انعقدت بجامعة الزيتونة بتونس و تحديدا بالمعهد العالي لأصول الدين ندوة بعنوان المنهجية في العلوم الإسلامية النشأة والضرورة و قد حضرها عدد غفير من الأساتذة و الطلبة و المهتمين بالقضايا الفكرية الإسلاميّة و قد قدمت فيها عدة بحوث تتعلق كلها بالموضوع المقترح نذكر منها:
· خطاب الكلمة في القرآن: الأستاذ سمير سليمان
· منهجية تحليل الخطاب: الأستاذ دومينيك مانجو
· الإيمان بين العقل و الوجود المتوحد: الأستاذ رضا بوكراع
· قراءات في مناهج دراسة الذاكرة الدينية: الأستاذ صلاح الدين العامري
· البيروني و القطيعة الابستمولوجية في العلوم الإنسانية: الأستاذ عادل بالكحلة
· مناهج البحث في العلوم الشرعية: الأستاذ زياد بن طالب المعولي
· قراءات في الخطاب الديني المعاصر: أحمد بن السعود السيابي
· إشكالية تصنيف العلوم الإسلامية: علي بابا عمي
· المنهجية في العلوم الإسلامية مظاهر الأزمة و مفاتيح الحل: الأستاذ كمال جحيش
· المنهج في تدريس الفلسفة و العلوم الإسلامية: الأستاذ لمير طيبات
· إشكالية التفسير و التأويل في النص القرآني: الأستاذة منجية السوايحي
· بنية الخطاب العقائدي في الإسلام و المسيحية بين اللاهوت و علم الكلام: محمد فوزي المهاجر
· قراءة مفهومية في التفسير و التأويل: عبد الرحمان حللي
· عناصر منهجية في التفسير عند الحافظ بن عبد البر الأندلسي: الأستاذ عفيف الصبا بطي
· التقعيد و الترجيح في افقه المالكي: الأستاذ علي العلوي
و قد قدم الأستاذ محمد الخضراوي الورقة العلمية التالية:
المنهجية في العلوم الإسلامية النشأة و الضرورة
كانت المنهجية ردا ثقافيا تقدميا على طرائق التفكير المدرسية التي كانت مهيمنة في مجال التعليم اللاهوتي على مدى القرون الوسطى. حيث كانت تعتمد على التداول الميكانيكي الرتيب للمعلومات و الاستنساخ الدوغمائي للفكر التاريخي. من أجل ذلك اعتبرت استراتيجيا البحث العلمي التي دشن بها ديكارت لحظة الحداثة تحريرا للعقل بالعقل ومن وهم المركز و تأسيسا لمشروع ثقافي غربي جديد.فكانت العقلانية روح المنهج و كان المنهج هو روح التفكير. لذلك انسحبا كلاهما على مختلف مجالات الحياة الثقافية و الدينية و الاجتماعية و السياسية ليكونا أساسا لكل حراك فكري حتى يتقصّد اكتساب الموضوعية.
تأسست الحداثة الفكرية وفقا للبناء النظري الذي شكله ديكارت بحثا عن موضوعية المعرفة فكانت المنهجية ناتج هذا الوعي الديكارتي و هذا موضوع يستوجب وقفة و إمعان لأنّه يمثل الأطروحة المركزية التّي قامت عليها التحولات العلمية الكبرى في زمن الحداثة. و ما ذاك إلاّ لأنّ إرادة النهضة لدى المفكر الغربي ارتبطت بتبديل تقنيات التفكير و تغيير رؤية الإنسان للعالم و لا يمكن لهذه الإرادة أنّ تحظى بالإمكان و التحقق إلا متى اعتمدت على نفوذ العقل و جعلت من العقلانية و مفاعيلها شرطا ضروريا لبناء عالم غربي مختلف يمسك بمقتضيات الامتياز التكنولوجي في المشهد الحضاري ذي القيم الثقافية الجديدة ضمن هذا النسق من التصور عرف ديكارت 1596 1650 المتهجية في مفتتح كتابه التأصيلي " مقالة في الطريقة " باعتبارها قيادة محكمة للعقل و بحثا عن الحقيقة في مجال العلوم. و بما أنّ ديكارت قادم من حقل العلوم الدقيقة فإنّه راهن على نحت معماري منهجي يمتلك مقومات العقل الرياضي من أجل صياغة علمية للحقيقة لذلك خص نفسه بقواعد للبحث لا تتناظر إلا مع القيم التحليلية ذات الأبعاد البرهانية العالية.
استنبط الرجل الفيزيائي وفقا لهذا المنظور العقلاني أربع قواعد لتشريع البحث المنهجي فكان الشك العلمي أساسا لفحص المعارف و المعلومات التي تتداول داخل الثقافة السائدة. ثمّ التحليل و تفكيك الإشكاليات المطروحة إلى أقسام و أجزاء قابلة للحل. أما القاعدة الثالثة فهي التركيب و التأليف من أجل تنظيم فعاليات البحث و الارتقاء من المعلومات الأولية إلى قضايا الأكثر تعقيدا. و ينتهي الفيلسوف الرياضي الفرنسي إلى أنّ الإحصاء و مراجعة حواصل البحث يمثلان القاعدة الختامية لإخراج الأعمال المعرفية إلى حيز الشرعية العلمية
بناء على هذا فإنّ تشخيص مفهوم المنهجية يحيلنا إلى أمرين. يمثل الأول منهما في الاستقلالية و رفض الخضوع إلى الضواغط الفكرية المهيمنة. و أما الأمر الآخر هو الموضوعية في التعامل مع المفاهيم و الوقائع الثقافية المتداولة أي أنّ المنهجية بهذا المعنى إجراء عقلاني حر و متوازن داخل حقل التواصل المعرفي.
إنّ الإحالة على الرؤية الديكارتية فيما يتعلق بموضوع المنهجية لا تهدف إلى تكرار القول في هذه المسألة و قد أضحت كثيرة الشيوع و إنما هي إحالة على التأسيس الحداثي الأول باعتباره منعطفا تاريخيا و هي إلى جنب هذا تتقصد إبراز قضية العلمية من جهة مركزيتها في إطار مناهج البحث و أولويتها في مشاريع الثقافة الإنسانية ذلك أنّ حقل العلوم الدقيقة يعمل على تجسيد البرهاني للقواعد النظرية على مستوى الوقائع الإجرائية و بما أنّ المنهجية من صنائع العقل فإنّ الانتظام داخل القانون " العلمية " يؤمّن حيادية البحث و موضوعيته و يحفظ أبنية المعرفة من التصدع و الانفلاق و من النزوع نحو الذاتوية و وجهة النظر. هذه لا تعني الاستجابة الميكانيكية للصيغ القواعدية الصارمة لأنّ النظريات المنهجية لا تعدو كونها مقاربات رؤيوية خاصة. و هي و إنّ كانت تستدعي الامتثالية على مستوى الانجاز ضمن بعض الحقول المعرفية بما أنّها تعبر عن الريادة في مجال نظامية العمل المعرفي إلا أنّها لا تمثل السيادة على الفعل أو عدم الفعل. لكلام أكثر حسما، تقدم المناهج ذواتها باعتبارها أطروحات إستراتيجية للتعامل النموذجي المنظم، و هي كذلك غير أنّها لا يمكن أنّ تكون صياغة حتمية و نهائية لسائر التعاملات الابستمولوجية المفتوحة على أنماط من المعارف ذوات مشكلات لا تتناهى ذلك لكون المناهج تمتلك صبغة ذاتية تعكس تمثلا خاصا لطرائق البحث باعتبارها فعاليات نظامية محددة لها تسويغاتها المنطقية و هي مع ذلك لا تهدف من حيث منطقاتها إلى التطبيق الميكانيكي للمقولات البرمجية التّي ترسمها لأنّها تظل لحظة اختراع تعادل موضوعها لكنها لا تعادل كافة الموضوعات التّي تطرحها مختلف الأبنية المعرفية متعددة المصادر و الاتجاهات و الأفاق. و إذا كان الارتباط بالعناصر التراثية ضرورة مفهوميه لاستيعاء الواقع المنهجي و بناء تصور موضوعي للمسألة المعرفية في لحظة الكتابة الإسلاميّة الأولى فإنّ قراءة الأصول الفكرية لنظام الخطاب الديني. بحثا عن العلامات التمييزية لطرق البحث العلمي تستوجب إجراء مراجعة تقويمية لتمظهرات هذا الخطاب من أجل فهم الأنساق الإجرائية المحركة له.
يترتب بعد عرض هذه المقاربات و التصورات المنهجية العامة أنّ نستكشف ضمن منظور بانورامي طرائقية البحث داخل المنظومة الدينية التّي انبجست معارفها الجمالية و الفلسفية و الرياضية و الهندسية (.... ) من منهج القرآن الكريم بما هو مسار انفتاحي على العلوم و على العالم سواء كان ذلك من خلال تعيين المسائل أو الحث على متابعتها عقلانيا أو من خلال الأمر الديني بالبحث العلمي و قراءة العالم في مستوياته العلية ( من العالة ) الأنطولوجية
هناك ترسانة هائلة من المعارف المنخرطة في مجال النص القرآني تدّل مضمونيا على ضرورة تعدد العلوم وذلك في اتجاهين: أحدهم فهم فعل التنزيل و الوعي بالوحي الإلهي من جهة كونه موضوع التراسل بين الملكوتي والدنيوي.و الآخر فهم العالم الذي تحيل إليه النصوص الكونية التي تستند إليها الآليات البينات باعتبارها نقاط وعي تستنفر العقل تجاه الحقائق الأولية ( القبلية ) و العلل الميتافيزيقية المنشئة للعالم الوجودي كما تتفكك العلاقة اللغزية بين عالمي الدنيا و الآخرة.
ضمن هذه التعددية فهم رواد الفكر الإسلامي مسألة البحث العلمي و قراءة العالم و إشكالية وجود الإنسان في العالم و لا شك أنّ ديناميكية النظام المعرفي الديني كان النتاج الموضوعي للحظة المنهج التي انطلقت من الآية الكريمة " لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا " سورة المائدة 47 . و قد فسر الرازي في مفاتيح الغيب مفهوم المنهاج بأمرين مقترنين عضويا بالترابط التكويني. الأمر الأول هو الطريقة الواضحة حيث يقال نهجت الطريق. و في تفسير النحاس ( توفي 338 هجريا ) أما الأمر الآخر فهو التعددية الشرائعية التي تعكس اختلاف الثقافات و البنى الاجتماعية التي تستقبل الوحي الإلهي. المنهاج إذا مسار نظامي منضبط ينير مسالك العقل التحليلي و لا يلغي تعددية المسارات التحليلية الأخرى و لما كان ذلك و كان الله قد أرسل مئات الأنبياء و الرسل إلى مختلف شعوب العالم فهذا يعني أنّه أنزّل نظيرا لذلك مئات المناهج التي تنظر إلى العالم ضمن أبنية مفهوميه متعددة تتجلى فيها صورة الواحدية.
و قد اكتشف الفكر الإسلامي منذ مبدئه الضرورة العقلانية لتأسيس أنظمة إبستمولوجية تقوم بها شروط منهجية تحقق استمرارية مسيرة التواصل بين الثقافات و الزمانات التي جسدها الوحي منذ التراسل مع الكائنات الوجودية الأولى. ضمن هذا الإطار انبثقت الصياغات الفكرية الإسلاميّة التي أسست لنظريات المعرفة لتكون نموذجا للمفاهيم القرآنية المشخصة. و هذا يعني أنّ الهندسة الدلالية التي ينطوي عليها التعبير القرآني كانت محركا لها و موجها فكريا و روحانيا لمسيرتها. فظهر علم التأويل و مناهج قراءة النص الديني مترافقة مع المنظومات الفكرية الأولى التي دشنت المعتزلة لحظتها الانعطافية الأولى. كذلك ظهر علم الكلام بمناهجه و فلسفاته ثمّ توالت العلوم تثري لتبني مشروعها الحضاري الإنساني الذّي عمر لحظته التاريخية.
و حاصل القول إنّ مسألة المنهجية تظل هاجس كل زمان و مجال و بما أنّ زمان العلوم الإسلامية قد توقف حين غابت عنه الرؤية الطرائقية ( المنهجية ) كما توقف الزمان الثقافي العربي كله عن الإبداع و عن الفعل في الواقع الكوني و دخل في عزلة أبدية عن العالم، فإنّ مواجهة هذه الحالة العدمية يقتضي إجراء مناقشة منطقية حول إعادة بناء المعرفة الدينية تختلف عن التوجهات السكونية السائدة و ذلك وفقا لطرح منهجي
جديد يحدث الانعطاف العقلاني المشخص في مفاهيم القراءة و الاستقبال و الإنتاج الفكري و يكون عبارة عن تشريع معرفي لراهنية ثقافية جديدة.
و هكذا فإنّ هذه الندوة ستجسر فجوات التاريخ حين تستقبل المعتزلي الأول واصل بن عطاء و غيره من مؤسسي المنهاج الإسلاميّ و حين نستقبل ضمن ذات التحقيبات التاريخية الحداثي الأول ديكارت و سائر منظري المنهجية الغربية و ذلك ابتغاء طلائعية ثقافية نرجوها من أجل أنّ تفعل بشكل كوني ما يمكن يكون انجازا قوميا يقدم خدمة للثقافة انطلاقا من " المنهجية في العلوم الإسلاميّة "
الأستاذ محمد أحمد الخضراوي / وحدة علوم القرآن المعهد العالي لأصول الدين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق