الدكتور: الحبيب لشهب
لم يمض وقت
طويل على بعث قضايا الوقف المعاصر وبلورة مشاغله ومجالات عمله. ولذلك لا نجد في
كتب الفقه الحديثة تناولا مستفيضا لمسائله ولا تقصياّ دقيقا لأغراضه العامة
والخاصة، ومن هنا فإن معالجة هذا الموضوع وخاصة في ضوء مقاصد الشريعة وحاجيات
المجتمع، تعتبر ضربا من ضروب الاجتهاد المعاصر.
في هذا
البحث استعراض لتلك الأغراض والملامح والآفاق، تأسيسا لملامح نظرية مقاصدية،
تبرز أهميّة الوقف في ضمان التكافل الاجتماعيّ، وتركّز على مسألة أساسيّة: هي: أنّ
نظام الوقف يُعدّ أحد النظم المؤسّسية الّتي أسهمت في تأصيل المقاصد العامّة
للشريعة الإسلامية، وتحقيق حاجيات المجتمع الضرورية والتحسينية.
الوقف
الأهليّ ونظريّة المقاصد:
يقال له "الوقف الذريّ" أيضا وفي تعريفه
اصطلاحا بعض المقاربات:
"الوقف
الأهلي أو الذُّرِّي: هو الّذي يوقف في ابتداء الأمر على نفس الواقف أو أيّ شخص أو
أشخاص معيّنين،ولو جعل آخره لجهة خيرية، كأن يقف على نفسه، ثم على أولاده، ثم من
بعدهم على جهة خيرية"[2].
"الوقف
الذرّي أو الأهلي: هو ما كان خيره وريعه ونتاجه على الذريّة كالأولاد والأحفاد
وغيرهم من الأهل والأقارب"[3].
إذا اعتبرنا الوقف الأهليّ حسب تلك التعريفات تحبيسا
لمنافع للأقارب والأولاد والذريّة من بعدهم، فإنّ هذا لم يؤثر عن النبيّ الكريم
صلّى الله عليه وسلّم، ولا يكاد يدخل شيء من أوقاف الصحابة ضمن هذا النوع من
الوقف. يؤثر، كما ورد عن الشافعيّ في "السنن الكبرى" للبيهقي "أنّ
فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تصدّقت بمالها على بني هاشم وبني المطلب
وأنّ عليّا رضي الله عنه تصدّق عليهم وأدخل معهم غيرهم". ولكنّ صدقة فاطمة
رضي الله عنها أعمّ من أن تحصر في الوقف الأهليّ لأنّها رضي الله عنها لم تدخل
الحسن والحسين رضي الله عنهما، فلا حقّ لهما في تلك "الصدقة". فمقاصد
الزهراء أنبل و"صدقتها" هذه وقف خيريّ إن كانت "حبسا"[4].
وخلاصة ما يستشفّ من الروايات المتعلّقة "بصدقات
الصحابة" وشروطها هو أنّ الصحابيّ رضي الله عنه يفرد بستانا من ممتلكاته
ويجعل غلّته صدقة جارية "لِلْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ" يتولّى هو نفسه إخراجها وتوزيعها في
حياته ثمّ يوصي بأن "تحجب" تلك الأرض من الإرث، وبأن لا تباع ولا توهب
وأن يواصل أحد أبنائه أمر الصدقة، وهكذا جيلا بعد جيل. فهل تدخل أكثر أوقاف
الصحابة في المنازل والحقول مثل " ثمغ صدقة عمر" و" ينبع صدقة
عليّ" و" الوهط صدقة عمرو بن العاص" في "الوقف الأهليّ"؟
"عَنْ
نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ
أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ
"إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا". فَتَصَدَّقَ
بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُوَرَّثُ
لِلْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ
السَّبِيلِ [...] عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ صَدَقَةِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَسَخَهَا لِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ فِي ثَمْغٍ
فَقَصَّ. مِنْ خَبَرِهِ نَحْوَ حَدِيثِ نَافِعٍ قَالَ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا
فَمَا عَفَا عَنْهُ مِنْ ثَمَرِهِ فَهُوَ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ قَالَ [...]
وَكَتَبَ مُعَيْقِيبٌ وَشَهِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ إِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ أَنَّ ثَمْغًا وَصِرْمَةَ بْنَ
الْأَكْوَعِ وَالْعَبْدَ الَّذِي فِيهِ [...] تَلِيهِ حَفْصَةُ مَا عَاشَتْ ثُمَّ
يَلِيهِ ذُو الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا أَنْ لَا يُبَاعَ وَلَا يُشْتَرَى
يُنْفِقُهُ حَيْثُ رَأَى مِنْ السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَذَوِي الْقُرْبَى وَلَا
حَرَجَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ إِنْ أَكَلَ أَوْ آكَلَ أَوْ اشْتَرَى رَقِيقًا مِنْهُ"[5].
إنّ "وليّ" الصدقة، أي ناظر الوقف، غير معتبر
في الانتفاع بالغلّة ولا حقّ له فيها:"فتصدّق عمر في الفقراء وفى الرّقاب وفى
سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليّها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم
صديقا غير متموّل فيه" كما ورد في كتب الحديث والفقه. فلا يفرض ناظر الوقف
لنفسه نصيبا مقدّرا من الغلّة إلاّ أن يكون أجر نظره للوقف قد عيّنه الواقف، وهذا
لم يحصل في شروط "ثمغ" و"ينبع" و"الوهط". فقد جعل
عمر "لصدقته" ما يسمّى فقهيّا "شروط الواقف"، ولم يعيّن أجر
الناظر، نظرا إلى تخصيصه أبنائه وأحفاده بالولاية على صدقته. ويعتبر "كتاب
صدقة عمر" في رواية أبي داود أوّل "كتاب وقف" والأنموذج في
"الوقف" وشروطه. وعلى نمط تلك "الشروط العمريّة"، في مضمونها
العامّ، سار الصحابة في "صدقاتهم".
وانتشار
"الوقف الأهليّ" بين المسلمين مستنبط من فقه محمّد بن عبد اللّه
الأنصاري شيخ البخاري الّذي "صنّف فيه جزءا ضخما واستدلّ له بقصة عمر [في
صدقة ثمغ] وبقصّة راكب البدنة وبحديث أنس في أنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أعتق
صفيّة وجعل عتقها صداقها" كما ذكر ذلك الشوكاني في "نيل الأوطار".
المعمول به
في المذاهب:
تعدّدت الأقوال واختلفت في نفس المذهب وكلّ فقيه أو مفت
اجتهد برأيه منطلقا من حجج ناتجة عن "شرط الواقف" ووقع التركيز على مآل
الوقف في حالات غياب جهة موقوف عليها وعلى قضايا استحقاقيّة ونسبة المناب
للمستحقّين في نطاق "تعدّد البطون" وما إلى ذلك. واختلفوا كلّهم في
"التسوية" ومن "يدخل" ومن "يخرج". "وقال مالك
فيمن حبس على بنيه وبناته وشرط أنّ من تزوّج من بناته فالحبس خارج عنها. قال أنا
أكره هذا ولا أرضاه، وقد كان عندنا القضاة يجيزونه ونقضه أحبّ إليّ. قال مالك: ولا ينبغي على كتاب مثل هذا.
وقد كنت أسأله فيأباه"[6].
فكيف يمكن للوقف الأهليّ أن ينسجم مع مقاصد الشريعة
وأنّى لفقهه أن يضمن مصلحة من المصالح الشرعيّة العامّة أو الخاصّة؟
اتجه الفقه
في هذا "الباب" إلى حلّ النزاعات والإشكالات المتفاقمة في الوقف الأهليّ
وإخضاعه إلى مقاييس الشرع. لأن "الوقف على الذريّة يفضي إلى النزاع والشقاق
والإحن والفتن أو يؤدي إلى محاباة بعض الورثة وهذا فيه من الشرّ والفساد ما لا
يخفى"[7].
يقول سيّد سابق: "يحرم أن يقف الشخص وقفا يضارّ به
الورثة لحديث الرسول (ص) (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) فإن وقف بطل وقفه. قال في
الروضة الندية: "والحاصل أن الأوقاف التّي يراد بها قطع ما أمر الله به أن
يوصل ومخالفة فرائض الله عزّ وجلّ فهي باطلة من أصلها لا تنعقد بحال، وذلك كمن يقف
على ذكور أولاده دون إناثهم وما أشبه ذلك. فإنّ هذا لم يرد التقرّب إلى الله تعالى
بل أراد المخالفة لأحكام الله عزّ وجلّ والمعاندة لما شرعه لعباده وجعل هذا الوقف
الطاغوتي ذريعة إلى ذلك المقصد الشيطاني، فليكن هذا منك على ذكر. فما أكثر وقوعه
في هذه الأزمنة. وهذا وقف من لا يحمله على الوقوف إلا محبّة بقاء المال في ذريته
وعدم خروجه عن أملاكهم فيقفه على ذريته، فإنّ هذا إنما أراد المخالفة لحكم الله
عزّ وجلّ، وهو انتقال الملك بالميراث وتفويض الوارث في ميراثه يتصرّف فيه كيف يشاء"[8].
"أجاب الشيخ
عبد الرحمن بن حسن: وأمّا الذي وقف على ذريّته الذكور والإناث حياة عينها فهذا وقف
الإثم والجنف لما فيه من الحيلة على حرمان أولاد البنات ما جعل الله لهم في
العاقبة. وهذا الوقف على هذه الجهة بدعة ما أنزل الله بها من سلطان وغايته تغيير
فرائض الله بجعله الوقف"[9].
فهل "تقضي المصلحة بمنع الوقف الأهلي لما يجرّه من
ويلات إلى المستحقّين وإلى البلد نفسه لما يجري من النزاع والخصومة والخلاف والإحن
والشحناء بين المستفيدين من هذا الوقف"[10].؟
"والأحكام
الّتي تخيرتها لجنة الأحوال الشخصية بمصر من المذاهب الأربعة ومذاهب الصحابة
والتابعين ومذهب الطبرى ومذهب ابن حزم ومذهب الزيدية وأخذت فيها بمبدأ التوفيق
ووضعتها في موادّ صدر بها قانون المواريث رقم 77 لسنة 1943م وقانون الوقف رقم 48
لسنة 1946م وقانون الوصيّة رقم 71 لسنة 1946م"[11].
"نصّ القانون
المصري (م 180) لسنة 1952، والقانون السوري لسنة 1949 على انتهاء أو إلغاء الوقف
الأهلي لتصفية مشكلاته المعقّدة"[12].
قد يكون في الوقف الأهلي، في صورته المعروضة في كتب
الفقه، ما يجعل بعضهم يجوّزه ويدافع عنه ويبدي "محاسنه"، ولكن يستبعد أن
يجهلوا غاياته الحقيقيّة عند الواقفين ويجهلون ما ينتج عن مثل تلك الشروط من ضيم
وتحيّل ومشاكل بين المستحقّين. لقد ابتعد الوقف الأهليّ بعد الصحابة عن مقاصده
الشخصيّة والدينيّة لينقلب تحكّما غيبيّا في بعض الممتلكات من قبل الواقفين
وتدخّلا مباشرا في الحياة الفرديّة والحريّات الشخصيّة لذريّة الواقف.
نحا الوقف
الأهليّ منحى غير الّذي انتهجه الصحابة رضي الله عنهم بحرص بعض الناس على بقاء
الموقوف ملكا في الذرّية، وبمثل ذلك التحكّم الغيبيّ وفرض إرادة دائمة من قبل
الواقف على الموقوف عليهم ضيّعوا كثيرا من المقاصد الشرعية. وقد تصدّى الفقهاء إلى
ذلك بالغوص في ألفاظ شروط الواقف وفق اجتهادات شخصيّة نظرا لإشكاليّات النصّ ونظرا
لاختلاف الأوضاع والغايات بطول الزمن وتباعده. فقد تكون اللفظة أو العبارة أو
الصيغة تعني أمرا واضحا في ذهن الواقف يوم كتابتها، حسب ثقافته ومذهبه وعرفه
وعادات مجتمعه، ثمّ تفقد ذلك المفهوم بمرور الزمن، وقد عمل الفقهاء على تطويعها
لتطابق دائما مقاصد الشريعة أو على الأقل حدود خدمة الأفراد أو الصدقة على
ذوي القربى.
الوقف
الخيريّ و نظريّة المقاصد:
"الوقف
الخيري: هو الّذي يوقف في أوّل الأمر على جهة خيريّة، ولو لمدّة معيّنة، يكون
بعدها وقفاً على شخص معيّن أو أشخاص معيّنين. كأن يقف أرضه على مستشفى أو مدرسة
ثمّ من بعد ذلك على نفسه وأولاده"[13].
"وهو
بالأصالة " يستهدف تحقيق مصلحة عامة كالوقف على المساجد ودور العلم وعلى
العلماء والفقراء والمستشفيات... وقيل إنّ الوقف الخيري هو ما جُعل ابتداءً على
جهة من جهات البرّ، ولو لمدّة معينّة يكون بعدها على شخص أو أشخاص معيّنين. فإذا
وقف إنسان داره لينفق غلتها على المحتاجين من أهل بلده كان الوقف خيرياً"[15].
وإن كان الوقف الخيريّ يتجاوز الحدّ والحصر من حيث
مشمولاته، فلا بدّ من إعادة تعريفه اصطلاحا وتحديد طرق تنفيذه، وهذا يعود إلى أهل
الاختصاص في فقه التشريع والقانون وخبراء الاقتصاد والتخطيط في البلاد الإسلاميّة.
ولعلّ الأوان آن لتجديد مفهوم الوقف، إذ المسلمون في حاجة إلى أن تتّضح رؤيتهم للوقف
الخيريّ وطرق النفع والإصلاح حتى يمتد نفعه للأجيال على مختلف وجوه العمران
والتمكين.
هل ينصهر الوقف الخيريّ
في كلّ مقاصد الشريعة وكيف؟ هل فقه الوقف، على حالته اليوم، يبرز ذلك الالتحام
العضويّ بين نظريّة المقاصد العامّة للشريعة وبين الوقف الخيريّ؟
في الفترة الزمنيّة الأولى (11-250 هـ) استهدف الوقف
تحقيق مصلحة عامّة على جهات البرّ كالفقراء والمساكين والمساجد وما إلى ذلك. وإذا
نظرنا إلى الجهة الموقوف عليها باعتبار العموميّة في الانتفاع، فإنّ هذا النوع من
الوقف شمل بالخصوص الحاجيات اليومية مثل حبس الآبار. وقبل الحديث عن أهمّ الأوقاف
الخيريّة في هذه الفترة، نحاول التعرّف على ارتباط الوقف الخيريّ بمقاصد الشريعة
انطلاقا من تساؤل: هل يمكن للوقف الخيريّ أن يسهم في حفظ الكلّيّات الخمس وإن كان
الجواب بالإيجاب، ما هي "أصول ارتباط فقه الوقف بنظرية المقاصد"؟
الوقف الخيريّ
و"المصالح الضروريّة":
"المقاصد الخمسة... وهي: حفظ الدين والنفس والعقل
والنسل والمال فإنّ حفظ هذه المقاصد الخمسة من الضروريات وهي أعلى مراتب المناسبات"[16].
ذلك ما تناقله الأصوليّون عبر القرون وذلك ما قرره
الآمديّ في كتابه "الأحكام" وهو نفس ما يتناوله "محمّد الحبش"
حديثا: "أولاً: المصالح الضرورية: وهي التي تقوم عليها حياة الناس الدينية
والدنيوية، ولا يمكن أن تستقرّ الحياة بفقد واحد منها، وهي تنحصر في حفظ خمسة
أشياء: الدين والنفس، والعقل، والعرض، والمال"[17].
إذا سلّطنا التنظير الفقهي على "فقه الواقع".
فالصحابة رضي الله عنهم، في واقعهم، لم يكونوا في حاجة إلى "حفظ الكلّيّات
الخمس" بالمنظور الفقهيّ وما كان أن يخطر ببالهم ذلك. كيف يخطر على بالهم
"حفظ الدين"، مثلا، وهم القائمون به والناشرون له والمطبّقون لأحكامه في
أدقّ جزئيّاتها أي أنّهم كانوا رضي الله عنهم الحافظون للدين تلقائيّا
و"بديهة". فلا يتصوّر منهم "حبس" في معنى "حفظ
الدين" أو إحدى "الكليّات الخمس". وإنّما ظهرت نظريّة
"المقاصد" عامّة و"حفظ الدين" خاصّة عندما تفرّقت بالمسلمين
السبل وتشعّبت بهم "المناهج".
ولكن، ماذا
يعني "حفظ الدين" وكيف يتمّ ذلك؟ وهل من مقاصد الشريعة حقّا مراعاة ذلك
الترتيب التفاضليّ ووجوب ذلك التقديم المذكور؟
"والحصر في
هذه الخمسة الأنواع إنّما كان نظرا إلى الوقوع والعلم بانتفاء مقصد ضروري خارج
عنها في العادة. أمّا حفظ الدين فبشرع قتل الكافر المضلّ وعقوبة الداعي إلى البدع"[18].
ذلك ما نجده في كتب الفقه وأصوله كطريقة "لحفظ
الدين": "وأمّا الدين فهو محفوظ بشرع الزواجر عن الردّة والمقاتلة مع
أهل الحرب"[19].
"وَزَادَ فِي
جَمْعِ الْجَوَامِعِ سَادِسًا وَهُوَ وُجُوبُ حِفْظِ الدِّينِ الْمَشْرُوعِ لَهُ
قَتْلُ الْكُفَّارِ وَعُقُوبَةُ الدَّاعِينَ إلَى الْبِدَعِ".[22]
إنّ الدين محفوظ لا يحتاج إلى من يحفظه إذ تكفّل منزّله
ومشرّعه العليّ الحفيظ سبحانه وتعالى بحفظه، وإنّما الدين في حاجة إلى القيام به
وتطبيقه ونشره وتعليمه،والوقف الخيريّ يجد مجالا شاسعا في تحقيق ذلك: فبناء
المساجد وصيانتها وتعليم القرآن الكريم وما هو ضروريّ لأداء الشعائر التعبّديّة
ومساعدة الفقراء والضعفاء على أداء الصوم والحجّ... بل إنّ "الأوقاف التي
تفدى بها الأسرى" تخفّف من غربة المسلم وعذابه وتعذيبه وتبعد عنه شبح
الارتداد غصبا أو كرها أو تعوّدا بطول السجن. كلّ ذلك يدخل في نشر الدين وتواصله
على أسس صحيحة. بهذا الاعتبار، تداخلت المصالح الضروريّة والحاجيّة والتحسينيّة
لتفقد "رتبتها" النظريّة. وفي النهاية، فإنّ "المصالح
الضروريّة" لا تنحصر في حفظ "الكليّات الخمس". فكم من المصالح
اعتبرها الأصوليّون والفقهاء "حاجيّة" أو"تحسينيّة" وهي في
الواقع أهمّ و أوكد من "الضروريّة" في واقع الناس في ظروف سياسيّة
واقتصاديّة واجتماعيّة معيّنة.
الصحّة، مصلحة ضروريّة أم حاجيّة أم تحسينيّة؟
إنّ نبيّنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم كان فريدا فذّا
في ثورته الصحيّة والوقائيّة إذ كانت سنّته النقيّة التوجّه إلى الأطبّاء
المشهورين في زمانه وحثّ أصحابه على التداوي علميّا قطعا للطريق أمام شعوذة
"الكهّان" و"السحرة" من العرب واليهود وغيرهم. هذه السنّة
النبويّة الرائدة اقتبس المسلمون من أنوارها لتحقيق مقصد الشرع في حفظ النفس
والعقل.
"أوّل من
اتّخذ البيمارستان بالشام للمرضى الوليد بن عبد الملك (بن مروان) [86 - 96 هـ/
(705 - 715 م][23].
هل كان ذلك "ضروريّا" أم "حاجيّا"
أم "تحسينيّا"؟ كان ضروريّا بل من أوكد الضروريّات. ويؤسف له حقّا أن هضم
التاريخ حقّ هذا الملك وأن لا نجد شيئا عن ذلك المستشفى ودوره وأثره في المجتمع
ولو في دمشق وحدها. هذا سبق حقيقيّ للوليد بن عبد الملك، رحمه الله. وأحسن
القلقشندي إذ وضعه ضمن "الأوائل". والوليد بن عبد الملك نفسه شرع في
بناء جامع دمشق في سنة 88هـ ثمّ وقف عليه بعض القرى والمزارع. ويقال إنّ هذا أوّل وقف من نوعه. وللوليد
"أوّليّات" عديدة في الميادين التعليميّة والاجتماعيّة. وأهمّ تلك
الأولويّات هي أنّه أوّل من عمّم "الوقف الخيريّ" في مساره الكامل ودفع
به إلى النفع والإصلاح للأمّة وأخرجه من الدائرة التي حصر فيها قبل ذلك. وهذا هو
السبق الحقيقيّ. ولا يهمّ إن كان الموقوف من ماله الخاصّ أو من مال الدولة فسبقه
في الفكرة وتحقيقها نظرا للضرورة الأكيدة للعلاج العلميّ والاستشفاء.
كيف نفسّر أنّ الحجّاج بن يوسف بنى مدينة واسط ولم يفكّر في مستشفى رغم تواصل
الحروب وما تخلّفه من جراح وإصابات خطيرة؟
قد يفسّر ذلك بمقولة "الناس على دين ملوكهم".
وقد يفسّر ذلك بأنّ الثقافة العامّة الدائرة في ذلك الوقت لم تكن تهتمّ بمعالجة
الواقع. وقد يفسّر بأنّ "الفقهاء" لم يكونوا يتعرّضون إلى الكثير من
المشاكل الاجتماعيّة والسياسيّة نتيجة للمناخ السياسيّ السائد. صحيح أنّ الفقه
وأصوله كعلم لم يظهر بعد، ولكنّ الواقع كان كفيلا بتعويضه. من هنا يظهر سبق الوليد
بن عبد الملك.
وظل الطبّ
ميدانا حيويا عند المسلمين اذ اقتفى المسلمون من حكّام وقضاة وأثرياء خطى الوليد
بن عبد الملك في جعل أوقافهم على المستشفيات وعلوم الطبّ والصيدلة والجراحة
والوقاية. ورغم أن بيمارستان الوليد في دمشق توقّف عن العمل بوفاة خالد بن يزيد بن
معاوية بن أبي سفيان (ت 90 هـ) الّذي قد يكون هو الّذي حثّ الوليد بن عبد الملك
على تأسيس مستشفى في دمشق."خالد بن يزيد بن يزيد بن معاوية حكيم قريش وعالمها
في عصره. وكان موصوفا بالعلم والدين والعقل. اشتغل بالكيمياء والطبّ والنجوم
فأتقنها وألّف فيها رسائل. وقال ابن النديم: كان خالد بن يزيد فاضلا في نفسه له
همّة ومحبّة للعلوم"[24].
و كان على المسلمين أنّ ينتظروا ملكا آخرا يبني أوّل
مستشفى حقيقيّ متكامل: "وأما البيمارستان فأوّل من أنشأه بالفسطاط [القاهرة]
أحمد بن طولون في سنة [259 هـ] وأنفق عليه ستين ألف دينار"[25].
التعليم، مصلحة ضروريّة أم حاجيّة أم تحسينيّة؟
جعل الله عزّ وجلّ العلم، بديهة في الإسلام وركّز على ذلك في كتابه العزيز
الحكيم موضّحا أنّه إنّما أنزل للّذين "يعلمون" و"يعقلون"،
وخصّ سبحانه وتعالى آياته في الخلق "للّذين
يتدبّرون" و"لأولي النهى"... وأنجز النبيّ الكريم صلّى الله عليه
وسلّم ثورة عقليّة لا مثيل لها في التاريخ بمحو الأميّة في المدينة وتبجيل العلماء
من أصحابه والثناء على من طلب علما منهم. هذا ما اقتنع به المسلمون الأوائل، وقامت
المساجد بمهام المدارس والكليّات والجامعات. ولم توقف الثورات والحروب طيلة القرن
الأوّل ذلك الاندفاع التلقائيّ إلى التعلّم من قبل المسلمين ذكورا وإناثا. ولكن ما
قيل عن الصحّة يمكن أن ينطبق على التعليم في خصوص الأوقاف.
لا ندري
بالضبط "وجوه البرّ" التي كانت مقصودة من الواقفين إلاّ أنّها كانت
تتجاوز الصدقة العينيّة على الفقراء والمحتاجين. وهذا المقصد وحده يخفّف من آلام
الحرمان والخصاصة والجوع عن الفقراء والمحتاجين والضعفاء. ومعلوم أنّ هذا يرتقي
إلى "الضرورة" عند فئات من الناس. ولكن، إذا تجاوزنا تلك الصدقات
الظرفيّة والمحدودة في الفضاء والزمان، فإنّنا نجد أوقافا وجّهت إلى التعليم
والصحّة والبنية التحتيّة من قناطر وسدود وتجميع مياه أي إلى منشآت تتجاوز مصلحتها
فئة أو طبقة اجتماعيّة.
وإذا وجدت
أوقاف خصّصت لبناء المساجد، فإنّ هذه الأوقاف تدخل ضمن المصالح الحاجيّة لافتقار
المصلّين إلى مسجد في مكان ما أو لضيق المسجد أو لتزايد السكّان.
الوقف الخيريّ في
المصالح الحاجيّة والتحسينيّة:
"روى الخلاّل بإسناده عن نافع قال: ابتاعت حفصة حلياً بعشرين ألفاً فحبسته على
نساء آل الخطاب فكانت لا تخرج زكاته"[26].
رضي الله عن أمّ المؤمنين حفصة. كانت تسابق أباها في
الخير والبرّ والإحسان. ولكن، ما شأن هذا "الحلي بعشرين ألفاً المحبّس على
نساء آل الخطّاب"؟
قبل ذلك، في
تاريخنا وتراثنا ظواهر ككلّ تاريخ أمّة وتراثها. ولكن عندنا ظواهر لم يشاركنا فيها
شعب ولا أمّة قبل القرن العشرين ومنها "الوقف النسائيّ". ظاهرة فريدة في الأمّة المسلمة. وللمرأة المسلمة في
الحبس والوقف شؤون لا شأن.
ظاهرة لا
يقع المرور عليها حتى مرورا محتشما من الكتّاب والمؤرّخين والباحثين فلا يتوقفون
عندها إلاّ نادرا مع أنّ النسبة المئويّة للنساء المسلمات المتبرّعات بوقف أو حبس
تفوق نسبة الذكور إحصائيّا إذا اعتبرنا النسبة بين الذكور والإناث عامّة، وإذا
اعتبرنا أوضاع المرأة المسلمة العامّة وخاصّة الماليّة. ولا محالة فإنّ القيمة
المعنويّة لوقف من امرأة في تلك القرون أسمى وأرقى من قيمة وقف رجاليّ. وما
"حبس" حفصة رضي الله عنها إلاّ باكورة من باكورات الوقف النسائيّ في
تاريخنا وتراثنا.
إن صحّت الرواية، فلا يكون ذلك إلاّ من باب الشعور
المرهف عند امرأة تعرف ما تحسّ به إذا تواجدت في محفل يستدعي الزينة والتجمّل أو
حتّى التفاخر بما تلبس. وأكثر "آل الخطّاب" لم يكونوا من أثرياء
المهاجرين في المدينة. ومن رجالهم من كان لا يعبأ بالدنيا كلّها وزينتها ومنهم من
كان "متشدّدا"، كما يقال، على نفسه وعلى غيره. فلا غرابة أن يكون
"الحلي" نادرا أو مفقودا عند نساء آل الخطّاب. رأت حفصة رضي الله عنها
بإحساسها الرقيق وبعد نظرها أن تعوّض ذلك فاشترت ذلك الحلي تستلفه منها نساء آل
الخطّاب كلّما دعت الحاجة إلى ذلك. هذا في الاصطلاح الفقهيّ "وقف أهليّ"
بما أنّ حفصة خصّته لآل الخطّاب ولكنّه مختلف في جوهره ومقاصده عن الأوقاف الذريّة
في المنازل والحقول. حبس حفصة هذا يدخل في جبر الخواطر، وهذا من المصالح الحاجيّة
عند البعض والتحسينيّة عند الآخر.
نماذج من إبداعات
المسلمين في الوقف الخيريّ:
لا تذكر مصادرنا أوقافا خيريّة من نوع "حلي
حفصة" ولو كانت محصورة على "الأهل" في القرون الأولى. ويصعب تحديد
البداية لانتشار الوقف الخيريّ ليشمل كلّ المصالح، والأرجح أنّ انتشار الوقف
الخيريّ بنماذجه المتعدّدة ظل متدرجا في النماء عبر القرون. لذلك نكتفي ببعض
النماذج من الأوقاف الخيريّة بغضّ النظر عن تاريخ ظهورها وانتشارها. إنّ نماذج
الوقف الخيريّ التي ابتدعها المسلمون هي أحسن تعبير عن سبقهم في التمدّن الفعليّ
لا في التحضّر المظهريّ. بتلك النماذج طبع المسلمون التاريخ الإنسانيّ، أو على
الأقل تاريخ المسلمين، بسمة الإنسانيّة الحقّ.
"كان يوقف
للمرضى مراوح من خوص لأجل استعمالهم إيّاها في وقت الحرّ... ومن الأوقاف الخيرية
التي أنشأها المسلمون بناء الخانات والفنادق للمسافرين المحتاجين ومعها أثاثها
وأدوات الطبخ فيها... ومنها بيوت خاصة للفقراء يسكنها من لا يجد ما يشتري به أو
يستأجر دارًا. ومنها سقايات الماء المسبّلة للناس في الطرقات العامة... ومنها حفْر
الآبار الخيرية وإنشاء القناطر والجسور والطرقات [...] ومما أنشأه المسلمون من
الأوقاف الخيرية دور لتقديم الرعاية الاجتماعية المجانية للّقطاء ولليتامى
ولختانهم والعناية بهم. وكذلك خصّصوا دورًا للعجزة والعميان والمقعدين... بل وقفوا
أموالاً لإمداد العميان والمقعدين بمن يقودهم ويخدمهم. وكانت هناك أوقاف خيرية
لتزويج الشباب العُزّاب الذين يعجزون عن تقديم المهور وتأمين نفقات الزواج. كما
وقف المسلمون أموالاً لإمداد الأمّهات بالحليب والسكّر [...] كما كانت هناك أوقاف
خيريّة تنفق على أسر السجناء وأولادهم... وممّا كان له نصيب كبير في اهتمامات
المسلمين الوقفية الحيوانات: فقد وقفوا الأموال لتطبيب المريض منها ولرعي المسنة
العاجزة. وكانت في دمشق أرض يقال لها المرج الأخضر، وقفت للخيول المسنة العاجزة
التي يطردها أصحابها لأنهم ما عادوا ينتفعون بها، فكان هناك موظفون خاصون
يأخذونها، فترعى في أرض الوقف حتى تموت. وكان في أوقاف العديد من المدن الإسلامية
أماكن خاصة لرعاية مئات القطط العمياء والجريحة والمكسورة الأذرع..وبقي هذا في
بلاد الشام إلى وقت قريب جدًا"[27].
وقف "الجهاز": عيّن "لتجهيز البنات إلى أزواجهنّ وهنّ اللواتي لا
قدرة لأهلهنّ على تجهيزهن".
وقف
"الغاضبات": عمليّا
يتمثّل في تخصيص "مأوى" للزوجات. يؤثّث البيت بما يلزم من الفراش
والماعون ويعدّ فيه الطعام والشراب وكلّ ما يحتاج إليه الساكنون. هذا
"المأوى" تقصده زوجة أغضبها زوجها أو أغضبت زوجها لأسباب عاديّة كما
يحصل بين الأزواج. وتظل آكلة شاربة إلى أن يذهب ما بينها وبين زوجها من الجفاء
وتصفو النفوس، فتعود إلى بيت الزوجية من جديد.
بذلك وقع
امتصاص الغضب وتجنّب كلّ ما يمكن أن يحدثه وخاصّة أن تزداد العلاقة الزوجيّة
تشنجّا وتعقّدا. وهكذا حفظت العائلة وجنّب الأطفال تلك المشاهد المزرية من الخصام
بين الأب والأمّ. وكم وقع التخفيف على دور القضاء والمحاكم من القضايا في الخصومات
الزوجيّة والطلاق.وهذا يكفل تحقق مقاصد شرعية عديدة تُحفظ بها النفوس والأبدان
والعقول والأعراض.
وقف "اللقطاء"! نعم
المبادرة هي ونعم العمل هو ورحم الله أوّل من فعل ذلك ومن اتّبعه في "سنّته".
وقف "الطرقات": "أوقاف على
تعديل الطرق ورصفها لأنّ أزقّة دمشق لكلّ واحد منها رصيفان في جنبيه يمرّ عليهما
المترجّلون، ويمرّ الركبان بين ذلك"[28].
وقف "الحيوانات الضالّة": يتمثّل في جمع الحيوانات السائبة والمتشرّدة، وخاصّة
منها الكلاب، وأخذها إلى مأوى تجد فيه طعامها وشرابها وأمنها. بذلك حفظ الناس
وخاصّة الأطفال من شرور تلك الحيوانات وحفظ الحيوان من شرور الإنسان. مع ما في ذلك
من وقاية من الأمراض والأوبئة وانتشارها ونظافة المحيط من الأوساخ والجيف والروائح
الكريهة. والأبعاد الجمالية والتحسينية بارزة جدا في هذا الوقف فضلا عن الضروريات
والحاجيات.
يمثّل الوقف
الخيري على المصالح الاجتماعيّة أو التعليميّة أو الثقافيّة أو الصحيّة... أسمى
درجات النبل ونكران الذات والإنسانيّة وأرقى أنواع السمو بالإنسان وتحقيق توازنه
المادي والروحي. وإنّ الأوقاف الخيريّة في تاريخ المسلمين هي مفخرتهم وفخرهم الحقّ
أكثر من إنجازاتهم العلميّة.
لقد وفّر
هذا القسم من الأوقاف للأمة المرافق الضرورية والحاجية والتحسينية تبعاً لقصد
الواقف ومقدار حاجة المجتمع للمرفق الموقوف عليه.
ساهم الوقف
في النهوض بالتعليم والصحّة بقدر معتبر، ممّا جعل بعض الباحثين يعدّونه أساس
الحضارة الإسلامية.
ارتباط فقه الوقف بنظرية المقاصد (مقارنة بين المذاهب)
"رَجَّعَ
الشَّيْخ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْفِقْه كُلّه إلَى اعْتِبَار
الْمَصَالِح وَدَرْء الْمَفَاسِد بَلْ قَدْ يَرْجِع الْكُلّ إلَى اعْتِبَار
الْمَصَالِح فَإِنَّ دَرْء الْمَفَاسِد مِنْ جُمْلَتهَا"[29].
هنا، نتجاوز المصطلحات للاهتمام بمعنى
"الغاية" من تشريع أحكام الوقف وارتباطها بنظريّة المقاصد العامّة
للشريعة. لا ضرورة للجانب الفقهيّ التفصيلي المتعلّق بأركان الوقف وصيغته
وما يتبع من شروط بطلانه أو صحّته إلاّ إذا اقتضى الأمر ذلك. وليكن التركيز على
أحكام وفتاوى عملية عالجت الوقف الموجود أو الممكن في أهمّ المحاور المضمونيّة
المتعلّقة به وهي:
"موت" الوقف: وقف (مسجد، مدرسة، مستشفى...) خرب إلى حدّ لا يمكن
إصلاحه، أو أرض صارت مواتا لأسباب طبيعيّة أو غيرها، ما الاختيار: تركه على حاله
أو هدمه والانتفاع بمكانه في مصلحة عامّة أخرى أم بيعه؟
"عطل" الوقف: وقف ما (مسجد، مدرسة، بستان...) تعطّل عن أداء دوره
ووظيفته وما وقف من أجله، وذلك لأسباب موضوعيّة، ماذا يحصل: تركه على حاله
أو "مناقلته" أو جلب من يمكنهم الانتفاع بذلك الوقف؟
"فواضل" الوقف: وقف، أو
مجموعة من الأوقاف، رصدت لجهة معيّنة وأمكن تنفيذ كلّ شروط الواقف ونالت الجهة
الموقوف عليها ما تستحقّ وادّخر مبلغ لصيانة الوقف وبقي "فاضل" أي فائض،
ماذا يُفعل به: يحفظ عند الناظر للسنة "الوقفيّة" القادمة أم يوزّع على
الجهة أم يستخدم في مصلحة خارجة عن شروط الواقف؟
"عجز" الوقف: هي الصورة
العكسيّة للسابقة.وقف لم يستطع تلبية الشروط المناطة بعهدته لعجز في الغلّة، ما
العمل: تخالف شروط الواقف في التوزيع "فتظلم" الجهة الموقوف عليها هل
"يقترض" لذلك الوقف أم تتكفّل خزينة الدولة بسدّ العجز؟
"التأبيد": ما مفهوم "التأبيد" في فقه الوقف؟ هل نظريّة
التأبيد هي في صالح الوقف فعلا؟ هل هذا التأبيد يجد مكانه في نظريّة المقاصد؟
"الملكيّة": ما هو الوضع الشرعيّ والقانونيّ للوقف: من يملكه: الجهة
الموقوف عليها، الناظر، الحاكم أم هو "سائب"؟
"موت" الوقف ومراعاة
مقاصد الشريعة:
يتمثّل "موت" الوقف أو "عقمه" في
توقّفه عن أداء الدور الّذي حبّس من أجله. وعبّر فقهاؤنا عن تلك الحالة بسببها
المباشر "الخراب". بذلك يعلن الوقف عن نهايته الدنيويّة. ويختلف عقم
الوقف باختلاف عينه وبما يطرأ عليها. فكلّ حيّ من حيوان وشجر ينتهي إمّا بأجله
المحتوم وإمّا بما يحدث من مرض وعجز. وأمّا الأرض فهي عرضة للإقحال و التصحّر
والإقفار. والأرض والبناءات معرّضة لكلّ ما يجدّ من تغيير في تخطيط المدن وعماراتها
وما تستوجبه الضرورة في حياة الناس من توسيع طرقات وفتح أخرى وتغيير المناطق
السكنيّة وترحيل السكّان. و"الخراب" أسرع إلى المباني من مدارس
ومستشفيات و رباطات و مآو ومنازل ودكاكين.
يتعرّض
المسجد في الواقع الحياتيّ إلى أربعة عوامل تبطل دوره: الخراب لانعدام الصيانة
بطول الزمن؛ إقفار المكان من السكّان في الموضع الموقوف فيه؛ ضرورة الهندسة
المعماريّة لتوسيع الطرقات أو سدّ بعضها ممّا يعرّض المسجد إلى توقّف نشاطه أو
هدمه؛ انصراف المصلّين عنه لأسباب عديدة.
اعتنى فقهاؤنا بكلّ ذلك تبعا لأزمنتهم ومناطقهم وأوضاعهم
السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. فهل راعى الفقهاء مقاصد الشريعة العامّة في
الأحكام التي شرّعوها لمعالجة خراب الوقف أم وضعوا نصب أعينهم اعتبارات أخرى.
يباع الوقف إن فقد نفعه أم لا؟
القاعدة: "ولا يجوز
بيع الوقف عند الثلاثة. وقال أبو حنيفة يجوز بيعه ما لم يتّصل به حكم حاكم، أو
يخرجه الواقف مخرج الوصايا".[31]
تلك هي القاعدة في جميع مذاهب الفقه الإسلاميّ
"السنيّة" وغيرها. وهي تمثّل "القانون" في فقهه
"الأصوليّ"، ولكلّ قاعدة شواذّ ولكلّ قانون استثناءات. وفي هذه
الاستثناءات التي تبيح بيع الوقف أفهام وعقول تنفذ إلى روح الشريعة لتغلب المصلحة
الفعلية والمقاصد الشرعية وان خالفت أقوال الرجال.
وحتى الجدل
داخل كلّ مذهب حول نوعيّة الوقف من حيث العين الموقوفة (مسجد، رباط، بئر، حوض،
أرض...) و"ملحقات" الوقف (الحصر والبسط والقناديل وأخشاب البناء إذا
استغني عنها) والجهة المخوّل لها البيع (الواقف، الناظر، الورثة، الحاكم) و
الضرورات المبيحة لبيع الوقف عند الّذين أباحوا بيع الوقف، كلها تنويعات على أصل
واحد: تفعيل مقاصد الشرع وعدم التقيّد برأي واحد.
الحنابلة:
"لا يجوز بيع الوقف
ولا هبته... فإن تعطّلت منافعه بالكلّيّة كدار انهدمت أو أرض خربت وعادت مواتا لا
يمكن عمارتها أو مسجد انتقل أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلّى فيه أو ضاق
بأهله ولم يمكن توسيعه في موضعه، فإن أمكن بيع بعضه ليعمر به بقيّته جاز بيع البعض، وإن لم يمكن الانتفاع
بشيء منه بيع جميعه"[32].
هنا خوف واضح من ضياع مقاصد الوقف، فالحكم الأوّليّ
الأصليّ هو "لا يجوز بيع
الوقف" ولكن ألا توجد افتراضات أخرى تنفذ إلى المصلحة رغم المنع؟والغريب أن انسياقهم
حول تحقيق مقاصد الشريعة جعلهم يبحثون في إمكانيّة بيع المسجد بعضه أو كلّه في قول ابن قدامة!.
فهل حقّا
يباع الوقف إذا اقتضت الضرورة أو المصلحة العامّة ليصرف في مصلحة أخرى غير الّتي
جعل الوقف من أجلها؟ الجواب: نعم: "الْخِرَقِيّ... قَالَ: وَإِذَا خَرِبَ
الْوَقْفُ وَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا بِيعَ وَاشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ مَا يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ
الْوَقْفِ وَجُعِلَ وَقْفًا كَالْأَوَّلِ. قَالَ
الْحَارِثِيُّ: وَكَذَا نَصَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ"[33].
لا: "قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَحَكَى فِي التَّلْخِيصِ عَنْ
أَبِي الْخَطَّابِ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ مُطْلَقًا... وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْخَطَّابِ فِي الْهِدَايَةِ
فِي كِتَابِ الْبَيْعِ: عَدَمُ الْجَوَازِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ
الْوَقْفِ... وَاخْتَارَ أَيْضًا هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَهِيَ عَدَمُ الْبَيْعِ
الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ"[34].
وإذا كان الوقف مسجدا؟: "وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ
الْمَسَاجِدَ لَا تُبَاعُ وَإِنَّمَا تُنْقَلُ آلَتُهَا"[35].
وفيم يصرف ثمن البيع؟ أكّد المرداوي في
"الإنصاف": "وَصَرَّحَ بِهِ فِي "التَّلْخِيصِ" فَقَالَ
فِي كِتَابِ الْبَيْعِ: وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ وَيَصِيرُ وَقْفًا
كَالْأَوَّلِ وَصَرَّحَ بِهِ أَيْضًا فِي "الرِّعَايَةِ" فِي
مَوْضِعَيْنِ... وَيَكُونُ مَا اشْتَرَاهُ وَقْفًا كَالْأَوَّلِ... وَقَالَ فِي
"الْمُبْهِجِ": وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يَكُونُ وَقْفًا". وضرب
ابن قدامى في "المغني" مثلا: "وَكَذَلِكَ الْفَرَسُ الْحَبِيسُ إذَا
لَمْ يَصْلُحْ لِلْغَزْوِ بِيعَ وَاشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ مَا يَصْلُحُ
لِلْجِهَادِ... فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهَا مَا يَصْلُحُ
لِلْغَزْوِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ".
فالمقصد
الأوّل والأخير هو المصلحة و"دوامها" لا الأعراض وأشكالها.
إن الإمام مالك بن أنس يمنع بيع الوقف مطلقا ويذهب إلى
أبعد من ذلك: "لَا يُبَاعُ عَقَارٌ حُبِّسَ: أَيْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا
يَصِحُّ وَإِنْ خَرِبَ وَصَارَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَسَوَاءٌ
كَانَ دَارًا أَوْ حَوَانِيتَ أَوْ غَيْرَهَا، وَلَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ
كَاسْتِبْدَالِهِ بِمِثْلِهِ غَيْرَ خَرِبٍ، فَلَا يَجُوزُ "[36].
ولكنّ فقهاء المذهب المالكي خالفوه:
"ثُمَّ
شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْوَقْفِ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَجُوزُ بِمَعْنَى
يُحَرَّمُ أَنْ يُبَاعَ الْعَقَارُ الْحُبُسُ وَإِنْ خَرِبَ بِحَيْثُ صَارَ لَا
يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَرْجُ عَوْدَهُ.... وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَجُوزُ بَيْعُهُ إنْ كَانَ فِي بَقَائِهِ ضَرَرٌ وَلَا يُرْجَى عَوْدُهُ.
وَحَكَى عَلَى ذَلِكَ الِاتِّفَاقَ وَلَا شَكَّ فِي مُخَالَفَتِهِ لِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ"[37].
ولكن، لمالك رواية أخرى: "ابْنُ رُشْدٍ: وَفِيهَا
لِرَبِيعَةَ أَنَّ الْإِمَامَ يَبِيعُ الرَّبْعَ إذَا رَأَى ذَلِكَ لِخَرَابِهِ
وَهُوَ إحْدَى رِوَايَتَيْ أَبِي الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ ا هـ. وَعِبَارَةُ
الرِّسَالَةِ: وَلَا يُبَاعُ الْحَبْسُ وَإِنْ خَرِبَ"[38].
بل إنّ المالكيّة يلتقون في النهاية مع الحنابلة:
"وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَجُوزُ بَيْعُهُ إنْ كَانَ فِي بَقَائِهِ ضَرَرٌ وَلَا يُرْجَى عَوْدُهُ... تَنْبِيهٌ: كَلَامُ
الْمُصَنِّفِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَاقِفُ شَرَطَ لِلْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِ بَيْعَهُ وَإِلَّا جَازَ سَوَاءٌ قَيَّدَ ذَلِكَ بِالْحَاجَةِ أَمْ لَا
كَمَا لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ لِنَفْسِهِ بَيْعَهُ فَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ
عَمَلًا بِالشَّرْطِ قِيَاسًا عَلَى شَرْطِ الرُّجُوعِ فِي صَدَقَتِهِ. وَكَذَا
يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ لِتَوْسِعَةِ مَسْجِدِ الْجُمُعَةِ.... وَيُؤَجَّرُ أَوْ
يُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يُجْعَلُ حُبُسًا كَالْأَوَّلِ. وَمِثْلُ تَوْسِعَةِ
الْمَسْجِدِ تَوْسِعَةُ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَقْبَرَتِهِمْ لِأَنَّ نَفْعَ
الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ وَالطَّرِيقِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِ الْوَقْفِ فَهُوَ
قَرِيبٌ لِغَرَضِ الْوَاقِفِ. وَأَيْضًا يُسْتَبْدَلُ بِالثَّمَنِ خِلَافُهُ،
فَإِنَّهُ [إذا] امْتَنَعَ الْبَائِعُونَ مِنْ جَعْلِ الثَّمَنِ فِي مِثْلِهِ لَا
يُقْضَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ. وَاخْتِلَالُ أَمْرِ الْوَقْفِ يحِلّ بَيْعه"[39].
"لَكِنَّ
مَحَلَّ بَيْعِ الْوَقْفِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رِيعٌ يُعَمِّرُ مِنْهُ وَلَمْ
يُمْكِنْ اسْتِئْجَارٌ بِمَا يُعَمَّرُ بِهِ وَلَا يُبَاعُ مِنْهُ إلَّا بِقَدْرِ
مَا يُعَمَّرُ بِهِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا اُسْتُثْنِيَ مِنْ عَدَمِ
جَوَازِ بَيْعِ الْوَقْفِ"[40].
ان قراءة مثل هذه المباحث الفقهية الجزئية متعة للباحثين
لأنها منطلق ثروة فكرية زاخرة تغوص في أعماق المسائل لاستخراج مجموعة من التخريجات
المتدافعة تروم في النهاية المحافظة على روح النص ووضح التشريعات والحلول اللازمة
والمتوقعة للمشاكل الطارئة في حياة المجتمع المسلم.
"لو خرب
المسجد وليس له ما يعمر به، وقد استغنى الناس عنه لبناء مسجد آخر، يبقى مسجداً عند
أبي حنيفة وأبي يوسف أبداً إلى قيام الساعة، وبرأيهما يفتى، فلا يعود إلى ملك
الباني وورثته، ولا يجوز نقله ونقل ماله إلى مسجد آخر، سواء أكانوا يصلون فيه أم
لا. وقال محمد: إذا انهدم الوقف وليس له من الغلة ما يعمر به، فيرجع إلى الباني أو
ورثته"[42].
الزيديّة:
"اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ
إلَّا فِي أَرْبَعِ حَالَاتٍ فَيَجُوزُ: الْأُولَى إذَا خَشِيَ فَسَادَهُ أَوْ
تَلَفَهُ إنْ أَبْقَاهُ. الثَّانِيَةُ إذَا خَشِيَ فَسَادَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ
كَالْمَسْجِدِ وَنَحْوَهُ. الثَّالِثَةُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ إصْلَاحُ الْوَقْفِ
فِي نَفْسِهِ وَلَوْ مَسْجِدًا إلَّا بِبَيْعِ بَعْضِهِ لِإِصْلَاحِ الْبَاقِي
إذَا اتَّحَدَ الْوَاقِفُ وَالْمَصْرِفُ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ. الْحَالَةُ
الرَّابِعَةُ مَا بَطَلَ نَفْعُهُ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ وَقْفِهِ وَلَوْ حَصَلَ
الرَّجَا بِعَوْدِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي
غَيْرِ الْمَقْصُودِ بِيعَ
لِإِعَاضَتِهِ وَيَصِيرُ الْعِوَضُ مِنْ وَقْفِهِ"[43].
المقارنة:
لم يذكر الدكتور الزُّحَيْلِيّ الأسباب، فليس المهم
مقررات الفقه وإنما اعتبارات النظر والاجتهاد.
يلاحظ،
مثلا، أنّ المنطلق في بيع الوقف عند المالكيّة والحنابلة هو نفسه: "لا يجوز
بيع الوقف" وأنّ الرواية في هذا اختلفت عن الإمامين وأنّ "المساجد لا
تباع" ولكن "الراجح" في المذهبين هو إمكانية بيع الوقف، مع اختلاف
في تقدير الضرورة وأنّ "الْمُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْوَقْفِ
خَمْسُ مَسَائِلَ" عند المالكيّة، نظريّا، وأنّ الوقف إذا بيع
"يُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ وَيَصِيرُ وَقْفًا كَالْأَوَّلِ"
(الحنابلة)، " يُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يُجْعَلُ حُبُسًا كَالْأَوَّلِ"
(المالكيّة).
هنا تأصيل
مبكّر لنظرية المقاصد. فالجماعة يحومون حولها دون تصريح،فهي مبثوثة في الأحكام
والاختلافات، بل في محاولة مخالفة الرأي المشهور والمعتمد في الفقه لتجاوزه وتأسيس
فهم مقاصدي لقضايا الفقه.
قد تختلف
"درجة الشدّة" عند الفقهاء، لاعتبارات اجتهاديّة بحتة في
"الاستثناءات" والمخالفات ولكنها تدور حول تأسيس فقه المقاصد والغايات والمآلات. وهذا واضح
من خلال الحضور الدائم لمصطلحات من قبيل: الانتفاع - الاستبدال - المقصود -
الإصلاح - الفساد - العوض - الجواز - الضرر - الغرض.
وفي النصّ الآتي تصريح صريح بمعيار المقاصد تحت مسميات الغرض والانتفاع الدائم
على لسان ابن عقيل:
"فيما ذكرناه استبقاء للوقف بمعناه عند تعذّر إبقائه بصورته، فوجب ذلك. قال ابن عقيل: الوقف مؤبّد؛ فإذا لم يمكن تأبيده على وجه تخصيصه، استبقينا الغرض وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى. وإيصال
الإبدال جرى مجرى الأعيان. وجـمودنا على العين مع تعطّلها تضييع للغرض... فلمّا تعذّر
تحصيل الغرض بالكلّيّة، استوفي منه ما أمكن وترك مراعاة المحلّ الخاصّ عند تعذّره
لأنّ مراعاته مع تعذّره تفضي إلى فوات الانتفاع به بالكلّيّة، وهكذا الوقف المعطّل
المنافع".[45]
وفي هذا أيضا تصريح وتلميح لاعتبار المقاصد:
"لِأَنَّ الْمَقْصُودَ انْتِفَاعُ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِ بِالثَّمَرَةِ لَا بِعَيْنِ الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ. وَمَنْعُ
الْبَيْعِ إذَنْ مُبْطِلٌ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي اقْتَضَاهُ الْوَقْفُ
فَيَكُونُ خِلَافَ الْأَصْلِ. وَلِأَنَّ فِيمَا نَقُولُ بَقَاء لِلْوَقْفِ بِمَعْنَاهُ
حِينَ تَعَذَّرَ الْإِبْقَاءُ بِصُورَتِهِ فَيَكُونُ مُتَعَيِّنًا. وَعُمُومُ
"لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا" مَخْصُوصٌ بِحَالَةِ تَأَهُّلِ الْمَوْقُوفِ
لِلِانْتِفَاعِ الْمَخْصُوصِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَيَجُوزُ
فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنْ يُبَاعَ ذَلِكَ الْمَسْجِدُ
وَيُعَمَّرُ بِثَمَنِهِ مَسْجِدٌ آخَرُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى إذَا لَمْ يُحْتَجْ
إلَيْهِ فِي الْقَرْيَةِ الْأُولَى. وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْمٍ بِعَيْنِهِمْ
أَحَقُّ بِجَوَازِ نَقْلِهِ إلَى مَدِينَتِهِمْ مِنْ الْمَسْجِدِ"[46].
إنّ "تساهل" بعض الفقهاء في "بيع
الوقف"، وخاصة عند الحنابلة كما يبدو، هو ترخيص من أجل "استبقاء الغرض
وهو الانتفاع على الدوام"، ولو "في عين أخرى" أي في وقف آخر لنفس
الغرض وبنفس الشروط، فهذا يدلّ على أنّ فقه الوقف، في هذه الحالة وفي غيرها أيضا،
ارتبط بنظريّة المقاصد العامّة و انبنى من أجل المصلحة العامّة.
قد يكون
لنظرية سدّ الذرائع مداخل معتبرة في هذا التأسيس، فالتعليل عند المالكيّة هو نفسه
في مضمونه وغرضه عند الحنابلة وإن اختلفت الصياغة. هذا الحرص على "دوام
الوقف" ودوام المنفعة أمر مشترك في فقه الوقف بين كلّ المذاهب. وكلّ علّل ذلك
من زاوية اجتهادية معينة ولكنّها تتنزّل في خدمة مقاصد الشريعة الإسلامية:
"وَلَعَلَّ وَجْه كَلَامِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ
مِنْ التَّطَرُّقِ إلَى بَيْعِ الْأَوْقَافِ بِدَعْوَى الْخَرَابِ. وَالْإِمَامُ
بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ.وَكَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَقَارِ
الْحُبُسُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَنْقَاضِهِ"[47].
تتجلىّ نظرية المقاصد واضحة في الترتيبات التي وضعها الفقهاء في حالة عقم
الوقف:
1- استعماله، إن أمكن، في مصالح أخرى.
2- "استبداله" أي تعويض الوقف بما
يماثله أو بما يجرّ نفعا كالوقف الأصليّ.
3- "بيعه" للضرورة.
وكلّ ذلك
بشروط وقيود وتفصيلات لديهم، تتعلق دائما بحفظ القواعد اللازمة للعقل والنفس
والمال والدين والنسب أو المقاصد الخمسة التي جاءت الشريعة الإسلامية لحفظها
وتنزيلها في واقع الحياة الإسلامية.
"حَيْثُ
جَوَّزْنَا بَيْعَ الْوَقْفِ، فَمَنْ يَلِي بَيْعَهُ؟ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
يَكُونَ الْوَقْفُ عَلَى سُبُلِ الْخَيْرَاتِ كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ
وَالْمَدَارِسِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ عَلَى سُبُلِ الْخَيْرَاتِ وَنَحْوِهَا فَالصَّحِيحُ مِنْ
الْمَذْهَبِ أَنَّ الَّذِي يَلِي الْبَيْعَ الْحَاكِمُ. وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ
ذَلِكَ فَهَلْ يَلِيهِ النَّاظِرُ الْخَاصُّ أَوْ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَوْ
الْحَاكِمُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ"[48].
"عطل" الوقف : المناقلة
سبيل لتحقّق المصالح والمقاصد الشرعية.
"اعْلَمْ
أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ تَتَعَطَّلَ مَنَافِعُهُ أَوْ لَا.
فَإِنْ لَمْ تَتَعَطَّلْ مَنَافِعُهُ: لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا الْمُنَاقَلَةُ
بِهِ مُطْلَقًا. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ... وَنَقَلَ
أَبُو طَالِبٍ: لَا يُغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ وَلَا يُبَاعُ إلَّا أَنْ لَا
يُنْتَفَعَ مِنْهُ بِشَيْءٍ وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. وَجَوَّزَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ [ ابن تيميّة ] رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ وَقَالَ: هُوَ قِيَاسُ الْهَدْيِ وَذَكَرَهُ وَجْهًا فِي
الْمُنَاقَلَةِ. وَأَوْمَأَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَنَقَلَ صَالِحٌ: يَجُوزُ نَقْلُ الْمَسْجِدِ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ.. وَصَنَّفَ
صَاحِبُ الْفَائِقِ مُصَنَّفًا فِي جَوَازِ الْمُنَاقَلَةِ لِلْمَصْلَحَةِ سَمَّاهُ "الْمُنَاقَلَةُ بِالْأَوْقَافِ وَمَا فِي
ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعِ وَالْخِلَافِ" وَأَجَادَ فِيهِ. وَوَافَقَهُ عَلَى
جَوَازِهَا الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ بْنُ الْقَيِّمِ وَالشَّيْخُ عِزُّ
الدِّينِ حَمْزَةُ بْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ وَصَنَّفَ فِيهِ مُصَنَّفًا سَمَّاهُ
"رَفْعُ الْمُثَاقَلَةِ فِي مَنْعِ الْمُنَاقَلَةِ" وَوَافَقَهُ أَيْضًا
جَمَاعَةٌ فِي عَصْرِهِ وَكُلُّهُمْ تَبَعٌ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي ذَلِكَ"[49].
ما يمكن استنتاجه من النصّ في خصوص ارتباط فقه الوقف بنظريّة المقاصد: أن "المناقلة" لم تكن أمرا غريبا في مباحث
الأوقاف، وجدل التصنيفات يشير إليها باستمرار.وقد تحدّث ابن كثير في "البداية
والنهاية" عن نزاع طريف بين الحنابلة في مسألة المناقلة.
ويبدو أن ابن
تيميّة كما يُفهم من السياق في "الإنصاف" كان من الداعين إلى المناقلة
أو"المعاوضة" لأنه رأى فيها "مصلحة" للمسلمين أو للجهة
الموقوف عليها أو للوقف نفسه،أو مقصدا من مقاصد الشريعة،اعتمادا على سنة الفاروق
رضي الله عنه الذي يعتبر من أوائل مؤسسي فقه المقاصد والفهم المقاصدي لأحكام الدين
الحنيف:
"عن القاسم
بن محمّد أنّ عمر كتب إلى ابن مسعود أن يحوّل المسجد الجامع بالكوفة إلى موضع سوق
التمارين ويجعل السوق في مكان المسجد الجامع العتيق ففعل ذلك "[50].
وفي نصّ آخر من الفتاوى تأييد عميق لمبدأ ارتباط فقه الوقف مع المصالح
والمقاصد حيث دارت:
" فَيُتْبَعُ
فِي صُورَةِ الْبِنَاءِ مَصْلَحَةُ الْوَقْفِ، وَيُدَارُ مَعَ الْمَصْلَحَةِ
حَيْثُ كَانَتْ.وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - كَعُمَرَ
وَعُثْمَانَ - أَنَّهُمَا قَدْ غَيَّرَا صُورَةَ الْوَقْفِ لِلْمَصْلَحَةِ بَلْ
فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ حَوَّلَ
مَسْجِدَ الْكُوفَةِ الْقَدِيمَ فَصَارَ سُوقَ التَّمَّارِينَ، وَبَنَى لَهُمْ مَسْجِدًا فِي مَكَان
آخَرَ "[51].
وقد أجاز المالكيّة: المعاوضة في ثلاثة مواضع يُباع فيها الحبس: لتوسعة
الطريق العام أو لتوسعة المسجد الجامع الذي ضاق بأهله، أو لتوسعة المقبرة. ويمكن
أن يطلق على هذا: "المعاوضة للمصالح العامّة". فالأمر عندهم لا يختلف في
جوهره عن الحنابلة." َقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقِطْعَةُ
مِنْ الْأَرْضِ الْمُحَبَّسَةِ انْقَطَعَتْ مَنْفَعَتُهَا جُمْلَةً وَعَجَزَ عَنْ
عِمَارَتِهَا وَكِرَائِهَا فَلَا بَأْسَ بِالْمُعَاوَضَةِ فِيهَا بِمَكَانٍ
يَكُونُ حَبْسًا مَكَانَهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ بِحُكْمٍ مِنْ الْقَاضِي بَعْدَ
ثُبُوتِ ذَلِكَ السَّبَبِ"[52].
"فواضل" الأوقاف
ودفع الضرر وجلب المنافع:
"ثم سألهم عن فواضل الأوقاف هل يجوز صرفها في عمارة
الأسوار وعمل الخندق للمصلحة المتوجهة للمسلمين. فأفتى شرف الدين ابن عبد الوهاب
المالكي بجواز ذلك. ومنهم من روى في مهلة النظر. وقال الشيخ شرف الدين ابن أبى
عصرون الشافعي: لا يجوز أن يصرف وقف مسجد إلى غيره ولا وقف معيّن إلى جهة غير تلك
الجهة، وإذا لم يكن بدّ من ذلك فليس طريقه إلاّ أن يقترضه من إليه الأمر في بيت
مال المسلمين فيصرفه في المصالح ويكون القضاء واجبا من بيت المال. فوافقه الأئمة
الحاضرون معه على ذلك"[53].
نحن في القرن السادس الهجريّ قرن الصعوبات على المسلمين
وبداية زحف المغول نحو الشام والعراق. الحروب الصليبيّة متواصلة بين الملك نور
الدين رضي الله عنه وبين الغرب الصليبيّ كلّه. مملكة نور الدين في الشام هي الوحيدة
المستقرّة سياسيّا. كانت بغداد ومصر وشمال إفريقيا تعاني الاضطرابات الداخليّة
والاعتداءات الخارجيّة.
عقد الملك
نور الدين اجتماعا "بقلعة دمشق يوم الخميس تاسع عشر صفر سنة أربع وخمسين
وخمسمائة (554 هـ)" للنظر في الأوقاف وصرف "فواضلها". المذاهب
الأربعة ممثّلة وحضر "رئيس دمشق ابن أسد التميمي. وابن أبي المضاء متولّي
الوزارة بدمشق والأعيان من شهود العدالة بدمشق... والصائن أبو الحسين وغيرهم"[54].
سألهم الملك أوّلا "عن المضاف إلى أوقاف المسجد
الجامع بدمشق من المصاغ التي ليست وقفا عليه. ثم أمر نور الدين متولّي أوقاف
الجامع والمساجد والبيمارستان وقني السبيل وما جرى مع ذلك أن يقرأ عليه بمحضر من
المذكورين ضريبة الأوقاف موضعا موضعاً ليفرد ما يعلمون أنه للمصالح دون
الوقف". ثمّ عيّن للمصالح مقادير وبيّن أصل الأوقاف: بعضه "ميراث عن بنى
أميّة كالخضراء ودار الخيل وبعضه اشتري بمال الوقف والمصالح وبعضه أخذ من باد أهله
الموقوف عليهم، ولم يكن له مال، وبعضه أحدث في الطريق". ثمّ "قال نور
الدين: إنّ أهمّ
المصالح سدّ ثغور المسلمين وبناء السور المحيط بدمشق والخندق لصيانة المسلمين
وحريمهم وأموالهم".
صورة واقعيّة جمعت بين الكثير من "مسائل"
الوقف نذكر منها بالخصوص الشفافيّة الكاملة التي انتهجها نور الدين في عرض الأوقاف
ومأتاها وإنتاجها ومصارفها. لتلك الأوقاف "فواضل" أي فائض بعد صرف كلّ
المستحقّات حسب "شرط الواقف". والأهمّ هو ترتيب الأولويّات في نظر الملك
المجاهد في سبيل الله: "إنّ أهمّ المصالح سدّ ثغور المسلمين وبناء السور
المحيط بدمشق والخندق لصيانة المسلمين وحريمهم وأموالهم".
فهل هذا
الترتيب يراعي نظريّة المقاصد؟ هل يمكن اعتبار "سدّ ثغور المسلمين وبناء
السور المحيط بدمشق والخندق لصيانة المسلمين وحريمهم وأموالهم" من
"المصالح الضروريّة" في ظروف الحرب ضدّ الصليبيّين؟ ماذا قال فقه الوقف؟
المالكيّة: "أفتى شرف الدين ابن عبد
الوهاب المالكي بجواز ذلك".
الحنفيّة والحنابلة: لم يصرّحوا بموقفهم من
أوّل وهلة: "ومنهم من روى في مهلة النظر".
الشافعيّة: "قال الشيخ شرف الدين ابن
أبى عصرون الشافعي: لا يجوز... ".
هل هذه الفتوى تستند إلى "إجماع" الشافعيّة في
فقه الوقف بمنع صرف "فواضل الوقف" في المصالح الضروريّة أو الحاجيّة أو
التحسينيّة في ظروف تستدعي ذلك؟ هل اعتبر ابن أبى عصرون الدفاعات الموجودة كافية
لصدّ الصليبيّين فلا ضرورة ولا فائدة من "بناء السور المحيط بدمشق والخندق
لصيانة المسلمين وحريمهم وأموالهم"؟ هل أجاز المالكي ابن عبد الوهاب الأمر
مراعيا نظرية المقاصد؟
من الأفضل
أن يجيب كلّ بما يراه. ولا فائدة في سرد الأقوال المتعلّقة بصرف غلّة الوقف ولا
ضرورة للتدقيق والبحث عن أقوال تتعلّق "بالمسألة" إذ الاستنتاج الفقهيّ
والمنطقيّ سهل وواضح: إذا أجازت كلّ المذاهب بيع الوقف في حالات معيّنة وبشروط،
وإذا أجازت المذاهب المناقلة في الوقف فمن باب أولى وأحرى أن يكون صرف الفواضل في
مصالح الأمّة "بديهيّا" و"طبيعيّا" ولا يحتاج إلى فتوى. ففي
هذه الحالة لم يطلب نور الدين بيع أوقاف ولا مناقلتها ولا تغيير شرط الواقف ولا
حرمان الجهات الموقوف عليها ممّا تستحقّه.
فالفقهاء والقضاة الّذين استشارهم نور الدين رحمه الله
منهم من راعى مقاصد الشريعة في النصّ و في المضمون وفي فقه الأولويّات في مثل هذا
الوضع. ومنهم من أخذ في الاعتبار النظرة الفقهيّة السائدة و"المتوارثة"
دون اجتهاد، وحكمهم ذاك لا يستند لا محالة إلى نصّ ولا إلى قياس ولا إلى استحسان
وإنّما إلى "العرف" الفقهيّ في أضيق حدوده ومعانيه. ليس لفتوى ابن أبى
عصرون، تلك أيّ وجه شرعيّ في نظريّة المقاصد.
وفي مقابل ذلك نجد فهما عميقا للنظر المقاصدي عند ابن تيمية:
"وَسُئِلَ عَنْ الْوَقْفِ إذَا فَضَلَ مِنْ رِيعِهِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ؟
فَأَجَابَ: يُصْرَفُ فِي نَظِيرِ تِلْكَ الْجِهَةِ. كَالْمَسْجِدِ إذَا فَضَلَ
عَنْ مَصَالِحِهِ صُرِفَ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ لِأَنَّ
الْوَاقِفَ غَرَضُهُ فِي الْجِنْسِ وَالْجِنْسُ وَاحِدٌ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ
الْمَسْجِدَ الْأَوَّلَ خَرِبَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ صُرِفَ رِيعُهُ فِي
مَسْجِدٍ آخَرَ فَكَذَلِكَ إذَا فَضَلَ عَنْ مَصْلَحَتِهِ شَيْءٌ. فَإِنَّ هَذَا
الْفَاضِلَ لَا سَبِيلَ إلَى صَرْفِهِ إلَيْهِ وَلَا إلَى تَعْطِيلِهِ فَصَرْفُهُ
فِي جِنْسِ الْمَقْصُودِ أَوْلَى وَهُوَ أَقْرَبُ الطُّرُقِ إلَى مَقْصُودِ
الْوَاقِفِ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَد عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
حَضَّ النَّاسَ عَلَى إعْطَاءِ مُكَاتِبٍ فَفَضَلَ شَيْءٌ عَنْ حَاجَتِهِ
فَصَرَفَهُ فِي الْمُكَاتِبِينَ"[55].
ومن صور تفاعل الفقه مع نظرية المقاصد شعور الفقهاء بأن
التشريع الإسلامي لم يقم إلا على ما يحقق للناس مصلحة أو يدفع عنهم ضررا ويطلقون
عليه عبارة: " ما قُصد به وجه الله تعالى ".
"وممّن قال
باستعمال وفر الوقف في غيره من أوجه البرّ وبصرف الأموال المرصودة لوجه من أوجه
البرّ في غيره من الوجوه إذا لاحت مصلحة في ذلك: أبو عبد الله القوري الّّذي أجاب
بما مؤداه: أن المسألة ذات خلاف في القديم والحديث وأنّ الذي به الفتيا إباحة ذلك
وجوازه وتسويغه وحِلّيته لآخذه، وهذا مروي عن ابن القاسم، رواه عنه ابن حبيب عن
أصبغ، وبه قال عبد الملك بن الماجشون وأصبغ، وأنّ ما قُصد به وجه الله يجوز أن يُنتفع ببعضه في بعض إن كانت لذلك الحبس غلة
واسعة ووفر بين كثير يُؤمن من احتياج الحبس إليه حالا ومآلا. وبالجواز أفتى ابن
رشد بِرم مسجد من وفر مسجد غيره. ولهذا ذهب الأندلسيون خلاف مذهب القرويين، وبه
قال ابن القاسم، والأصحّ الجواز، وهو الأظهر في النظر والقياس. وذلك أنّا إن منعنا
الحبس حرمنا المُحبس من الانتفاع الذي حبس من أجله وعرضنا تلك الفضلات للضياع؛
لأنّ إنفاق الأوفار في سبيل أنفع للمحبس وأنمى لأجره وأكثر لثوابه. وفي نوازل ابن
سهل: ما هو لله لا بأس أن يُنتفع به فيما هو لله. ويقول ابن لب: فقد كان فقهاء
قرطبة وقضاتها يبيحون صرف فوائد الأحباس بعضها في بعض"... ومن ذلك جواب ابن
القطان في غابة زيتون موقوفة على مسجد قشتالة أن تُصرف على بناء سور الموضع:
"ومنفعة السور للمسجد صاحب الزيت أَعود نفعا من صرفه في غير ذلك"[56].
"عجز" الوقف
والمنفعة المرجوّة:
"قَالَ فِي الْمِعْيَارِ وَيَصِحُّ وَقْفُ مَا مَنْفَعَتُهُ مَرْجُوَّةٌ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْعٌ فِي الْحَالِ كَالْحَيَوَانِ
الصَّغِيرِ لِلْحَمْلِ عَلَيْهِ وَالْعَبْدِ الطِّفْلِ لِلْخِدْمَةِ أَوْ
لِيُعَلِّمَ النَّاسَ الْقُرْآنَ وَهُوَ مُمَكَّنٌ مِنْهُ عَادَةً وَأُجْرَةُ
تَعْلِيمِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَالْوَقْفُ فِي
هَذِهِ نَاجِزٌ فِي الْحَال"[57].
اتفق الفقهاء على أنّ "نفقة الوقف من ريعه
بالاتّفاق مع اختلافات في شرط الواقف وغيره".و"عجز" الوقف يعني
ألاّ يكون الوقف "منتجا" أو قادرا على "الاكتفاء الذاتي"
ماليّا للإنفاق عليه لصيانته أو إصلاحه. والمقطع السابق من "التاج
المذهّب" إحدى الصور لذلك "العجز" إذ الوقف غير منتج وقت إحداثه.
وحكم صاحب "التاج" بأنّ النفقة على ذلك الوقف تكون "مِنْ بَيْتِ
الْمَالِ" أي من خزينة الدولة.
وفي باب "نفقات الوقف" اختلفت الأقوال وتعدّدت الآراء. وهذه خلاصة
من "الفِقْه الإسلاميُّ وأدلَّتُه:
"مذهب الحنفية ("فتح القدير:
3/ 53" وما بعدها، "الكتاب مع اللباب": 2/ 184 وما بعدها،
"الدرّ المختار":3/ 412-417) الواجب أن يبدأ من ريع الوقف أي غلته
بعمارته بقدر ما يبقى الوقف على الصفة التي وقف عليها، وإن خرب بني على صفته، سواء
شرط الواقف النفقة من الغلة أو لم يشرط؛ لأنّ قصد الواقف صرفه الغلة مؤبداً...
فيثبت شرط العمارة اقتضاء... وما انهدم من بناء الوقف وآلته وهي الأداة التي يعمل
بها كآلة الحراثة في ضيعة الوقف أعاده الحاكم في عمارة الوقف إن احتاج الوقف إليه... وإن تعذّر إعادة عينه بيع وصرف ثمنه إلى المرمَّة
(الإصلاح) صرفاً للبدل إلى مصرف المبدل ".
"ومذهب المالكية ("الشرح
الصغير": 4/ 124 وما بعدها، "القوانين الفقهية": ص 372) مثل
الحنفية: يجب على الناظر إصلاح الوقف إن حصل به خلل من غلته، وإن شرط الواقف
خلافه، فلا يتبع شرطه في الإصلاح لأنه يؤدي إلى إتلافه وعدم بقائه، وهو لا يجوز... فإن لم تكن للموقوف غلات فينفق عليه من بيت المال. فإن لم يكن
يترك حتّى يخرب ولا يلزم الواقف النفقة".
"ومذهب الشافعية والحنابلة ("المهذب":1/
445، "مغني المحتاج":2/ 395، "المغني":5/ 590، "كشاف
القناع":4/ 293): أن نفقة الموقوف ومؤن تجهيزه وعمارته من حيث شرطها الواقف
من ماله، أو من مال الوقف لأنّه لما اتبع شرطه في سبيل الوقف وجب اتباع شرطه في
نفقته. فإن لم يمكن فمن غلّة الموقوف أو منافعه كغلة العقار؛ فإذا تعطلت منافعه
فالنفقة ومؤن التجهيز لا العمارة عند الشافعية من بيت المال. وأما عند الحنابلة
فإن تعطلت منافع الحيوان، فنفقته على الموقوف عليه؛ لأنه ملكه، ويحتمل وجوبها في
بيت المال، ويجوز بيعه"[58].
لم يقع التعرّض، هنا، إلى "الإجارة " أو
"المزارعة" كحلّ ظرفيّ لعجز الوقف نظرا لتعدّد الأقوال فيها وتشعّبها في
الاعتبارات لضرورة ذلك وارتباطها بشرط الواقف.
والإشكال
الأوّل هو: ماذا لو رفض الحاكم، وهو من حقّه، الإنفاق على ذلك الوقف؟ والإشكال
الثاني هو: لماذا تتحمّل الدولة مصاريف على أوقاف لا يعود إليها منها شيء خاصّة
إذا كانت أوقافا أهليّة؟
يبرّر
الفقهاء ذلك "بالمَنْفَعَة المَرْجُوَّة" لأنّ تلك المنفعة تحقق مصلحة
ضروريّة أو حاجية أو تحسينيّة، على المدى القريب أو البعيد. ولا يعود الوقف إلى
بيت المال عند بعضهم إلاّ في حالة واحدة: "يَصِيرُ لِبَيْتِ الْمَالِ إذَا
عُرِفَ الْوَاقِفُ وَعُرِفَ مَوْتُهُ وَانْقِرَاضُ عَقِبِهِ"[59].
وفي هذا ضمان مضاعف لاستمرار الوقف ولبيت المال.
التأبيد و تواصل المصلحة:
"التّأبيد:... معناه لغةً: التّخليد. وفي اصطلاح الفقهاء: تقييد التّصرّف بالأبد وهو: الزّمان الدّائم
بالشّرع أو العقد"[60].
هذا المصطلح متعلّق بالزمن في فقه الوقف ومختلف في
دلالته الشرعية وفيما يجب فيه "التأبيد" من مشمولات الوقف. فمن حيث
"الزّمان الدّائم بالشّرع أو العقد" فإنّ التأبيد لا يخضع إلى الزمن
الأرضيّ في كلّ الأحكام المتعلّقة بالوقف في "مدّة البقاء". ومن حيث
"تقييد التّصرّف" فإنّه يتراوح بين بضع سنين و"حياة الواقف"
والأبد "الأزليّ". وأمّا فيما يجب فيه "التأبيد" فمن الفقهاء
من اعتبر "التأبيد" في "الغلّة": "وَالتَّأْبِيدِ فِي
جِهَةِ صَرْفِ الْغَلَّةِ مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا "[62].
وآخرون في "الموقوف" وغيرهم في الاثنين.
وأخيرا، فإنّ أقوال الفقهاء متنوعة فى ضرورة تأبيد الوقف لصحّته وفي تأقيته (ربط
الوقف بمدّة زمنيّة محدّدة).
"التأبيد" في
المذاهب الفقهيّة:
المالكيّة: "وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ
الْوَقْفِ "التَّأْبِيدُ" أَيْ كَوْنُهُ مُؤَبَّدًا دَائِمًا بِدَوَامِ
الشَّيْءِ الْمَوْقُوفِ فَيَصِحُّ وَقْفُهُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً ثُمَّ تُرْفَعُ
وَقْفِيَّتُهُ وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِكُلِّ مَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ
بِهِ فِي غَيْرِ الْمَوْقُوفِ... ابْنُ شَاسٍ: لَا
يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْبِيدُ فَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ مَنْ احْتَاجَ مِنْهُمْ
بَاعَ أَوْ أَنَّ الْعَيْنَ الْمُحَبَّسَةَ تَصِيرُ لِآخِرِهِمْ مِلْكًا صَحَّ
وَاتُّبِعَ الشَّرْطُ"[63].
الحنفيّة: "وَمِمَّا تَوَسَّعَ فِيهِ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ
اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ التَّأْبِيدَ فِيهَا حَتَّى لَوْ وَقَفَهَا عَلَى
جِهَةٍ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا يَصِحُّ عِنْدَهُ... فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ التَّأْبِيدُ شَرْطٌ لِلُّزُومِ الْوَقْفِ"[64].
الحنابلة: "لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ... وَإِنْ
عَلَّقَ انْتِهَاءَهُ عَلَى شَرْطٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: دَارِي وَقْفٌ إلَى سَنَةٍ...
لَمْ يَصِحَّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ
فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ التَّأْبِيدُ"[65].
وللمقارنة بين المذاهب في شرط "التأبيد" نقتصر
على الرؤية المقاصديّة فيه انطلاقا من المقابلة بين "التأبيد"
و"التأقيت" لأنّ نتائج كلّ منهما عظيمة الأثر والتأثير على الوقف نفسه
وعلى ارتباطه بنظريّة المقاصد العامّة للشريعة. وهذه المقارنة لن ترتبط بمذهب وإنّما
بالحكم الفقهيّ ذاته وفي عمومه.
"و شرع
للمحسنين أن يكون وقفهم مؤبّدًا لا مؤقتًا؛ ليبلغ خيرهم مداه الأقصى الممكن في
البعد الزمني على مرّ الأجيال اللاحقة وتدوم لهم آثاره الطيبة وحسن ثوابه المتجدّد"[69].
ولكن، ما هو "البعد الزمني على مرّ الأجيال اللاحقة" في اعتبار
القائلين بالتأبيد في الوقف؟
"لتأبيد كالوقف على من لم ينقرض قبل قيام الساعة كالفقراء... أمّا ما
يضاهيه كالمسجد والمقبرة والرباط كقوله جعلته مسجدا سنة فإنّه يصحّ مؤبّدا كما لو
ذكر فيه شرطا فاسدا وهو لا يفسد بالشرط الفاسد"[70].
"فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ حَبْسٌ مُؤَبَّدٌ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ
تَصْرِيحٌ فِي تَأْبِيدِ التَّحْبِيس"[72].
والحاصل أنّ "التأبيد" في الوقف يعني دوام
العين الموقوفة ويعني أيضا تجميد تلك العين على ملك المتصرّف فيها "لَا
تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ" وأيضا "لا تورث". لكن، ما الغاية من هذا
"التأبيد"؟الغاية نبيلة دون شكّ. فقد أراد فقهاؤنا الأجلاّء، رحمهم
الله، أن يصيبوا أهدافا عدّة بشرط واحد في الوقف. من ذلك: انتفاع الواقف "إلى
الأبد" بصدقة جارية، و انتفاع جمع من المسلمين بغلّة الوقف "إلى
الأبد".وهذا يطلق عليه مبدأ تواصل المصلحة التي جعل من أجلها الوقف "إلى الأبد". ويفهم
ذلك من النصوص العديدة.
مفهوم "الصدقة الجارية":
"8712- (م د ت س) - أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلّى
الله عليه وسلّم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله
إلاّ من ثلاثة: صدقة جارية أو علم يُنْتَفَعُ به أو ولد صالح يدعو له"[73].
هل يفهم من الحديث النبويّ الشريف أنّ "الصدقة
الجارية" تنحصر في الوقف؟ مثلما قرر (الخطيب الشربيني في "مغني
المحتاج":"والصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف كما قاله الرافعي. فإنّ غيره من الصدقات ليست جارية"
هذا تعميم
لا مبرر له لأنّ الكثيرين من الصحابة والتابعين وأغلب المسلمين لم يحبّسوا شيئا.
وأين نضع: "ولدا يدعو له" و"علما بثّه في صدور النّاس"؟ فهل
هما أيضا "وقف" أم أنّهما ليسا من "الصدقات الجارية" في حديث
الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟
مفهوم
"الصدقة الجارية" في الهدي النبويّ الشريف لا يعني دوام السبب من
"عين مسبّلة" و"علم بثّه في صدور الناس" و"ولد صالح
يدعو" لوالديه لبقاء الصدقة وثوابها. ميزان هذا عند الله تعالى وحده. فالولد
الّذي "يدعو" ميّت لا محالة و"العلم الّذي بثّه في صدور الناس"
منقطع ومتغيّر ومنقرض لا محالة و"العين المسبّلة" مندثرة وإن كانت
مسجدا. فلا يخرج الأمر من حالتين: الأولى أنّ تلك الصدقة هي "جارية" إلى
انقطاع سببها. والثانية أنّ الله عزّ وجلّ يجعل من ثواب تلك الصدقة
"جاريا" إلى يوم القيامة إن شاء سبحانه وتعالى بفضله وكرمه ورحمته.
"فالجريان" دائم، بإذن الله، في الثواب والمغفرة لا في "الولد
الداعي لوالده" ولا في "العلم الّذي بثّه".
نلاحظ أنّ
التوجّه نحو اعتبار "الصدقة الجارية" من أبواب الوقف صراحة أو
"تشبيها" قديما وحديثا: "الجارية: الوقف، وفي الحديث الشريف:
"إذا مات الإنسان انقطع عمله إلاّ من ثلاثة: إلاّ من صدقة جارية أو علم ينتفع
به أو ولد صالح يدعو له"." عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية
أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم. [...] الصدقة الجارية أي
المستمرّ نفعها وذلك كالوقف للعقارات... فكلّها أجرها جار على العبد ما دام ينتفع
بشيء منها وهذا من أعظم فضائل الوقف. وخصوصا الأوقاف التي فيها الإعانة على الأمور الدينية
كالعلم والجهاد والتفرغ للعبادة ونحو ذلك"[74].
صحيح أنّ الإسلام رغّب في الصدقة الجارية والتي فُهمت من
قبل الفقهاء بدوام الأجر بعد موت المتصدق، ولكن هذا يتجه أساسا إلى المصلحة الخاصة
و هو ما يفسّر بأنّ فقه الوقف جعل التأبيد في العين الموقوفة عند البعض، وفي
"الغلّة"، أو المنفعة،عند البعض، وفي الاثنين عند آخرين.
و كأنّ هذه
التنويعات ضرب من التتخفيف، لأن تأبيد الوقف في خدمة المصلحة العامّة للمسلمين قد
لا يساعد على أداء وظيفته كاملة.
التأبيد و التأقيت ودور الوقف في نطاق نظريّة المقاصد:
إنّ حالات "خراب الوقف" و"المناقلة"
و"فواضل الأوقاف" من الأمثلة التي قد يعطّل فيها "التأبيد"
مقصد النفع والمصلحة في نظريّة المقاصد. ولا فرق، في النهاية، أن يكون التأبيد في
العين أو في المنفعة.ولذلك ينبغي أن تفهم المسألة في نطاق السعي الفقهي إلى احترام
شروط الواقفين حتى يظل العطاء مستمرا:
"قال الحنفيّة: للمسجد بمجرّد القول (أي الوقف) صفة
الأبديّة فلا تنسلخ عنه صفة المسجدية ولو استغني عنه. فلو خرب المسجد وليس له ما
يعمر به، وقد استغنى الناس عنه لبناء مسجد آخر، يبقى مسجداً أبداً إلى قيام الساعة"[75].
فهل يكون "التأقيت" في الوقف أكثر انسجاما
مع نظريّة المقاصد وأفضل للوقف في أداء دوره؟
"التّأقيت أو التّوقيت: معناه
في اللّغة: تحديد الأوقات. وفي الاصطلاح: تحديد وقت الفعل ابتداءً وانتهاءً"؛
وفي خصوص الوقف فإنّه يكون بتحديد مدّته من قبل الواقف كأن يقول: "وقفت هذا
على كذا سنة أو شهراً".
هذه
الإمكانية في جواز الوقف "الظرفيّ" من خصوصيّات المذهب المالكيّ في فقه
الوقف لأنهم لم يشترطوا التأبيد في الوقف وأجازوا الوقف سنة أو أكثر لأجل معلوم، توسعة على
الناس في عمل الخير.
هذه
"التوسعة على الناس في عمل الخير" سوف يقع استغلالها على الوجه الأفضل
في فهم الوقف بمعيار نظريّة المقاصد:عن طريق المرونة في تطبيق شرط التأبيد واعتماد التأقيت،
سدّا لذريعة خراب الأوقاف أو تعرّضها للإهمال تحت أي وجه من الوجوه، تمشيّا مع
مقاصد الشريعة في المصلحة والنفع والاستثمار، ومع التوجيه الإلهيّ إلى العمل
والسعي وطلب الرزق،ومع الهدي النبويّ الشريف الّذي شرّع ملكيّة أرض موات لمن
أحياها، وخاصّة: إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتّى
يغرسها فليغرسها! "[76].
فالهدي النبويّ الشريف يحثّ على العمل و الحركة والإنتاج
والنفع "ولو قامت الساعة".و "التأبيد" المطلق يجعل الوقف،
عمليّا، "سائبا" بوجه أو بآخر ولا "سائبة" في الإسلام؟ كما
أنّ تجميد العين يتنافى كليّا مع نظريّة المقاصد العامّة للشريعة ومع مبدأي النفع
والإصلاح في الإسلام. لذلك نجد أن القانون المصري للأوقاف في اشتراط تأبيد المسجد
وما أوقف عليه عدل عنه إلى غيره في الأخذ بقول من يقول بجواز التأبيد في الوقف
الخيري وتأقيته، وأخذ في جواز التأقيت بالمدّة وبذكر مصرف ينقطع مع التصريح بعودته
ملكا بعد ذلك بمذهب المالكية ومن نحا نحوهم"[77].
ويرجع الفضل في ذلك لا محالة إلى سعة الفقه ومرونته بل
إلى اختلافات الفقهاء!!
حيث لم يخف
عليهم ما في التأبيد المطلق من تعارض مع الوقف في مفهومه الجوهريّ ودوره مع مقاصد
شريعتنا. ولذلك منهم من أجازه مؤبّدا ومؤقّتا، ولكن قد يكون من الضروريّ إعادة
النظر في شرط التأبيد في فقه الوقف لتفعيل نظريّة المقاصد والتعامل بمرونة أيضا مع
نظريّة "الملكيّة" في فقه الوقف.
المالكيّة:
"قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ: إِنَّ لَفْظَ
التَّوْقِيفِ صَرِيحٌ فِي تَأْبِيدِ الْحَبْسِ فَلَا يَرْجِعُ مِلْكًا أَبَدًا
لِأَنَّ مَفْهُومَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي الْعُرْفِ التَّبَتُّلُ عَلَى وَجْهِ
التَّأْبِيدِ وَتَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ عَلَى الدَّوَامِ"[78].
يتّضح من قول الباجي أنّ ملكيّة الوقف تكون نتيجة مباشرة
ولازمة للتأبيد. فما الّذي "لَا يَرْجِعُ مِلْكًا أَبَدًا"، أهي العين
الموقوفة أم "الْمَنَافِع"؟ وما الفرق في ذلك؟
إنّ الإجابة
التفصيليّة تحملنا إلى تقصيّات بعيدة الغور والمنال لأنّه وقع الاختلاف في ملكيّة
الموقوف وهل يخرج بالوقف عن ملك الواقف أو يبقى في ملكه أو يخرج إلى ملك الموقوف
عليه وإن كان جهة عامّة. ويلاحظ أنّ الإمكانيّات المنطقيّة كلّها توفّرت في وضع
الوقف وأخذ بها الفقهاء:
الموقوف يبقى على ملك الواقف (المالكيّة و الحنابلة
والشّافعيّة في القول الثّاني لهم وحسب الجهة الموقوف عليها).تنتقل ملكية الموقوف
إلى الموقوف عليه (الشّافعيّة في القول الثّالث لهم).
تنتقل
ملكيّة الموقوف من ملك الواقف إلى اللّه سبحانه وتعالى (الشّافعيّة في أظهر
أقوالهم و أبو يوسف ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة).
ذلك تلخيص مقتضب تجنّبا للجزئيّات والتفريعات. وممّا
يلاحظ أيضا هو أنّ أئمّة المذاهب الأربعة، رحمهم الله، قالوا:"لَا يَزُولُ
مِلْكُهُ":"قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْ الْوَقْفِ إلَّا
أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ فَيَقُولَ إذَا مِتُّ
فَقَدْ وَقَفْت دَارِي عَلَى كَذَا"[79].
"يَجْعَلُ
الْوَاقِفَ حَابِسًا لِلْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ صَارِفًا لِلْمَنْفَعَةِ إلَى
الْجِهَةِ الَّتِي سَمَّاهَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ
وَالْعَارِيَّةُ جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ. وَلِهَذَا قَالَ لَوْ أَوْصَى بِهِ
بَعْدَ مَوْتِهِ يَكُونُ لَازِمًا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ
بَعْدَ الْمَوْتِ"[80].
"وَعَنْ
أَحْمَدَ: لَا يَزُولُ مِلْكُهُ وَهُوَ
قَوْلُ مَالِكٍ وَحُكِيَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ"[81].
" قَالَ
الْمُصَنِّفُ: وَعِنْدَهُمَا حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَزُولُ
مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَىوَجْهٍ تَعُودُ
مَنْفَعَتُهُ إلَى الْعِبَادِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى سِوَى قَوْلِنَا
يَزُولُ مِلْكُهُ عَلَى وَجْهٍ يُحْبَسُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعِبَادِ لِأَنَّ
مِلْكَ اللَّهِ فِي الْأَشْيَاءِ لَمْ يَزُلْ قَطُّ وَلَا يُزَالُ. فَالْعِبَارَةُ
الْجَيِّدَةُ قَوْلُ قَاضِي خَانْ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
إذَا صَحَّ الْوَقْفُ يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ لَا إلَى مَالِكٍ فَيَلْزَمُ
وَلَا يَمْلِكُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ
يَنْتَقِلُ إلَى مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ
لِامْتِنَاعِ السَّائِبَةِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ: هُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ
الْوَاقِفِ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ مِلْكُهُ لَكِنْ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا
يُوهَبُ. وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ آخَرُ
لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ... وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ فَإِنَّ خِلَافَ
الْأَصْلِ وَالْقِيَاسِ ثَابِتٌ فِي كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ خُرُوجُهُ لَا إلَى مَالِكٍ وَثُبُوتُ مِلْكِهِ
أَوْ مِلْكِ غَيْرِهِ فِيهِ مَعَ مَنْعِهِ مِنْ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ، وَكُلٌّ
مِنْهُمَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ"[82].
"(وَالْمِلْكُ
لِلْوَاقِفِ). ابْنُ عَرَفَةَ: صَرَّحَ الْبَاجِيُّ بِبَقَاءِ مِلْكِ الْمُحَبِّسِ
عَلَى حَبْسِهِ وَهُوَ لَازِمُ تَزْكِيَةِ الْأَحْبَاسِ عَلَى مِلْكِ مُحَبِّسِهَا
فَقَوْلُ اللَّخْمِيِّ الْحَبْسُ يُسْقِطُ مِلْكَ الْمُحَبِّسِ غَلَطٌ"[83].
وكلّ تلك الأقوال لا فضل فيها لقول على آخر إلاّ بالجدوى
والمصلحة، وكلّها انحازت إلى المفهوم الواسع "في سبيل الله "، إذ بدونها
يفقد الوضع العقاريّ للوقف صورته الشرعيّة والقانونيّة. فالمالكيّة وإن أبقوا،
نظريّا، ملكية الموقوف بيد الواقف إلاّ أنّ تلك الملكيّة لا صورة لها بما أنّهم
جعلوا "غلّة الوقف"، أو"المنفعة"، ملكاً لازماً للموقوف له أي
إنها في وجوه البر والخير للمجتمع كله. فإذا حبس شخص حقل زيتون، مثلا، فإنّ الحقل
وما فيه من شجر يبقى ملكا لصاحبه ولكنّ الإنتاج من ذلك الحقل يكون ملكا
"للجهة" الموقوف عليها ذلك الحقل. فالملكيّة "مزدوجة" في حقّ
ذلك الحقل ينتفع الواقف بجريان الثواب وينتفع المجتمع بالثمار.
وهذا يعني
أن فقه الوقف
ارتبط في مجمله، بالمصالح و بنظريّة المقاصد. فقد نظر الفقهاء، بصورة أو بأخرى إلى
الوقف من منظار "تعبّديّ" و"مصلحيّ" في نطاق نظريّة المقاصد.
فقد وجّهوا اهتماماتهم ومشاغلهم إلى محاور أساسيّة: هي المحافظة على عين الموقوف
من أجل تحقيق المنافع والتصرف في عين الوقف في نطاق المحافظة على ديمومة الانتفاع
و احترام شرط الواقف من أجل الترغيب وانتشار الخير.
فما "شرط
الواقف" ومن أين اكتسب تلك الأولويّة الفقهيّة؟
تقييم شروط الواقف بمعيار المقاصد:
"على أنّنا مهما ادّعينا الغيرة على شروط الوقف وعلى
الإسلام والمسلمين.. فلن نكون صادقين إذا لم نوفّق غيرتنا ونلائم أعمالنا مع أسس
الاقتصاد ونواميس العلم والعمران ولن نصل إلى حكمة الشريعة ونقضي باليسر إزالة
العسر إذا جارينا منيقول شرط الواقف كنصّ الشارع"[84].
هي من "الطلقات النارية" التي وجّهت إلى الوقف
وفقهه وبالخصوص إلى الحكم الفقهيّ "شرط الواقف كنصّالشارع". فهل يمكن الفصل، أو التوفيق على الأقلّ، بين الّذين يرون
أنّ "شروط الوقف" ومبدأ "شرط الواقف كنصّ الشارع" أحد الأسباب التي حكمت على
الوقف بالجمود، وبين الشقّ المقتنع بأنّ "للشروط التي يضعها منشئ الوقف أهمية
بالغة في ضمان حسن أداء الوقفية" وأنّ "الفقه سعى، والإفتاء أيضاً، في
ضبط شروط الواقفينوفقاً لمقاصد الشريعة، حتّى تظلّ هذه الشروط محكومة بالمقاصد لا حاكمة
لها أو خارجة عنها"؟ إن المسألة تدور لا محالة بين مصلحتين: خاصة وعامة،
وكلاهما معتبر في الشريعة.
مفهوم "شرط الواقف
كنصّ الشارع" في فقه الوقف:
"وَيُرْجَعُ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْوَقْفِ وُجُوبًا
لِشَرْطِ وَاقِفٍ.. وَلَوْ لَمْ يَجِبْ اتِّبَاعُ شَرْطِهِ لَمْ يَكُنْ فِي
اشْتِرَاطِهِ فَائِدَةٌ"[85].
"الْبَابُ
الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الْوَقْفِ وَفِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ فِي أَحْكَامِهِ
اللَّفْظِيَّةِ وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ مَرْعِيَّةٌ مَا لَمْ
يَكُنْ فِيهَا مَا يُنَافِي الْوَقْفَ"[87].
في فقه الوقف، نجد إجماعا بين المذاهب الفقهيّة على
احترام مبدأ "شرط الواقف كنصّ الشارع" ولكنّ الفقهاء اختلفوا في مدلول
ذلك المبدأ وأبعاده وحالات مخالفته. وبصفة إجماليّة فإنّ "شرط الواقف كنصّ الشارع"
يعني أنّ الواقف يتّخذ شخصيّة معنويّة فتكون شروطه "قانونا" لا ينسخ.
وقد تنوعت
تفسيراتهم لذلك المبدأ وتطبيقه على ثلاثة آراء هي:
• أنّ شرط الواقف كنصّ الشارع في وجوب اتباعه والعمل به. قال بهذا فريق من أبرزهم الماوردي والخرشي.
• أنّ شرط
الواقف كنصّ الشارع في الفهم والدلالة لا في وجوب العمل به واتّباعه. ذهب إلى هذا
الرأي خاصّة بعض الحنابلة.
• أنّ شرط
الواقف كشرط الشارع في الفهم والدلالة وفي وجوب اتباعه والعمل به. و"الجمهور"
يرجّح هذا القول.
من حيث المبدأ ومن حيث أصول التشريع، يعلم الفقهاء أكثر
من غيرهم أنّ الهدي النبويّ الشريف وضع حدودا واضحة للشروط في أيّ عقد من عقود
المسلمين: ""المسلمون على شروطهم إلاّ شرطًا حرّم حلالاً أو أحلَّ
حرامًا والصلح جائز بين الناس إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً"[88].
يحدّد النصّ
التالي سبب احترام شرط الواقف فطالما لا يحرم حلالا ولا يحلل حراما فما فائدة
مخالفته أو عدم الالتزام به؟: "فَإِنْ قُلْتَ: شَرْطُ الْوَاقِفِ مُرَاعًى
كَنَصِّ الشَّارِعِ، قُلْتُ: مَحَلُّ مُرَاعَاتِهِ حَيْثُ لَمْ يُخَالِفْ غَرَضَ
الشَّارِعِ... لِأَنَّ
إطْلَاقَهُ هَذَا يَجِبُ تَنْزِيلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَرَاهُ مِمَّا
يُوَافِقُ غَرَضَ الشَّارِعِ. فَإِنْ صَرَّحَ بِعَمَلِهِ بِمَا يَرَاهُ وَإِنْ
لَمْ يُوَافِقْ ذَلِكَ كَانَ لَغْوًا يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ"[90].
"عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ صَدَقَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ نَسَخَهَا لِي عَبْدُ
الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا كَتَبَ عَبْدُ
اللَّهِ عُمَرُ فِي ثَمْغٍ فَقَصَّ مِنْ خَبَرِهِ نَحْوَ حَدِيثِ نَافِعٍ قَالَ
غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا فَمَا عَفَا عَنْهُ مِنْ ثَمَرِهِ فَهُوَ لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ قَالَ وَسَاقَ الْقِصَّةَ قَالَ وَإِنْ شَاءَ وَلِيُّ ثَمْغٍ
اشْتَرَى مِنْ ثَمَرِهِ رَقِيقًا لِعَمَلِهِ وَكَتَبَ مُعَيْقِيبٌ وَشَهِدَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا
أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ حَدَثَ بِهِ
حَدَثٌ أَنَّ ثَمْغًا وَصِرْمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ وَالْعَبْدَ الَّذِي فِيهِ
وَالْمِائَةَ سَهْمٍ الَّتِي بِخَيْبَرَ وَرَقِيقَهُ الَّذِي فِيهِ وَالْمِائَةَ
الَّتِي أَطْعَمَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَادِي
تَلِيهِ حَفْصَةُ مَا عَاشَتْ ثُمَّ يَلِيهِ ذُو الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا أَنْ
لَا يُبَاعَ وَلَا يُشْتَرَى يُنْفِقُهُ حَيْثُ رَأَى مِنْ السَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ وَذَوِي الْقُرْبَى وَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ إِنْ أَكَلَ
أَوْ آكَلَ أَوْ اشْتَرَى رَقِيقًا مِنْهُ"[91].
تلك هي
البداية لشرط الواقف.هو أوّل "كتاب وقف" وهي أولى "شروط
الواقف" يضعها عمر بن الخطّاب رضي الله عنه الّذي كان أوّل من عمل
"بالوقف" في اصطلاحه الفقهيّ. وعلى نمط "الشروط العمريّة" في
"الحبس" سار معظم الصحابة رضي الله عنهم:" فَقَدْ رُوِيَ عَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَقَفَ كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَكِنْ لَمْ يَسْتَثْنِ
لِلْوَالِي شَيْئًا": "أخبرنا أبو عبد الله الحافظ... أنّ زيد ابن ثابت
رضي الله عنه كان قد حبس داره الّتي في البقيع وداره الّتي عند المسجد وكتب في كتاب
حبسه على ما حبس عمر بن الخطّاب
رضي الله عنه"[92].
لئن كانت
شروط الصحابة في "صدقاتهم" شروطا "أوّليّة" بسيطة فإنّ
المحبسين بعد الصحابة رضي الله عنهم توسّعوا في الشروط أيّما توسّع، فقد تشعبّت
"المقاصد" عند المحبّسين واحتيج إلى محاولات ضخمة لتجميع "شروط
الواقف" حسب "محاور مضمونيّة"،ورغم ذلك حاول بعضهم "تقسيمها":
"وأما شروط
الواقف فهي متعدّدة يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات:
الأولى: تعرف بالشروط العشرة
... والثانية: تخصّ
الشروط المتعلّقة بالنظارة على الوقف
أو الولاية عليه... كما تشمل الصفات التي يجب أن يتحلّى بها الناظر وأجرته ومدّته
والشروط التي يجب أن يلتزم بها في تأجير أعيان الوقف ومدّته إلى غير ذلك من التفصيلات...
والشروط
العشرة في هذا الاصطلاح: هي الإعطاء والحرمان والإدخال والإخراج والزيادة والنقصان
والتغيير والإبدال والاستبدال والبدل (أو التبادل أو التبديل).وهو تقسيم نوعيّ
لشروط الواقف يوضّح ما يمكن أن يتضمّنه "كتاب الوقف" في صيغته الكاملة
أو "المثاليّة".
التقسيم
المقاصديّ لشروط الواقف:
في "الفتاوى الكبرى"، نجد تقسيما
"مقاصديّا" لشرط الواقف جعله ابن تيميّة "قاعدة فيما يَشْتَرِطُ
النَّاسُ فِي الْوَقْفِ". بدأ بتقسيم عامّ قائلا: "فَإِنَّ فِيهَا مَا
فِيهِ عِوَضٌ دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَفِي بَعْضِهَا
تَشْدِيدٌ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ". ثمّ شرع في التفصيل:
"فَنَقُولُ: الْأَعْمَالُ الْمَشْرُوطَة فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ
مِثْلَ الْوَقْفِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُشْتَغِلِينَ
بِالْعِلْمِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ
بِالْعِبَادَاتِ أَوْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ
أَقْسَامٍ": "أحدها: عَمَلٌ
يَقْتَرِبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْوَاجِبَاتُ والمستحبّات..
فَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ وَيَقِفُ اسْتِحْقَاقُ الْوَقْفِ
عَلَى حُصُولِهِ فِي الْجُمْلَةِ".
"وَالثَّانِي: عَمَلٌ
نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ
نَهْيَ تَنْزِيهٍ فَاشْتِرَاطُ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ... وَكَذَا مَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ مُسْتَلْزِمًا وُجُودَ مَا
نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا نُهِيَ
عَنْهُ..."."الْقِسْمُالثَّالِثُ: عَمَلٌ لَيْسَ بِمَكْرُوهِ فِي الشَّرْعِ وَلَا
مُسْتَحَبٍّ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ مُسْتَوَى الطَّرَفَيْنِ فَهَذَا قَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ وَالْجُمْهُورُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ
أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ شَرْطَهُ بَاطِلٌ
فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَشْرِطَ إلَّا مَا كَانَ قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى"،"فَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُوصِي أَوْ الْوَاقِفُ عَمَلًا
أَوْ صِفَةً لَا ثَوَابَ فِيهَا كَانَ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهَا سَعْيًا فِيمَا
لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي دُنْيَاهُ وَلَا فِي آخِرَتِهِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوز"[94].
وقد أنتجت
مثل هذه التصنيفات جدلا ثريّا متواصلا بين الفقهاء حول إشكاليّات المقصد الفقهيّ
واتساع معانيها. وحول إشكاليّة "الدلالة" و"المفهوم في فقه الوقف
نجد "بابين" هامّين يخصّان "شَرْط الْوَاقِفِ": الأوّل هو
"فساد الشرط، أو بطلانه" الّذي ساير فقه الوقف منذ ظهوره، والثاني
"الشروط العشرة" الّذي انتهى إليه فقه الوقف مع المتأخرين. وهذه
"الشروط العشرة" من حقّ الواقف: "أباحت المادّة الثانية عشرة من
قانون الوقف المصري رقم (48 لسنة 1946) للواقف أن يشترط لنفسه الشروط العشرة في
وقفه، وأن يشترط تكرارها، واعتبرتها صحيحة، ونصّها: "للواقف أن يشترط لنفسه
لا لغيره الشروط العشرة أو ما يشاء منها وتكرارها على ألاّ تنفّذ إلاّ في حدود هذا
القانون". أما اشتراط الواقف الشروط العشرة لغيره فهو شرط باطل عملاً بهذه
المادّة"[95].
ويمكن القول
إنّ إقرار "الشروط العشرة" في فقه الوقف هو "تتويج" لمقولة
"شَرْطُ الْوَاقِفِ كنصّ الشارع".
ولئن ركّز
الفقهاء في فقه الوقف على القاعدة: "شَرْطُ الْوَاقِفِ مُرَاعًى كَنَصِّ
الشَّارِعِ ومَحَلُّ مُرَاعَاتِهِ حَيْثُ لَمْ يُخَالِفْ غَرَضَ الشَّارِعِ وَإِنْ
لَمْ يُوَافِقْ ذَلِكَ كَانَ لَغْوًا يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ" إلاّ أنّ
معاييرهم اختلفت حتما في مفهوم "غَرَض الشَّارِعِ" وفيما يعتبر
"لَغْوًا يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ" حسب تنوّع الأفهام،ولا نرى ضرورة
لوجود معيار موحّد لاعتبار شرط من شَروط الْوَاقِفِ فاسدا أو باطلا، طالما تقاس
مصداقيتها بمدى وفائها لمقاصد الشريعة في التحليل والتحريم وحفظ المصالح الخمس. وبالتالي
فان المعيار الحقيقي الدائم هو عرض شروط الواقفين على كتاب الله و سنة
رسوله، فما وافق الكتاب والسنة فهو صحيح وما خالفه كان شرطًا باطلاً مردودًا.وليس تصنيف
ابن تيميّة إلا نموذج فقهي يروم التأصيل والتقنين، وهذا ما سار عليه تلميذه
ابن القيم بعده: "فَتَرَكُوا مَحْضَ الْقِيَاسِ بَلْ قِيَاسَ الْأَوْلَى
وَ[جَعَلوا] الْوَفَاءَ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ الْمُخَالِفِ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ
[...] فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْطُ الْوَاقِفِ الَّذِي غَيرهُ أَفْضَلُ مِنْهُ
وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَازِمًا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ؟ [...] لَمْ
يَجْعَلْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَوْلَ فَقِيهٍ مِنْ الْأُمَّةِ بِمَنْزِلَةِ
نَصِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَيْثُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَيَحْرُمُ خِلَافُهُ"[96].
تقييم بعض
شروط الواقف في الوقف الأهليّ:
استأثر الوقف الأهليّ بالقسط الأوفر من جهود الفقهاء
والمفتين واهتمامهم وبالحيز الأوسع في كتب الفقه والفتاوى. قد يكون ذلك لغلبة هذا
النوع من الوقف عند المسلمين وقد يكون لتعدّد مشاكل الوقف الأهليّ،وقد يكون ذلك
لاختلاف الأحكام في نفس القضيّة وقد يكون لتلك الأسباب مجتمعة. وتاريخ الوقف
الأهليّ يبدأ مع الصحابة رضي الله عنهم في تراثنا ولنا في ذلك نماذج من شروط
الواقف نسبت إلى الكثيرين من الصحابة في تحبيس المنازل خاصّة. ونظرا لخصوصيّة هذا
النوع من الوقف، فإنّ تقييم شروط الواقف فيه بمعيار المقاصد العامّة للشريعة ينحصر
بطبيعته في "مسائل" أساسيّة قد تكون متشوّفة إلى تحقيق المقاصد أو
مخالفة لها وفي الحالتين يعتمد الفقه مبدأ الإباحة أو المنع و منها:
• الحرص على تحقيق العدل في وضعية الأنثى في الوقف الأهليّ
التي يقع التركيز فيها على تفضيل الذكور عن الإناث عند بعض الواقفين، وحرص الفقه
على مقاومة الظاهرة وبيان مخالفتها للشرع.
• الأولاد
والوقف الذرّي: يقع النظر في اختلاف الفقهاء حول مفهوم مصطلح "أولاد"
وما نتج عنه من "إدخال" و"إخراج" "للولد".
• المنزل
الموقوف: من يسكنه في شرط الواقف وفي فقه الوقف.
وانطلاقا من
بعض تلك النماذج نحاول التعرّف على التطوّر الّذي حصل في تلك الشروط وأظهر الأقوال
الفقهيّة فيها في نطاق تقييم شروط الواقف في الوقف الأهليّ بمعيار المقاصد.
الأنثى
و"الوقف الأهليّ" أو "العدالة" في الوقف:
" إخْرَاجَ
الْبَنَاتِ مِنْ الْحَبْسِ إِذَا زُوِّجْنَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ" فِي
رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَن الإمام مالك.
أنكرت أمّ
المؤمنين عائشة رضي الله عنها ذلك التفضيل "وَاحْتَجَّتْ عَائِشَةُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ
الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا"[98].
فماذا قال الفقهاء؟
المالكيّة:
"رَوَى عُمَرُ
بْنُ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ إخْرَاجَ الْبَنَاتِ مِنْ الْحَبْسِ إِذَا زُوِّجْنَ
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ...
وَاحْتَجَّتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا... فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فَقَدْ رَوَى
ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ الشَّأْنُ أَنْ يَبْطُلَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو
إِسْحَاقَ وَمَنْ أَخْرَجَهُنَّ عَنْهُ بَطَلَ تَحْبِيسُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ شَرَطَ
أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَتْ مِنْهُنَّ بَطَلَ حَقُّهَا إِلَّا أَنْ يَرُدَّهَا رَادٌّ
وَيَنْقُصُ ذَلِكَ حَتَّى يَرُدَّهَا إِلَى الْفَرَائِضِ"[99].
أبطل الإمام مالك الحبس في حالة إخراج البنات منه.
الحنابلة:
"وَالْمُسْتَحَبُّ
أَنْ يُقَسِّمَ الْوَقْفَ عَلَى أَوْلَادِهِ عَلَى حَسَبِ قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
وَقَالَ الْقَاضِي: الْمُسْتَحَبُّ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِأَنَّ الْقَصْدَ
الْقُرْبَةُ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ. فَإِنْ
خَالَفَ فَسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، أَوْ فَضَّلَهَا عَلَيْهِ، أَوْ
فَضَّلَ بَعْضَ الْبَنِينَ أَوْ بَعْضَ الْبَنَاتِ عَلَى بَعْضٍ أَوْ خَصَّ
بَعْضَهُمْ بِالْوَقْفِ دُونَ بَعْضٍ، فَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إِنْ كَانَ
عَلَى طَرِيقِ الْأَثَرَةِ فَأَكْرَهُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَهُ عِيَالٌ
وَبِهِ حَاجَةٌ يَعْنِي فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الزُّبَيْرَ
خَصَّ الْمَرْدُودَةَ مِنْ بَنَاتِهِ دُونَ الْمُسْتَغْنِيَةِ مِنْهُنَّ بِصَدَقَتِهِ"[100].
الحنفيّة:
" وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ((سَوُّوا بَيْنَ
أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ وَلَوْ كُنْت مُؤْثِرًا أَحَدًا لَآثَرْت
النِّسَاءَ عَلَى الرِّجَالِ)) رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ. وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ((اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا
فِي أَوْلَادِكُمْ)). فَالْعَدْلُ مِنْ حُقُوقِ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطَايَا، وَالْوَقْفُ
عَطِيَّةٌ، فَيُسَوِّي بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِأَنَّهُمْ فَسَّرُوا
الْعَدْلَ فِي الْأَوْلَادِ بِالتَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَايَا حَالَ
الْحَيَاةِ...وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي
الْعَطَايَا وَالْعَدْلُ فِي ذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِ أَبِي
يُوسُفَ... وَلَيْسَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ فَرِيضَةٌ
شَرْعِيَّةٌ فِي بَابِ الْوَقْفِ إلَّا هَذِهِ بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ
الْمَذْكُورِ.... فَلَا تَنْصَرِفُ الْفَرِيضَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي بَابِ الْوَقْفِ
إلَّا إلَى التَّسْوِيَةِ وَالْعُرْفُ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ"[101].
يلاحظ أنّ أغلب أئمّة الفقه قدّموا التسوية بين البنين
والبنات في الوقف الأهليّ وجعلوا "الْعَدْل مِنْ حُقُوقِ الْأَوْلَادِ فِي
الْعَطَايَا"، أو على الأقلّ العمل "عَلَى حَسَبِ قِسْمَةِ اللَّهِ
تَعَالَى الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ"، وألحّوا على ذلك وأنكروا كلّهم أن
يكون تفضيل الذكور بسبب "الْأَثَرَةِ" أو "الْمُحَابَاة"
واستنكروا إخراج البنات من الوقف. هذا الإقرار المبدئيّ "الأصوليّ" دليل
واضح على أنّهم أرادوا "ضبط شروط الواقفين وفقاً لمقاصد الشريعة حتّى تظلّ
هذه الشروط محكومة بالمقاصد لا حاكمة لها أو خارجة عنها".وبذلك تجاوزوا ما
فرضته التقاليد والأعراف الخاطئة وراعوا مقاصد الشريعة في حفظ الأموال والنفوس.
"وَأَمَّا
لَوْ قَالَ: وَقْفٌ عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِهِمْ... ".
هذا
الافتراض"لَوْ قَالَ وَقْفٌ عَلَى أَوْلَادِي" يملأ كتب الفقه والفتاوى
في خصوص الوقف والحبس. لماذا؟ بسبب المصطلح "أولاد". من هم
"أولاد" الواقف، أهم الذكور فقط أم الذكور والإناث؟ وهل هم أولاده من
صلبه فقط أم هم أولئك وأولاد أولادهم؟ وهل البنات من جملة "الأولاد"
يدخلن في الوقف أم يخرجن منه لأنوثتهنّ؟ وهل يدخل أولاد البنات الصلبيّات؟نتج عن
تلك المسائل الاستحقاقيّة جدل حول دلالة المصطلح "أولاد" وتناول كلّ
جوانبه "الأصوليّة" من دلالة لغويّة وأخرى شرعيّة وثالثة عرفيّة ورابعة
ظنيّة اهتمّت بنيّات الواقف من ذلك المصطلح حين أحدث وقفه: " رَجُلٌ قَالَ
فِي كِتَابِ وَقْفِهِ أَوْقَفَ كَاتِبُهُ الدَّارَ الْفُلَانِيَّةَ عَلَى وَلَدِهِ
فُلَانٍ ثُمَّ بَعْدَهُ عَلَى أَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ
وَفُلَانٍ وَعَلَى مَنْ يُحْدِثُهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْأَوْلَادِ، هَلْ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ "لَهُ" يَرْجِعُ إلَى الْوَاقِفِأَوْ إلَى الْوَلَدِ؟"[102].
واعتبر
"بَابُ بَيَانِ الْأَلْفَاظِ الْوَاقِعَةِ فِي لَفْظِ الْمُحَبِّسِ أَيْ مَا
تَدُلُّ عَلَيْهِ" "بَابا عَظِيما عَلَيْهِ تُبْنَى مَسَائِلُ الْحَبْسِ
بِاعْتِبَارِ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ لِكَوْنِ لَفْظِ الْمُحَبِّسِ مُحْتَمَلًا غَيْرَ صَرِيحٍ فِي الْمُرَادِ"[103].
من هنا،
نعلم أنّ الأحكام الفقهيّة في الوقف الأهليّ ستكون محل عناية وباعثة على التفكير
والقياس والاستفادة من علوم اللغة حسب فهم الفقيه أو المفتي وحسب تقديره. فتلك
الأحكام لا تمثّل مذهبا فقهيّا محدّدا وإنّما تمثّل "مذهب" الفقيه نفسه
ومدى تفقّهه في الدين ومدى اعتباره لمقاصد الشريعة في حكمه أو فتواه. فكان لا بدّ،
إذن، من التدقيق والتفريق في دلالة المصطلح بين "أولاد"
و"ذُّرِّيَّة" و"أَهْل" و"آل" و"بنين"
و"عقب" وحتّى "قَوْم". بل إنّ الفقه نظر فيمن "حَبَسَ
عَلَى وَلَدِهِ وَلَا وَلَدَ لَهُ"! ولئن حتّمت
"شروط الواقف" أو الضرورة الفقهيّة ذلك الجدل فإنّه يؤخذ من كلّ تلك
الجهود سعي محمود لدى فقهائنا في "مقاصدهم" بصفة عامّة رغم التشعّبات
والتعقيد واختلاف الأقوال في نفس المسألة. ولعلّ أهمّ تلك المقاصد هي:
• حلّ النزاعات المتواصلة حول حقوق الموقوف عليهم والورثة.
• النظر في مآل الوقف في حالات عدّة.
• المنابات من غلّة الوقف أو من الوقف نفسه في حالات لا
تحصى منها بيعه.
خصّصت كتب الفقه في جميع المذاهب أبوابا أحيانا لجدل
لغويّ "فِي مَعْنَى الْعَقِبِ وَالْبَنِينَ وَالْوَلَدِ والْعَقِبِ
وَالْوَرَثَةِ" وفيما حصره بعضهم في "الألفاظ الستّة". وتجادل
الفقهاء حول المعاني اللغويّة والبيانيّة لحرفي العطف "الواو"
و"ثمّ" وتباينت أقوالهم في كلّ ذلك وخاصّة في "مسألة" هل
"وَلَدُ الْبَنَاتِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى" يعتبر "عَقِبًا".
كل هذا
التدقيق والتقصي مبعثه واحد هو: التماس العدل وخدمة القواعد التي جاءت الشريعة
الإسلامية للمحافظة عليها، وأدخلت البنات في الوقف تطبيقا للعدالة المنشودة في
مقاصد الشريعة.
""وَلَدِي"
مُفْرَدٌ مُضَافٌ يَعُمُّ جَمِيعَ أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَوْلَادِي وَأَوْلَادُهُمْ
فَيَشْمَلُ وَلَدَ الذُّكُورِ وَوَلَدَ الْأُنْثَى "[105].
"فَإِذَا
قَالَ الْمُحَبِّسُ هَذِهِ الدَّارُ مَثَلًا حَبْسٌ عَلَى وَلَدِي دَخَلَ وَلَدُ الصُّلْبِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى
وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا"[106].
لقد التزم
فقه الوقف بمبدأ العدالة في توزيع غلّة الوقف وقد حكم الإمام مالك بإبطال الوقف في
صورة إخراج البنات. وباعتبار مقاصد الشريعة فإن ّالّذين حكموا بإدخال البنات في
الوقف أرادوا "ضبط شروط الواقفين وفقاً لمقاصد الشريعة حتّى تظلّ هذه الشروط
محكومة بالمقاصد لا حاكمة لها أو خارجة عنها". ولهؤلاء سند شرعيّ وفقهيّ
وتاريخيّ:
" عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ
يَفْحَصَ لَهُ عَنْ الصَّدَقَاتِ وَكَيْفَ كَانَتْ أَوَّلَ مَا كَانَتْ. قَالَ:
[...] وَكَتَبْتُ إلَيْهِ أَذْكُرُ لَهُ أَنَّ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
ذَكَرَتْ لِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ إذَا ذَكَرَتْ صَدَقَاتِ النَّاسِ
الْيَوْمَ وَإِخْرَاجَ الرِّجَالِ بَنَاتِهِمْ مِنْهَا تَقُولُ: مَا وَجَدْتُ
لِلنَّاسِ مَثَلًا الْيَوْمَ فِي صَدَقَاتِهِمْ إلَّا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ: ﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ
خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً
فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ﴾ [سُورَةُ
الْأَنْعَامِ [الآية 139]. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ عَائِشَةَ أَنَّ
الصَّدَقَاتِ فِيمَا مَضَى إنَّمَا كَانَتْ عَلَى الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ حَتَّى
أَحْدَثَ النَّاسُ إخْرَاجَ الْبَنَاتِ"[107].
وقد تفطّنت
أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها بذكائها وبعد نظرها وإحساسها المرهف إلى ما
يخلّفه حرمان البنت من غلّة وقف أبيها: "قَالَتْ [عائشة رضي الله عنها]:
وَاَللَّهِ إنَّهُ لَيَتَصَدَّقُ الرَّجُلُ بِالصَّدَقَةِ الْعَظِيمَةِ عَلَى
ابْنَتِهِ فَتَرَى غَضَارَة صَدَقَتِهِ عَلَيْهَا وَتَرَى ابْنَتهُ الْأُخْرَى
وَإِنَّهُ لِيُعْرَف عَلَيْهَا الْخَصَاصَةُ لَمَّا أَبُوهَا أَخْرَجَهَا مِنْ
صَدَقَتِهِ"[108].
رضي الله عن
عائشة وعن أمّهات المؤمنين. قولها أبلغ تلخيص لمقاصد الشريعة فويل لمن ظلم أنثى
لأنّها أنثى وويل لمن يسمح بذلك.
وقف المرأة
في فقه الوقف:
"وَقَضِيَّةُ
كَلَامِهِمْ دُخُولُ أَوْلَادِ الْبَنِينَ سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَاقِفُ رَجُلًا
أَمْ امْرَأَةً وَهُوَ فِي الْمَرْأَةِ مُشْكِلٌ بِقَوْلِهِمْ
فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ: إنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَ الْأُمِّ وَالِابْنِ
فِي النَّسَبِ إلَّا أَنْ يُقَالَ ذُكِرَ الِانْتِسَابُ فِي الْمَرْأَةِ هُنَا
لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لَا لِلْإِخْرَاجِ فَيَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ أَيْضًا
وَإِلَّا يَلْزَمُ إلْغَاءُ الْوَقْفِ أَصْلًا. فَالْعِبْرَةُ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ اللُّغَوِيَّةِ لَا
الشَّرْعِيَّةِ وَيَكُونُ كَلَامُالْفُقَهَاءِ مَحْمُولًا عَلَى وَقْفِ الرَّجُلِ. [...] وَمُقْتَضَى
مَا قَالُوهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِمْ ذُرِّيَّتُهُ وَعَشِيرَتُهُ الْأَدْنَوْنَ
وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ... بَلْ الْأَظْهَرُ مَا رَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ
وَغَيْرُهُ وَهُوَ
الْأَقْرَبُ إلَى الْعُرْفِ"[109].
لقد أقبل
المسلمون رجالاً ونساء على الوقف. ورغم أنّ الفقهاء من جميع المذاهب استدلّوا
بأوقاف النساء من أمّهات المؤمنين وفاطمة وغيرهن- رضي الله عنهنّ- لجواز أنواع من
الوقف ولاستنباط بعض الأحكام، فقد يكون مفيدا استقراء آيات الميراث في
القرآن الكريم وأحكامه الثابتة في الهدي النبويّ الشريف للاستهداء بها في فهم
مقاصد الشريعة ووقف النساء لتلافي النقائص في هذه المسألة، تفعيلا لنظريّة المقاصد
في إسهام الوقف بالنهوض بالمجتمع ونفع الأمّة.
ولئن كان توحيد الله عزّ وجلّ وتنزيهه سبحانه وتعالى
وعبادته هو المقصد الأسمى والأسنى من الدّين فإنّ العدل يأتي بعده ليكون في مقدّمة
مقاصد الإسلام: " عن أبي ذَرّ أنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قال فيما
روى عن الله تبارك وتعالى أنّه قال: "يا عبادي إنّي حَرَّمتُ الظُّلمَ على
نفسي وجعلتُه بينكم محرَّما فلا تَظَالموا "[110].
والعدل فيما
شرع الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. والرحمة، بعد ذلك، هي المقصد في
ديننا الحنيف. والهدي النبويّ الشريف كلّه رحمة خاصّة في جانب الأنثى:
"وَلَوْ كُنْت مُؤْثِرًا أَحَدًا لَآثَرْت النِّسَاءَ عَلَى
الرِّجَالِ". فمن أيّ باب دخلنا وجدنا أنّ إيثار الذكور على الإناث يتناقض مع
العدل والرحمة أي مع شرع الله ورسوله أي مع مقاصد الشريعة.فشرط الواقف تفضيل الذكر
على الأنثى من ذريّته في غلّة وقفه، بأي وجه كان، مخالف لمقاصد الشريعة. ذلك ما
أقرّه أئمّة الفقه وأكّدوا عليه سواء بإبطال الوقف نفسه أو بكراهة التفضيل وإن
كانت "كراهة تنزيه".
قد يرى منشئ
الوقف بشرطه في إخراج البنات من الحبس أو بتفضيله الذكور عليهنّ أنّ لتلك
"الشروط أهمّيّة بالغة في ضمان حسن أداء الوقفية" وهذا لا يعني بالضرورة
أن يكون ذلك الوقف متلائما مع مقاصد الشريعة. لذلك سعى أئمّة الفقه إلى "ضبط
شروط الواقفين وفقاً لمقاصد الشريعة حتّى تظلّ
هذه الشروط محكومة بالمقاصد ". ولقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه من
كبار المؤصّلين لنظرية المقاصد: "لقد كتب عمر بن عبد العزيزأن تردّ صدقات [الناس] الّتي أخرجوا منها البنات ولا يخرج من
الحبس أحد لأحد"[111].
تقييم بعض
شروط الواقف في الوقف الخيريّ:
في فقه الوقف لا يتميّز الوقف الخيريّ في أحكامه عن
الفقه الأهليّ بما أنّ المرجعيّة هي نفسها: "شرط الواقف كنصّ الشارع "
وبما أنّ " معظم أحكام الوقف ثابت باجتهاد الفقهاء بالاعتماد على الاستحسان
والاستصلاح والعرف". لم يفرّق الفقهاء منذ القرن الأوّل الهجريّ بين الوقف
الأهليّ والوقف الخيريّ في أحكامهم لذلك لا نجد أحكاما خاصّة بنوع دون آخر. فهل
أنّ الواقفين "الخيريّين" وضعوا "شروطا لضمان حسن أداء الوقفية"
مراعين في ذلك المصلحة العامّة والنفع كما تقتضيه نظريّة المقاصد أم أنّهم حرصوا
على "مصالح" أخرى شخصيّة كانت أو مذهبيّة؟ وهل سعى الفقه، والإفتاء
أيضاً، في ضبط شروط الواقفين وفقاً لمقاصد الشريعة "؟
لا بدّ أوّلا من التفريق بين الأوقاف الخيريّة التي أنشأها
رجال الدول الإسلاميّة من خلفاء وملوك وسلاطين ووزراء وبين الّتي أنشأها أفراد من
علماء وأثرياء وغيرهم.
"إن الأوقاف
في الغالب لا تصدر إلاّ من ملك أو سلطان أو كافل مملكة شريفة أو أمير من أعيان
الأمراء المقدّمين ومن في درجتهم. وغالب ما يصدر من هؤلاء من الأوقاف: لا يكون
إلاّ على جهة برّ وقربة من صدقة على الفقراء والمساكين وستر عوراتهم وعتق رقابهم.
وعمارة طرقات المسلمين وسدّ حوائجهم وفكاك الأسرى منهم في أيدي الكفار. وما في
معنى ذلك من برّ ومثوبة كبناء الجوامع والمدارس والمساجد و الخوانق ودور القرآن
العظيم والحديث النبوي الشريف على قائله أفضل الصلاة والسلام والبيمارستانات
وخانات السبل ومكاتب الأيتام وحفر الآبار والأنهار والعيون وأحواض الماء المعدة
لشرب البهائم. ومنهم من يقف على ذريته ومعتقيه"[112].
"وَمِنْ
الْأَوْقَافِ مَا يَقِفُهُ الْمُلُوكُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ" بل إنّ جلّها
كذلك إذ لم يكن يوجد فصل بين "أموال الدولة" و"أموال
الخلافة". هذه الأوقاف "الرسميّة" تكون في البنية التحتيّة من
طرقات وقناطر ومدارس ومستشفيات وسدود وقنوات ريّ... فهي من "إنجازات
الدولة" وبأموال الدولة ولو قيل "وقف عليها من ماله الخاصّ". فتلك
المنشآت تعتبر، في الواقع، أوقافا حقيقيّة عملا "بالعرف" الفقهيّ. ونظرا
لمرونة الشروط فيها أو غيابها إذ هي أوقاف عامة، حققت للناس والمجتمع عناصر
الكفاية والنماء والتمكين على امتداد تواصل الانتفاع بالوقف، وأسهمت بالتالي في
خدمة مقاصد الشرع الضرورية والحاجية والتحسينية،لأنها إنّما أُحدثت للنفع العامّ
والمصلحة والتكافل والتآزر.
وقف اللقطاء:
﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ
فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ
قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾[الأحزاب: 5].
من أحسن
الأوقاف الخيريّة المجسّدة لمقاصد الشريعة المتعلقة بالضروريات و الحاجيات أحكام
الوقف الخاصة باللقطاء فهو باب عزّ نظيره في الأمم: فمن لطف الله عزّ وجلّ ورحمته
وحنانه ومحبّته لخلقه أنّه سبحانه وتعالى لم يورد في كلامه العزيز صفة واحدة تخصّ
"أطفال الزنا" أو "اللقطاء" كما تعوّدت المجتمعات تعييرهم.
اهتمّ القرآن الكريم بأهمّ ما يعطي للإنسان وجوده الفعليّ في هذا الكون وهي
الهويّة محافظا بذلك على سلامة النسل ومانعا بذلك صور الزّنا والفواحش، وحتّى إن
جهل الأب أو أنكر أبوّته فالأطفال "إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَمَوَالِيكُمْ" مخاطبا المسلمين دون أن ينفي "الأخوّة في الإنسانيّة".
ولا يخفى ما يعانيه أولئك الأبرياء من أزمات نفسانيّة وأوضاع اجتماعيّة حرجة. وقد
ذكر الشيخ رشيد رضا في تفسيره: أن اللقيط يوشك أن يدخل في معنى ابن السبيل، على أن
الشيخ القرضاوي يرى أن اللقيط وإن م يدخل في معنى "ابن السبيل" فهو داخل
في عموم "الفقراء والمساكين" قطعًا، فإن الفقير هو المحتاج، صغيرًا كان
أو كبيرًا. فحقه في الزكاة ثابت بيقين[113].
(نَفَقَةُ
اللَّقِيطِ وَحَضَانَتُهُ مِنْ مَالِهِ الثَّابِتِ لَهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِثْل
مَوْقُوفٍ عَلَى اللُّقَطَاءِ، أَوْ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ، أَوْ مُوصًى لَهُ..
وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ فَفِي بَيْتِ الْمَالِ.. فَإِذَا عُدِمَ بَيْتُ
الْمَالِ بأن لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَالٌ، أَوْ ثَمَّ مَا هُوَ أَهَمُّ كَسَدِّ
ثَغْرٍ يَعْظُمُ ضَرَرُهُ لَوْ تُرِكَ، أَوْ حَالَتْ الظَّـلَمَةُ دُونَهُ
افْتَرَضَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ مِنْ أَغْنِيَاءِ بَلَدِهِ..
وَالْتِقَاطُ الْمَنْبُوذِ فَرْضُ كِفَايَةٍ حِفْظًا لِلنَّفْسِ الْمُحْتَرَمَةِ
عَنْ الْهَلَاكِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ
جَمِيعًا ﴾ إذْ
بِإِحْيَائِهَا أَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْ النَّاسِ فَأَحْيَاهُمْ بِالنَّجَاةِ مِنْ
الْعَذَابِ )[114].
هذا النص
حافل بدلالات مقاصد الشرع وملاءمة الدين للأوضاع الاجتماعية: فهو يحيل أولا إلى
منهج الشريعة في رعاية المصلحة ويشير إلى قاعدة الضرر الأكبر يزال بالضرر الأدنى
ويقرر قاعدة عدم الحرج ورفع المشقة.
الكتب والمكتبات:
"وتعرّضت
لشرط الواقف على أنّه يعدُّ من العقبات الّتي تعترض وقف الكتب والمكتبات ولا سيّما
إذا ما كان شرط الواقف يحول دون التصرف بالكتب الموقوفة تصرفاً علمياً تُمْلِيه
ظروف العصر"[115].
إنّ وقف
الكتب والتبرّع بها يلخّص وحده الحديث النبويّ الشريف "إذا مات الإنسان انقطع
عمله إلاّ من ثلاثة...". فالوقف والتبرّع "صدقة جارية" في حدّ ذاته
وفي الكتب علم بل علوم "بثّها في صدور الناس وانْتَفَع بها" ولا يخلو
الزمان ممّن "يدعون" للواقف ولوالديه من بين المستفيدين بتلك الكتب. وإن
أمكن التشبيه للمقاربة لا للتمثيل، فإنّ وقف الكتب أقرب ما يكون إلى الصوم في
الحديث القدسيّ "قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله يقول:
"إنّ الصوم لي وأنا أجْزِي به""[116].
فهل سهّل الواقفون للكتب بشروطهم النفع والمصلحة؟ وما
قال فقه الوقف في تلك الشروط؟
" سُئِلَ
الْقَابِسِيُّ عَمَّنْ حَبَسَ كُتُبًا وَشَرَطَ فِي تَحْبِيسِهِ أَنَّهُ لَا
يُعْطَى إلَّا كِتَابٌ بَعْدَ كِتَابٍ فَإِذَا احْتَاجَ الطَّالِبُ إلَى
كِتَابَيْنِ أَوْ تَكُونُ كُتُبًا شَتَّى فَهَلْ يُعْطِي كِتَابَيْنِ مِنْهَا أَمْ
لَا يَأْخُذُ مِنْهَا إلَّا كِتَابًا بَعْدَ كِتَابٍ؟ فَأَجَابَ: إنْ كَانَ
الطَّالِبُ مَأْمُونًا وَاحْتَاجَ إلَى أَكْثَرَ مِنْ كِتَابٍ أَخَذَهُ لِأَنَّ
غَرَضَ الْمُحْبِسِ أَنْ لَا يَضِيعَ فَإِذَا كَانَ الطَّالِبُ مَأْمُونًا أُمِنَ هَذَا.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ فَلَا يُدْفَعُ إلَيْهِ إلَّا كِتَابٌ وَاحِدٌ
وَإِنْ كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي ضَيَاعِ أَكْثَرَ
مِنْ وَاحِدٍ. قُلْت: تَقَدَّمَ بَعْضُ أَحْكَامِ شُرُوطِ الْحَبْسِ مِنْ كَلَامِ
أَبِي عِمْرَانَ وَغَيْرِهِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى مَا شَرَطَهُ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ "الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ".
وَظَاهِرُ مَا فِي هَذَا السُّؤَالِ أَنَّهُ يُرَاعَى قَصْدُ الْمُحْبِسِ لَا
لَفْظُهُ. وَمِنْهُ مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُحْبَسَةِ
يُشْتَرَطُ عَدَمُ خُرُوجِهَا مِنْ الْمَدْرَسَةِ وَجَرَتْ الْعَادَةُ فِي هَذَا
الْوَقْتِ بِخُرُوجِهَا بِحَضْرَةِ الْمُدَرِّسِينَ وَرِضَاهُمْ. وَرُبَّمَا
فَعَلُوا ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَلِغَيْرِهِمْ وَهُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِمَا
أَشَارَ إلَيْهِ هَذَا الشَّيْخُ لَا لَفْظُهُ"[117].
"وَشَرَطَ
فِي تَحْبِيسِهِ أَنَّهُ لَا يُعْطَى إلَّا كِتَابٌ بَعْدَ كِتَابٍ": هذا
الشرط من الواقف يمكن تبريره من زوايا شتّى فقد يكون منع الطالب الواحد احتكار
العديد من الكتب فلا ينتفع غيره. وقد يكون المحافظة على الكتب الموقوفة. ولكنّ
الشرط لا يراعي واقع الدراسة الّذي يتطلّب تنوّع الكتب في نفس الوقت. وقد
"توسّط" القابسيّ في فتواه مرتكزا على "أمانة" الطالب وهو
اعتبار أخلاقيّ. ومهما كان الأمر، فقد اجتهد القابسيّ في تيسير "شرط
الواقف" مراعاة لقَصْد الواقف متعلقا بالمعاني أكثر من المباني.
"والذي يقرأ
بعض ما أبقاه لنا التاريخ من حجج الوقف وشروط الواقف يتبيّن حقيقة التكافل في
المجتمع المسلم ويقف على أصالة عواطف الخير ومشاعر الرّحمة والبرّ وشيوع المعاني
الإنسانيّة الكريمة في أعماق هذه الأمّة حتّى إنّ برّها لم يقتصر على دائرة
الإنسان بل تجاوزه إلى الحيوانات"[118].
ينبغي أن نقرر في هذا السياق أن سعي الفقه والإفتاء في
ضبط شروط الواقفين وفقاً لمقاصد الشريعة، حتّى تظلّ هذه الشروط محكومة بالمقاصد
عبر صور عديدة من الاجتهادات وتقديم الحلول ارتقى إلى مستويات معتبرة من التنظير
القانوني والتقعيد التشريعي المنظّم،ولكنّ الفقه لم يكن يمتلك دوما سلطة تشريعيّة
ولا تنفيذيّة من حيث هو فقه إلاّ إذا ساندته السلطة السياسيّة. للفقهاء والمفتين
أن "يحلّوا" ما بدا لهم وأن "يحرّموا" ما شاؤوا وأن
"يندبوا" ما استطاعوا فلن يكون لذلك أثر إذا لم تلتزم السلطة التنفيذيّة
بنشره وتطبيقه قانونا. وهذا ما يفسر لنا بعض التجاوزات والأخطاء التي ظل يرتكبها
الواقفون مبتعدين عن روح المصالح المعتبرة في التشريع الإسلامي وخاصة في تقديم
"شرط الواقف" في الرتبة و الاعتبار على المصلحة المقصودة من الوقف وعلى
مقاصد الشريعة نفسها.
أخيرا، يتبيّن أنّه
لا يمكن إطلاق أحكام عامّة ومطلقة على فقه الوقف حتّى في المذهب الواحد. فكلّ فقيه
مهما كان مذهبه أو "بلغ رتبة الاجتهاد" يصيب "المقصد" في
مسائل كثيرة وقد يخطئه في أخرى.
ولكنّ فقه
الوقف ظل في مجمله وفيّا لروح الإسلام في التكافل والتعاون، ومنسجما مع المقصد
العام للشريعة وهو عمارة الأرض، وحفظ نظام المجتمع، وتحقيق مبدأ الاستخلاف
على أسس التقوى وصلاح العقول والنفوس والأموال.
[2] وَهْبَة الزُّحَيْلِيّ: الفِقْهُ الإسلاميُّ
وأدلَّتُهُ،دار الفكر دمشق الطبعة الثانية 1985 م/ 1405 هـ - 8/ 161.
[3] أحمد بن يوسف الدريويش: الوقف: مشروعيته وأهميته
الحضارية ص 160 - ندوة مكانة الوقف و أثره في الدعوة والتنمية مكة المكرمة شوال
1420هـ.
[6] ابن عبد البرّ القرطبيّ: الكافي في فقه أهل المدينة،دار
الكتب العلمية، بيروت 1407 هـ، كتاب الأحباس - 1/ 537.
[7] محمد بن أحمد الصالح: الوقف الخيري وتميزه عن
الوقف الأهلي ص 909، ضمن بحوث ندوة الوقف في الشريعة الاسلامية ومجالاته مكة
المكرمة 1423 هـ.
[14] حكم الشريعة الإسلامية في الوقف الخيري والأهلي، تأليف
لجنة من العلماء- مكة المكرمة: المطبعة السلفية ومكتبتها، عام 1346هـ - ص 5 -.
[15] خالد محمد عبد الرحيم: أحكام الوقف على الذرية في
الشريعة الإسلامية، دراسة مقارنة مع التطبيق القضائي في المملكة العربية السعودية
- مكة المكرمة: مطابع الصفا عام 1416 / 1996 - ج1 ص232.
[19] الرازي: المحصول في علم أصول الفقه، الطبعة
الثانية 1412 ه - 1992 م مؤسسة الرسالة، بيروت، تحقيق طه جابر العلواني،5/ 151.
[20] ابن أمير الحاج: التقرير والتحبير في علم الأصول،
دار الكتب العلمية -بيروت، الطبعة الأولى 1419هـ/ 1999م- 5/ 378.
[21] الشوكاني: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ من علم
الأصول، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى 1419هـ - 1999م، 2/ 130.
[30] المنهاجي الأسيوطي: جواهر العقود: - 1/ 308 - دار الكتب
العلمية بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1417 هـ - 1996م.
[33] المرداوي: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف- 7/ 41
- دار إحياء التراث العربي،ط: 2 (بدون تاريخ).
[37] النفراوي المالكي: الفواكه الدواني شرح رسالة أبي زيد
القيرواني، 2/ 271 - ط:2/ 1374هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده،
القاهرة.
[42] الدر المختار ورد المحتار: 3-408، وما بعدها، فتح
القدير: 5/ 58 وما بعدها، البدائع: 6/ 220، وهبة الزحيلي؛الفِقْهُ الإسلاميُّ
وأدلَّتُهُ، 10/ 357.
[43] أحمد بن قاسم العنسي:التاج المذهب لأحكام المذهب (زيدية)
دار اليمن الكبرى، الطبعة الثانية 1960م - 4/ 305
[56] عبد الله بن بية: رعاية المصلحة في الوقف الإسلامي
ص8، ضمن بحوث ندوة الوقف في الشريعة الاسلامية ومجالاته مكة المكرمة 1423 هـ.
[73] ابن الأثير: جامع الأصول من أحاديث الرسول،11/ 180 - دار
البيان ط:1 - دار البيان، 1392 هـ / 1972 م - والحديث أخرجه مسلم في كتاب
الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته ( الحديث: 4199) من حديث أبي
هريرة .
[76] أخرجه الطيالسى (ص 275، رقم 2068)، وأحمد (3/ 191، رقم
13004)، وعبد بن حميد (ص 366، رقم 1216)، والبخارى فى الأدب المفرد (1/ 168، رقم
479)، والبزار كما فى مجمع الزوائد (4/ 63) قال الهيثمى: رجاله أثبات ثقات .
والضياء (7/ 263، رقم 2714).
[77] فتاوى الأزهر:دليل الوقف وأقوال الفقهاء - المفتي جاد
الحقّ علي جاد الحقّ؛ شعبان 1400هـ - 29 يونية 1980م.
[80] السرخسي: المبسوط،12/ 47،دار الفكر للطباعة والنشر
والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م.
[81] ابن
قدامة: المغني على مختصر الخرقي:12/ 178.
[84] المجلّة الزيتونيّة- المجلّد الثاني؛ الجزء الأوّل شعبان
1356 هـ/ أكتوبر 1937 م - تقرير وزير الحكومة السوريّة في الأوقاف، عبد الرحمان
الكبالي.
[87] زكريّا الأنصاري: أسنى المطالب في شرح روضة الطالب، 2/
466 دار الكتب العلمية - بيروت - 1422 هـ - 2000.
[88] أخرجه الطبرانى (17/ 22، رقم 30)، وابن عدي (6/ 61،
ترجمة 1599 كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف)، والبيهقى (6/ 79، رقم 11212) .
وأخرجه أيضًا: الدارقطنى (3/ 27، رقم 98).
[89] أخرجه الطبرانى (4/ 275، رقم 4404) . قال الهيثمى (4/
205): فيه حكيم بن جبير، وهو متروك، وقال أبو زرعة: محله الصدق إن شاء الله .
وأخرجه: الإسماعيلى (3/ 749)، وابن عدي (6/ 42 ترجمة 1586 قيس بن الربيع).
[92] البيهقي: السنن الكبرى، 6/ 161 - مكتبة دار الباز
- مكة المكرمة، 1414 هـ - 1994 م - تحقيق: محمد عبد القادر عطا.
[102] الحطّاب: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل. 6/ 22 - دار
الفكر بيروت،الطبعة الثالثة، 1412هـ - 1992م.
[103] شرح ميارة المسمى الْإِتْقَانَ وَالْإِحْكَامَ فِي شَرْحِ تُحْفَةِ
الْحُكَّامِ على ابن
عاصم - 3/ 218- باب الحبس والهبة.
[110] ابن الأثير:جامع الأصول 11 / 4، والحديث رواه مسلم رقم
(2577) في البر والصلة، باب تحريم الظلم ن والترمذي رقم (2497) في صفة القيامة،
وباب رقم (49) وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (490).
[111] خلف بن أبي القاسم القيرواني: التهذيب في اختصار
المدوّنة - ج 4، ص331 - طبعة دار البحوث للدراسات الإسلامية و إحياء التراث.
دبي،الإمارات العربية المتحدة، ط:1،1433 هـ/ 2002 م - تحقيق: د.محمد الأمين ولد
محمد سالم بن الشيخ.
[114] زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ: أسنى المطالب وهو شرح لكتاب
الروض لشَرَفِ الدِّينِ إسْمَاعِيلَ بْنِ الْمُقْرِي - باب أركان اللقيط وأحكام
الالتقاط - ج 13- ص153.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق