الاثنين، 12 أغسطس 2019

اللغة والصوفية

نواصل تقديم مقالات فلسفية في مسائل متنوعة للدكتور علي محمد اليوسف




أهم أنواع التعبير اللغوي التي يمتزج فيها الإدراك العقلي مع اللاشعور المتسامي نحو المثال والحلول في الذات الإلهية، هي لغة الخيال التصوفي ، فالمتصوف أو العرفاني ينطلق بحسب رأيي من منطلق أن أسهل أنواع العاطفة والوجدان هو ما تستطيع اللغة التعبير عنه واستيعابه.
والعواطف والوجدانيات العميقة الّثريّة المتسامية تعجز اللغة التعبير عنها. وهو ما عبّر عنه أحد الفلاسفة في قوله إن ما تعجز اللغة في التعبير عنه هو الأكثر أهمية وجمالا من المعبّر عنه.
من هذا المنطلق يعتبر تعطيل فاعلية اللغة التواصلية مع الآخر قاصرة تماما في حال مرور المتصوف بتجربة الكشف الاستبطاني وحالة  التسامي الذي يّشل الحواس والإدراك الشعوري الواعي للعقل، اللغة الصوفية تأتي على شكل تداعيات ورموز وشطحات لغوية فكرية تخيلية منجذبة نحو التعالي على/ فوق الواقع الحسي والتعالي على العقل أيضا في تغليب الوجدانيات التي تعجز اللغة عنها.
لغة المتصوف غائبة تماما عن مجريات الحياة والمحيط والوجود الإنساني الاجتماعي للآخر بجميع واشتمالاته المادية، ما عدا الشحن الوجداني العاطفي اللاشعوري المرتبط بإمعان ورغبة التدرج في معارج الكشف نحو بلوغ المثال المتسامي ونشد الوصول إلى مراتب متقدمة من الخالق والذات الإلهية.
لغة التصوّف ترتبط بحالة اللاشعور في تغييب الوعي والحس المادي ليلتقي بذاءات المرضى العصابيين إلى حد ما مع فارق أنه في بعض الحالات التصوفية كما هي عند ابن عربي والحلاج والنفري وابن الفارض والسهروردي وغيرهم، (لغة) تحمل مدلولات تواصلية فلسفية مع الآخر يتداخل الوعي الشعوري والإدراكي بتسجيلها لكنما يبقى الغموض فيها سيّد الموقف. في حين تكون مثل هذه الفعالية التواصلية بقدرات اللغة والتعبير معدومة تماما في هلوسة وهذيان الانفصام العصابي، وهذا ينطبق أيضا على الكثير من التجارب الصوفية غير الناضجة في عجزها اللغوي عن التعبير.
كلا التعبيرين اللغويين لغة التصوف وهذاءات مرضى العصاب يتقاسمان صفة لغة الخيال اللاشعوري غير المنتج انطولوجيا - سيسيولوجيا في تغييب الوجود الواقعي العقلاني للفرد والمجتمع، وانعدام فرص التواصل بالآخر...أمام الاندفاع في خلاص الفرد صاحب التجربة الصوفية قبل كل شيء.. فالصوفية ترجع إلى أصولها القارة إنها تجربة دينية في علاقة مميزة تربط الخالق بالمخلوق.
لغة التصوف تلغي الفاعلية الواقعية العقلانية في جانبين: تلغي فاعلية الوجدان المنتج ماعدا استثناءات تجارب صوفية ناضجة غير مبالغ بها ولا مفتعلة مجال اشتغالها التعبيري الشطحات الصوفية اللغوية على شكل ومضات حكمية وأقوال غامضة باطنية وفي مجال قول الشعر اللغّز الغامض أيضا، وإعدام رقابة العقل على اللغة المنطوقة تصّوفيا، يتجلى ذلك في عدم قدرة المتصوف ضبط تداعيات اللغة التعبيرية المنطوقة عنده، بمنطق لغوي نسقي منظّم يستطيع التواصل مع الآخر بعيدا عن شطحات التفكير اللغوي وتداعيات اللاشعور في توصيل التجربة الذاتية من خلال أمكانية المتلقي فك رموز اللغة الإشارية، بما يخدم تجربة المتصوف والمتلقي معا. إن محاولة الطلب من صاحب التجربة الصوفية نقلها إلى واقع لغوي تواصلي هو ضرب من الإجهاز على حقيقة التجربة..
الجانب الثاني من الإلغاء في لغة المتصّوف يتمثل في تخريب الإخصاب التخييلي المنتج ماديا وليس التخصيب المتسامي روحيا، في عجز التعبير التصوفي، وفي اللقاء مع هذاءات العصابي الانفصامي في عجزهما المشترك أن يكون تعبيرهما اللغوي لغة تواصل يعّتد الأخذ بها ,فقط باستثناءات تجارب صوفية متقدمة يمكن أن يكون التواصل التصوفي مع المجتمع متحققا فيها أشرنا لها سابقا.
إذن ما الفرق بين غطرفة وهذاءات الانفصامي، وشطحات المتصوف اللغوية التعبيرية؟
هذاءات العصابي وهلوسة الانفصامي المرضية تصدر عن غياب تام لتداعيات الشعور التخييلي الحلمي المنتج في الإحساس بالواقع المادي والمحيط، بخلاف ما نجده عند المبدع والفنان من تداعيات الشعور الخلاق، فهي عند العصابي تخيّلات لا شعورية مكبوتة انفصامية تفصح عن نفسها بصعوبة، في تعبيرات مشّفرة ناقصة المعنى المفهومي من اللغة، سائبة غير منظمة ولا منضبطة سطحية وانفعالية هستيرية، غبر مفهومة ولا متسّقة تعبيريا، طلاسم لغوية مغلقة على عوالم خيالية مرضية انفصامية لا رابط لها مع الآخرين والواقع أو المحيط.
الخيال اللاشعوري عند المتصّوف يطرح لغة مفككة أيضا لا تعطي فهما ومعنى منظّما في أدعاء أن التجربة الصوفية فوق اللغة وفوق أدراك الآخرين لها ولا يمكن وصفها ولا التعبير عنها باللغة، ومن هنا تلتقي لغة المتصوف مع هلوسات العصابي، ويفترقان كليهما عن لغة الخيال الإبداعية المنتجة كما نجدها عند الفنان أو الأديب الذي يعود إلى الواقع من رحلة الخيال بحصيلة فكرية أو فنية. في حين يبقى زعم المتصوف أن تجربته هي فوق الوصف أو أنه لا يستطيع التعبير عنها بالكلمات فهي فوق اللغة وفوق المدركات الطبيعية وخارقة لقوانين الطبيعة.
يقترب هيدجر تناوله وظيفة اللغة في التجربة الصوفية ,أنها لغة رمزية صعبة وعسيرة في التعبير عن تجاربهم ومعاناتهم التصوفية، إذ يعجز المتصوف نقل أو تمييز الوجود,عن نسيان الوجود الحقيقي, يقع المتصّوف في حالة من تغييب الوجود عقليا وحسّيا، ويعيش حالة من المثالية العرفانية في تجربته الذاتية الصرف.
أما افلوطين وهو فيلسوف صوفي هلنستي عاش في الإسكندرية فيقول أن الصوفي يجد صعوبة في استخدامه اللغة أثناء المرور بالتجربة الصوفية لكنه يستطيع استخدامها بعد التجربة عندما يتذكرّها.
كما يعيب براتراند رسل على المتصوفة عقم وعجز اللغة عندهم، بأنها عاجزة أن تقول شيئا يعتد ويؤخذ به. كما أن العلم من وجهة نظره أيضا يسخر من اللغة الصوفية سخرية لاذعة.ويتراجع براتراند رسل قليلا في أهمية التصوف في كتابه الفلسفة الغربية المعاصرة قوله(لقد شعر عظماء الرجال من الفلاسفة بالحاجة إلى العلم والتصوف معا، وأن وحدة المتصوف مع رجل العلم تشكل أعلى مكانة مرموقة).
وفي المنحى ذاته يذهب جورج باتاي قوله (إن التجربة الايروسية- الشبقية تتوازى مع التجربة الصوفية في كونهما فيضين لا تستوعبها اللغة). من هنا يمكنني التذكير بأهمية العبارة التي أوردتها سابقا حين أشرت أن المتصوف ينطلق من واقعة أن أسهل أنواع العاطفة والوجدان هو ما تستطيع اللغة التعبير عنه واستيعابه. على اعتبار أن التجربة الصوفية هي غوص في مسالك الكشف الاستبطاني المتسامي المتعالي، التي تنعدم معها أن تكون اللغة ذات جدوى تواصلية مع الآخر.هنا بحسب هذا الفهم لا نستغرب ربط جورج باتاي بين التجربة الصوفية والتجربة الجنسية والتقائهما في أن اللغة في كلتا التجربتين تتماهى في العجز واستعصائها من تحقيق التواصل بالآخر لغويا.
أما الشاعر المفكر أدونيس فيعتبر لغة التصوف(الإسلامي) هي لغة استكشاف معرفي في الدين والفلسفة والوجود. وأن السرياليين اخترعوا الكتابة الأوتوماتيكيةيقصد بذلك كتابة تداعيات اللاشعور في تغييب الوعي بالمخدرات --- وإلغاء العقل وأستخدموا لذلك المخدرات. ويضيف أن المتصوف ألغى رقابة العقل بالسيطرة الذاتية على الجسد. وسميّ آنذاك الكتابة (إلهيا سماويا) وهي ذاتها الكتابة التي نادى بها السرياليون. (اندريه بريتون في الشعر، وسلفادور دالي في الرسم والتشكيل، والى حد ما في أدب اللامعقول عند صوموئيل بيكيت وأوجين أونيسكو.).
هنا أدونيس أستخدم عبارة إلغاء العقل عوضا عن تغييب تداعيات اللاشعور الحلمي المنتج في كتابة الشعر وإنتاجية الفنون التشكيلية كما في السريالية والتجريد الفني. وهذا الخيال الإنتاجي الخصب عند الفنان أو الأديب يختلف جذريا عن المخيال المعّطل غير المنتج عند المتصوف، الذي يتأرجح بين تغييب الرقابة العقلية والحسّية، وبين تداعيات اللاشعور عندما تكون اللغة أقرب إلى الهلوسة والهذاءات عند العصابي أو المجنون. باختلاف بسيط أن المتصوف يعي عجز اللغة عنده في تحقيق التواصل مع الآخر، وقدرته أحيانا على البوح وإفصاح تعبيري لغوي يتجاوز هذاءات المجنون المغلقة. بينما هي غير ذلك عند المجنون في هذاءاته بلا معنى ولا ترابط مفهوم
أما المفكر محمد عابد الجابري يرى أن الحقيقة في التصوف الإسلامي هي عندهم ليست الحقيقة الدينية، ولا الحقيقة الفلسفية، ولا الحقيقة العلمية,بل الحقيقة عندهم هي الرؤية السحرية للعالم التي تكرسها الأسطورة. وأن العرفان(التصوف) يلغي العقل، ومن حق العقل الدفاع عن نفسه ليس بالطريقة السحرية بل بالتحليل العقلي.
أود توضيح نقطة مررنا بها سريعا، ما هو الفرق بين لغة الإبداع الادبي - الفني ولغة التصوف؟
أن فرويد تعامل مع الخيال بوصفه مصدر الإلهام وخزّان الإبداع، وكشف تأثير اللاشعور في السلوكيات المنحرفة والسلوكيات السّوية على السواء. وهناك نظريات في علم النفس لا يستهان الأخذ بصحتها تذهب إلى ربط واقتران العبقرية العابرة للمعتاد الطبيعي بالجنون، ولعل تجارب عديدين من مشاهير الفلسفة والأدب هم ممن تنطبق عليهم هذه المواصفات يأتي في مقدمتهم دوستوفسكي وهولدرين الشاعر الفرنسي وفوكو ونيتشة وليتريامون وغيرهم كثيرون لا يمكن حصرهم..
برأينا الفنان كالعصابي المريض أو المنفصم الشخصية كلاهما ينسحبان من الواقع المحسوس والمدرك عقلانيا إلى دنيا الخيال والاغتراب غير المحدود، بخلاف جوهري مهم جدا أن العصابي المريض لا يستطيع العودة من رحلة الخيال إلى واقع الحياة والمجتمع ثانية،، وأن ما يبتدعه له الخيال من واقع وهمي يتصوره ويتعامل معه أنه الواقع الحقيقي والحياة السوّية. في حين أن الفنان المبدع أو الأديب صاحب الفعالية الإبداعية يستطيع العودة ثانية من رحلة الخيال إلى واقع الحياة، وبحصيلة إبداعية فنية مميزة على شكل أنتاج أدبي أو فني أو غيرهما من ضروب المعرفة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق