الفلسفة الوجودية ممثلة بسارتر، فهمت وعي
الذات مثاليا مغايرا للمادية، في تغييبها حمولتها الديناميكية في وجوب وعي الذات
جدليا بالموضوع كما أراده ونادى به هيدجر, وأن ماهية أدراك الذات لوجودها الحقيقي
لا يتم من دون ديناميكية تمنحها حضورها الجدلي بالحياة... كما ذهب هوسرل أن يكون
وعي الذات في ماهيته هي حمولته (القصدية) بمعنى أن القصدية هي السعي لتحقيق هدف
مقرر مسبقا تسعى الذات لتحقيقه والوصول إليه... ليلتقي بفهم هيدجر في تأكيده أن
وعي الذات لا يمكن إلا أن يتسم بالحيوية الديناميكية، ويفارقان –هوسرل وهيدجر- بذلك كل من ديكارت وسارتر رغم اختلاف هذين الأخيرين
بينهما أيضا، إذ كما أراد وعبّر عنه ديكارت في فهمه تحقق الوجود الذاتي الإنساني
بالفكر الفلسفي المجرد في الكوجيتو، كذلك فعل سارتر في تفسيره وعي الذات مثاليا
رغم الصلابة الوجودية المادية التي يحملها سارتر، وسيأتي توضيح جوانب أكثر من
إشكالية واحدة في فهم وعي الذات فلسفيا عند كل من هوسرل وهيدجر وسارتر.
وهذه التفسيرات المختلفة المتباينة هي إدانة
لكوجيتو ديكارت في تفسيره وعي الذات مثاليا الذي أصبح إبتذاليا فيما بعد على صعيد
فلسفة هوسرل في الفينامينالوجيا وصعيد فلاسفة الوجودية من بعده كلا من هيدجر وسارتر، في قراءة (أنا أفكر إذن أنا
موجود) التي تعتبر تفسيرا مثاليا مغلقا في ربط ديكارت وعي الذات بالفكر المجرد
الذي لا وجود لتموضع مادي له، في وعي الذات لنفسها كحقيقة وجودية في عدم تعالقها
مع جدلية موضوع يعطي الفكر سمة تعاليه على الوجود، هذه الجدلية المفتقدة بين الذات
والموضوع عند ديكارت التي لا تعطي كلا من الذات والموضوع إدراكا وجوديا حقيقيا
لكليهما من خلال التناوب التبادلي في التأثر والتأثير, أن كان على صعيد الفكر أو
صعيد واقع تموضعهما في تحقيق كل منها وجوده المتعالق بالآخر جدليا.. وهو ما أراد
هوسرل ومن بعده هيدجر تصحيحه وجوديا، في أخفاق سارتر أن يكون له تفسيرا واضحا في
تجاوزه لمقولة ديكارت رغم ماديته الماركسية من جهة، وفي عدم تمايز خطاب سارتر المعروف
في تفرده الفلسفي المتمرد باستمرار في هذه الإشكالية الجزئية أن لا يكون امتدادا
تابعا لهيدجر من جهة أخرى في ضم صوته مع كل من هوسرل وهيدجر بالضد من ديكارت في
فهمه وعي الذات وبهذا لم يبق لسارتر فهم غير انقيادي تبعي خارج فهم كل من هوسرل وهيدجر.
إشكالية وعي الذات:
رغم وجودية سارتر الصلبة التي تستقي الكثير
من أصولها المادية الماركسية التي خرج عليها سارتر الشيوعي لاحقا، في تحديده
القطعي أن وجود الإنسان يسبق كل ميزة متفردة معطاة فطريا أو غريزيا أو مكتسبة عند
الفرد، وفي أعطائه الإنسان حقه الطبيعي في مطلق الحرية المشروطة بمسؤولية الإنسان إيفائها
حريته الفردية حقها على صعيدي توكيد حقيقته الإنسانية كذات تعي وجودها في كل
معانيها، وفي حمل هذه الذات جحيم الآخرين في الفهم الوجودي المشترك بينهما في
محمولات الحرية المسؤولة عن أناها والآخرين من حولها، سعيا وراء تحقيق وعيه
الاجتماعي وتوكيد ذاتيته الإنسانية معا.
فسارتر لا ينكر على الإنسان وجوده المأزوم
بأكثر من مأزق تمليه عليه الحياة وتسلبه
وجوده الحقيقي، وفي قرائن قهرية عديدة تلازمه مثل القلق، ولا معنى الحياة، والفزع،
واللا جدوى وآخرها خلاص الموت... رغم ذلك يعتبر سارتر الإنسان أولا وأخيرا، فردا
ضمن مجتمع لا فكاك منه ولا استغناء عنه، ويتكامل وجوديا معه.. حتى لو كانت علاقته
بالمجتمع نوعا من الاندماج في الكلية المغيبّة عن أدراك وعي وجودها الأصيل في
الحياة على حد تعبير هيدجر الذي كان واضحا جدا في اعتباره جوهر الوجود الإنساني هو
الوجود –في- العالم... ويتدارك هيدجر أن مثل هذا النوع من الوجود المجتمعي والوجود
الاندماجي في الناسّية المجتمعية ربما لا تحقق الذات الفردية وجودها الأصيل في هذا
الاندماج في تأمين وتضمين حاجاتها البيولوجية التي توفرها لها رتابة الحياة
المجتمعية الزائفة..
بتلخيص العبارة فأن سارتر رغم وجوديته المادية
الماركسية التي يستقي الكثير من أفكاره منها، ألا أننا نجده يعمد إلى نوع من
المثالية المتحفظة في سعيه تغييب ديناميكية الوعي الذاتي في الحياة التي رفع
رايتها هيدجر للإفلات من هيمنة مثالية ديكارت في اعتباره وعي الوجود ناتج عن
التفكير المجرد للأنا.... أن سارتر كما أشرنا سابقا ألغى من قاموسه الفلسفي
الوجودي أهمية فاعلية الإنسان وارتباطه بالمجتمع في إضفاء نوع من الحرية المطلقة
للفرد واستعادته منه ومصادرتها في تأكيد عدمية الحياة ولا جدوى أن يعيشها الإنسان،
في تضاد مباشر وعميق مع الماركسية، لتقتفي تأثيره هذا غالبية الفلسفات المثالية
التي جاءت من بعده لعل في مقدمتها الفلسفة البنيوية في خروجها الفظّ المشاكس على
قوانين الجدل المادي وقوانين المادية التاريخية، وفي استهدافها العمود الفقري
للماركسية كتاب رأس المال الذي تناولها لتوسير بكل تشنيع فلسفي ابتذالي، ومثله
وقبله فعل شتراوس في الخروج على الماركسية في كتابه (نقد العقل الجدلي) وسبقه
سارتر أيضا في كتاب له لا يحضرني عنوانه ينقد فيه الماركسية بقسوة شديدة لا تقل
عما قام به أقطاب الفلسفة البنيوية أمثال فوكو والتوسير وجان بياجيه.
بماذا تميّز هيدجر في أطروحته حول فهم تعالق
وعي الذات بوعي الموضوع تناوبيا؟ بمعنى أن الذات لا تستطيع أدراك نفسها وخصائصها إلا
بتعالقها المتخارج بموضوع ما مغاير لوجودها، وكذلك العكس بأن الموضوع لا قيمة حقيقية له ما
لم تدركه ذاتا يحقق هو الآخر وجوده بها وفي تكامله معها.
هيدجر يؤكد فهمه الوجودي في ضرورة تأصيل الإنسان
وعيه الوجودي لذاته في تعالقه مع الموضوع والعالم الخارجي بنوع من الالتزام الحر
الذي وصفه بالديناميكية في التبادل الجدلي التأثير بالموضوع أو بالعالم الخارجي، ولا
يكتفي هيدجر بهذا الدور الفاعل في وعي الذات نفسها من خلال الاندماج بالكليّة
الاجتماعية، فعمد إلى توضيح أكثر في فهمه الوجود المتمايز عن سارتر نجده في قوله: "الإنسان
ليست ذاتا منغلقة على نفسها، وإنما هو وجود أو وعي متجه بالضرورة القصدية نحو
موضوع ما"، واتجاه الوعي نحو الموضوع، وبهذه القصدية التي أشار لها
هوسرل,يقول هيدجر: "اتجاه الوعي نحو موضوع, ليس وعيا بذاته وحسب، وإنما هو
وجود حركي دائب يترتب عليه مباشرة أن يتجاوز الإنسان ذاته ليتجه نحو شيء ما[1]".
فالوجود الإنساني عند هيدجر هو وجود مفارق
لذاته "ليتجه نحو العالم من حوله، وبمقتضى هذه الضرورة القصدية الوجودية، يتقرر
وجود العالم الذي يدركه الوعي، ويستحوذ عليه – أي الوعي هو الذي يستحوذ – لذا يكون
هذا النوع من وعي الذات أنه وجود – في – العالم[2]".
ورغم أن سارتر أعتبر كوجيتو ديكارت في وعي
الذات وتحقق الوجود الفردي، يعتبر مثالا لعدم تفعيل الذات بأكثر من التفكير المجرد
الذهني حين أكد "أن الوعي الذاتي لا يحدث إلا بتمثله شيئا غريبا عنه، فالوعي
يولد موجها إلى كائن ليس هو إياه[3].
ويذهب حبيب الشاروني أن سارتر يريد تحويل
كوجيتو ديكارت إلى قصدية وجودية دونما التضحية بالكوجيتو الديكارتي من جانب، ودون
أن يضحي بالقصدية عند هوسرل من جانب آخر.
بهذا الفهم السابق أراد الشاروني التسويغ
لسارتر حق الجمع بين متناقضين لا يربطهما جدل خلّاق، فلا يمكننا ربط كوجيتو ديكارت
بالقصدية التي هي من اختراع هوسرل إلا ضمن علاقة جدلية تجمع بين نقيضين يتحتم على
أحدهما إلغاء الطرف الآخر في أنتاج الظاهرة الجديدة المستحدثة. لذا يكون الربط بين
الكوجيتو والقصدية تلفيق فلسفي غير صحيح حتى لو أن قائله على لسان سارتر... إن وعي
الذات لا ضير أن يكون تحققه ضمن الجدل مع الموضوع أو أحدى مظاهر الحياة, باشتراط
تتحكم به قوانين الديالكتيك الحيوية التي تخرج التضاد من دائرة الفهم القاصر في
الفكر المجرد، وتصارع أفكار لا علاقة تربطها بالواقع، وإنما الصحيح يكون تصارع
متضاد في الظاهرة من أجل البقاء للأصلح ضمن قوانين الطبيعة الجدلية في تخليق وانبثاق
ناتج عن كل تضاد جدلي ظاهرة مستحدثة جديدة أو واقعة مستحدثة تحمل أيضا تضادها
الداخلي وهكذا.
من الجهة الأخرى ليس هناك اشتراط تمرير، أن
رغبة سارتر في تسويغ الجمع بين ديناميكية هيدجر، وقصدية هوسرل في تأكيدهما إخراج كوجيتو
ديكارت من مأزقه المثالي، في جعل وعي وجود الذات الحقيقي أنما يقوم على ديناميكية
ذاتية عند هيدجر، لا تتقاطع مع قصدية ذاتية عند هوسرل، وتنتهي المشكلة في صالح
توفيقية سارتر التي أشار لها الشاروني.. لا نعتقد أن مثل تلك الإشكاليات الفلسفية
يمكن حلّها في رغبتنا أن تكون كما نرغب فقط لا بما يقودنا إلى العكس استنباط
التفكير الفلسفي..
وعي الذات فينامينالوجيا
الوعي الوجودي بالمعنى الانطولوجي للذات هو وعي
مفارق للأشياء في أثبات (أناه) الفردية المستقلة وفي إدراكه موضوعه أيضا... فالذات
في إدراكها لشيء مغاير تدرك وجودها المتمايز عنه وبه هي أولا, وتجعل الموضوع
المدرك ذاتيا مدركا من غيره يكتسب وجوده الديناميكي بوعي الآخرين له ثانيا، في غير
وجوده المستقل بالطبيعة وجودا بذاته (نومين) الذي يصعب على الوعي الذاتي والعقلي إدراكه...
ولا قيمة لوعي الوجود الذاتي (نومين) في تغييبه موجودات العالم الخارجي من حوله
وعلاقته بها وهذا ينطبق على أشياء الطبيعة من غير الإنسان أكثر ما يعني الإنسان
بذاته الذي يكون في هذه الحالة سلب وجودي من الصعوبة لا بل من الاستحالة
الانطولوجية أن يدرك كوجود فاعل، أن يعيش الإنسان كائن بذاته فقط. فالإنسان بذاته
وجود افتراضي غير متحقق لا بالوجود الطبيعي ولا بالضرورة الانطولوجية.
أتخذ سارتر من كوجيتو ديكارت نقطة انطلاق الوعي وموضوعه
في علاقتهما التي لا تنفك ولا تتوقف عند (الأنا أفكر) أي ما سمّاه الوعي الخالص،
لكنها تذهب إلى ما يقصده الوعي من أشياء.
كذلك نجد هيدجر تخّطى الاثنين ديكارت وسارتر
بقوله لا وجود لما يسمى الوعي الخالص، بمعنى أن الأنا الذاتية لا تحقق وجودها في
حيثية وعلّة التفكير المجرد الذي ذهب له ديكارت في الكوجيتو .. أنا أفكر الذي هو
وجود بذاته (نومين).
أن في إنكار هيدجر ما يسمى الوعي الخالص هو
التعبير عن حقيقة وجودية فلسفية لا تتقبّل الدحض بسهولة، فالوعي الخالص في أدراك
العقل وهم وجودي حتى في حال أخذنا مبدأ كوجيتو ديكارت في تحقيقه وجود الذات من
خلال تجريد اللغة في التفكير والتعبير والاستدلال في أثبات الوجود الذاتي.
أن الوعي الخالص الذي طالب به (برنشفيك) وهو
فيلسوف مثالي بداية القرن التاسع عشر في محاولته تجديد مثالية كانط النقدية، ذهب إلى
أهمية حرية العقل في تحقيق وعي الذات بالتفكير المجرد المطلق، في أثبات وعي (أناه)
من خلال تجريد الفكر عن وعي الوجود الخارجي في أثبات الوجود الذاتي حسب كوجيتو
ديكارت.
الوعي الخالص لا يتحقق من غير وعي الوجود الذي
يلازم وعي الذات أناها الفردية. وألا أصبح الوعي الخالص هو وجود بذاته بالنسبة لكل
وجود افتراضي بذاته أيضا. غير فاعل في الطبيعة وعالم الأشياء بالنسبة للإنسان في أن
يكون موضوعا مغايرا له ويمكن الاستدلال به. والوعي الخالص وجود بذاته يطمح بلوغ الأنا
العليا المثالية التي أشار لها فرويد ومن قبله أفلاطون وهي مثالية في المطلق محال
تحققها في العالم المادي في وجود الأشياء والطبيعة والحياة على الأرض.
الوعي الخالص طموح مثالي لدى الإنسان يمكن
توظيفه في عالم المعرفة والقيم والأخلاق لما يتمتع به المصطلح من مثالية بلا حدود
حتى في تغييب العقل عمدا عن عالم المعرفة. والوجود بذاته سلب كما في تعبير وجودية
سارتر له، فهو يقوم على تعطيل مغايرته الواجبة الضرورية في تبادله المتخارج مع الأشياء
في العالم الخارجي في محاولته توكيد استقلالية ذاتية لا قيمة حقيقية لها.
ونقلا عن الشاروني: "إن سارتر يعرّف الوعي
بأنه لا يحدث، إلا بتمثله شيئا مغايرا عنه، فالوعي يولد موجها إلى كائن ليس هو
أناه[4]" أن
سارتر هنا يحوّل كوجيتو ديكارت نحو قصدية نادى بها أستاذه هوسرل كي يخلص من مثالية
لا ترغبها المادية في الوجودية أصلا.
هوسرل أدرك في محاجته لديكارت الذي حصر وعي
الوجود الذاتي(أناه) وتحققه بالتفكير المجرد، إنما هو وعي اغترابي منعزل على صعيد
عدم الاندماج في الكلية المجتمعية كجزء منها فاعل ومتمايز عنها. فتحقق الذات لا
يتم من غير التعالق المتخارج بنوع من القصدية أو الغائية مع العالم الخارجي وهو
رأي هيدجر أيضا. وبذلك جعلا من الوجود بذاته للإنسان وهم غير موجود ولا يمكن
تحقيقه.
أن الذات لا تدرك وجودها الحقيقي بالتفكير
المجرد غير المتخارج مع الوجود الخارجي وعالم الأشياء. وهذا الفهم من وعي الذات التزامه
هوسرل ومن بعده سارتر وهيدجر، وأجمعوا أن الوعي الذاتي الحقيقي من غير تبيان
وتحديد الشيء المفكر به يعتبر لا وعي لوجود حقيقي.
فقد نادى سارتر أننا يتوجب علينا مغادرة (أنا أفكر)،
وطالب هوسرل بقصدية كموضوع مفكّر به.
وأخيرا هيدجر الذي نادى بأن لا وجود لذات من غير
ديناميكية فاعلة تمتاز بها، بل وأضاف بأكثر وضوح أنه لا وجود لذات بلا عالم....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق