الاثنين، 13 أكتوبر 2025

ابستمولوجية الفقه الإسلامي: دراسة في الأسس والمنهج والتطور


                                               

                                                          

  الدكتور: هشام بالرّايس

         مقدمة:  

مفهوم ابستمولوجية الفقه وأهميتها تشكل ابستمولوجية الفقه الإسلامي مدخلاً تأسيسياً لفهم البنية المعرفية والمنهجية التي تقوم عليها العلوم الشرعية، حيث تقدم دراسة نقدية للفقه بوصفه علماً منتجاً للمعرفة، من خلال البحث في أصوله ومصادره ومناهجه ومراحل تطوره وعوائق هذا التطور. والإبستمولوجيا - بمفهومها العام، هي فلسفة العلوم أو نظرية المعرفة العلمية، التي تهتم بدراسة المبادئ والفرضيات والنتائج في حقل علمي معين، بهدف إبراز بنيته المنطقية وقيمته الموضوعية.

     أما ابستمولوجية الفقه تحديداً فتمثل "سوسيولوجيا الفقه" و"نظرية المعرفة الفقهية"، وهي اليوم من العلوم الصاعدة التي تنوعت الاتجاهات والدراسات في تحديد معالمها وبيان مضمونها وتشكيل حدودها. وتكمن أهمية هذا الحقل المعرفي في كونه يقدم إطاراً منهجياً لقراءة التراث الفقهي قراءة نقدية تستكشف العقلانية الكامنة في مناهج الاستنباط والفهم، كما يتجاوز الدراسة الجزئية للنصوص إلى النظر الكلي في النسق المعرفي الإسلامي من حيث مصادره ومناهجه والتداخل الحاصل بين فروعه العلمية. وهذا ما يجعل من ابستمولوجية الفقه جسراً للمعارف الحديثة، ووسيلة لتجديد الفكر الإسلامي المعاصر.

الإطار المفاهيمي: منابعة ابستمولوجية الفقه.

          مفهوم الإبستمولوجيا وتطورها:

     يتكون مصطلح "الإبستمولوجيا" من كلمتين يونانيتين: "إبستمي" (Episteme) وتعني العلم، و"لوغوس" (Logos) وتعني النظرية أو الدراسة، ليصبح المعنى الحرفي للمصطلح "نظرية العلوم" أو "دراسة العلوم". ويعود الفضل في وضع هذا المصطلح إلى الفيلسوف الاسكتلندي جيمس فريديريك فيرييه (1808م-1864م) في كتابه "مبادئ الميتافيزيقا" عند تمييزه في الفلسفة بين مبحث الوجود (الأنطولوجيا) ومبحث المعرفة (الإبستمولوجيا). وقد تطور مفهوم الإبستمولوجيا ليشير في الاستعمال الفلسفي المعاصر إلى "الدراسة النقدية للمعرفة العلمية" التي تهتم بالبحث النقدي في مبادئ العلوم وموضوعاتها وفرضياتها ونتائجها وقوانينها، بغية إبراز بناها ومنطقها وقيمتها الموضوعية. ويميز الفيلسوف الفرنسي لالاند في موسوعته الفلسفية بين الإبستمولوجيا ودراسة المناهج العلمية (الميثودولوجيا)، كما يميز بينها وبين نظرية المعرفة (Théorie de la connaissance)، حيث تركز الإبستمولوجيا على دراسة المعرفة "بالتفصيل وبشكل بعدي في مختلف العلوم والأغراض أكثر مما تدرسها على صعيد وحدة الفكر" .

         الإبستمولوجيا والعلوم الإسلامية:

     شهد الفكر الإسلامي المعاصر محاولات جادة لاستيعاب المنهج الإبستمولوجي وتطبيقه على العلوم الإسلامية، وإن ظهرت بعض التحديات والعوائق التي حالت دون تبني هذا المنهج بشكل واسع. وقد تميز الفكر المغربي، ضمن الفكر العربي والإسلامي، في تقريب مفاهيم الإبستمولوجيا، من خلال كتابات كل من محمد عابد الجابري في كتابه "مدخل إلى فلسفة العلوم"، ومحمد وقيدي في كتابه "ما هي الابستمولوجيا؟"، وعبد السلام بن عبد العالي وسالم يفوت في كتابهما "درس الإبستمولوجيا". لكن هذه المحاولات واجهت إشكالات منهجية، لعل أبرزها سيادة الاتجاهات الوضعية والعقلانية التكوينية، وتأثر الكثير منها بشكل مفرط بعقلانية غاستون باشلار، مما حد من تنوعها وجعلها تدور في فلك مفكر واحد. كما شكلت الخصومة التاريخية بين العلوم الإسلامية والفلسفة عائقاً إبستمولوجياً أمام تبني المنهج النقدي في دراسة التراث الفقهي، حيث ورثت المعرفة الإسلامية هذا التوتر منذ سيادة مدرسة الأثر وهيمنتها على مداخل التفكير في العلوم الإسلامية، وحملة أهل الحديث على علم الكلام والعلوم التأويلية، وتحريم ابن الصلاح للمنطق، واشتباك الغزالي مع الفلاسفة.

           الأسس المعرفية والمنهجية لابستمولوجية الفقه:

مصادر المعرفة الفقهية تقوم ابستمولوجية الفقه على دراسة مصادر المعرفة الفقهية وطرق اكتسابها، وهي في مجملها تنقسم إلى: مصادر نقلية: تتمثل في الوحي بشقيه: القرآن الكريم والسنة النبوية، حيث يشكل الوحي المصدر الأساسي للمعرفة الفقهية، وهو العلم الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عن الله تعالى من خلال الملك جبريل. وقد جاء الوحي "استجابة لأحداث حدثت في الأرض، أو تعاليم إلهية للمسلمين تنفعهم على العصور المختلفة". مصادر عقلية: وتشمل الاجتهاد والاستنباط بمختلف أدواتهما من قياس واستحسان واستصلاح وغيرها، حيث يعتبر العقل أحد الأدوات الأساسية في المنهج الإسلامي، وقد دعا الإسلام إلى استخدامه بشكل فعال في إطار الإيمان .

          المناهج المؤسسة للمعرفة الفقهية:

     تكشف الدراسة الإبستمولوجية للفقه الإسلامي عن تنوع المناهج التي اعتمدها الفقهاء في بناء العلم الفقهي، ومن أبرزها:

· المنهج الاستدلالي: الذي يجمع بين النص والعلة من خلال القياس. المنهج الاستقرائي: الذي يعتمد تتبع الجزئيات للوصول إلى الكليات.

· المنهج اللغوي: الذي يركز على فهم النصوص من خلال تحليل اللغة وأدواتها.

· المنهج التقعيدي: الذي يهتم بوضع القواعد الكلية التي تضبط الفروع الفقهية.

· الخاصية الاستدلالية: التي تجمع بين النص والعلة في عملية الاستنباط.

· الخاصية الاستقرائية: التي تعتمد تتبع الجزئيات للوصول إلى الأحكام الكلية

          التطور الابستمولوجي لعلم أصول الفقه:

     يشكل علم أصول الفقه البنية المنهجية للفقه الإسلامي، حيث يقدم القواعد والأدوات التي يعتمد عليها الفقيه في عملية الاستنباط. ويخضع هذا العلم للتطور الابستمولوجي الذي يمكن تتبعه من خلال دراسة المراحل التاريخية التي مر بها، ومناهج التأليف والتصنيف فيه، والخصائص المعرفية والمنهجية التي تميز بها. ويمكن تقسيم التطور التاريخي لأصول الفقه إلى مراحل كبرى، هي:

· مرحلة النشأة والتأسيس: التي ارتبطت بالصحابة والتابعين وأتباعهم، حيث كانت القواعد الأصولية تطبيقية في الغالب.

· مرحلة التأليف والتصنيف: التي بدأت مع القرن الثاني الهجري، وشهدت ظهور أولى المؤلفات المنظمة في أصول الفقه.

· مرحلة التطور والتنوع: التي شهدت ظهور المدارس الأصولية المختلفة واتساع دائرة التأليف فيها .

     وقد تنوعت المدارس الأصولية وطرق التأليف حسب كل مدرسة، فظهرت المدرسة الكلامية (المعتمدة على القواعد العقلية)، والمدرسة الفقهية (المعتمدة على الاستقراء من الفروع الفقهية)، والمدرسة الجامعة (التي جمعت بين المنهجين).

          إشكالات منهجية في ابستمولوجية الفقه:

     تواجه ابستمولوجية الفقه الإسلامي عدة إشكالات منهجية، من أبرزها:

· الإشكالية التعريفية: حيث يختلف الباحثون في تحديد مفهوم ابستمولوجية الفقه، "فبعض الباحثين اعتبر فلسفة الفقه شعبة من شعب أصول الفقه، أو البعض الآخر الذي ما فرق بين فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة".

· إشكالية العلاقة مع الفلسفة: حيث لا تزال الخصومة التاريخية بين العلوم الإسلامية والفلسفة تشكل عائقاً أمام تبني المنهج النقدي في دراسة التراث الفقهي.

· إشكالية التصنيف الأكاديمي: حيث يتم تصنيف الإبستمولوجيا في إطار التقسيم الإداري للمعارف في الجامعات باعتبارها مجرد فرع علمي ملحق بالدراسات الفلسفية، مما يجعلها منعزلة عن المجالات العلمية الأخرى.

· إشكالية التوظيف الإيديولوجي: حيث يتم توظيف المفاهيم الإبستمولوجية بشكل إيديولوجي في قراءة النص التراثي، كما في نموذج طيب تيزيني في "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط"، وحسين مروة في "النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية".

          آفاق التطوير والنهوض بابستمولوجية الفقه:

     في ضوء الدراسة الإبستمولوجية للفقه الإسلامي، يمكن تحديد عدد من الآفاق التي تسهم في تطوير هذا الحقل المعرفي والنهوض به:

· تفعيل الدور النقدي للإبستمولوجيا: من خلال تحويلها من مجرد مداخل إلى العلم إلى مساهمة فعالة في تطويره، وتجاوز الطابع الفلسفي المجرد إلى الممارسة النقدية الفاعلة في الحقل الفقهي.

· تجاوز الثنائية التقليدية: بين العلم والدين، والعقل والنقل، من خلال تبني رؤية تكاملية تجمع بين البعدين الروحي والمادي في المعرفة الفقهية.

· الانفتاح على المعارف الحديثة: حيث تدعو ابستمولوجية الفقه إلى "استيعاب كل ما هو جديد ومفيد من العلوم الإنسانية والطبيعية الحديثة، مع مراعاة السياق التاريخي والاجتماعي والديني الخاص بالعالم الإسلامي".

· بناء نموذج معرفي إسلامي: كما دعا إليه محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه "إبستمولوجية المعرفة الكونية.. إسلامية المعرفة والمنهج"، من خلال تقديم رؤية إسلامية للمعرفة ترتكز على القرآن الكريم كمصدر أساس للعلوم والمعارف.

          الخاتمة:

     نحو ابستمولوجيا فقهية تجديدية تشكل ابستمولوجية الفقه الإسلامي مدخلاً منهجياً ضرورياً لتجديد الفكر الإسلامي المعاصر، من خلال تقديم قراءة نقدية للتراث الفقهي تستكشف العقلانية الكامنة في مناهج الاستنباط والفهم، وتكشف الأسس المعرفية التي تقوم عليها العلوم الشرعية. ولا تقتصر أهمية هذا الحقل المعرفي على الجانب الأكاديمي، بل تمتد إلى المشروع الحضاري للأمة الإسلامية، الذي يتطلب فهماً عميقاً لأسس المعرفة الإسلامية ومناهجها. وتبقى ابستمولوجية الفقه الإسلامي حاجة منهجية ملحة لتأسيس خطاب إسلامي معاصر، يواجه التحديات الفكرية والحضارية، ويستطيع تقديم رؤية متكاملة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، مستندة إلى الوحي الموجه والعقل المجتهد في بناء المعرفة واستئناف دور الأمة الحضاري.