الاثنين، 5 أغسطس 2019

الطبيعة ونزعة التدّين البدائي


 د. علي محمد اليوسف /الموصل

يقول أحد الفلاسفة المعاصرين  في معرض حديثه عن تعاليق الدين واللغة عند الفيلسوف بروديكوس،( إن الإنسان البدائي والذي بدأ له أن كثيرا من الظواهر الطبيعية معادية له، ومع ذلك كان معجبا جدا بالهبات التي تزوده بها الطبيعة لتسهيل حياته ورفاهيته[1]). وفي تعبير ظريف ليوربيدوس: إن الأرض يجب أن تثمر شيئا لإطعام قطيعي سواء أكانت الطبيعة راضية أن تفعل ذلك أم لا.
     هذه الطبيعة المادية في مجموع تكويناتها وتنوعاتها الأرضية، لم تكن طبيعة جامدة (روحيا) بمعنى الثبات والسكون الفيزيقي الذي يعدم تساؤلات ما وراءها، تساؤلات الإنسان الكائن النوعي في ذكائه المتفرد به عن باقي المخلوقات والكائنات، (عقليا - روحيا) خياليا تأمليا ميتافيزيقيا في ما وراء ظواهر الطبيعة المادية. (إن مصير الإنسان هو إرادته وتفكيره، وبمجرد أن يتخطى المرحلة البدائية، ويصبح كائنا يقرر مصيره على أسس وقوانين تتسم بالحكمة والعقل، عندئذ تظهر له الطبيعة والعالم كشيء يعتمد على فكره وإرادته وتأثره بهما[2]).
     وبحسب فيورباخ: حين يرتقي الإنسان بفكره وأداته فوق الطبيعة، فانه يصبح خارقا للطبيعة، ويصبح إلها أيضا خارقا للطبيعة[3]. هنا يجب التنبيه إلى أن لا الخالق الغيبي في السماء، ولا الإله الإنساني مجسدا بالإنسان نفسه في محاولته تسيّد الطبيعة، بحيث يستطيع خرق قوانين الطبيعة لتلبية رغائب الإنسان، ماعدا ما جاء كمعجزات منسوبة على أيدي الأنبياء لتدعيم إيمان الناس بهم. أما الإنسان العادي الذي لا يمتلك معجزة أو معجزات فانه سيكون محكوما بقوانين الطبيعة في الزمان والمكان ولا يقوى على خرقها منذ بدء الخليقة.
     وليس بمقدور الطبيعة خرق قوانينها أيضا من أجل تلبية حاجات الإنسان،  فهي من جهة لا تعي ذاتها ومن جهة أخرى لا تعي وجود الإنسان المميز عنها، لكن بمقدور الإنسان منفردا خرق قوانين الطبيعة من اجل رغائبه وإشباع حاجاته وملذاته، إذا ما توفرت له صفات الألوهية كما خلعها عليه فيورباخ من خلال علوّه واعلائه الإنسان على الطبيعة وتنصيبه إلها عليها. وهذا لا يتم إلا في وعي الإنسان لذاته كائنا مميّزا عن كائنات الطبيعة الأخرى من حوله، وكونه جزءا من الطبيعة متمايزا عنها متعاليا عليها ولئن لا ينقاد لها بل يقودها.
     أن  انتقال الإنسان من الحالة الحيوانية الانقيادية للطبيعة، هو انتقال نوعي مفارق عن علاقة تكيّف وانقياد الحيوان لها، فحين يعلو الإنسان فوق الطبيعة فبماذا؟ وكيف؟ فهو يعلو عليها بخاصيتي الذكاء والتخيّل اللتين لا يمتلكهما الحيوان في علاقته المتكيّفة مع الطبيعة المهادنة لها. وبهذا يتسيّد الإنسان الطبيعة، ويكون تعامله معها غير متكيّف سلبيا انقياديا لها كما عند الحيوان، لذا نجد الإنسان في علاقة رأسية احتدامية متصارعة مع الطبيعة.
     وبهذا النوع من العلاقة نجد الإنسان يعلو على الطبيعة ولا تعلو هي عليه. رغم ضآلة وجوده الكياني وقدراته المحدودة أمام لا محدودية الطبيعة في متخيّله الأرضي لها وفي امتلاكها من موجودات حياتيّة متنوعة لا حصر لها مذهلة.
     وإنه لمن المهم أن الإنسان في مراحل تاريخية متقدمة في وجوده الانثروبولوجي تمكن من اختراع اللغة في اعتلائه ظهر الطبيعة. فأصبح متمايزا عن الطبيعة في كونه يعي ذاته ويعي الموجودات فيها من حوله، وكونه كائنا مفكرا لا تجاريه الطبيعة بها أيضا، وكونه أي الإنسان متمايزا عن الطبيعة بالخيال الذي تفتقده الطبيعة والكائنات الأخرى من حيوان ونبات وجماد، والصفة المتمايزة الأخيرة للإنسان والتي لا تمتلكها الطبيعة وكل موجوداتها أنه كائن ناطق يتواصل مع غيره بها.
     وأكثر مما ذكرناه فإن فيورباخ يصف الآلهة والتوحيد الديني قائلا ما معناه أن التأليه أو التوحيد لإنسانية الطبيعة الإلهية بمعنى انتساب الطبيعة للإنسان وليس انتسابه هو وتبعيته لها. إنما ينبعان فقط من ربط الإنسان الطبيعة بذاته، لأن الطبيعة تخضع نفسها للإنسان دون إرادة ولا وعي منها[4]. بعكس الحيوان الذي ينقاد للطبيعة من دون وعيه بها أو هي تعيه، ما إن الطبيعة غير ملزمة، ولا تعي أهمية تنفيذها لرغائب الإنسان وتلبية احتياجاته منها، كما وليس  بمقدور الطبيعة خرق قوانينها التي تحكم الوجود الطبيعي رغما عنها أو دون دراية منها، وفي استقلالية عن الإنسان، من أجل تحقيق ما يحتاجه الإنسان منها كما اشرنا سابقا، لسبب يجهله كما تجهله هي الطبيعة أيضا.
     الإنسان يعيش الطبيعة من أجل تلبية غذائه وإدامة بقائه دونما وعي منها، وكذا الحال مع الحيوان في علاقته بالطبيعة.
      إن الإنسان البدائي القديم لا يدرك أن الطبيعة تختلف عنه جوهريا في أنها لا تعي ذاتها ولا تعي وجود وظواهر الأشياء من حولها بخلاف الإنسان عن الطبيعة في وعي الإنسان ذاته ووعيه المحيط والموجودات من حوله.
     ومن منطلق تجاهل الجدل الحاصل في أن الطبيعة خالقة لنفسها وقوانينها على وفق الانتخاب الطبيعي الدارويني والتطور البيولوجي الانثروبولوجي للإنسان والطبيعة، أو إذا اعتمدنا المنحى الإيماني الديني بأن الله هو خالق الطبيعة ومنظّم قوانينها بإحكام لا تدركه الطبيعة ذاتها ولا الإنسان أيضا، فالطبيعة تبقى (أم) الإنسان في رضاعته منها، وكذلك أم الحيوان والكائنات الأخرى في تأمين بقائها وفي توفيرها الغذاء والبيئة، في إدامتها بقاء الإنسان والكائنات الأخرى وحمايتها لهم من الانقراض.
     نجد من المهم التذكير بان الطبيعة التي تنتج وتسود قوانينها التي تحكمها هي والإنسان معا، لكن الطبيعة لا تصنع تلك القوانين في إدراك أهميتها للإنسان وإشباع رغائبه واحتياجاته، أي أن قوانين الطبيعة التي تعمل بمعزل عن إرادة الإنسان في توفيرها وسائل بقائه وتلبية احتياجاته المعيشية له وللحيوانات معه كافة، هي أيضا لا دخل لعدم وعي الطبيعة بها أو بصنعها ووجودها، تلك القوانين التي تحكم الإنسان والطبيعة وحتى الكوني أيضا.
     وفي الوقت الذي يندهش الإنسان بالطبيعة، في تساؤله من أوجدها وكيف؟ فالطبيعة لا تمتلك جوابها لأنها لا تعي كيف وجدت ومن أوجدها. كما إن الإنسان لا يقوى حل لغز حياته هو في وجوده الأرضي في تعايشه مع الطبيعة والكائنات الأخرى منذ بدء الخليقة والى يومنا هذا.
     وبحسب فيور باخ أيضا: (فان الآلهة قادرة على فعل ما يرغب الإنسان، بمعنى أنها تطيع وتلبّي قوانين (قلب) الإنسان، فعلاقته بروحه، تعادل علاقة الآلهة بالعالم المحسوس[5]). هذه العبارة مشبّعة برؤى ميتافيزيقية ولا تقول أكثر من أن الإنسان مبتدأ ومنتهى الدين، فكلتا العلاقتين علاقة الإنسان بروحه، وعلاقة الإنسان بالآلهة هي علاقة افتراضية خيالية معدومة التحقق ولا فارق بين العلاقتين لان مصدر خلقهما هو الإنسان فقط في وعيه ذاته والطبيعة من حوله. وبالتالي هي علاقة الإنسان مع نفسه فقط ولا وجود لآلهة تعلو الإنسان إلا تلك التي وضعها هو في موقع الإله المقدس المعبود.
     وتأكيدا لما ذهبنا له من جهة ثانية فعلاقة الإنسان بروحه علاقة وجدانية ذاتية نفسية لا وجود حسّي أو إدراكي مادي عقلي لها، لذا هي تعادل علاقة الآلهة الافتراضية بالمحسوسات والماديات والطبيعة والعالم التي أيضا هي غير موجودة سوى في مخيّلة وتفكير الإنسان فقط. فالإنسان يعبد ما يتخيّله هو فقط حسب حاجته الروحية أو المادية، ويؤمن بمعبوده بروحه المجردة وليس بعقله في كل ما يصنعه له خياله.
     إذا ما علمنا إن فيور باخ فيلسوف وشاعر أيضا، أدركنا مدى قدرته الفكرية وقابليته الساحرة على تطويع لغة الفلسفة بألفاظ تعبيرية شفافة موحية تتوارى خلفها المعاني. فقد وضع فيور باخ نزعة التدين عند الإنسان مستودعها (القلب) وليس العقل ولا تزال هذه الحقيقة مسّلم بها دينيا في جميع لاهوت و ثيولوجيا الأديان والأساطير والفلسفة.
     فالعقل بمدلولاته الإدراكية والحسّية والخيالية الذهنية، لا يتوسّله الإنسان في محاولة الاستدلال المنطقي ولا الحسي التجريبي في إشباعه نزعة التدّين عنده، وإنما يستعمل عقله في التساؤل التأملي التجريدي الخيالي في ترسيخ إيمانه الغيبي فقط، ولا زالت هذه الفرضية تغلب على تديّن أكثر الموحدين لله، إن الإيمان الديني مصدره القلب وعجز العقل في الاستدلال على تثبيت الإيمان الروحاني ببراهين عقلية أو سببية عليّة.
     فالإنسان يعمل عقله حسّيا وخياليا بعكس الحيوان الذي يدرك الطبيعة عقليا محدودا جدا، وحسّيا مباشرا في تامين الطبيعة ما يحتاجه في غذائه فقط، ولا يمتلك الحيوان قابلية ولا قدرة إعمال العقل خياليا تجريديا حتى في حالة تعطيل اللغة عنده..
     لذا الإنسان يمتاز عن الحيوان بأنه كائن ديني أو متديّن كونه كائن عقلي مفكر وكائن خيالي في وقت واحد. أي هنا الإنسان يدرك مفهوم الزمن والمكان من خلال إعمال مخيلته في التفكير الخيالي في استقرائه بعض ملامح مستقبله.
     لنمعن النظر جيدا في العبارة التالية لفيور باخ( إن الإنسان يفعل من خلال الله، ما يفعله الله حقيقة بنفسه[6]). هذه العبارة المكتنزة فلسفيا لا تحمل أكثر من تأويل واحد وحيد يمثل معنى، كان بدأه فيور باخ في بداية كتابه اصل الدين، من أن الآلهة مصنّعة خياليا من قبل الإنسان، وليس هناك من وجود إلهي من غير تأمل الإنسان وإعمال عقله الخيالي في ما وراء الطبيعة، وإيمانه بتخليق ما كان قد ابتدعه خياله انطولوجيا، في تحميل معبوده جميع الصفات الذاتية التي يخلعها الإنسان عليه، على إلهه المصنوع خيالا ميتافيزيقيا من قبله.
     إن عبارة فيور باخ هذه في تأويلها بمنهجية علوم اللغة في المسكوت عنه الذي يتخّفى فائض المعنى فيها دائما خلف المفردات اللغوية، تلخيصها يكون بأن الإله والإنسان هما وجود انطولوجيا واحد هو الإنسان فقط في معايشة خياله في علاقته بكل من الطبيعة والميتافيزيقيا. ولا يختلفان إلا بأهمية الخيال الإنساني في البحث عن الأمان الروحي في الدين في حين لا تحتاج الآلهة ذلك.
     أن جميع المصادر البحثية في نشأة الدين تذهب إلى بداياته حتى مراحل الوثنية قبل الأديان السماوية تشير إلى شرق العراق السومري والبابلي ومصر الفرعونية والهند والصين وفلسطين، ثم انتقلت الأديان الوثنية والميثولوجية والأسطورية والسحرية إلى بلاد اليونان والرومان والقرطاجيين والفينيقيين إلى ما قبل ظهور اليهودية والمسيحية عن طريق فتوحات الإسكندر المقدوني للشرق حوالي 320 قبل الميلاد.
     فعلى لسان هيرودوتس يذكر فيور باخ (انه في الشرق يقلل الإنسان من قيمة نفسه إلى مستوى الحيوان كي يثبت ولاءه الديني، أما عند الإغريق والرومان فأن تأكيد الإنسان لكرامته تضعه في مصاف الآلهة[7]).
     طبعا في هذا مغالطة آرية عنصرية عرقية، إذ إلى وقت ليس ببعيد تاريخيا فأن الإغريق كانوا يضّحون بالأطفال قرابين للآلهة زيوس أو جوبتير كما كان بفعل (آخيل) أو غيره من وثنيي الأرباب ولم تكن تحسب تلك حيوانية دينية.
          فيور باخ ووعي الذات
     لقّب فوير باخ بأنه صاحب منهج فلسفي مادي تصوفي أو تأملي ذاتي، البعض ينعت فوير باخ فيلسوف الذات فهو عالج موضوع اغتراب الذات فلسفيا في سبق فلسفي يحسب له.  ومن الماركسيين المحدثين الذين ينكرون التأثير المادي لفوير باخ على ماركس، بنفس معيار إنكارهم الجدل الهيجلي على اعتباره هو الآخر مثاليا تجريديا تأمليا، علما ان جميع دارسي وباحثي الماركسية يذهبون إلى أن المادية الفويرباخية والجدل أو الديالكتيك الهيجلي كانتا دعامتا الديالكتيكية المادية الماركسية، والجدل المادي التاريخي الذي اعتمدهما ماركس في صياغته قوانين تطور المادة والتاريخ، بعد تخليصه مادية فوير باخ من تصوّفها التأملي الديني، وتخليص الجدل الهيجلي من مثاليته المقلوبة.
     لكن لا يمكن لأحد نكران أن المعارف والفلسفات وحتى العلوم الإنسانية هي تراكم معرفي وحضاري تاريخي محكوم بالكم والكيف، في تقادم زمني لا يلغي تماما جهد السابقين على اللاحقين تاريخيا، مهما شابت تلك المسيرة من النقد والمراجعة والحذف والتفسير والتفنيد ..الخ. كما يتعذر ولادة معارف علمية أو فلسفية من فراغ سابق عليهما.
     وإذا سمحنا لأنفسنا إسقاط الفهم الحداثي وما بعد الحداثي على إي نص مكتوب، فهو بحسب رولان بارت في مقولته الشهيرة موت المؤلف، في ردّه كل نص إلى تناصه  المتعلق مع سابقاته من النصوص من جهة، ومن جهة أخرى فإن النص بعد كتابته و نشره يصبح ملكا صرفا للقارئ المتلقي أو بالأحرى المتلقين الآخرين في تعدد وتنوع قراءاتهم للنص في ملاحقتهم ما يسمى فائض المعنى المتبقي بعد كل قراءة جديدة. وهو ما ينطبق على كل نص تداولي مكتوب سواء في الثقافة أو المعارف أو الفلسفة أو السرديات الكبرى كالايدولوجيا والتاريخ الخ.
     ويؤكد البرتو ايكو هذا المعنى لدى بارت قائلا: إن بارت يقوم بتفريق هام بين نص القراءة، الذي يستهلكه القارئ، والذي يمنح نفسه للقارئ بلا مشّقة، ومن ثم يقوم بترسيخ العادة والمألوف، وبين نص الكتابة الذي يقوم القارئ بكتابته مرة أخرى، ومرات عديدة في كل قراءة أخرى جديدة له.

                                                         علي محمد اليوسف /الموصل



[1] فيورباخ: أصل الدين، ترجمة وتقديم أحمد عبد العليم عطية، طبع المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، طبعة أولى 1991، ص 12.
[2] ن.م، ص 17.
[3] ن.م، ص 22
[4] ن.م، ص 34.
[5] ن.م، ص56.
[6] ن.م، ص 96.
[7] ن.م، ص 100،.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق