مفارقات الثقافة
إنّ الثقافة ثابتة و متحركة في نفس الوقت وهي شاملة و خصوصية كذلك هي موضوع تعلم وكسب إرادي واع و هي في نفس الوقت موضوع محاكاة آلية غير واعية. هذا ما يعرضه الأنثربولوجيون و خاصة Herskovits في كتابه " أسس الأنثربولوجيا الثقافية " Les bases de l’anthropologie culturelle إنّ الثقافة ثابتة في بنيتها و أصولها و جوهرها. لكي نتكلم عن ثقافة لا بد من التكلم عن شيء ثابت في الزمن و هو الذي تنبني عليه هويتنا. هناك شيء في الثقافة يبقى و يتحدى الزمن كما يمكن أنّ ينتشر من زمن لأخر. لكن القول بثبات الثقافة من حيث أصولها يجب أنّ لا ينسينا أنها مضطرة للتفاعل مع المستجدات و المتغيرات حتى تثبت قدرتها على الإيفاء بحاجيات قومها.
فالثقافة و إنّ كانت ثابتة في جوهرها فلا بد أنّ تكون متطورة متغيرة و عبقرية كل ثقافة تتجلى في هذه القدرة على التطور مع الحفاظ على بنيتها. إذا التفاعل مع المحيط و الثقافات والمستجدات، يجب أنّ لا يكون هناك نيل من جوهرها و هيبتها فالتغيير سنة الحياة و التاريخ فالجماد و الأموات هي التي لا تتغير.
لكن لو أمعن النظر و تأملنا فإننا سنجد حتى الجوهر يتفاعل مع الحضارات الأخرى فهو وليد التلاقح الحضاري بيننا و بين غيرنا من الشعوب فالقدم يعطيه المشروعية بفعل الزمن و الرسوخ فيه يجعله جوهرا. فالتلاقح الحضاري نتيجة الجوار الجغرافي و المعاملات الاقتصادية والسياسية فيحدث التأثر و التأثير.
المفارقة الثانية شمولية و خصوصية الثقافة فكونها مخصوصة نقصد أنّها شاملة Universelle و Particulière عندما نقول إنّ الثقافة كونية شاملة توجد عند كل البشر بما هم بشر بمعنى أنّ النوع الإنساني بأكمله هو الذي ينشىء الثقافة. فهو إضافة إنسانية تجعل النوع البشري يتميز عن الحيوانات الأخرى. فالإنسان صانع للثقافة حسب تعريف الأنثربولوجيون.
إذا كانت الثقافة ظاهرة كونية شاملة عند كل إنسان فذلك لا ينبغي أنّ ينسينا أنها ظاهرة خصوصية لأنها ليست فقط ما يتميز به النوع البشري عن سائر الحيوانات و لكنها هي ما يميز مجموعة بشرية عن أخرى و من هذه الناحية محلية خاصة بكل قوم بحكم المحيط الذي يوجدون فيه تتشكل ثقافة تحمل طابع خاص فهي إذا ظاهرة كونية بشرية و لكنها ذات تجليات محلية اجتماعية مخصوصة فالبشر تجمع بينهم خصلة واحدة مشتركة ألا وهي القدرة على صنع الثقافة لكن الواقع و التجليات مختلفة في الحديث عن البشر هناك حقيقتان الوحدة و التنوع و من هنا تنشأ حوار الثقافات. فما هي القناعات التي يجب الاستناد إليها؟
القناعة الأولى وحدة الإنسانية.
القناعة الثانية: لا يجوز إقامة ترتيب تفاضلي بين البشرية و أنّ ننظر إلى الثقافات المتعددة على أنها تجارب بشرية متساوية فيما بينها و لها نفس القيمة لضمان البقاء إلى المحيط في بعديه الطبيعي و الاجتماعي.
الثقافات متنوعة مدونة لخبرة الشعوب و تجاربها بل مدونة الإنسانية و خبرتها حيثما وجدت. كل ثقافة إذا هي مساهمة بشرية مخصوصة في بناء هذا الذي يمثله كل قوم عن الإنسان. كل ثقافة تقول بطريقة غير مباشرة ذاك هو الإنسان الذّي نريد بناءه ذلك الإنسان الذي لا ينبغي أن ننظر إليه من زاوية مخصوصة بل نتطلع من المخصوص إلى الكلي و الكوني. فالكونية تتحقق من شدة التجذر في المحلي المخصوص فيجب أن تكون ابن حضارتك حتى تطال الكونية. كل تجلي مخصوص مساهم في بناء الكوني. و هنا يطرح سؤال أين يوجد الكوني؟ الكوني موجود في خيالنا نريد أنّ نحققه فكل واحد يرفع صوت ثقافته عاليا.
قيمة الحضارة أو الثقافة هذا النصيب الذي نناله من صرحا الإنسانية الثقافات المتنوعة المختلفة هي إثراء للإنسانية بل إثراء للخبرة الاجتماعية و كل ثقافة مخصوصة كسب لا لقومها فقط بل كسب للإنسانية. ما تدعون إليه هذه المفارقة أنّ نحجم عن كل استنكار و تحقير للمختلف بل أن نتعلم احترام الاختلاف. و الاختلاف في الثقافة ينبغي ألا يبعث على الاستنقاص بل علينا الانفتاح على تجارب و ثقافات الآخرين علنا نغنم ما يفيد في حياتنا و يثري ثقافتنا. إنّ الانفتاح على الآخر لا يعني التنكر لأنفسنا أو الانسلاخ عن هويتنا بل انفتاح الإنسان على الإنسان والتجربة الخاصة على تجارب الآخرين حتى نتعلم منها ثمّ لابد من الاستعداد الذهني للاستماع إلى الآخر و اختبار خبرته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق