الخميس، 9 أبريل 2015

بين الغزالي وابن رشد

     ألف الغزالي كتابه تهافت الفلاسفة في القرن الحادي عشر الميلادي، ليهاجم فيه آراء الفلاسفة ومعتقداتهم، وواجه الفلاسفة آراءه بعد ذلك بالنقد والتمحيص، خاصة ابن رشد الذي ألف كتابا ردا على ذلك سماه تهافت التهافت، وذلك في القرن الثاني عشر الميلادي 
وقد تكلم الغزالي وابن رشد باسم الدين، واستخدم كلاهما النص الديني ـ سواء آيات القرآن الكريم أو الأحاديث الشريفة ـ لتأكيد رأيه، وظهرت آراؤهما متضاربة، الأمر الذي يجعل تحديد مدى صحة أيهما أو خطئه من النظرة الأولى، أمرا صعبا. ويدور البحث حول حوار الغزالي وابن رشد في كتابيهما.
     وهدفنا من هذه القراءة هو محاولة لفهم ما يقوله كلاً منهما، ومعرفة بعض الحوارات والاتجاهات الفكرية في تاريخ الفكر الإسلامي، ذلك لتنمية ثقافتنا الروحية. كما أردنا أن نعرف الصواب فيما يُعرض من خلال كتابي ابن رشد والغزالي، كما أنه قد شاع أن الغزالي قد وجه بكتابه تهافت  الفلاسفة، ضربة قاضية إلى الفلسفة لم تقم لها بعد قائمة.
     بداية أريد أن أوضح معاني بعض المصطلحات التي سيرد ذكرها كثيرا أثناء البحث منها:
     الفلسفة: هي حب الحكمة والبحث عن المعرفة الكلية والحقيقة المطلقة بالتأمل العقلي المجرد.
     الشريعة: هي كل ما جاء به الدين ويقصد بها في هذا البحث النقاط التي اختلفوا فيها من أصول الدين وخاصة كل ما يتعلق بالغيبيات مثل هل العالم قديم أم حديث؟ هل يتم الحشر بالأجساد أم بالأرواح؟ علم الله هل هو علم بالكليات والجزئيات أم هو علم بالكليات فقط؟
     الإلهيات : جميع المسائل التي تدور حول قدم العالم أو حدوثه ـ ذات الله وصفاته ـ نفي
الشريك عنه ...إلخ.
     الطبيعيات: كما عرفها أرسطو هي الأسباب التي يدين لها الجسم بالوجود وهى (المادة ـ الصورة ـ الفاعل ـ الغاية)
          نبذة عن الغزالي: (450 هـ - 505 هـ / 1058 م- 1111م)
     هو أبو حامد محمد ابن محمد الغزالي ولد في طوس في إقليم خراسان، نشأ في بيت فقير درس الفقه على يد الإمام الرازكاني والإمام أبي نصر الإسماعيلي، التحق بالمدرسة النظامية في نيسابور ودرس فيها علم أصول الفقه وعلم الكلام على يد الإمام الجوينى حتى برع فيهما وبرع في المنطق والفلسفة.
     اختاره الوزير السلجوقي (نظام الملك) للتدريس في المدرسة النظامية في بغداد عام 484هـ - 1091 م. وقد وصل الغزالي إلى أن يكون الشخصية العلمية الأولى بها، في هذا الوقت كانت فكرة الإمام المعلم المعصوم قد انتشرت على نطاق واسع في العراق عن طريق التنظيمات الباطنية الإسماعيلية التي كانت تعضدها الدولة الفاطمية في مصر والتي كانت تهدد الدولة السلجوقية والخليفة العباسي تهديدا شديدا، فأمره الخليفة المستظهر العباسي بكتابة كتابيه فضائح الباطنية وتهافت الفلاسفة. وكان لإضعاف المذهب الباطني لابد من زعزعة الأسس الفلسفية التي بني عليها هذا المذهب حيث أن الفلسفة السيناوية (نسبة لابن سينا) تلتقي في نقاط كثيرة مع الفلسفة الإسماعيلية (الباطنية - الشيعية) فكان لابد من إضعاف هذا الفكر السينوي بكتابه تهافت الفلاسفة.
     وعندما اغتال الباطنيين الوزير السلجوقي (نظام الملك) ترك الغزالي بغداد واتجه إلى الشام ثم إلى بيت المقدس معتكفا في مساجدها ثم إلى مكة والمدينة وعندما تولى الحكم فخر الملك ابن الوزير السابق نظام الملك عاد الغزالي مرة أخرى للتدريس في المدرسة النظامية بنيسابور بناء على طلب الحاكم ثم ترك التدريس مرة أخرى بعد اغتيال فخر الملك على يد أحد الباطنيين عام 500 هـ - 1106م. فعاد الغزالي إلى مسقط رأسه طوس، حيث بنى بها مأوى للطلاب الصوفية ممن يقصدونه وظل بها حتى توفي عام 505 هـ - 1106م.
          من مؤلفاته:
·       مقاصد الفلاسفة.
·       إحياء علوم الدين.
·       مشكاة الأنوار.
·       تهافت الفلاسفة (موضوع البحث).
·       فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة.
·       المنقذ من الضلال.
·       فضائح الباطنية.
          نبذة عن ابن رشد: (520 هـ - 595 هـ / 1126 م – 1198م)
      هو أبو الوليد محمد ابن أحمد ابن محمد ابن رشد ولد في أسره ذات نفوذ علمي كبير وسلطان قضائي ملحوظ فقد كان جده قاضيا لقرطبة كما كان من كبار فقهاء المذهب المالكي .
     عاش ابن رشد في الأندلس حيث كان قاضيا في قرطبة مسقط رأسه وكان يعيش في بلاط الموحدين طبيبا ومستشارا علميا كتب العديد من الشروحات على أعمال أرسطو والتي ترجمت إلى اللاتينية وقد كان لها أكبر الأثر في المدارس الفكرية في عصور أوروبا
الوسطى، فتح أمام علماء أوروبا أبواب البحث والمناقشة على مصراعيها.
     دافع ابن رشد عن الفلسفة وصحح لعلماء وفلاسفة سابقين له كابن سينا والفارابي في فهم بعض نظريات أرسطو، درس علم الكلام والفقه والشعر والطب والرياضيات والفلك والفلسفة.
     قدمه ابن طفيل الذي كان أستاذا له لخليفة الموحدين أبى يعقوب ابن يوسف الذي كان يؤثر العلوم والفقه واللغة إيثارا شديدا ورغب في تعلم الفلسفة وأمر بجمع كتبها مما شجع ابن رشد على إبداء أرائه الفلسفية.
     بعد موت الخليفة أبى يعقوب ابن يوسف تولى ابنه الخلافة فوشى أعداء ابن رشد ضده عند الخليفة ورموه بالزندقة والمروق فنفاه وسائر الفلاسفة وأمر بمنع علوم الفلسفة من أن تدرّس وإحراق كتب الفلسفة، ومن بينها كتب ابن رشد، ثم ما لبس أن عاد الخليفة إلى نفسه فاستدعاه إلى مراكش واعتذر إليه ولكن ابن رشد ما لبث أن توفى في مراكش عام 595 هـ -1198م. وضع ابن رشد أكثر من خمسين كتابا في مجالات مختلفة وكتب شروح وتلاخيص لأرسطو.
          ومن كتبه:
·        كتاب الكليات.
·        كتاب تهافت التهافت(موضوع البحث)
·        كتاب: التحصيل.
·        كتاب: الحيوان .
·        كتاب: المسائل في الحكمة.
·        كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه.
·        كتاب: شرح أرجوزة ابن سينا في الطب.
·        كتاب: فصل المقال فيما بين الحكمة من اتصال.
          لماذا كتب الغزالي كتابه تهافت الفلاسفة؟
     كتب الغزالي هذا الكتاب ليهاجم فيه الفلاسفة اليونانيين ومن اتبعهم من فلاسفة المسلمين
خاصة ابن سينا والفارابي. ويقول الغزالي في كتابه (ما دفعني إلى تأليف هذا الكتاب أنني رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء وقد رفضوا وظائف الإسلام واستحقروا شعائر الدين واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده بفنون من الظنون يتبعون فيها رهطا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ولا مستند لضلالهم إلا تقليد سماعي وأن مصدر ضلالهم سماعهم أسماء هائلة كسقراط وأفلاطون وأرسطو وأمثالهم فلما رأيت هذا العرق من الحماقة انتدبت لتحرير هذا الكتاب.
     ويقول الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة "نحن لم نخض في هذا الكتاب خوض الممهدين بل خوض الهادمين المعترضين ولذلك سمينا الكتاب تهافت الفلاسفة لا "تمهيد الحق" وأيضا جاء في كتابه "المقصود تعجيزكم عن دعواكم معرفة حقائق الأمور بالبراهين القطعية وتشكيككم في دعاويكم وإذا ظهر عجزكم ففي الناس من يذهب إلى أن حقائق الأمور الإلهية لا تُنال بنظر العقل بل ليس في قوة البشر الإطلاع عليها، وإنما إنكارهم عليهم بنسبتهم إلى الجهل بمسالك البراهين جاء في المقدمات الأربع في كتابه تهافت الفلاسفة الدواعي لتأليف هذا الكتاب ملخصها:
     في المقدمة الأولى ذكر أنه سيعتمد في الرد على الفلاسفة وعلى أرسطو خاصة على ما نقله ابن سينا والفارابي، ثم قال الغزالي أنه في ردوده على الفلاسفة سيقتصر على ما يتعلق النزاع فيه على أصل من أصول الدين كالقول في حدوث العالم وحشر الأجساد وصفات الصانع ويقول أنهم أنكروا جميعا ذلك وفي نفس هذه المقدمة ذكر أن مذهبهم لا يصدم أصلا من أصول الدين وأن إيمانهم بالرسل والأنبياء لا شك فيه وإنما هم تخبطوا في تفاصيل هذه الأصول وقد زلوا فيها فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل. وجاء أيضا في هذه المقدمات أن الغزالي سيجعل جميع الفرق ألبا عليهم أي انه سيضربهم ليس فقط بما في المذهب الأشعري بل سيجند ضدهم جميع الفرق، وأشار الغزالي إلى أن مذهبه هو الأشعري وانه هو المذهب
الحق الذي سيبني عليه جميع أفكاره وأرائه.
     وقد قال في كتابه "المنقذ من الضلال " بشأن ما كتبه في عهد الوزير السلجوقي (نظام الملك) عندما استدعاه في بغداد "وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكسب الجاه فأدعو إليه بقولي وعملي وكان ذلك قصدي ونيتي".

          لماذا كتب ابن رشد كتابه تهافت التهافت؟ 
     لما كان لكتاب تهافت الفلاسفة من آثار على أذهان الناس فقد جعلهم ينقسمون فريقين فريق يهاجم الفلسفة والفلاسفة وفريق آخر لا يهاجم الفلسفة والفلاسفة.
     وقد أشار في مقدمة كتابه هذا أن الغرض من هذا القول أن يبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب تهافت الفلاسفة لأبي حامد في التصديق والإقناع وقصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان.
     وهذه الأقاويل المثبتة كما عرفها أرسطو قال بها ابن رشد، من زاوية الصدق واليقين وهي:
1.   الأقاويل البرهانية.
2.   الأقاويل الجدلية.
3.   الأقاويل السفسطائية.
4.   الأقاويل الخطابية.
5.   الأقاويل الشعرية.
     وفي هذا الكتاب يخالف ابن رشد كلا من الغزالي والفلاسفة وابن سينا الرأي أحياناً، وأحيانا أخرى يوافقهم، ويقول ابن رشد في كتابه فصل المقال عند الرجوع إلى كتب السلف (ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرناهم منه وعذرناهم).
          المسائل التي كانت محل الخلاف:
     خالف الغزالي الفلاسفة في عشرين مسألة تدور ستة عشر منها حول الإلهيات التي تبحث في الغيبيات مثل قدم العالم وحدوثه، مسألة الخلود، ذات الله تعالى وصفاته ونفي الشريك عنه، الصانع أم الدهر، العلم بالجزئيات والكليات، أما الأربع مسائل الأخرى فإنها تدور حول الطبيعيات، مثل جوهرية النفس واستقلالها عن البدن وخلودها، وحشر الأجساد.
          حكم الغزالي على الفلاسفة بالكفر في ثلاثة مسائل وهي قولهم:
1.   قدم العالم، قضية القدم والحدوث.
2.   أن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات.
3.   إنكار حشر الأجساد في الآخرة والاكتفاء ببعث الأرواح فقط.
     ويرى الغزالي أن هذه المسائل لا تلائم الإسلام مطلقا ومن يعتقد في هذه الآراء فإنه يعد مكذبا للأنبياء ويكون بذلك خارجا عن العقيدة الإسلامية.
     وقد حكم بالبدعة في السبع عشرة مسألة الأخرى وهي:
1.   أبدية العلم وأزليته.
2.   صانع العالم ، مشكلة صدور الكثرة عن الواحد.
3.   في الاستدلال على وجود صانع العالم.
4.   أن الله واحد ونفي الكثرة في ذاته.
5.   الصفات هل هي عين الذات أم غيرها.
6.   في الوحدانية.
7.   الوجود والماهية في الذات الإلهية.
8.   التنزيه والتجسيم.
9.   الصانع أم الدهر.
10.                 العلم بالكليات، أن الأول يعلم غيره والأنواع والأجناس بنوع كلي.
11.                 هل يعقل الأول ذاته؟
12.                 طاعة السماء إقامة الدليل على أن السماء حيوان مطيع لله تعالى بحركته الدورية.
13.                 الغرض المحرك للسماء.
14.                 اللوح المحفوظ ونفوس السماء، وهي الملائكة المطلعة على جميع الجزئيات الحادثة في هذا العالم.
15.                 السببية أم العادة.
16.                 روحانية النفس ومسألة الخلود.
17.                 مسألة فناء النفوس البشرية.
          الفلاسفة: منهم من ذهب إلى القول
·       أن الله لا يعلم إلا نفسه.
·       أن الله لا يعلم الجزئيات فهو يعلم الأشياء علما كليا لا يدخل تحت الزمان ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن.
          يرى ابن سينا:
     الله يعلم الأشياء علما كليا لا يدخل تحت الزمان ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن، وأن الله لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي.
     قال الغزالي: لابد أولا من فهم مذهبهم ثم الاشتغال بالاعتراض، وحتى نفهم هذا المذهب سنبين هذا المثال، فمثلا الشمس تنكسف بعد أن لم تكن منكسفة ثم تتجلى فيحصل لها ثلاث أحوال، حال أن الكسوف معدوم ولكنه منتظر الوجود أي سيكون، وحال كائن وحال ثالث هو فيها معدوم ولكنه كان من قبل.
     وهذه الأحوال الثلاث توجب على من يعلمها التغير فهو كان جاهلا بها ثم علم بها ولو علم عند وجوده أنه معلوم كان جهلا وزعموا أن الله تعالى لا يختلف حاله في هذه الأحوال الثلاثة حيث أنه لا يتغير وما لم تختلف حاله لم يتصور أن يعلم هذه الأمور الثلاثة وإذا كان يعلم هذه الأمور بعلم يتصف به في الأزل فلا يعزب عن علمه شيء وأن العلم بوقت الكسوف هو إضافة إلى الزمان فلا يتصور أن يعلم هذا الزمان لأنه يوجب التغير وإما فيما ينقسم في المادة والمكان أعطى الغزالي مثلا كأشخاص الناس والحيوانات فإنهم يقولون لا يعلم عوارض زيد وعمرو وإنما يعلم الإنسان المطلق بعلم كلي فالله لا يعرف أفعال شخص بعينها لأن أفعاله حادثة بعد أن لم تكن لأنها أحوال تنقسم بانقسام الزمان وهذه الأمثلة توضح خبــل الفلاسفة حيث أن هذه الأحوال إذا تعاقبت على محل واحد أوجبت فيه تغيرا لا محالة فباختلاف العلم اختلف العالم فإن لم يعلم شيئا ثم علمه فقد تغير.
     ويقول الغزالي أن العلم بالكليات هو أيضا علم بالمختلف والمتعدد فالله يعلم الأشياء علم واحد في الأزل والأبد والحال لا تتغير وغرضهم نفي التغير متفق عليه ولا يصلح العلم الواحــد لان يكون علما بالمختلفات لأن المضاف مختلف والإضافة مختلفة فالعلم بالحيوان لا يسد مسد العلم بالجماد والعلم بالبياض لا يسد مسد العلم بالسواد والعلوم المختلفة كيف تنطوي تحت علم واحد وإذا لم يوجب الاختلاف جازت الإحاطة بالكل بعلم واحد في الأزل والأبد ولا يوجب ذلك تغيرا في ذات العالم.
          ابن رشد:
     قال أن: الأصل في هذه المشاغبة تشبيه علم الخالق بعلم الإنسان وقياس أحد العلمين على الثاني وأن تغير الإدراك بتغير المدركات وتعدد الإدراك بتعدد هذه المدركات ليس بعلم كما قال الغزالي.
     وقول الغزالي أن تعدد الأنواع والأجناس يوجب التعدد في العلم صحيح ولذلك الفلاسفة لا يصفون علمه سبحانه بالموجودات لا بكلي ولا بجزئي وذلك أن العلم الذي هذه الأمور لازمة له هو عقل منفعل ومعلول والعقل الأول هو فعل محض وعلة فلا يقاس علمه على العلم الإنساني لأن علمنا معلول للموجودات وعلمه علة لها. والفلاسفة يرون أن الرؤية الصادقة تتضمن الإنذارات للجزئيات الحادثة في الزمان والمكان، وأن ذلك العلم المنذر يحصل للإنسان في النوم من قبل العلم الأزلي والمدبر للكل والمستولي عليه، فكيف يفهم من قولهم أن الله لا يعلم إلا الجزئيات.
     العلم بالأشخاص هو حس أو خيال والعلم بالكليات هو عقل وتجدد الأشخاص أو أحوال الأشخاص يوجب شيئين تغير الإدراك وتعدده وعلم الأنواع والأجناس ليس يوجب تغيرا إذ أن علمها ثابت وأنهما يتحدان في العلم المحيط بهما وأنهما يجتمعان أي الكلية والجزئية في معنى التعدد.
     وأما قول الفلاسفة أن الله لا يعلم إلا نفسه فقد قام البرهان على أنه لا موجود إلا هذه الموجودات التي نعقلها ولما كان أنه لا يعقل إلا ذاته فلابد أن يتعلق علمه بها إذ لا يمكن أن يتعلق بالعدم وإذا وجب أن يتعلق بهذه الموجودات فإما أن يتعلق بها نحو تعلق علمنا بها وإما أن يتعلق بها على وجه أشرف من جهة تعلق علمنا بها وتعلق علمه بها على نحو تعلق علمنا بها مستحيل فوجب أن يكون تعلق علمه بها على نحـو أشرف لأن العلم الصادق هو الذي يطابق الموجود فللموجود إذاً وجودان وجود أشرف ووجود أخس والوجود الأشرف هو علة الأخس وهذا قول القدماء أن البارئ سبحانه هو الموجودات كلها وهو المنعم بها والفاعل لها ولذلك قال الصوفية"لا هو إلا هو" ولكن هذا كله هو علم الراسخين في العلم ولا يجب أن يكتب هذا ولا أن يكلف الناس اعتقاد هـذا وليس هو من التعليم الشرعي ومن أثبته في غير موضعه فقد ظلم كما أن من كتمه عن أهله فقد ظلم.
           مسألة إنكارهم حشر الأجساد في الآخرة اكتفاء بالبعث الروحاني فقط.
     ابن سينا:
     أنكر بعث الأجساد ورد الأرواح للأبدان ووجود النار الجسمانية ووجود الجنة وحور العين وسائر ما وعد به الناس لأن كل ذلك أمثلة ضربت لعوام الخلق، ويرى ابن سينا أن النفس جوهراً روحانيا مستقلا عن البدن كانت موجودة قبله وستبقى بعده وأنها وحدها دون البدن هي التي ستكون موضع ثواب أو عقاب في الآخرة.
     الغزالي:
     أن أكثر هذه الأمور ليست مخالفة للشرع فإننا لا ننكر أن في الآخرة أنواع من اللذات أعظم من المحسوسات ولا ننكر بقاء النفس عند مفارقة البدن ولكن عرفنا ذلك بالشرع إذ قد ورد فيه بالميعاد ولا يفهم الميعاد إلا ببقاء النفس، وإنما إنكارنا عليهم هو معرفة ذلك من خلال العقل.
     ولكن المخالف للشرع هو إنكار حشر الأجساد وإنكار اللذات الجسمانية في الجنة وإنكار الآلام الجسمانية في النار وإنكار وجـود الجنة والنار كما وصفت في القرآن فما المانع من تحقيق الجمع بـين السعادتين الروحانية والجسمانية وكذا الشقاوة فقوله تعالى " فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ[1] " وقوله تعالى في الحديث القدسي" ... أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ... " فوجـود هذه الأمور الشريفة لا يدل على نفي غيرها بل الجمع بين الأمرين أكمل.
     ويرى الغزالي أن النفس باقية بعد الموت، وهي جوهر قائم بنفسه، وأن ذلك لا يخالف الشرع، بل دل عليه الشرع في قوله "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[2]" وبقوله عليه السلام "أرواح الصالحين في حواصل طير خضر معلقة في العرش " وبما ورد من الإخبار بشعور الأرواح بالصدقات والخيرات، وسؤال منكر ونكير، وعذاب القبر وغيره، كل ذلك يدل على البقاء. وأن البعث سيكون بالبدن ـ أي بدن ـ سواء كان من مادة البدن الأول، أو من غيره، أو من مادة استؤنف خلقها.
     ابن رشد:
     يرى ابن رشد أنه لا ينبغي التعرض لمبادئ الشرائع بقول مثبت أو مبطل في مبادئها العامة مثل هل يجب أن يعبد الله أو لا يعبد هل هو موجود أم ليس موجود، وأن الشرائع جميعها اتفقت على وجود الحياة الآخرة بعد الموت وإن اختلفت في صفة الحياة الآخرة.
والفلاسفة تحدثوا في هذه المسألة لأنهم يرون أن الفلسفة تحقق وتمنح السعادة العقلية وتعلم صاحبها الحكمة والشريعة، تعلم الجمهور عامة ومع هذا فإن كل الشرائع نبهت بما يخص الحكماء واهتمت بما يشترك فيه الجمهور ويتم سعادة الحكماء -وهم الخاصة- بمشاركتهم للعامة من الناس، ومن فضيلة هؤلاء الحكماء أن لا يستهينوا بما تعلموه عندما كانوا من العامة.  
     ويرى ابن رشد أن فكرة حشر الأرواح وهى التي كفرهم فيها الغزالي وقال أن هذه المسألة أول من قال بها هم أنبياء بني إسرائيل الذين أتوا بعد موسى عليه السلام وذلك بيّن من الزبور ومن كثير من الصحف المنسوبة لبنى إسرائيل، وكذلك في الإنجيل وفي شريعة الصابئة .
     ورؤية ابن رشد في بعث الأجساد أن ذلك الوجود الأخروي سوف يكون له نشأة أخرى أعلى من هذا الوجود وطور آخر أفضل من هذا الطور واستند إلى قوله تعالى في الحديث القدسي عن الجنة فيها " ...مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" 
ويرى ابن رشد أيضا أنه عندما كفّر الغزالي الفلاسفة في قولهم أن البعث سيكون روحاني وحده فقد أخذ برأي الصوفية بالميعاد الروحاني في كتاب آخر له وأجاز القول بالميعاد الروحاني. وفي نفس الوقت كفر الغزالي هذه الفكرة في كتاب آخر له وهذا تخليط وبذلك فهذا الرجل أخطأ على الشريعة كما أخطأ على الحكمة.
     التعليق:
     أولاً: أن كلاً من ابن رشد والغزالي قد استخدم العقل في الخوض في مسائل غيبية، سبق أن اعترف كلاهما أنه لا يجوز الخوض بالعقل فيها، فهي أمور خارج دائرة إحاطة العقل، وعليه فإن ما وصل إليه كل منهما هو نتيجة ظنية وليست قطعية.
      ثانيا: بالنسبة للغزالي يؤخذ عليه:
1.   أنه وضع حكماً مسبقاً وهدفاً مسبقاً عند مناقشة آراء ومعتقدات الفلاسفة، وهو موقف غير محايد لا يصح اتخاذه كأساس لحوار موضوعي، يعطي نتائج موضوعية تحتمل قبول رأي الطرف الآخر كليا أو رفضه كلياً، أو قبول بعضه ورفض بعضه.
2.   أنه نسب إلى الفلاسفة آراءً وأقوالاً وأمثلةً لم يثبت صدورها عنهم، ثم قام بتحليل ما نسبه إليهم واستخلص منه نتائج، وبذلك تكون هذه النتائج غير مبنية على أساس واقعي. فقد وصف الغزالي الفلاسفة الإسلاميين أنهم مقلدون للفلاسفة اليونانيين، في حين أن ابن سينا كان يصرح بأنه سيأخذ ما صح فقط عند أرسطو، ويضيف هو من عنده ما لم يقل به أرسطو ولا أتباعه. ولم يرجع الغزالي في ذلك إلى نص الشرع الذي يدعي الدفاع عنه ويتثبت من نسبة الرأي أو القول إلى صاحبه قبل أن يصدر حكما عليه "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[3] "
3.   أن الغزالي حكم بوعيه في العقيدة و تأويله لأصول الدين على الفلاسفة في حين أن تجربة الإنسان الإيمانية ووعيه عن حقيقة الإيمان وكيفية إيمانه هي مسائل خاصة به يلتزم هو بها ولا يجوز فرضها على الآخرين. عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: " يَا حَارِثُ، كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ " قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ: " انْظُرْ مَا تَقُولُ، إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً " قَالَ: أَلَسْتُ قَدْ عَزَفْتُ الدُّنْيَا عَنْ نَفْسِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا يَعْنِي يَصِيحُونَ، قَالَ: " يَا حَارِثُ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
4.   أنه كتب كتاب تهافت الفلاسفة لأغراض سياسية وشخصية، وكذا كتابه فضائح الباطنية الذي قال في مقدمته أنه ألف هذا الكتاب تلبية للأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية، وبذلك لم تتوفر لديه الحيدة التي تؤدي إلى نظر موضوعي لرأي الطرف الآخر، وبالتالي الوصول إلى نتائج موضوعية منزهة عن الهوى، فقد تم ندبه من قبل الحاكم لتأليف كتابيه لإدانة آراء ومعتقدات الفلاسفة والباطنية، وقد استخدم الدين و طَوَّعه بغير حق في ذلك.
5.   أنه أنكر على الفلاسفة استخدام العقل والوصول عن طريقه إلى أمور أتى بها الشرع، وهذا منافي لتوجيهات الشرع من الحث على استخدام العقل، هذا بالإضافة إلى أنه هو نفسه قد وضع خمس مراتب للوجود وأقر أن من آمن بإحداها فقد صدق بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، و من هذه المراتب مرتبة الوجود العقلي، ومع ذلك فقد قام بتكفير الفلاسفة لاستخدامهم العقل، وهذه المراتب الخمس التي وضعها للوجود ـ كما وردت بكتاب تهافت الفلاسفة ـ هي (الوجود الذاتي، الحسي، العقلي، الشبهي، الخيالي).
6.   كما أكد هو نفسه أن الفلاسفة لم يصدموا أصلاً من أصول الدين، ومع ذلك فقد قام بتكفيرهم بسبب كيفية إيمانهم بهذه الأصول، وهذا أمر غير جائز شرعاً. "عن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى الْحُرَقَاتِ فَنَذِرُوا بِنَا فَهَرَبُوا فَأَدْرَكْنَا رَجُلًا، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَضَرَبْنَاهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا مَخَافَةَ السِّلَاحِ. قَالَ: " أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَهَا أَمْ لَا؟ مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ " فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أُسْلِمْ إِلَّا يَوْمَئِذٍ[4] " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ المَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ[5]" وهذا يدل على أنه إذا ألتزم الإنسان بظاهر الشرع فإنه مؤمن ولا يجوز تكفيره.
7.   وبالرغم من مهاجمة الغزالي للفلسفة والفلاسفة ليهدم فكرهم ومعتقدهم، إلا أنه أذكي الفكر الفلسفي بسبب صدى الآراء الهائل لهذا الكتاب، وواجه الفلاسفة بعد ذلك آراءه بالنقد والتمحيص، خاصة ابن رشد الذي كتب كتابه تهافت التهافت في القرن الذي تلي كتابه تهافت الفلاسفة. والفلسفة قد عرفت قفزة نوعية، بعد تأليف كتاب الغزالي، في الشرق والغرب وابن العربي الأندلسي الأشعري المذهب (مذهب الإمام الغزالي ) الذي التقى بالغزالي وسمع منه، والذي قال فيه قولته المشهورة:
"شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيأهم فما استطاع" وقال أيضا ابن تيمية "شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما استطاع"
     لذلك نرى أن الإمام الغزالي لم يستخدم منهجاً موضوعياً، يؤدي إلى نتائج يمكن الاطمئنان إليها أو الاعتماد عليها.
     إلا أنه يجب ألا نغفل أن الإمام الغزالي قد صحح موقفه تجاه استخدام العقل، وذلك في مؤلفاته بعد ذلك، فيقول عن علاقة العقل بالدين في كتابه: "مشكاة الأنوار" العقل أنموذج من نور الله " وفي كتابه "معارج القدس" يقول الغزالي: " العقل كالأس، والشرع كالبناء، ولن يغني أس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس، فالشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل ، وهما متعاضدان بل متحدان".
      يقول في كتابه إحياء علوم الدين "وظن ما يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن، فهذا ظن صادر عن عمى في عين البصيرة، نعوذ بالله منه، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض، فيعجز عن الجمع بينهما، فيظن أنه تناقض مع الدين، فيتحير به، فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين.
     كما أنه قال " إنه لا يقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل في أمثال هذه الأشياء " في كتابه فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة.
       ثالثاً: بالنسبة لابن رشد
1.   قد سلك ابن رشد مسلكاً موضوعياً عند النظر في آراء الآخرين، سواء فيما يتعلق بآراء الغزالي أو الفلاسفة المسلمين أو غيرهم من الفلاسفة، فلم يرفض كل ما قالوه ولم يقبل كل ما قالوه. ويقول ابن رشد في كتابه فصل المقال، عند الرجوع إلى كتب السلف (ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرناهم منه وعذرناهم).
ويعلق ابن رشد على الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة، فيقول: "فإن كان الرجل يقصد قول الحق في هذه الأشياء فغلط فهو معذور، وإن كان علم التمويه فيها فقصده، فإن لم يكن هنالك ضرورة داعية له فهو غير معذور، وإن كان قصد بها ليعرف أنه ليس عنده قول برهاني يعتمد عليه في هذه المسألة ـ كما يظهر من قوله ـ فهو صادق في ذلك، إذ لم يبلغ الرجل لمرتبة من العلم المحيط بهذه المسائل، وهذا هو الظاهر، وسبب ذلك أنه لم ينظر إلا في كتب ابن سينا، فلحقه القصور في الحكمة من هذه الجهة".
2.   اهتم ابن رشد في إظهار أن الشرع قد أوجب النظر في الموجودات واعتبارها، وذلك أخذا من قوله تعالى " فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ[6] " ويقول " أن العلاقة بين الفلسفة التي تمثل العقل، والشرع الذي يمثل الدين، هي أن الفلسفة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة، وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة، وأي خلاف بينهما إنما يرجع إلى أصحاب الأفهام الفاسدة والاعتقادات المنحرفة". ويعتمد ابن رشد علي القياس البرهاني في النظر إلى الموجودات، والبرهان هو كل ما ينطلق مما هو مشاهد ومحسوس. ويقول ابن رشد في كتابه تهافت التهافت "إن الفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع، فإن أدركته استوي الإدراكان، وكان ذلك أتم في المعرفة، وإن لم تدركه أعلمت بقصور العقل الإنساني عنه، و أن يدركه الشرع فقط" . 
3.   و يرى ابن رشد أن أصول الدين موضوع إيمان فلا يجوز للعقل الجدال فيها، لأنها تتعلق بموضوعات غيبية تقع خارج ميدان العقل وخارج البديهة والحس، أما مقاصده فهي حمل الناس علي الفضيلة بواسطة العمل ووفق ما يقرره الشرع، ومما تعطيه الشريعة من معرفة حول ظواهر الكون، هو إما من أجل تنبيه العقل إلى إمكانية توظيف قواه في إنتاج معرفة استدلالية، تذكي المعرفة الإيمانية التي تعطيها هذه الأصول، وإما من أجل توجيهه نحو إعمال العقل في تطبيق الشريعة حسب الظروف، لتوجيه الإنسان في كل وقت نحو الخير والفضيلة والسعادة. أما الفلسفة فلها أصول خاصة بها يضعها العقل ويسلم بها أو يبرهن عليها، يستقيها من الحس والتجربة وبديهية العقل، وهدفها هو بناء معرفة صحيحة بالكون بجميع ظواهره وأسبابه، وتهتم أيضا بسلوك الإنسان الفردي والجماعي، وهدفها توجيه الإنسان نحو الخير و السعادة.
ورغم ما تقدم فإن ابن رشد يؤخذ عليه، أنه استخدم العقل في الجدال في أمور غيبية، لينفيها ويثبت عكسها، مما يُفضي في النهاية إلى نتائج ظنية وغير قطعية.
     رابعاً:
     أنه لا يكفي أن يستخدم إنسان النصوص سواء كانت نصوص القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية الشريفة، لتكون حجة دامغة في مواجهة رأي الآخر، فقد يستدل شخصان بنص واحد لإثبات رأيين متضاديين في قضية واحدة، وذلك بسبب اختلاف مفهومهما حول النص، حيث أنه يستخدم فهمه في النص وليس معنى النص كما جاء من مصدره، وأن هذا الفهم هو فهمه الآن، وهو قابل للتغيير. ولهذا يجب أن يتفق المتحاورين على قواعد عند استخدام النصوص الدينية كمرجعية، فيجب أن يكون مفهوماً أن مسألة العقيدة (وخاصة كيفية الإيمان) هي مسألة بين العبد وربه وليس من سلطة أي إنسان الحكم عليها. كما أنه عند استخدام النصوص لتحقيق المصلحة العامة، يجب أن يتفق المجموع أو أغلبه على الرأي، في ضوء النص الديني وفي ضوء الهدف والمقصد منه.
     فقد استدل الغزالي بالحديث القدسي " أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ .." ويقول أن الجمع بين الأمرين أكمل.
     أما ابن رشد فقد أستدل بنفس هذا الحديث القدسي ويقول أن الوجود الأخروي سيكون له نشأة أخرى أعلى من هذا الوجود. وأستدل على أن ما ورد بالآية " مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ[7]..." هو أحث على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها عن المعاد، لذلك كان تمثيل المعاد لهم بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيلة بالأمور الروحانية ، فهو عنده مجرد تمثيل لما في المعاد.


     خامساً:
     وبعد اتفاق الغزالي( بعد تعديل موقفه) مع ابن رشد، في مفهومهما أنه لا يوجد تعارض بين العقل والشريعة، تكون النصوص الدينية ( الآيات والأحاديث)، هي المرجع لكليهما، حيث أنها تحث علــى استخدام العقل في الفهم والتفكر والتأمل والتدبر لنصوص الشرع وآلاء الله، وأُمر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، والآيات والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فأحي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[8]"
"الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار[9]ِ"
" أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[10]"
" وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ[11] "
" أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ[12] "
" أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ[13] "
 وقال صلوات الله و سلامه عليه: "أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم[14]"
      نتائج البحث.
1.   عند التعرض لأي فكر يجب التثبت من صحة انتساب رأى الآخر إليه، وأن يكون موقفنا في فهمه موقفا محايداً، وأن تكون لدينا مرجعية، نتفق أو نختلف مع الآخر، على أساسها، كما أن قبولنا أو رفضنا الآن لفكر الآخر يعتمد على إمكانياتنا الحالية، والتي نعلم أنها قد تتغير فيما بعد.
2.   لا يجوز الحكم على إنسان حكماً مطلقاً بالكفر نتيجة اختلاف الرأي، كما أن الحكم على كيفية الإيمان ليست من سلطه أي إنسان. ففهم الإنسان أو تجربته الشخصية فيما يتعلق بالغيبيات هي مسألة خاصة به، أو بمن يناسبه هذا الفهم أو هذه التجربة، وليس وعياً أو تجربةً يتم فرضها على الآخرين، أو الحكم عليهم من خلالها.
3.    وفي حاضرنا عند تلقي معلومات من الأرواح عن تجاربهم في العالم الآخر (كما في كتاب " الإنسان روح لا جسد" لرؤوف عبيد وغيره من الكتب) يجب أن يكون مفهوماً عندنا، أنها ـ في حالة صدق هذه التجارب ـ فهي وإن كانت تؤكد امتداد الحياة بعد الموت، ومدى تأثير فكر الإنسان ومعتقده وما كسبه، على الإنسان بعد انتقاله، إلا أنها تجارب شخصية في مستويات معينة، وهي تجارب خاصة بأصحابها وليست إخباراً عن كل ما في الجانب الآخر من أمورٍ وأحوال.
4.    لا يمكن التفكر في ذات الله، ولا يمكن الإحاطة بعلمه أو صفاته، ولا يجوز تشبيه الخالق بالمخلوق في الأفعال أو الصفات.
وإنما العلم عن الله وعن قوانينه، يصل إليه الإنسان ـ على قدره ـ من خلال ما يشاء الله له أن يحيط به من علمٍ عن الكون وعن نفسه (من عرف نفسه فقد عرف ربه) وهو علمٌ جزئي وليس علم إحاطة أو علماً كلياً، فالإنسان يعلم عن الكون وعن نفسه بصفتهما تجلياً لله وآلاءً له.
5.   إذا كان الإنسان مسئولاً عن رأى، فيجب أن يكون حريصاً عند إبداء هذا الرأي، خاصةً إذا كان سيترتب عليه نتائج يتأثر بها الآخرون.
6.    لا يجب الاحتجاج بالنصوص (القرآن والأحاديث النبوية) عند الحوار مع الآخر، ويجب أن يكون مفهوماً للطرفين أن كلاً منهما يحتج بمفهومه للنص، وليس بمعنى النص كما صدر عن مصدره. وفي العقيدة لا يجب فرض مفهوم شخص على آخر، أما بالنسبة لمصلحة الجماعة فيجب أن تقررها الجماعة، على ضوء مقاصد النصوص و أهدافها
7.    أنه لا يوجد تعارض بين العقل والدين، فاستخدام العقل في الفهم والتفكر والتدبر والتأمل في آيات الله وآلائه، أمر حثت عليه نصوص القرآن والسنة.
                                        




المراجع:
1.    تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي قدم له وعلق حواشيه جمال عبد الغني الدمشقي – دار الإسراء للنشر والتوزيع- عمان الأردن.
2.     تهافت التهافت: لابن رشد- سلسلة التراث الفلسفي العربي – مؤلفات ابن رشد دكتور عابد الجابري
3.   فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال تأليف أبو الوليد ابن رشد – ذخائر العرب 47 – دراسة وتحقيق دكتور محمد عمارة – دار المعارف – الطبعة الثالثة
4.    الدين والفلسفة والتنوير د/محمود حمدي زقزوق - سلسة اقرأ الثقافية.







 سورة السجدة الآية:[1]
 سورة آل عمران الآية 169.[2]
 سورة الحجرات: الآية 6[3]
 سنن أبي داود.[4]
 م.ن[5]
 سورة الحشر الآية[6]
 سورة الرعد: الآية 35.[7]
 سورة البقرة: الآية 164.[8]
 سورة آل عمران: الآية 191.[9]
 سورة النساء: الآية 82.[10]
 سورة الأنعام: الآية 98.[11]
 سورة الرعد: الآية 19. [12]
 سورة الروم: الآية 8.[13]
 إحياء علوم الدين: الغزالي ج 1، ص 144.[14]

هناك 4 تعليقات:

  1. غير معرف26/12/16 12:00

    شكرا

    ردحذف
  2. تحليل ممتع وراق جدا ولكنني اعتب على الكاتب كثرة الاخطاء اللغوية والمعنوية. من رفع للمجرور وخفض للمرفوع ووضع الفاعل موضع المفعول الخ. فالرجاء التثبت من اللغة العربية واحترام قواعدها حتى يكون البحث كاملا والاسلوب جميلا. شكرا والمعذرة لاجل هذا التنبيه.

    ردحذف
  3. ماذا نفهم من قوله تعالى(بلا قادرين على ان نسوي بنانه)صدق الله العظيم.
    اليس دليلا دامغا على ان البعث سيكون بالجسد.يوم القيامة.

    ردحذف
  4. السلام عليكم و رحمة الله و بركاته هل ممكن ان تصوغ لي أطروحة مفادها الفلسفة و الدين عند الغزالي.بالإضافة الى بعض أقواله عن العلاقة بين الفلسفة و الدين.أنا بحاجتها كثيرا

    ردحذف