأكيد ما يشعر به الإنسان من أنّه يمتلك إرادة و قدرة على إتيان الفعل باختياره.
إنّ نظرية الكسب التي جاء بها الأشعري التي جاء بها الأشعري تتلخص في أنّ الله تعالى هو الخالق و حده للإنسان و للفعل و للقدرة الفاعلة و ليس للإنسان إلا التوجه لكسب الفعل.
إنّ رأي الأشعري لم يقدم الدليل العقلي المنطقي للإقناع بنظريته لهذا حرص تلاميذه على معالجة القضية بنسبة الفعل الواحد إلى فاعلين ( الله و الإنسان) مثل الماتريدي و الإيجي و الغزالي و الرازي، وقالوا بوجود قدرتين للفعل الواحد: قدرة من الإنسان مُسَيَّرة و أخرى من الله تعالى مُيُّسرة. و الفعل لا يتم إلا بهما معا و بهذا فكوّا الخصومة بين المدرستين ( القائلة بالجبر الخالص، والثانية القائلة بالحرية التامة للإنسان و ضمنوا القول بالإرادتين الإرادة التكليفية و الإرادة الكونية) فالإنسان يتحمل مسؤولية فعله لأنه كان طرفا في الفعل. أما الطرف الثاني فهو الإرادة الإلهية الميسرة فلا تلزم الفاعل بفعله بل فقط تهيء له الأسباب لينجز عمله الذي اختاره و شاءه.
ولتقريب صورة الفعل الحاصل بالإرادتين الأولى من الإنسان والثانية من اللّه قالوا :إنّ العاقل قادر على التمييز بين ما هو من مقدوره وما يتجاوز مقدوره ويدرك الفرق بين ما هو بإرادته وما يتجاوزها كالألوان والصفات".
إنّ القول بوجود فاعلين للفعل الواحد (الإنسان يأتي الفعل بقصده والسعي إليه واللّه يهيء الأسباب الخارجية ليقع الفعل) وبهذا كان الفعل بإرادتين إرادة مسيّرة من الإنسان وإرادة ميسّرة من اللّه.
إنّ هذا القول طوّره ابن رشد وأظفى عليه طابعا فلسفيا جعل فيه الإنسان يتصرف بحرية في حدود الإرادة الكونية التّامة والكاملة وعبّر عن هذا بقانون السببية.
IV- ابن رشد والحريّة الإنسانية:
نظر ابن رشد إلى مسألة الإرادة الإنسانية وعلاقتها بالفعل في ظلّ الفكر الكلامي فوجدها من أعوص المسائل الدينية لما ترتب عنها من انقسام فكري أدى إلى ظهور مدارس كلامية من أهمها.
ü مدرسة الجهم ابن صفوان القائلة بالجبر المطلق.
ü مدرسة الإعتزال القائلة بالإرادة الحرّة عند الإنسان.
ü مدرسة الأشعرية التي حاولت التوفيق بين الجبر والإختيار.
ودقّق في الأسباب الداعية إلى الاختلاف فوجدها شرعية تتمثل في فهم النّص وعقلية تتجلى في فهم علاقة الفعل الإنساني بالفعل الإلهي.
قال :"هذه المسألة من أعوص المسائل الشرعية وذلك أنّه إذا تُؤُمِّلَت دلائل السّمع في ذلك وجدت متعارضة وكذلك حجج العقل ... فهذا هو أحد أسباب الاختلاف في هذه المسألة وللاختلاف كما قلنا سبب آخر سوى السمع وهو تعارض الأدلة العقلية في هذه المسألة وذلك أنّه إذا فرضنا أنّ الإنسان موجد لأفعاله وخالق لها وجب أن يكون ههنا أفعال ليس تجرى على مشيئة اللّه تعالى ولا اختباره فيكون ههنا خالق غير اللّه[20]." ثمّ تابع افتراضاته مبينا أنّه إذا افترضنا أن الإنسان غير مكتسب لأفعاله وجب أن يكون مجبورا، والمجبور غير مكلّف ، وبهذا لا توسط بين الجبر والاكتساب، فالجبر يعني أن اللّه كلّف عبده بما لا يطاق وسأله عنه وهذا أصل الظلم لأنّه لا بدّ أن نأخذ في اعتبارنا أنّه ليس للإنسان فيما لا يطيق استطاعة و" الإستطاعة عند جمهور المسلمين شرطا وفي صحّة التكليف كالعقل سواء بسواء[21]."
وبعد وضع المسألة في إطارها الطبيعي من حيث أنّها ليست من الأمر الهين وأن القول بنفي الإستطاعة يؤدي إلى الجبر المطلق والجبر لا ينسجم مع التكليف لأنّ الإرادة إن لم تكن مؤثرة فهي ليست مسؤولة. بعد هذا رجع لشرح القضيّة من منظوره الفلسفي.
إنّ القول بأن الإنسان مريد للفعل وقادر عليه يعني أنّه حر، والحر هو من يصح منه الفعل وعدم الفعل وفق مراده من هنا: فمن شاء المشي قدر عليه، ومن لم يشأه قدر عليه هذا فيما يتصل بالإنسان المكلف والمسؤول أمّا الجمادات فهي لا تملك حرية الفعل والترك بل الأفعال متصلة بخصائصها.
فالنار مثلا تصدر عنها الحرارة ويحصل التسخين فهو متصل بها لخصائصها الضرورية فهي لا تملك منع صدور الحرارة عنها و حصول التسخين إلاّ بتدخل العناية الإلهية مثل نار إبراهيم قال تعالى:"قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[22]".
إن الإرادة الحرّة عند ابن رشد تعني ضمان حق اختيار الفعل وفق المشيئة، وعلى هذا الأساس تكون الإرادة هي رغبة باستطاعتها إمكان فعل أحد المتقابلين على السواء.
وفي ربط الفعل بالجزاء يرى ابن رشد أنّ ربط الفعل بفاعله هو المحدّد لاستحقاق الجزاء ونفي الكسب عن الإنسان يؤدي إلى نفي التّكليف لأنّه لا يعقل محاسبة العبد على فعل لم يصدر عنه بإرادته وقدرته واختياره ومحاسبة الإنسان عن أفعال خارجة عن إرادته هو ظلم، واللّه لا يظلم عباده. بهذا فلا تكليف إلاّ إذا وجدت صلة بين الفعل والفاعل.
وبعد تحديد معنى الإرادة الفاعلة والمسؤولة رجع لمعالجة مسألة الخلاف. يقول :"إذا كان هناك تعارض فكيف نجمع بين هذا التعارض الذي يوجد في المسموع نفسه وفي المعقول؟ إنّ الظاهر من مقصود الشارع ليس تفريق الاعتقادين وإنّما القصد هو الجمع بينهما على التوسط بشرط أن يكون حقّا[23]".
إنّ التوسط الذي سعى ابن رشد إلى تحقيقه يتمثل في كيفية الخروج بحل معتدل يكون فيه الفعل من الإنسان، وفي حدود الإرادة الإلهية، وقد عبّر عن هذا تلاميذ الأشعري بتقسيمهم الإرادة الفاعلة في الفعل الواحد إلى إرادتين إرادة من الإنسان سمّوها الإرادة المسيّرة والثانية من اللّه وسموها الميسّرة. وابن رشد أيضا يرى أن اللّه خلق الإنسان ومنحه مؤهلات وقوى يستطيع بها اكتساب الأشياء لكن الاكتساب لا يتم إلاّ بمواتاة الأسباب الخارجية التي سخّرها اللّه لنا وبزوال العوائق تتم الأعمال المنسوبة إلينا بالأمرين معا فالأفعال تحصل بكسبنا وبموافقة الأشياء الخارجية المعبّرة عنها بقدر اللّه. فإرادة اللّه المعبّر عنها بالأسباب الخارجيّة المحيطة بنا هي المتحكمة في حصول الفعل وانعدامه وهي السّبب كذلك في أن نريد الفعل أو لا نريده.
يقول في هذا الغرض :"يظهر أنّ الله تبارك و تعالى قد خلق لنا قوى نقدر بها أن ّ نكتسب بها أشياء هي أضداد لكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء ليس يتم لنا إلا بمواتاة الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج و زوال العوائق عنها كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعا[24]."
أرجع ابن رشد كما تقدم الأفعال إلى سببين:
* سبب من الإنسان يتمثل في امتلاكه للقدرة الفاعلة و الإرادة الحرة.
* سبب من الله تعالى يتمثل في تهيئة الظروف و الأسباب المحيطة بالشخص الفاعل أو بالفعل المراد و عندما تتلاءم جميعها يتم الفعل. بهذا لا تتم الأفعال إلا بموافقة الأسباب و القوانين الموجهة من الله تعالى. وبهذا فجميع الأفعال خاضعة لقانون القضاء و القدر وهو النظام الكوني الذي تتحرك في ظله جميع الأفعال، و هو المعروف باللوح المحفوظ و العلم الإلهي.
يقول ابن رشد:"و كانت إرادتنا و أفعالنا لا تتم و لا توجد بالجملة إلا بموافقة الأسباب التي من الخارج فواجب أنّ تكون أفعالنا تجري على نظام محدد أعني أنها توجد في أوقات محددة و مقدار محدد... و النظام المحدد الذي في الأسباب الداخلية و الخارجية هو القضاء و القدر الذي كتبه الله تعالى على عباده و هو اللوح المحفوظ[25]."
إنّ ابن رشد و إنّ ربط بين الأسباب الداخلية و هي مخلوقة من الله تعالى في الإنسان و هي المؤهلات المسيرة فيه كالعقل و الإرادة و القدرة. الأسباب الخارجية وهي القوانين المحيطة بنا والمتحكمة في سيرنا و إنّ لم نتفطن إليها لأنّه كثيرا ما نعزم على القيام بالفعل و نخطط له بإحكام و تأتي موانع خارجية تعرقل تنفيذ الفعل، وقد عبر عن هذا المتأخرون من الأشاعرة بالإرادة الميّسرة ووصفها ابن رشد بالأسباب الخارجيّة و سماها بالقضاء و القدر و بهذا أعطى للموضوع مفهوما فلسفيا تمثل في أنّ ما يعرف عند عامة المسلمين بالقضاء و القدر و المعروف عندهم بالعلم الإلهي المحيط بكل شيء و بالإلزام الإلهي من أجل حصول قضائه و قدره أصبح هذا المفهوم سهلا في مفهومه و في بيانه فهو القانون العام الذّي يتحرك فيه الجميع، و هو العلم الإلهي المحيط بكل شيء قبل وقوعه و هو نظام العلية و قانون السببيّة.
بهذا المفهوم حثّ ابن رشد ضرورة فهم ما يحيط بنا حتّى نستطيع تحقيق مرادنا و في هذا دعوة إلى العلم و المعرفة فكلما اكتشف الإنسان مجهولا تمكن من التأقلم معه. إنّ معنى القضاء و القدر عند ابن رشد خرج من مدلول التسلط الإلهي على الإنسان و ابتلاع قدرته و إرادته الحرة و الفاعلة إلى مدلول القانون و النظام المحيط بالوجود بما فيه الإنسان، و بهذا فالقضاء هو فهم ما يحيط بنا، و القدر الملاءمة بين الأسباب الداخليّة و الخارجيّة، و تحقيق الفعل، و الأسباب الخارجيّة لا تمنع الإنسان من تحقيق إرادته إذا فهمها و أعدّ لها و تكيف معها.
يقول ابن رشد:" و لمّا كان ترتيب الأشياء و نظامها هو الذّي يقتضي وجود الشيء في وقت ما أو عدمه في ذلك الوقت وجب أن يكون العلم بأسباب شيء ما هو العلم بوجود ذلك الشيء و عدمه في وقت ما. و العلم بالأسباب على الإطلاق هو العلم بما يوجد أو ما يعدم في وقت من أوقات جميع الزمان[26]."
أراد ابن رشد بهذا التفسير لعلاقة القضاء و القدر بأفعال الإنسان الرّد على المتكلمين الذيّن بقوا يدورون في حلقة واحدة تربط الإرادة الإلهية بالإرادة الإنسانية من أجل المحافظة على كمال الذات الإلهية المحيطة بكل شيء. و هذا التأويل منهم لم يعط للمسألة بعدها الإنساني المرتبط بالتكليف والمسؤولية. فجميع المسلمين لا ينكرون التكليف و لا المسؤولية، و هذا لا يتم بنفي الإرادة والقدرة عن الإنسان و لا يجعلها إرادة مطلقة و قدرة تتجاوز كل القيود.
إنّ مذهب ابن رشد في مسألة الفعل الإنساني و إنّ سبق برأي مماثل عند المتأخرين من الأشاعرة عندما ربطوا الفعل الواحد بإرادتين مسيّرة من الإنسان و ميّسرة من الله تعالى فهو أعطى للمسألة بعدا فكريا ووضعها في محلّها الطبيّعي فالإنسان يمتلك المؤهلات التّي بها استحق مهمة الاستخلاف، و هو في نفس الوقت محاط بنظام عام من خارج لا بد لكي يحقق مراده أنّ يفهم هذا النظام ويستعد له ليستفيد منه و ينفذ مراده في حدود قدرته. و لا يمكن لمسلم يقوده العقل أنّ ينكر نظام الوجود. وأنّ الإنسان كمخلوق مكلف لا يعمل خارج العناية الإلهية التامة و الشاملة، يقول ابن رشد:" ينبغي أنّ تعلم أنّه من جحد كون الأسباب مؤثرة بإذن الله تعالى في مسبباتها فقد أبطل الحكمة، و أبطل العلم، وذلك أن العلم هو معرفة الأشياء بالأسباب الغائية. و القول بإنكار الأسباب جملة هو قول غريب جدّا عن طبائع الناس.[27]"
إلاّ أنّ هذه النواميس الكونية المؤثرة من الخارج لا تؤدي إلى إلزام الناس بالفعل أو الترك بل هي مجرد أسباب ضرورية لا مفر منها لهذا فمن الحكمة فهم النظام الكوني الذي يحيط بالإنسان حتى يتصرف في حدود ما يتلاءم معه. فالأسباب ليست موانع معطلة للفعل بل هي طبائع ثابتة لا تتغيّر. إنّ معرفة أسرار هذا الكون وطبيعة تنظيمه وحركته لا تتعارض مع جوهر الدّين بل هي أصله وجوهره لأنّ اللّه أودع في الإنسان المكلّف وسائل المعرفة الحسيّة منها والعقلية وهذا حتى لا يكون الإنسان مجرّد جهاز تصوير أو آلة تصوير لا يدرك الحكمة من الإبداع المحكم للنظام العام المسيّر للوجود بل هو إدراك يلتقط ويميز ويستوعب ويعقل لهذا لا بدّ أن يعرف سرّ النظام الكوني حتى يتمكن من التلاؤم مع الوجود وهذا هو الواجب الموكل للإنسان الخليفة لأنّ في معرفة أسرار الوجود معرفة بعظمة الخالق، لهذا كان العلماء أكثر إيمانا وأكثر درجة هذا ما أكّده الوحي المحمّدي في قوله تعالى :"إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ" و قوله :"يَرْفَعُ اللَّهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ". هذا ملخص ابن رشد في مسألة الحرية الإنسانية وعلاقتها بالعناية الإلهية.
v- الإنسان حرّ و مسؤول:
إلى جانب تمييز الإنسان بتكريمه في خلقه وفي تسخير الوجود لفائدته وفي سجود الملائكة له وبتمتعه بمؤهلاته فهو كذلك مكرّم بتكليفه وبمسؤوليته لأنّهما يضمنان له السّعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة.
إذا كانت الجمادات خاضعة تمام الخضوع إلى سنن الكون التي رسمها اللّه لتنظيم سير الوجود كما قال تعالى :"وَسَخَّرَ الشَمْسَ وَالقَمَر كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى[28]". والحيوانات خاضعة لسلطان الغرائز كخضوعها أيضا إلى نواميس الكون قال تعالى:"سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ كُلٌ لَهُ قَانِتُونَ[29]".
فإنّ الإنسان يخضع لسنن الكون ولغرائزه فهو في بغض أعماله كالجمادات لا يمتلك فيها الإرادة ولا القدرة كالأعمال الاضطرارية وفي بعضها كالحيوانات وهذا في الأمور الحياتيّة الضرورية وهذا يدخل في باب المباحات الشرعية. وهو متميّز عنها بامتلاك آلة التمييز وحرية الإرادة في اختيار الأفعال والتمييز بينها وفي هذا النوع فقط يدخل التكليف وتتحدّد المسؤولية، وفي إبراز هذا التمييز الذي اختصّ به الإنسان جاء قوله تعالى :"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ والشَّمْسَ وَ القَمَرَ وَالنُجُومَ وَ الجِبَالَ وَالشَّجَرَ وَالدَّوَابَ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ[30]." فالآية وضحت أن كل المخلوقات باستثناء الإنسان خاضعة لنظام واحد لا تخرج به عن الأمر الإلهي، أمّا المخلوق الخليفة المالك لمؤهلات الاستخلاف فله أن يطيع وله أن يرفض وأنّه وحده من سيحاسب عن كفره وطاعته.
إنّ الحريّة الإنسانية لا تخرج في عمومها عن الإرادة الإلهية المطلقة وهي المعروفة بالإرادة الكونية ومن هنا فالإنسان يمارس حريته في حدود النظام الكوني المحيط به ، وهذا يوجب عليه أن يكون عارفا بأسراره حتى تتلاءم إرادته مع الإرادة الكونية.
إنّ النّظام الكون هو المعروف بالقدر، فاللّه الذي قدّر الليل والنهار وهو الذي خلق كلّ شيء فقدّره تقديرا، وعمل الإنسان لا يخرج عن قدر اللّه من حيث أنّه يعلمه وهيّأ له الأسباب المساعدة وهو الذي وهب الفاعل القدرة على الفعل من هنا فجميع أعمال العباد لا تخرج عن إطار القضاء والقدر. ويمكن أن تمثّل للعلاقة بين العلم الإلهي والفعل الإنساني بصورة تقريبية. فالمهندس مثلا عندما يقدّر لآلته سرعة معينة واتجاها معيّنا فإنّه باستطاعته أن يعرف موضعها في زمان معيّن قبل أن تصله. كذلك فالعلم الإلهي محيط بكلّ حركة تحدث في عالمه لأنّها حدثت بقدرة معينة وتحيط بها أسباب معينة وهذا العلم السابق لا دخل له في توجيه الفعل.
إنّ الفعل الإنساني محاط بمجموعة من القيود والأسباب لا يستطيع تجاوزها إلاّ بمعرفتها وحسن التعامل معها، فاللّه هو الخالق للإنسان، والواهب للعقل المميّز والإرادة الحرّة والقدرة الفاعلة، وهو المهيء للأسباب، لهذا فالفعل مخلوق من اللّه مكتسب من الإنسان، وبما أن ارتباط الأسباب بالمسببات والنتائج بالمقدمات هو من عمل اللّه فإنّ المشيئة الإلهية لا يمكن الاستغناء عنها في الفعل البشري.
إنّ العلم الإلهي والإرادة الشاملة لا يحملان الإنسان على فعل ما لا يريده ولا يمنعه مما أراد لأنّه تعالى لا يجبر عبده على الفعل أو الترك بل فقط يعدّ له الأسباب المساعدة إن رغب في الفعل خيرا أو شرّا. قال تعالى:"فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَ التَّقَى وَ صَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسَِرُهُ لِلْيُسْرَى وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى".
كلّف اللّه عباده في حدود إرادتهم الحرّة وقدرتهم الفاعلة، وكان التكليف على سبيل الاختيار والابتلاء من أجل إقامة الحجّة الملزمة على الإنسان الخليفة. واللّه قادر على إجبار الناس لكنه لا يفعل ذلك تحقيقا للعدل وتكريسا للمسؤولية قال تعالى:"قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ[31]" فالحرية الإنسانية لا تتجاوز حدود النظام العام لأنّها محدودة و مسؤولية، والمسؤولية فردية ومباشرة. قال تعالى:"وَ لاَ تَزِرُوا وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[32]" "كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ[33]"
إنّ الحرية المسؤولية لا تستسلم لسلطان القدر بل تحتّم على المسلم أن يكون مدركا للواقع وعالما بظروفه ونتائجه حتى يتأقلم مع الأفضل. وقد جسّد الإرادة الحرة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه لمّا توقّف عن دخول أرض الشام لوجود مرض الطاعون بها فسأله أبو عبيدة. أتفرّ من قدر اللّه ؟ قال عمر :"أنا أفر من قدر الله إلى قدر الله" كما روي عن الشيخ عبد القادر الجيلاني قوله"أنا أغالب الأقدار بالأقدار"
من هنا نلاحظ أن الحرية الإنسانية حريّة مسؤولة وهي في نفس الوقت ترفض الاستسلام وقبول الواقع على أنّه من قدر اللّه لأنّ هذا يقاوم بالعلم وهو قدر اللّه. فالإنسان حرّ فيما يدخل تحت حدود قدرته ولا حريّة للإنسان إلاّ بالمعرفة المحيطة بمعطيات الفعل.
فالإنسان في التّصور الإسلامي حرّ في إطار فهم محيطه و مسؤول أمام خالقه و ضميره ومجتمعه.
مقال مفيد
ردحذفمقال راقي والزبدة هو ان اوربا استفادت من فكر ابن رشد ونحن خسرناه بسب الحكام المتمسكين بنظام القطيع والفقهاء المصرين على الاجماع
ردحذفممتاز
ردحذف