التفكير في الحرية من صلب التفكير في الإنسان ومتفرع عنه، وطرح سؤال "ما الحرية" يقودنا بداهة للتساؤل عن الإنسان، والعكس صحيح، من هنا يرى "غرامشي" أن أصل السؤال "ما الإنسان" هو استشكال عن مصير الإنسان، أهو قادر على التحكم والسيطرة في مصيره الخاص؟ أي هل الإنسان حر بما فيه الكفاية؟ لا يهمنا هنا الإجابة عن هذا السؤال الكبير والواسع، الذي يمكن أن نطرحه من أكثر من زاوية وننظر إليه بأكثر من عين، ولكن من المهم جدا أن نسجل أن البحث في الحرية باعتبارها موضوعا للنقد الفلسفي الصارم والتحليل الموضوعي الفاحص يؤدي إلى نفي الحرية وتكريس "اللاحرية"، وذلك لا من منظور الدين كما يعتقد البعض بسطحية، فعندما نتموقع داخل دائرة الدين، فإننا نتناول قضية أخرى، إنها علاقة الإرادة الإلهية بإرادة البشر، ولعل الجواب عن هذا السؤال الأنطولوجي قد حسم في كتب علم الكلام، وإنما عند نفحص عن علاقة الإنسان بالطبيعة، حينئذ نفاجأ بالحتمية والضرورة، حيث يرزح الإنسان تحت نير الإكراهات الطبيعية،ما يعني تضييق أفق الحرية، وكذلك إذا ألغينا أي وازع أو سلطة خارجية، نكون خاضعين لإكراهات ذاتية لاشعورية، فنتأرجح بين الوعي واللاوعي، الشعور واللاشعور، بل حتى إذا تخلصنا من كل ما هو كوني، ذاتيا كان أو خارجيا، ورحنا نفكر في علاقة الإنسان - ككائن حر اجتماعي فاعل بالاختيار لا بالطبع- بالمجتمع وبالأنظمة السياسية، تواجه الحرية إكراهات تفرض نفسها بحدة، قد تكون موضوعية معقولة و قد تكون استبدادية لا تبغي غير خنق الإنسان وسلب حقه في ممارسة الحرية. إن الإنسان يعيش في المجتمع، ما يعني أن منظومة القيم السائدة تعمل على تقليص إمكان الفعل الإنساني، ذلك لأن هذا الأخير لا يقوم بذات الفاعل فقط، بل إنه كما يقول ابن رشد "إضافة موجودة بين الفاعل والمفعول، إذا نسبت إلى الفاعل سميت فعلا وإذا نسبت إلى المفعول سميت انفعالا"(1)، من هنا نستشعر إكراهات الآخر الذي قد ينزعج بما يصدره شخص ما كمنفعل بفعله، وكذلك الأنظمة السياسية، حتى إذا تجاهلنا الأنظمة الديكتاتورية التي تتعمد قهر المواطن، وأخذنا النظم الديموقراطية فإننا نجدها تنخر جسد الحرية بعناد دائم لا لشئ إلا لأنها ديموقراطية، فهذه الأخيرة تميل دائما إلى رأي الأغلبية، فمثلا لو قمنا باستفتاء حول قانونين ورجحت كفت قانون، ألا نكون هنا قد تعسفنا عل الأقلية التي مالت إلى القانون المرجوح؟ فالنتيجة إذن أن الديموقراطية تتحول عندما ننظر إليها من ثقب الحرية من أرقى ما توصل إليه الإنسان في مجال السياسة إلى شكل من أشكال الاستبداد وعقبة أمام تحقيق الحرية.
إن هذه الإكراهات التي تحيط بالحرية و تنهش جسدها النحيل والمخاطر التي تحدق بها من كل جانب هي التي حملت الليبراليين على الاستخفاف بمكر بكل من نظر للحرية من ماركسيين وهيغليين ووجوديين، وهذا التملص يعبر عنه المفكر المغربي عبد الله العروي بقوله : "إن الليبرالية لا تمثل نظرية بين نظريات الحرية،بل تنفي ضرورة تنظير الحرية"(2)، وفي موضع آخر يقول "إن الليبرالية تنفي البحث في نظرية الحرية عن قصد لأنها تخاف من نتائجها"(3)
إن تجربة الحرية طوبي أكثر ما هي واقع، ووهم أبعد ما تكون عن الحقيقة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يدعي شخص عن وعي وروية أنها جسدت في حقبة ما في صورتها "المثالية" و"الكاملة"،المجردة و العارية من أي حاجز أو عائق،و هذا راجع بالأساس إلى مفهوم الحرية في حد ذاته، إن هذا الأخير اتخذ كشعار لا كمفهوم،الحرية أدلوجة، وفي الأيديولوجيا تحضر الغواية و يغيب التنظير الفلسفي الغائي، فمن يرفع شعار الحرية لا تسأله عن ماهيتها، ولكن قل له ما صورتك عنها؟ وكيف وأين و متى تتصور حضورها؟ بعبارة أوضح ما هي مطالبك التي تريد تحقيقها باسم الحرية؟ عندئذ حتما سنتفق على أن من يرفع شعار الحرية لا يرى فيها مبدأ ولكن منتهى لامشروط، وكل من يؤدلج الحرية لا يرى فيها باعثا على التصرف وإرادة في الفعل فقط، وإنما مطية يركبها لغاية وغرض، فباسم الحرية و تعميق شعور الشعوب المقهورة بها نشبت حروب راحت ضحيتها حضارات عريقة، وباسمها نادت جهات معينة بضرورة تحرير المرأة من العاديات البالية وأغروها تحت يافطة الحرية بما سموه مساواة، وبأدلوجة الحرية يدعو البعض إلى ما يسمونه تنقية الذهن من الخرافات الدينية والأساطير، وتجديد اللغة بتجاوز الأساليب العتيقة.. والمطالب التي تحمل توقيع الحرية طويلة جدا.
من أجل ذلك تباينت الرؤى واختلفت مشارب الناس في الحرية، فالليبرالي البسيط في تفكيره ينتقد حرية الماركسي ويرى فيها استعبادا لا يخفى وطوبي مستحيل التحقق، والماركسي الذي لا يشعر بوجوده وكيانه إلا داخل مجتمع القطيع،ينقض رؤية الليبرالي للحرية بدعوى أنها ورقة رابحة في يد فئة قليلة، وتهميش مكشوف للبروليتاريا التي تقتات من على جهدها العضلي-الفكري، فالحرية عند الماركسي ليست حقيقة أو واقع وإنما حلم لم(ن) يبزغ فجره، وهو مازال ينتظر نهاية التاريخ لتتحقق، والوجودي يوظف الحرية ليصير مقدسا كالإله، لذلك يدعو بشغب إلى ضرورة الانتقال من الإلهياء إلى الإنسياء، ويرى أن رمز ألوهية الإنسان حريته، وهذه الحرية التي تميز الإنسان تجعله مسؤولا عن الوجود، وبالتالي فحرية الإنسان في قدرته على إعدام الوجود، يقول الوجودي "دوستويفسكي" " لقد بحثت مدة ثلاث سنوات عن صفة ألوهيتي وأخيرا عثرت عليها، تلك الصفة هي الإرادة، بالإرادة وحدها يمكن أن أبرهن على عصياني وحريتي الجديدة المخيفة، إنني أنتحر لأعبر عن تمردي حريتي"، ومادامت الحرية عند الوجودي هي القدرة على إعدام الوجود، فقد وظف بعض المفكرين العرب هذه الفكرة ودعوا إلى الحرية الوجودية، طبعا بعد تنحية مفهوم الوجود وتعويضه بالنظام السياسي، إن الحرية عند الوجودي العربي هي القدرة على إعدام الأنظمة السياسية والإطاحة بها...
أصل الحرية عند الهيغيلي الدولة، وعند الماركسي الطبقة، وعند الوجودي الوجدان الفردي، أما الليبرالي فيدهس بسطحيته كل الأصول لأنه كما قلنا ينفي ضرورة تنظير الحرية، إذ وعى نتائجها التي توقعه في مطبات وتناقضات، فتملص من التنظير بجبن خالع، واتخذ منه موقفا يشبه تصرف النعامة عندما يحدق بها خطر ما.. هذا عن الليبرالي الغربي، أما الليبرالي العربي الذي تعمق شعوره بضرورة الحرية كردة فعل على تضييق الخناق عليها في واقعنا العربي من قبل الأنظمة المستبدة، ورأى فيها تلك الشجرة الخالدة التي يستمد منها وجوده، فقد ركب العمياء بعد أن تعامى هو الآخر، وتخبط خبط عشواء في إدراك حقيقة الحرية الليبرالية، لذلك وقع في ثلاثة أخطاء، كلها تنم عن أدلجة الحرية، الأول عدم الوعي بالمراحل الأربعة التي مرت بها الليبرالية، وهو ما يفسر كثرة التداخلات الزمنية التي تذوب و تلغى فيها بصمات التاريخ وآثاره في بلورة المفاهيم، الثاني: الانتقائية الغبية التي تكشف عن تدليس واضح، فالليبرالي العربي يستمد أفكاره من غير ما مذهب، فلا يعير اهتماما للتناغم والانسجام في كتاباته، ولا يتحرى التناسق المنطقي في عرض الأفكار، بل قد ينتقي أي فكرة تخدم قضية الحرية المطلقة المرادفة للتسيب على كل الأصعدة من أي منظومة فكرية، ويورد فكرتين عن الحرية متعارضتين ثم يرسمهما في لوحة و كأنهما على ود ووفاق، وذلك باعتماد سلاح التأويل من أجل تطويع النصوص لتتوافق مع غايته (غوايته)
والخطأ الثالث تهميشهم للتراث أو لواقعنا التاريخي. لو بحثنا في المعاجم العربية وهي قواميس الكلمات، سنحسب أن الأمة الإسلامية كانت تئن تحت وطأة اللاحرية، فمصطلح الحرية في المعاجم لا يحمل نفس الدلالات التي نطلقها الآن في خطابنا المعاصر على المفهوم، لكن لو اقتصرنا على معجم الكلمات ولم نفحص قاموس الثقافة الذي يعكسه واقعنا التاريخي، سيكون بحثنا ناقصا كما يقول عبد الله العروي نفسه. إن مفهوم الحرية يحمل أربع دلالات، الدلالة الأولى أخلاقية، هنا ندرك أن اللغة تترجم في قالب الكلمات طبيعة الثقافة والفكر السائد لدى مجتمع معين، فالعقل العربي عقل أخلاقي بامتياز، فلا غرابة أن تكون مفاهيم عدة من بينها الحرية تتضمن معاني الأخلاق والنبل، إن الحرية في اللغة هي الحسن، نقول إن إنسانا حر إذا كانت أخلاقه طيبة حسنة، وقديما كان يقال الحرة إذا جاعت لا تأكل بثدييها، والدلالة الثانية قانونية، كقوله عز وجل "تحرير رقبة"، ثم دلالة اجتماعية وهي من استعمال بعض المتأخرين، وتطلق على المعفى من الضرائب، ثم الحرية من منظور المتصوفة و تعني قطع جميع العلائق والأغيار، وهي على مراتب كما هو مبسوط في كتبهم.
فهذا العرض السريع للدلالات اللغوية لمفهوم الحرية يدل أن استعمال أجدادنا وأسلافنا للمفهوم لا يمت بصلة للحرية كما ينظر إليها الآن، خاصة في جانبها السياسي، لكن أين قاموس الثقافة المتمثل في واقعنا التاريخي؟
يرى عبد الله العروي أن ثمة مجموعة من الرموز في ثقافتنا كانت تمثل المعارضة السياسية وتقف في وجه الأوامر السلطانية الظالمة والاستبداد السياسي، يذكر منها على سبيل المثال لا الحصر أربعة رموز: البداوة، والعشيرة، والتقوى، والتصوف، لنترك الرمز الأول لأنه لا يخدم قضيتنا، فعبد الله العروي كمفكر حداثي لا يعير اهتماما للأخلاق ومنظومتها، ويرى في البداوة رمزا لفض منظومة القيم خاصة عندما تتجسد في شخص الشاعر الصعلوك، أما العشيرة فتلك الشجرة الوافرة الظل التي يحتمي تحتها الفرد لرد و رفض الأوامر السلطانية، فهي من هذه الزاوية تجسد المعارضة في ثقافتنا، وهذا ما يؤكده محمد عابد الجابري في "العقل السياسي العربي" عندما يرى في القبيلة والعشيرة إحدى محددات عقلنا السياسي، أما الرمزان الآخران (التصوف والتقوى)، فيقعان على مستوى الفرد لا الجماعة، فالتصوف كتجربة روحانية شخصية تهدف إلى التملص من أي وازع خارجي ورياضة النفس للتعالي والسمو على كل شهواتها بما فيها مطامحها السياسية،أما التقوى (أو الإيمان الصلب بفكرة ما) فيجعل المرء جلدا في مواقفه، ونذكر هنا موقف الإمام أحمد بن حنبل من قضية خلق القرآن التي أثارتها فرقة المعتزلة وجعلت منها مسألة سياسية تعرض من اختلف معهم فيها لأبشع ألوان التعذيب، إن أحمد رحمه الله ما كان ليكون على ما كان عليه من شجاعة وجلد وصمود أسطوري لولا ذلك الوازع الداخلي المتمثل في التقوى والخوف من الله، فاستحق بذلك نيل وسام إمام أهل السنة بكل جدارة واستحقاق، إذا فالخوف من الله شعور داخلي يزود الفرد بما يكفي من الشجاعة لاستصغار كل ما يعترض سبيله لخدمة قضيته.
إن الدين هنا ككل يلعب دورا رئيسيا في تحرير الإنسان، و تحطيم القيود والأغلال التي تحد من حريته الفكرية، أقول الفكرية لأن الدين لم يخول للمسلم حق مطلق التصرف في جسده، بل ضبط هذا الأخير بأحكام أوجب الالتزام بها، وهذا ما انتبه له الليبرالي "جون ستورت ميل" في كتابه "في الحرية"، حيث يشتد نكيره على تحريم الإسلام للخمور وأكل لحم الخنازير، وتكوين هيأة (الحسبة) لمراقبة هذه الأمور، إنه يرفض نطام الحسبة بشدة ويرى في ذلك تجني على الإنسان باعتباره عاقلا يعرف مصلحته - على حد زعمه -، لكنه لم يثبت على موقفه، عندما يعي هو الآخر تناقضات مطلق الحرية، فيعود و يتساءل بحيرة هل يجوز بيع الخمور والسموم والتبغ؟ هل يجب تحديد النسل؟ هل يسمح للفرد أن يستعبد نفسه؟ هل يجب إجبار المرء على التعليم؟ لقد ضل ميل مترددا في الجواب عن هذه الأسئلة، يقول عبد الله العروي معلقا: "في واقع الأمر لم يكن من المنتظر أن يطرح ميل مثل هذه الأسئلة إذا تذكرنا الحجج التي بنى عليها انتقاده للحسبة في الإسلام، لقد رفض مبدأ الحسبة لأنها تفترض في رأيه خطأ أن الإنسان لا يعرف مصلحته، وها هو الآن يرجع إلى المنطلق الذي كان الفقهاء المسلمون يبررون به نظام الحسبة" إن ميل توصل إذا إلى كون الإنسان قد يضر نفسه بنفسه في حالة إطلاق حريته من أي قيد، وهذا بالضبط هو المقصد الذي من أجله حرم الإسلام بعض الأمور سواء تلك التي تمس عقله أو نفسه أو ماله أو عرضه أو دينه، فمن أجل أن ديننا يخاطب العقل يحرم على المسلم الانغماس الكلي في تحقيق شهوات النفس التي تحد من قدرات الإنسان الفكرية، إن ديننا يريد انتصار العقل والحفاظ عليه في معركته الضروس مع الجسد، إن الحرية في الإسلام هي مدى قدرة الإنسان على تحقيق العقل في حياته، طبعا بعد التخلص من الحاكم الوهمي والحسي كما يقول أبو حامد في "معيار العلم في المنطق".
إن العقل أعدل قسمة بين الناس كما يقول ديكارت، فهو الذي ينبغي أن نجعله معيارا وميزانا نحتكم إليه فيما اختلفنا فيه من مسائل الفكر وغيره، فالحرية أدلوجة ومجرد مصطلح زائف فضفاض، يقول ميل وهو ينزع عنه قميص الليبرالية "كلما تعين ضرر واقع أو محتمل، إما للفرد أو للعموم، ينزع الفعل الذي يتسبب في الضرر من حير الحرية ليلحق بحيز الأخلاق أو القانون"، ويبقى العقل هو المحدد الوحيد لهذا الضرر، وهذا لا يتعارض مع الشرع، لأن العقل حق والشرع حق، والحق لا يضاد الحق.
1- ابن رشد،تلخيص الخطابة،ص 139
2- عبد الله العروي،مفهوم الحرية،ص 54
3- المرجع السابق ص 86
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق