الأحد، 4 مارس 2012

قصة زاهد في القرن الواحد و العشرين

وصلتني رسالة الكترونية من الأخ الفاضل أحمد أبو رتيمة يستعرض بعض الانطباعات خلال زيارته لتونس و التقائه ببعض قياديي حركة النهضة و ما عانه مناضليها في حكم المخلوع بن علي كما كشفت هذه المعاناة الصدق و الصبر و التمسك بالحق و بالإسلام كمنهج حياة أنشر فيما يلي فحوى هذه الرسالة
زرت المغرب وتونس خلال الأسبوع الماضي بغرض التواصل مع شركائنا في مناصرة القضية الفلسطينية للتباحث في سبل مشاركة أقطار المغرب العربي في إنجاح مسيرة القدس العالمية التي ستنظم في 30 من شهر مارس الجاري، فأجريت اتصالات كثيرة والتقيت شخصيات مهمة في البلدين، وكانت تلك اللقاءات مهمة ونافعة كلها، والأشخاص الذين لقيتهم فضلاء محترمون جميعهم، ولكن أقول بلا مبالغة بأنني لم أسمع حديثا هز كياني وبلل مقلتي وانتفعت به نفعا لا يعادله شيء في أسفاري هذه كالحديث الذي سمعته عن الأستاذ صالح بن عبد الله بوغانمي التونسي. كل الذين التقيتهم في البلدين الشقيقين معروفون وقد صاروا اليوم بعد نجاحهم أعلاما، ولكن سي صالح غير معروف عند عموم الناس. ولئن كان الحديث عن أولئك السادة المشهورين مفيدا فإن الحديث عن مثل هذا الرجل المغمور أفيد حتى يعلم الناس بأن في الأمة أخيارا،       وقادة المشروع الإسلامي رجالا تُستمطر بهم الرحمات وينزل بهم النصر و التمكين، لا يعرفهم أحد و لا ينتبه لفضلهم إلا القليل. صالح بن عبد الله بوغانمي قائد من قادة حركة "النهضة" واصل دراسة القانون في أرقى الجامعات الفرنسية ونال فيها أعلى الشهادات، وبعد عودته لتونس صار قاضيا مُبجّلا ومحترما بين أقرانه، وحينما انتبه إليه الحاكم المستبد ألقى عليه القبض وأدخله السجن ولكنه لم يجد قاضيا يحكم عليه الحكم القاسي الذي يريده للهيبة التي كان يتمتع بها الرجل في سلك القضاء وبعد سنة ونيف أُطلِق سراحُه ولكنه حوصر في رزقه فطُرِد من العمل نهائيا ولم يُمكّن من أي وظيفة أخرى تحفظ له كرامته وكرامة أسرته. لقد جعل هذا الظلم صالحا في وضع رجل بطال صالح فقير لا يملك شهادة و لا خبرة عليه أن يتدبر حاله لكي يعيش ... ليأكل و يشرب فحسب.

      قرر سي صالح أن يعمل أي عمل يكسب به شيئا من المال الحلال حتى لا يصبح عالة على الناس يعطونه يوما ويحرمونه يوما، أو ربما لكي لا يتسبب في معاقبة من تسول له نفسه أن يعينه. رضي عالم القانون وخريج الجامعات الأوروبية والقاضي المحترم أن يزاول عملا لا يخطر على البال، أصبح سي صالح يترقب الأسواق حتى تنفض فيعمد إلى جمع ما يتركه الباعة على الأرصفة والطرقات من كراتين وبضائع فاسدة فيفرزها وينظفها ثم يبيعها بما يفتح الله به. وبعد سنوات من الكد في هذا العمل، الذي يفضل كثير من فقراء اليوم أن يتسولوا ويتشردوا ولا يعملونه، استطاع أن يشتري عربة صغيرة تجرها دراجة نارية يحمل عليها خضرا وفواكه يشتريها من أسواق الجملة ويبيعها خفية عن أعين الشرطة المتربصة. لم يكن الحاكم المستبد و شرطته يكترثون لما يفعله القاضي لكي يعيش في بداية الأمر، بل ربما كان الطاغية الساديُّ يتلذذ بذلك... أن حول عالما مرموقا إلى مشتغل في الزبالة وبائع خضر.
     في الوقت الذي كان سي صالح يكابد عناء الظلم والفقر كان أغلب قادة "النهضة" و مناضليها في السجن أو في المهجر، فاتفق من بقي منهم في تونس خارج السجن على تعيينه رئيسا لتنظيمهم السري، وكانت مهمة التنظيم تتعلق خصوصا بالرعاية الاجتماعية لأسر المسجونين والمهجرين وقضايا حقوق الإنسان والاتصالات والعلاقات السياسية الممكنة. تواصلت رئاسة صالح بوغانمي لهذا الإطار التنظيمي من 1991 إلى غاية 2004 دون أن يكشف البوليس السياسي أمره، وكانت تصله أثناء ذلك مساعدات مالية من تنظيم "النهضة" في المهجر ليوزعها على المعنيين بها. كان سي صالح من هؤلاء المعنيين، وكان من حقه أن يأخذ لنفسه قسطا من ذلك المال، بل كان هذا واجبه، فمآسيه كلها بسبب انتمائه وثباته على فكرته، ولو فعل ذلك ما لامه أحد. لم يفعل هذا الأمين الزاهد ذلك، لقد فضل أن يكون فقيرا يعيش من عمل يديه لم تحدثه نفسه بأنه هو ذلك
الدكتور الذي وطئت قدماه الصروح العلمية الراقية، وجلجل صوته في المحاكم و قصور العدالة فكيف يقبل أن يكدح كدح المساكين والمال جار بين يديه، يوزعه على الناس ولا يأخذ منه شيئا.

     كان محدثي عبد الكريم سليمان أحد أعضاء المكتب الجديد في "النهضة" متأثرا جدا وهو يقص علي هذه القصة على مائدة الغداء في مطعم دار الجلد الفاخر الملتصق بمقر رئاسة الحكومة الذي لا تُحكى فيه مثل هذه القصص عادة. لقد كان عبد الكريم رفيق سي صالح في القيادة داخل تونس في تلك الفترة كلها ورأى معاناته وتعففه بنفسه. حاولت أن أهون عليه بأن أخذت منه الكلمة حين تحجرجت الكلمات في حلقه، وبدأت أحدثه عن أهمية هذا النوع من الرجال في تثبيت الفكرة وثبات أهلها وعن الفائدة التربوية لذكر هذه القصص للأجيال، وأخذت أقص عليه قصة أخرى من هذا القبيل في سياق مختلف وبيئة مغايرة، فذكرت له حال رجل فاضل عندنا عيّنه إخوانه في مجلس الأمة دون استشارته فغضب غضبا شديدا، ولما عجز عن تقديم استقالته اعتبر ذلك بلاء نزل عليه من السماء وقرر أن لا يأخذ من راتبه كنائب سوى ما يعادل أجرته العادية كأستاذ جامعي، وبقي يتصدق بالباقي طيلة عهدته وبعدها.حينما سمع صديقي هذه القصة ازداد تأثرا وفاض الدمع في عينيه قائلا: "سأحكي لك ما هو أغرب" قال لي: "اتفقنا ذات يوم في مكتبنا السري بأن نجعل لسي صالح مُرتّبا شهريا على أن يتوقف عن جر عربة الخضار والتنقل بين الأسواق فرفض ذلك، ولما اتُّخِذ القرار بإجماع تام ناقص صوت واحد هو صوته، قال لنا بأنه لا بد أن يستمر في بيع الخضار بطريقة ما لفترة أخرى رغم هذه الأجرة، حتى لا ينتبه البوليس السياسي بأنه قد أضحى يأخذ أجرا من جهة ما فيضايقه وربما يُكشف أمر الجميع فاقتنعنا بذلك، فإذا بنا نكتشف ذات يوم أن ثمة محتاجين آخرين لم يكن هو المكلف بهم تصلهم المساعدات عن طريقه، فلما دققنا في الأمر علمنا بأن الأجر الذي يأخذه لا يستعمل منه شيئا و يعطيه كله لغيره
     في سنة 2004 أُطلِق سراح بعض قيادات حركة "النهضة" فقرر سي صالح أن يسلم لأحدهم المشعل بمبادرة منه، وبعد انتخابات داخلية سرية حل محله حمادي الجبالي -رئيس الحكومة الحالي- على رأس الحركة في داخل تونس، واستمر هو يناضل في القاعدة ويتردد على الأسواق يبيع الخضار للناس ويهب القدوة الصالحة للجميع. وفي يوم من أيام تونس الكالحة بالظلم والعابسة بالطغيان يكون فيها الطاغية قد شعر بشيء ما عن نضاله اعتدت عليه مجموعة من رجال الأمن بالضرب بحجة عمله غير المرخص له، ثم كبُرت القضية فحُكم عليه بست سنوات سجنا في المحكمة الابتدائية، وأثناء استئنافه للقضية وقبل النطق بالحكم النهائي تعرض شاب جامعي من سيدي بوزيد اسمه البوعزيزي لنفس الإهانة في قصة غريبة التشابه مع ما حدث لسي صالح فأحرق نفسه وأذن باندلاع الثورة التونسية و"بن علي هرب" وجرت الانتخابات ونجح المظلومون وصار المهجّرون والمضطهدون والمسجونون هم حكام تونس، وفُتحت دروبُ المجد وصُروحُ الحكم وبهارج السلطة والجاه لسي صالح ليختار منها ما يشاء وهو الأحق بها، لا يزاحمه على أبوابها أحد، ولا يُستغرب من اهتباله لها شيء،      يكون فيها الوزير بلا غرابه أو النائب بكل جدارة.... ولكنه لم يفعل.
     اختار صالح بن عبد الله بوغانمي التونسي أن يعود بكل طواعية للقضاء، وظيفته الأصلية فحسب. ربما يكون سي صالح قد فعل ذلك حبا لوظيفته، أو لتعفف في سجيته، أو ادخارا لأجره كله عند ربه، ولست أدري هل هو الذي حرم نفسه من منصب لم يأخذه أم المنصب الذي لم يأخذه هو المحروم، ولست أدري هل هو يدري بالبعد القيمي الذي أعطاه للعمل السياسي والشهادة التي أقامها على السياسيين من كل الآفاق، والآثار التربوية التي تركها صنيعُه في نفوس العاملين في الحقل الإسلامي في كل الأقطار... إنها الغاية التي كتبت من أجلها هذا المقال.
  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق