مفهوم الاجتهاد المقاصدي:
عرف العلماء الاجتهاد المقاصدي
بتعاريف منها:
1- العمل بمقاصد الشريعة والالتفات
إليها والاستدلال بها في عملية الاجتهاد الفقهي.
2- اعتبار المقصد الشرعي بجلب المصلحة
ودرء المفسدة ومراعاة ذلك في عملية استنباط
الأحكام .
3- تمكن الفقيه من الاستنباط على ضوء
المقصد الذي سيعينه على فهم الحكم وتحديده وتطبيقه.
- ضوابط الاجتهاد المقاصدي :
المقصود بضوابط الاجتهاد المقاصدي
القواعد الكبرى والمبادئ العامة التي تشكل المرجع والإطار العام لإعتبار المقاصد
ومراعاتها في عملية الاجتهاد ، فقد راعى العلماء في المصالح المقررة انسجامها
وتطابقها مع ما وضعه الشارع من قيود وأدلة على وجودها وشرعيتها فالمصالح والضوابط
بذلك متلازمان لا يجوز عقلا ولا شرعا الفصل بينهما، فاعتبار المقاصد أو عدمه ثابت بمقتضى مقياس الشرع
وميزانه وليس بأمزجة الأهواء والطباع والشهوات قال الشاطبي رحمه الله : "
الشريعة جاءت لتخرج الناس من دواعي أهوائهم" الموافقات ج2 - 73.
- أهم الضوابط التي يجب على الاجتهاد
المقاصدي أن ينضبط بها هي:
1- انسجام الإجهاد المقاصدي مع
المقررات الشرعية واليقينيات الدينية :
المصالح المقررة شرعا متوافقة مع
المقررات الشرعية واليقينيات الدينية وهذا يقتضى تناغم الاجتهاد المقاصدي وانسجامه
مع الحقائق المقررة شرعا وعدم معارضته لها من ذلك مثلا:
أ- العبودية لله في كل الأحوال والأوضاع:
يقول جل وعلا " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
" الذاريات 56 . ومفهوم العبودية أشمل من أن ينحصر في الشعائر الدينية على
أهميتها بل هو مفهوم عام ينسحب على كل مناحي الحياة .
ويقول تعالى " ولقد بعثنا في
كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت"النحل 32 ، فيجب على الاجتهاد
المقاصدي أن لا يطرأ عليه بمرور الأزمنة وتنامي الحضارات وتعاقب الأمم ما يسلب منه
هذه الحقيقة ويقدح في جوهر هذه السمة .
ب- الربط بين الدنيا والآخرة وعدم
التفريق بين ما هو مادي وروحي :
يقول الشاطبي رحمه الله :"
المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة شرعا إنما تعتبر من حيث تقام الحياة
الدنيا للحياة الآخرة لا من حيث أهواء النفوس في جلب المصالح العادية أو درء المفاسد العادية "الموافقات ج2 – 37-38، لذلك يجب أن تكون المصالح
المعتمد عليها في الاجتهاد المقاصدي تراعي العلاقة الوطيدة بين مقصد الشارع وبين
ظواهر الأفعال وبواطن النفوس لإن ذلك هو جوهر الإسلام.
ج- مبدأ الحاكمية لله تعالى :
يقول جل وعلا :" إن الحكم إلا
لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم
ولكن أكثر الناس لا يعلمون "يوسف 40 ،
ويقول سبحانه: " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً "النساء 65 . ويقول تعالى: "
وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ
"المائدة 44.
فالمسلم خاضع في كل أموره وأفعاله
بمقتضى إيمانه إلى أحكام الله تعالى فلا يجوز له أن يقع في مخالفتها تحت أي ظرف
خاصة إذا تعلق الأمر بالاجتهاد المبني على المقاصد حيث لا يجوز أن يصبح النص تابعا
للاجتهاد بدعوى أن هذا الاجتهاد مبني على المقاصد وهذا ما وقع فيه غلاة المؤولين
للنصوص الذين يؤولونها بدليل وبغير دليل ويحكمون في ذلك مذاهبهم وأرائهم فيدعون
للشارع ما لا دليل ولا أساس له من الشرع مما
يتعارض مع مقتضى النص ومدلوله .
2- عدم معارضة الاجتهاد المقاصدي
للنصوص القطعية:
النصوص القطعية الثبوت والدلالة
تمثل مرتكزا من مرتكزات الشريعة التي لا يمكن للاجتهاد المقاصدي أن يتعارض
معها يقول الشيخ أبو زهرة رحمه الله:" إن المصلحة
ثابتة حيث وجد النص فلا يمكن أن تكون هناك مصلحة مؤكدة أو غالبة والنص القاطع يعارضها إنما هي ضلال الفكر أو نزعة الهوى أو غلبة الشهوة أو التأثر بحال عارضة غير دائمة أو منفعة عاجلة سريعة الزوال أو
تحقيق منفعة مشكوك في وجودها وهي لا تقف أمام النص الذي جاء من الشارع الحكيم وثبت
ثبوتا قطعيا لا مجال للنظر فيه ولا في دلالته" أصول الفقه 294- 295 فإذا ظهر
أن النص القطعي يعارض المصلحة فمرد ذلك الى الأمور التي ذكرها ابو زهرة رحمه الله.
ويؤكد هذا البوطي بقوله :"
ثبت بالدليل الذي لا يقبل الريب أن إجماع الصحابة والتابعين وأئمة الفقه قد تم على
أن المصلحة لا يمكن لها أن تعارض كتابا ولا سنة فإن وجد ما يظن أنه مصلحة وقد
عارضت أصلا ثابتا من أحدهما فليس ذلك بمصلحة إطلاقا ولا تعتبر بحال " ضوابط
المصلحة 193 .
وقد عقد ابن القيم الجوزية فصلا في
إعلام الموقعين لتحريم الإفتاء والحكم في دين الله بما يخالف النصوص وسقوط الاجتهاد
والتقليد عند ظهور النص وذكر إجماع العلماء على ذلك ، وهذا على خلاف ما ذهب إليه
الطوفي ومن نحا نحوه من المعاصرين .
لذلك لا يجوز أن يتعارض الاجتهاد
المقاصدي مع النص القطعي لأنه مبني على المصلحة الظنية وهي مظنونة لا تسمو الى
درجة القطعي لتعارضه.
أما النص الظني فيمكن في إطار
المعاني التي يحتملها أن نرجح معنا على الآخر إذا عضضته المصلحة ولا يعني ذلك أننا
نعارض النص بالمصلحة وإنما هو أخد بأحد دلالات النص لاستحالة الجمع وهو أمر مقرر
عند الأصوليين أما معارضة جميع مدلولات النص التي يحتملها بمصلحة ما فهذا لا يجوز لأنه أخذ بالاجتهاد في مورد النص الذي لا يجوز وهو في ذلك كمعارضة النص
القطعي بالمصلحة تماما، مثال ذلك معارضة مدلول كلمة قرء الذي هو إما الحيض أو الطهر بمعنى آخر خارج عنهما بدعوى المصلحة ، وأما ما يبين المعاني المحتملة
للنص الظني فهو موافقتها للغة وعرف الاستعمال وعادة صاحب الشرع كما يقرر ذلك
العلماء .
وعلى هذا اذا تعلق الأمر بالنصوص
القطعية فانه لا مساغ للاجتهاد في مورد النص كما تقول القاعدة الأصولية أما اذا
تعارض نص ظني مع مصلحة حقيقية أو مقاصد الشريعة المعتبرة فيؤخذ بالمصلحة القطعية
على رأي فقهاء المالكية والحنفية الذين يقولون بتخصيص النص الظني في دلالته أو في
ثبوته بالمصلحة إذا كانت المصلحة قطعية ومن جنس المصالح التي أقرتها الشريعة إذا
قام بذلك من هو مؤهل له مما يؤدي الى تخصيص عام القرآن بالمصلحة والى ترك الأخذ
بخبر الآحاد اذا عارض المصلحة القطعية ، وهذا في الحقيقة ليس تجاوزا للنص وإنما هو
تقديم لما دلت عليه النصوص الكثيرة التي تشهد للمصلحة بالاعتبار على ما دل عليه نص واحد – أي تقديم للكثرة النصية على ما دل عليه نص واحد- ومن
تطبيقات ذلك تضمين الصناع ما يتلف بأيديهم وقتل الجماعة بالواحد وعدم إيجاب
الإرضاع على المرأة الشريفة وجواز شهادة الصبيان في الجراح وجواز التسعير عند الحاجة ...( انظر مقاصد الشريعة وطرق الاجتهاد في
الفقه المالكي لحسين حامد).
3- عدم معارضة الاجتهاد المقاصدي
للإجماع القطعي :
الإجماع يصنف عند العلماء في إطار
الأدلة النقلية وهو ينقسم الى إجماع قولي وإجماع سكوتي ، والقولي عندهم يفيد القطع
وهو بذلك في مرتبة لا يجوز للمصلحة الظنية أن تتعارض معه لأنها مظنونة فلا
تسمو الى درجته لتتعارض معه أ وتقدم عليه، مثال ذلك تحريم الجمع
بين المرأة وخالتها وتحريم شحم الخنزير وتحريم الجدة كالأم، أما إذا كان الإجماع
ظنيا كالإجماع السكوتي عند جمهور العلماء أو الإجماع المبني على أحكام متغيرة
بتغير الزمان والمكان والحال أو على مصلحة ظرفية فإنه يمكن تعديله وتغييره بموجب
المصلحة كشهادة القريب على قريبه والزوج على زوجته فقد كانت جائزة في عصر السلف
الصالح ومنعها الفقهاء بعد ذلك حفاظا على مصلحة ضمان حقوق الناس.
4- عدم معارضة الاجتهاد المقاصدي
للقياس الذي نص الشارع على علته تصريحا :
القياس يمكن أن يكون راجعا الى علة
مأخوذة من النص الشرعي إما تصريحا أو إيماء أو بالاجتهاد في استنباطها
فإذا كان القياس راجعا الى علة منصوص عليها تصريحا فإنه لا يجوز أن يعارضه الاجتهاد
المقاصدي لأنه بذلك يتعارض مع علة نص عليها الشارع وهذا لا يجوز قال الباجي رحمه الله :" والعلة اذا نص عليها صاحب الشرع فقد نبه
على صحتها وألزم إتباعها" إحكام الفصول 757.
أما إذا كانت علة القياس مختلف
حولها سواء كان ذلك الاختلاف راجعا الى إيماء الشارع للعلة أو الى استنباط
المجتهدين ففي هذه الحالة يجوز تقديم الاجتهاد المقاصدي على هذا القياس لأنه عبارة
عن تعارض بين اجتهادين وهذا جائز عند جمهور العلماء .
5- عدم معارضة الاجتهاد المقاصدي
المبني على مصلحة لمصلحة أهم منها أو مساوية لها:
إذا عارض الاجتهاد المقاصدي المبني
على مصلحة كلية مصلحة كلية أخرى أولى منها كالدين والنفس فإنه لا يقبل، وإذا عارض الاجتهاد
المقاصدي المبني على مصلحة كلية أو مصلحة عامة أو مصلحة ضرورية أو قطعية اجتهادا
آخر مبني على مصلحة جزئية أو خاصة أو حاجية أو تحسينية أو ظنية فإنه لا يقبل
مثال ذلك قضية عمل المرأة للمساهمة
في زيادة الإنتاج فإنها قضية تتجاذبها مصالح متعددة منها مثلا تقوية الإنتاج الاقتصادي
وتربية الأبناء ، فإذا ترجح للمجتهد أن تربية الأبناء من حفظ النسل والعقل الذي هو
مقدم على تقوية الاقتصاد الذي هو من حفظ المال ، قال بعدم جواز عمل المرأة خاصة في
المجالات التي لا تتلاءم مع طبيعتها وبالشكل الذي يؤدي الى الاختلاط وانتشار
الفساد ، باستثناء ما إذا اشتغلت المرأة في المجالات التي تتلاءم مع طبيعتها
وتستطيع الجمع فيها بين العمل وتربية أبنائها وصيانة حقوق بيتها وتنمية بلادها
وتقدم أمتها وذلك بالضوابط الشرعية التي تضمن الاحتشام والعفة فتتحقق بذلك مصالح
المحافظة على النسل والعقل والمال فيجوز بذلك عمل المرأة.
6- أن تكون المصالح المعتمد عليها في الاجتهاد
المقاصدي متسمة بالشمولية:
المصالح المقررة شرعا ليست مقتصرة
على ناحية دون أخرى بل هي مبثوثة في سائر الأحكام مع تفاوت في ذلك من حيث الظهور
والخفاء والقلة والكثرة والقطع والظن وهذا منبثق من شمولية الشريعة لمختلف مناحي
الحياة يقول تعالى " ما فرطنا في الكتاب من شئ " الأنعام 38 ويقول جل
وعلا " وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما
أحسن الله إليك" القصص 77 ومن ثم فجميع المجالات لها مقاصدها الشرعية يجب على
الاجتهاد المقاصدي أن يراعيها عند الاستنباط.
7- أن تكون المصالح المعتمد عليها في الاجتهاد
المقاصدي متسمة بالواقعية :
المصالح المقررة شرعا تكتسب
واقعيتها من واقعية الشريعة الإسلامية ، والأدلة على ذلك كثيرة تؤكدها شواهد
الواقع والتاريخ وأدلة النصوص فهي بذلك مسايرة للواقع الإنساني لذى يجب على الاجتهاد
المقاصدي أن يراعي ذلك عند الاستنباط .
8- أن تكون المصالح المعتمد عليها في الاجتهاد
المقاصدي متسمة بالأخلاقية:
المصالح المقررة شرعا تجسد أخلاقية
الشريعة وسعيها الى التمكين لمكارم الأخلاق في النفوس يقول الرسول الكريم "
إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ومن هذه الأخلاق العدل والحرية والمساواة
والتسامح والأمانة والتعاون والمحبة ، واستهجانها للظلم والخيانة والغدر والاستغلال
وذلك على مستوى الظاهر والباطن ومن هنا أبطل الشارع الحيل والذرائع المؤدية الى
مخالفة مقاصده ودعا الى تخليص النيات من الشوائب واستحضار جانب التدين في كل
الأعمال وبناء على هذا اشترط العلماء تطابق القصد مع ظاهر العمل حتى يكون العمل
صحيحا ديانة وقضاء يحقق مرضاة الله ومصالح الناس .
فالاجتهاد المقاصدي يجب أن ينضبط
لذلك وما تعارض مع هذا الضابط يجب أن لا يعتمده كمصلحة يبنى عليها الاجتهاد
المقاصدي.
9- أن تكون المصالح المعتمد عليها في الاجتهاد
المقاصدي متسمة بالعقلانية .
المصالح المقررة شرعا جارية وفق ما
تقتضيه العقول السليمة والفطرة السوية والأعراف المحمودة فالعقل هو مناط التكليف
والخطاب الشرعي إنما يخاطب العقل قال الشاطبي رحمه الله:" إن دليل تطابق
النقل للعقل هو كون الأدلة نصبت في الشريعة لتتلقاها العقول وتعمل بمقتضاها … وما
قيل من أن الشريعة غير جارية على فهم العقول فهو بعيد النظر والتحقيق مردود وباطل
وغير معقول " الموافقات ج3- 37 ، وقد
عقد ابن القيم الجوزية فصلا في إعلام الموقعين لإثبات أن كل ما في الشريعة يوافق
العقل ، مثال ذلك المصالح المقترنة بالكليات الخمسة التي تساير مقتضى العقل
والمنطق ولا يجحدها إلا أصحاب العقول المختلة ، وهذه المعقولية إنما تشمل أحكام
المعاملات عموما وبعض العبادات المعللة على مذهب جمهور العلماء وتشمل على المذهب
الآخر جميع أحكام الشريعة من عبادات ومعاملات لأنها في نظر هذا الفريق كلها معللة
ومعقولة ، يقول محمد الكتاني رحمه الله :" قول أهل الفروع هذا تعبدي هو عجز
منهم عن بيان الحكمة والسر والشرع كله مكشوف لأهل العلم بالله ليس عندهم فيه شئ
غير معقول المعنى " كتاب ترجمة الشيخ محمد الكتاني الشهيد لنجله محمد
الباقر الكتاني .
- مستلزمات الاجتهاد المقاصدي :
المقصود بمستلزمات الاجتهاد
المقاصدي هي مجموعة الأمور المتعلقة باللغة والواقع والمجتهد التي يجب مراعاتها
عند ممارسة الاجتهاد المقاصدي وأهمها :
1- المستلزمات المتعلقة بمعرفة الشرع
:
وهي جملة المعطيات الشرعية التي
يجب أن يستحضرها المستنبط مثال ذلك معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول
والورود والتدرج الشرعي في بيان الأحكام واهتمام الشريعة بالتيسير ورفع الحرج كل
ذلك وغيره لأن مقاصد النصوص مدارها على محتوى تلك النصوص والأحوال المختصة بها
والتي لابد منها في الاجتهاد بهدف الوصول الى المصالح التي تعتمد في الاجتهاد
المقاصدي .
2-المستلزمات المتعلقة بمعرفة اللغة
:
وهي جملة المعطيات اللغوية
والأصولية التي يجب أن يستحضرها المجتهد في التعامل مع النص واستخراج علته وحكمته
المقترنان بالمصالح المحددة لمقصد الشارع التي يرتكز عليها الاجتهاد ألمقاصدي مثال
ذلك معرفة أن التوقف عند ظاهر النص هو المطلوب ابتداء ولا يعدل عنه إلا بدليل وهذا
هو ما يصطلح على تسميته عند العلماء بتأويل النصوص الذي لا يجوز إلا اذا قامت
قرينة من الشرع او العقل او اللغة او العرف العام تصرف المعنى عن الظاهر الى مقتضى
ما تقتضيه تلك القرينة .
وكذلك معرفة عموم النصوص وخصوصها
مطلقها ومقيدها منطوقها ومفهومها حقيقتها ومجازها ومشتركها وصيغ النهي والأمر وذلك
بما تقتضيه اللغة في أصولها دون التأثر بما أضيف اليها مما لا يتوافق معها من طرف المتأخرين
، هذه وغيرها من المباحث اللغوية والأصولية تشكل الأساس الضروري الذي لابد منه في الاجتهاد
بهدف الوصول الى المصالح التي تعتمد في الاجتهاد المقاصدي . يقول الشاطبي :"
فمن أراد تفهمه – الخطاب الشرعي – فمن جهة لسان العرب يفهم ولا سبيل الى تطلب فهمه
من غير هذه الجهة " الموافقات ج2- 65-66.
3- المستلزمات المتعلقة بمعرفة الواقع
:
يعد فهم الواقع بتشعباته أمرا مهما
جدا في عملية الاستنباط عامة والاجتهاد المقاصدي خاصة إذ الحكم على الشيء فرع عن
تصوره كما يقرر المناطقة .
والمقصود من معرفة الواقع هو الحكم
عليه بالشرع وليس إخضاع الشرع لمقتضى الواقع ، وقد عقد ابن القيم الجوزية في كتابه
إعلام الموقعين فصلا لتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال .
والحكم المتغير بتغير الأحوال هو
القابل للتبديل من الظنيات أو الحكم الغير المؤسس على النص والمبني على الاجتهاد
أما الحكم المبني على النص القطعي فهذا لا يتغير بتغير الأحوال .
ومما يؤكد اعتبار الواقع في الاجتهاد
القواعد الأصولية المرتبطة بالعرف والعادة ، يقول القرضاوي :" وواجب المجتهد
الإطلاع على أحوال زمانه وإلمامه بالأصول العامة لأحوال عصره فهو يسأل عن أشياء قد
لا يدري شيئا عن خلفيتها وبواعثها وأساسها الفلسفي أو النفسي أو الاجتماعي فيتخبط
في تكييفها والحكم عليها " الاجتهاد والتجديد بين الضوابط الشرعية والحاجات
العصرية – مجلة الأمة عدد19 – ص 16 .
وبهذا يتضح أن معرفة الواقع أمر
مهم وضروري لتنزيل أحكام الله عليه ولا بد منه للإجتهاد بهدف تطبيق المصالح
المقررة شرعا عند الاجتهاد المقاصدي.
4- المستلزمات المتعلقة بالمجتهد
:
عرف العلماء المجتهد بتعاريف
متقاربة منها :" هو الفقيه المستفرغ لتحصيل ظن بحكم شرعي " إرشاد الفحول
418 ، والمجتهد هو الأداة الأساسية في الإجتهاد لذلك أطال العلماء في بيان ما
يتعلق به من شروط وأهمها :
- شروط ذاتية ومن أهمها :
- العقل: وهو ملكة يقتدر بها على
استخراج الأحكام من مأخذها ، ورد في الجلال المحلى مع حاشية العطار :" لأن
غيره لم يكمل عقله حتى يعتبر قوله "
- البلوغ : قال الشوكاني :" ولا
بد أن يكون بالغا " إرشاد الفحول 418.
- شروط موضوعية أو علمية ومن أهمها
:
- العلم باللغة العربية : أجمع علماء
الأصول على هذا الشرط وركزوا عليه غاية التركيز ذلك أن الحكم يتبع الإعراب كما
يقرر القرافي رحمه الله، وإن اختلفوا في القدر الذي ينبغي أن يصل إليه المجتهد في
العلم باللغة العربية على مذاهب أهمها :
- القدرة على فهم الخطاب الشرعي
العربي.
- بلوغ المرتبة الوسطى في معرفة
اللغة.
- لابد من بلوغ مرتبة الأئمة
الكبار في اللغة .
- العلم بالقرآن الكريم : لأنه أصل
العلوم الشرعية وعليه مدار أحكامها ، والعلم بالقرآن يقتضي المعرفة بالعلوم التي
لها علاقة بهذا الكتاب العزيز كالناسخ والمنسوخ وغيره ، واختلفوا في القدر الذي
يكفي المجتهد العلم به من القرآن الكريم على مذاهب أهمها :
- خمسمائة آية كما يرى الغزالي
وابن العربي .
- سبعمائة آية كما يرى ابن المبارك
.
- وهناك من اشترط العلم بعموم
القرآن .
- العلم بالسنة النبوية الشريفة:
وذلك لأنه لا يستغنى عنها في فهم الأحكام الشرعية واستنباطها ، والعلم بالسنة يشمل
العلم بمعاني مفرداتها وتراكيبها ودلالات ألفاظها وطرق روايتها ، واختلفوا في
القدر الذي يكفي المجتهد العلم به من السنة النبوية على مذاهب أهمها :
- علمه أو حفظه لأحاديث الأحكام وهي
إما خمسمائة حديث ، أو ثلاثة آلاف حديث كما قال ابن العربي ، وقيل خمسمائة ألف
حديث وهو قول للإمام أحمد.
- يكفي أن يكون عنده أصل يجمع أحاديث
الأحكام كسنن أبي داود وهو قول الغزالي .
- العلم بما اشتملت عليه مجامع السنة
كالأمهات الست وما يلحق بها وهو قول الشوكاني .
- معرفة مواطن الإجماع : وهو أمر
ضروري لمن يتصدى للاجتهاد حتى لا يجتهد في مسألة وقع فيها الإجماع لأنه لا اجتهاد
فيما أجمع عليه العلماء ، واختلفوا في مقدار الإجماع الذي يجب على المجتهد معرفته
على مذاهب أهمها :
- أن عليه معرفة كافة المسائل التي
حصل حولها الإجماع .
- يكفيه معرفة هل هناك إجماع في
المسألة التي يتعرض لها بالاجتهاد كما قال الغزالي .
- العلم بأصول الفقه : لأنه العلم
المساعد على فهم المقاصد الشرعية ودلالات النصوص وطرق استنباط الأحكام ، واختلفوا
في المقدار الذي ينبغي تحصيله من هذا العلم مذاهب أهمها:
- المعرفة بعموم علم أصول الفقه
إجمالا.
- ضرورة إلمامه بجميع مسائل هذا
العلم والإطلاع على مطولاته ومختصراته مما يؤهله الى ما هو الحق منها .
* هذه هي أهم الشروط التي يجب
توفرها فيمن يريد أن يتصدر للاجتهاد المقاصدي الى جانب العلم بالواقع واختلفوا في
المنطق ويقصد من هذه الشروط الى جانب بقية مستلزمات الاجتهاد المقاصدي الأخرى
تجنيب المجتهد من الوقوع في الخطأ والزلل.
- مجالات الاجتهاد المقاصدي:
نعني بمجالات الاجتهاد المقاصدي
تلك الميادين التي تستخدم فيها المقاصد من حيث مراعاتها والاستناد عليها في بيان
أحكام الشرعية وفق مقتضياتها ، وهي عموما لا تختلف عن مجالات الاجتهاد الشرعي ،
وقد توصل علماء الشريعة باستقراء النصوص الشرعية وأحكامها الى أنها متصفة بصفتين
أساسيتين هما الثبات والتغير .
-
الأحكام المتغيرة
القابلة للاجتهاد المقاصدي:
وهي الاحكام الظنية التي تقبل الاحتمال
وتتسم بمراعاة البيئات والظروف ومسايرة أعراف الناس وعاداتهم وحاجياتهم وفق
الضوابط الشرعية وذلك بالاجتهاد المقاصدي .
يقول الشوكاني :" أعلم أن
الله لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة بل جعلها ظنية للتوسيع على
المكلفين لئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل القاطع عليه". إرشاد الفحول
241.
وأكثر ما ترتبط هذه الأحكام
بالمسائل التي لا نص ولا إجماع على أحكامها والتي تسمى منطقة العفو أو منطقة
الفراغ التشريعي وهي شاملة لكل ما يقابل القطعي واليقيني من الشريعة وما يمكن أن
يطرأ على الحياة خاصة من جزئيات المعاملات وتفاصيلها التي هي محل نظر واجتهاد واستصلاح
وتعليل في ضوء المقاصد والقواعد الشرعية ودون أن تعود على أصولها بالإبطال
والإلغاء مثال ذلك تفاصيل تطبيق العدل والشورى وكيفيات الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وتنظيم قانون العمل والعمال والقوانين الإدارية وخطط التنمية وسياسة
التعليم والإعلام، وهذا يدل على الرفق الإلهي بالناس ويفيد أن الشريعة مرنة وقابلة
للتأبيد والخلود.
- الأحكام الثابتة الغير القابلة
للتغيير والاجتهاد:
وهي الأحكام القطعية إما بالتنصيص
عليها أو الإجماع أو ما علم من الدين بالضرورة
كالأمور العقائدية وعموم العبادات والمقدرات – وهي التي بينها الشارع بيانا
محددا لا يقبل الاحتمال والتأويل- وأصول المعاملات – وهي مبادئ التعامل الكبرى
وقواعد الأخلاق وكذلك الوسائل المحددة شرعا ، كل ذلك لا يقبل التغيير والتبديل
بموجب النظر المصلحي والإجتهاد المقاصدي .
مثال ذلك دعوى تسوية المرأة بالرجل
في الميراث ، واقتراح تغيير صلاة الجمعة الى يوم الأحد في الدول الغربية لضمان
حضور عدد أكبر من المصليين ، واقتراح أن تؤدى الصلاة جلوسا على الكراسي بدلا من
القيام لتحقيق الأداء الأحسن والخشوع الأفضل ، وترك الإحرام من الميقات
وفعله من جدة قصد التيسير والتخفيف على الناس فكل ذلك مرفوض لأنه لا يعتد إلا بما
شرعه الشارع.
يقول ابن عاشور " إن درء
الخلاف والتقليل منه من المقاصد المعتبرة لذلك توجب إيجاد القواطع واليقينيات
المقاصدية التي ترفع الجدل وتزيل الخلاف وتذيبه" مقاصد الشريعة الإسلامية ص5.
وبهذا اذا تعلق الأمر بالنصوص
القطعية فانه لا مساغ للاجتهاد في مورد النص كما تقول القاعدة الأصولية .
والحمد لله رب العالمين
==============================
-
فهرس الموضوعات:
-
مفهوم الاجتهاد
المقاصدي.
-
ضوابط الاجتهاد
المقاصدي .
-
مستلزمات الاجتهاد
المقاصدي.
-مجالات الاجتهاد المقاصدي.
-
المصادر والمراجع:
-
- الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي بتحقيق عبد الله
دراز.
- قواعد الأحكام في مصالح
الأنام لعز الدين بن عبد السلام.
- مقاصد الشريعة
الاسلامية لمحمد الطاهر بن عاشور بتحقيق محمد
الطاهرالميساوي.
- مقاصد الشريعة
الاسلامية ومكارمها لعلال الفاسي.
- مقاصد الشريعة لمحمد
أنيس عبادة.
- مقاصد الشريعة وطرق الاجتهاد
في الفقه المالكي لحسين حامد.
- نظرية المقاصد عند
الشاطبي لأحمد الريسوني.
- نظرية
المقاصد عند الامام الطاهر بن عاشور لإسماعيل الحسيني.
- الشاطبي ومقاصد الشريعة
لحمادي العبيدي
- المقاصد في المذهب
المالكي خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين لنور الدين الخادمي.
- الفكر المقاصدي لأحمد
الريسوني.
- المدخل الى مقاصد
الشريعة لأحمد الريسوني .
- المقاصد العامة للشريعة
ليوسف حامد العالم.
- الاجتهاد المقاصدي لنور
الدين الخادمي.
- الاجتهاد في الشريعة
الإسلامية ليوسف القرضاوي.
- الاجتهاد في التشريع
الإسلامي لمحمد سلام مدكور.
- الإجتهاد ودور الفقه في
حل المشكلات لمصطفى أحمد الزرقاء.
- ضوابط المصلحة في
الشريعة الاسلامية لمحمد سعيد رمضان البوطي.
- نظرية المصلحة في الفقه
الإسلامي لحسين حامد حسان.
- المصلحة في التشريع
الاسلامي لمصطفى زيد.
- تعليل الأحكام لمصطفى
شلبي.
- فلسفة التشريع في
الإسلام لصبحي المحمصاني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق