الخميس، 8 أغسطس 2019

مداخلة في التفكير الفلسفي

جدل الفكر والواقع
     نجد في التضاد الجدلي الهيجلي (أن حركة الأفكار هي نفسها حركة الأشياء، وصراع التضاد هو قانون النمو التطوري[1]) قصة الفلسفة ص 379.
     فموجودات الطبيعة ومكوناتها، والوجود والحياة والتاريخ بمجملها، تتداخل معها علاقة الفكر الإنساني وإرادة التغيير القائمة على رصد الفكر لحركة الأشياء في  تضادهما المستمر، ويرتبط الفكر والواقع بعلاقة جدلية متخارجة في التأثير لكليهما.. فالواقع لا يتطور بمعزل عن الفكر ولا الفكر يتطور بمعزل عن الواقع... ومعرفة حقيقة الأشياء تكون بمرجعية مقارنة خصائصها المدركة بما تختزنه الذاكرة في معرفة غيرها من الأشياء بالتجربة والتكرار.. فمعرفة الشيء لا تكون من غير مخزون تجريبي في الذهن يساعد على فهمه وتفسيره بالمقارنة المغايرة بغيره.. بمعنى معرفة الشيء لا تدرك من غير ذخيرة ذهنية مكتسبة ومختزنة بالذاكرة تخص غيره من الأشياء ليجد حضوره المعرفي الخاص به في تلك المقارنة المعرفية.. ولا يكون الدماغ خلوّا من المعارف القبلية الفطرية والمكتسبة في معرفته مواضيع الوعي والإدراك..
     التضاد الجدلي ليس قانونا يحكم الوجود والطبيعة في وجودهما المستقل وحسب.. وإنما هو ناتج تضاد الفكر الإنساني وتقاطعه مع تلك القوانين كعامل موضوعي خارجي يعمل على أنضاج الجدل الذاتي داخل الأشياء في تحقيق طفرات تغيراتها الكمية وتحوّلاتها الكيفية على السواء..والواقع في كل تمظهراته هو مواضيع الفكر والوعي، لكن لا يكون الفكر موضوعا مدركا من الواقع.. الواقع بجميع مكوناته واشتمالاته لا يدرك الفكر كما يدرك الفكر الواقع...
     الفكر يستمد فاعليته وحيويته الجدلية في التغيير من أسبقية أنطولوجيا الموجودات في العالم الخارجي عليه، التي يدخل معها الفكر في تضاد جدلي متخارج كعامل موضوعي مساعد لتطورها الذاتي، والموجودات التي يرصدها الفكر خارجيا أنما هي تحمل جدلها الخاص بها في التناقض الذاتي الداخلي الذي يحدد صفاتها الخارجية مع ماهيتها الذاتية أو جواهرها المحتجبة خلف صفاتها الخارجية البائنة.... مواضيع الإدراك الفكري تحمل تناقضين من الجدل، الأول هو الجدل الذي يعتمل داخل الأشياء ذاتيا ولا يقوى على تغييرها، الثاني هو التناقض الجدلي مع الفكر الخارجي الموضوعي الذي به ومن خلاله وناتجه يحصل التطور والانتقالات التغييرية في الأشياء..
     الأشياء والموجودات الواقعية المادية تدخل في علاقة تضاد خارجي مع الفكر الإنساني وإرادة التغيير المستمر وبذلك تمتلك قدراتها التطورية التي تكون معطلة ذاتيا في الأشياء قبل تداخل الجدل الفكري معها... ويكون ناتج هذه العلاقة الجدلية تطور كل من موجودات الواقع والفكر الإنساني المرتبط معها كليهما أي أن الفكر في الوقت الذي يستهدف الأشياء في التغيير هو الآخر يتغير أيضا في موازاة تغييره الأشياء... كما أن الموجودات والأشياء في العالم الخارجي والطبيعة لا تتغير ذاتيا بفعل التناقض الذي يعتمل داخلها، من غير ما في دخولها من تناقض جدلي مع الفكر الإنساني الذي هو العامل الموضوعي الخارجي في أحداث التطور المطلوب في واقع الأشياء والموجودات كما اشرنا له سابقا....الفكر يقود الموجودات إلى حالات ومراحل متغيرة تطورية مستمرة.. والفكر يقود الواقع ولا يقود الواقع الفكر، ومهمة الفكر تحفيز الجدل الذاتي داخل الأشياء في تحقيقه قفزات من حالة تطورية إلى حالة جديدة تطورية أخرى أكثر تقدما وهكذا..
     إن من المهم الإشارة له إلى أن الواقع لا يتغير ذاتيا ولا يغير الأفكار بقدر إمكانية وقدرات الأفكار تغييرها واقع الأشياء في سيرورتها التطورية... لكن يبقى الفكر ملزما أن يتغير هو أيضا في مواكبته التطور الحاصل في متغيرات الواقع ويكون تطوره سابقا على تطور واقع الأشياء باستمرار دائما.. وحركة التغيير في الواقع لا تستبق حركة التغيير بالفكر وإلا انعدم حضور تأثير وأهمية الفكر في قيادة تغييره الواقع .. وفي الوقت الذي يكون الفكر عاملا موضوعيا في تسريعه الجدل الذاتي التطوري المعتمل داخل الأشياء فهو يستمد من حركة الواقع المتغيرة تطوره هو الآخر في استباقه وتقدمه على حركة التغيير بالأشياء....الفكر يكون على الدوام سابقا حركة الأشياء ويكون في وضع قيادي في سحبه الموجودات وراءه في تطورها الحركي المتغير على الدوام، والفكر ليس انعكاس الواقع على وفق آلية ميكانيكية تفتقد الجدل التنموي بين الأشياء من جهة وتعلق الفكر تنمويا بها من جهة أخرى..
     عليه يمكننا القول أن الواقع بكل مكوناته وموجوداته المادية المستقلة إنما هي تحمل عوامل التضاد والتناقض داخليا لكنها تعجز عن أحداث التغيير المطلوب بقواها الذاتية المجردة عن قيادة الفكر لهذا التناقض بل في وجوب دخول تناقض الأشياء الذاتية مع الفكر الذي يمثل العامل الموضوعي المحرك لجدل التناقض الداخلي وإكسابه التطور المتلاحق على الدوام معه يحقق إرادة التغيير والتطور على مراحل من التجديد المستمر.. الفكر الجدلي التطوري في جوهره إرادة ملزمة في مناشدتها تغيير الواقع، والفكر الذي لا تقوده أرادة تحقيق الهدف يكون فكرا أعزلا من إمكانية قيادة تناقضات الواقع وفي تحقيق التطورات المستمرة فيه..
تعالق الواقع والفكر وبينهما العقل
     (العقل هو جوهر الكون، وتصميم الكون عقلي خالص ومطلق[2]) الفكر نتاج عقلي لا يعمل في غياب الواقع المادي للأشياء أو في غياب الموضوع المتخيل من الذاكرة، بمعنى الفكر لا فاعلية له تذكر في غياب مواضيع تفكيره المادية والخيالية، والفكر قوة مادية يكتسب ماديته من علاقته الجدلية بالواقع في تفاعله مع مواضيعه المدركة.. والفكر من غير مدركات مواضيعه لا قيمة له وغير موجود إذ بالموضوع المدرك وحده في تفاعله الجدلي به هو وحده الذي يحدد قيمة الفكر وأهميته.. الواقع والفكر وجهين لعملة واحدة لا يكتسب احدهما قيمته بمعزل عن الآخر أو في غياب حضور أحدهما المتعلق مع الآخر.. وحضور فاعلية العقل تكون إلى جانب الفكر بعّلة الفكر أنه نتاج عقلي بخلاف الواقع الذي هو وجود مستقل لا علاقة للعقل في إيجاده بل علاقة العقل به في وجوب تغييره.. العقل يكسب الفكر ماديته في تفاعله الجدلي مع الواقع، ويبقى الفكر والواقع وسيلتي إدراك العقل يؤثر بهما ويصوغهما حسب مقولاته العقلية لكنه يحتفظ بمسافة رصد وتخليق تجعل من استقلالية العقل حقيقة مطلقة على العكس من نسبيتي الواقع والفكر، فهما موضوعي إدراك عقلي وليس حقائق مطلقة خارج وصاية العقل عليهما..
التاريخ والفكر
      يبقى التاريخ في النهاية مسارا عشوائيا لمختلف الوقائع والأحداث لا تحكمه الضرورة الحتمية في إلزامها تطوره ذاتيا التاريخ لا يتطور تصاعديا بقوى خفية تلهمه التقدم إلى الأمام من غير إرادة إنسانية تقود حوادثه نحو الأفضل أو الأسوأ على السواء تبعا لنوعية الإرادة في تغيير ورسم مساراته الفوضوية التي تدخل عليه الصدف العفوية والصدف المصّنعة.. ولو كان التاريخ حتمية تطورية تحكمها الضرورة لما كانت ولادة العولمة لقيطا بعد انهيار منظومة الاتحاد السوفييتي فالعولمة لم تكن حتمية تحكمها الضرورة بل هي انبجاس تاريخي لقيط ولد من العشوائية والصدفة المصنّعة التي تحكم التاريخ أكثر منها حصيلة وثمرة روحية التاريخ التي كما تذهب له التنظيرات الفلسفية يسير بقوى خفيّة تقود مساره إلى مراحل متقدمة متصاعدة، التاريخ تحقيب زمني بعدي لا قبلي لا سيطرة للإنسان عليه قبل وقوعه وحدوثه ويبقى الاستدلال عليه في التحقيب الزمني له فقط وليس في تحقيبه الانثروبولوجي الذي هو متحفية التاريخ وليس حيوية التاريخ.. التاريخ ملهم.. نعم ملهم.. التاريخ يقود نفسه نحو غايات مرسوم بلوغها له سلفا... لا، معرفتنا للتاريخ هي معرفة الفكر للزمن.. إدراك لأحداث انثروبولوجية ماضية من العبث أن تحكم الأحياء في قانون كان الأجدر أن يحدث هذا ولم يحدث ذاك.. وهذا دليل قاطع على أن ل لتاريخ أخطاء قاتلة نتيجة فوضوية مساراته المتعثرة بالصدف العشوائية على الدوام.. والمسكوت عنه في التاريخ هو نبش والوقوف على فوضوية وعشوائية المسار التاريخي..
     يبقى فهمنا التاريخ أنه قراءة فكرية في النهاية، التاريخ يبقى حضوره كنتاج الفكر الذي يقود وقائع وأحداث التاريخ المتحفية الانثروبولوجية، وتورخة التاريخ في جوهرها عملية فكرية في تنظيم مسار التاريخ، والفكر هو إرادة التغيير الإنساني الهادف بعيدا وبمعزل عن إمكانية التاريخ أن يصنع تطوراته الخطيّة ذاتيا، ومن غير تنظيم الفكر الإنساني لعشوائية مسار التاريخ لا يخرج هذا الأخير من الإعاقة والصدف الطارئة على تشكيل أحداثه ووقائعه، وقائع وأحداث التاريخ هي نظام الأفكار المحكومة بإرادة التغيير المستمر الدائم نحو الأفضل..
المادة والفكر
     علاقة المادة بالفكر تعتبر أهم مبحث فلسفي أستحدث لاحقا بعد مبحثي الانطولوجيا والميتافيزيقا، منذ نشأة الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد، وعلى امتداد قرون طويلة من تاريخ الفلسفات المثالية وصل مبحث علاقة الفكر بالمادة إلى تمفصّل جوهري متميز بمجيء كلا من هيجل وفيورباخ وماركس في القرن التاسع عشر.. وقبل هذا التاريخ كانت الفلسفة بمجمل مباحثها نزعات مثالية صرفة اشتملت على إرهاصات مادية متناثرة لا يعّول عليها كثيرا تمّثلت في نزعات مادية بدائية لدى كل من ديمقريطس في الذرات الذي أخذها عنه لايبنتز في المناداة وهيرقليطس في الحركة والتغيير المستمرين اللذين يحكمان المادة وظواهر الحياة التي أخذها عنه هيجل في الحركة والديالكتيك..
     نستطيع الجزم أن الفلسفات جميعها إلى ما قبل القرن التاسع عشر وقبل مجيء ماركس، كانت فلسفات مثالية محورها الارتكازي هو الفكر التجريدي المحض الذي يعالج الواقع المادي بتصورات عقلية ذهنية تكتفي بتفسير بعض مظاهر الحياة ولا تمت بصلة لمحاولة تغييرها وتبديلها.. وقد ورثت النزعات الفلسفية المثالية الحديثة التي رافقت نشوء الماركسية المادية، أهمية أسبقية وأولوية الفكر على المادة معتبرة الفكر المجرد جوهر مستقل قائم بذاته يستطيع تفسير العالم ولا وجود لشيء أسمه مادة أو واقع خارجي يحتوي مكونات لا حصر لها، ولا وجود حتى لعقل خارج تصورات الذهن الواصلة عبر الحواس.. فقد أنكر بيركلي المادة في وجودها واقعيا في عالم الأشياء معتبرا إياها صورا في الذهن، وذهب ديفيد هيوم في نفس المنحى في إنكاره العقل ومبدأ العليّة السببية، معتبرا أن العلاقات التي تربط العلة بالمعلول هي تجربة تتكرس في الذاكرة بحكم التكرار والتجربة حتى تصبح العادة في حكمنا على الأشياء.. وفي نفس المنحى المثالي ذهبت التجريبية الانكليزية الحديثة والتحليلية عند جورج مور وبيراتر اندرسل مستفيدة من إرث كانط المثالي وبيكون التجريبي إلى إفشاء التفكير المثالي الفلسفي المناوئ للماركسية، كما عمدت الفلسفة البرجماتية الأمريكية في نفس المنحى لدى أقطابها ريتشارد بيرس، وليم جيمس، وجون ديوي.. الذين رفعوا شعارهم المعروف بالمنفعة العملية للأفكار، والأفكار صحيحة ليس باتساقها المنطقي بل بما تحمله من أمكانية تحقيق المنفعة الواقعية في الحياة..
     وبمجيء أقطاب المادية الماركسية الثلاثة هيجل، فيورباخ، وماركس، ظهرت الفلسفة المادية منتصف القرن التاسع عشر وبداية العشرين في أجلى صور التمايز عن المثالية، فقد بعث هيجل مبدأ الديالكتيك أو الجدل في تأكيده أهمية الحركة والتناقض، وذهب معاصره المنشق عنه فيورباخ إلى تبني نزعة مادية أراد تطبيقها تحديدا على نشأة الأديان في ثلاث من أهم مؤلفاته الفلسفية، ليأتي من بعدهما كلا من ماركس وأنجلز ليكملا المسيرة في وضع قوانين المادية الديالكتيكية على صعيد المادة، والمادية التاريخية على صعيد التطور الانثروبولوجي والسوسيولوجي الطبقي.. ومن الجدير الإشارة له في دراسة علاقة الفكر بالمادة التي أشبعت تناولا فكريا وفلسفيا لدى أقطاب فلاسفة المادية الماركسية بدءا من لينين وستالين وتروتسكي وروزا لوكسمبورغ ولوكاتشو غرامشي وعشرات وأكثر غيرهم.. أن علاقة الفكر بالمادة تفرض نوعية الفكر الذي هو حركة دائبة متغيّرة على الدوام في علاقته بالمادة التي تكون في حال من الحركة غير المدركة التي توهم بالسكون والثبات.. من جهة أخرى المادة ليست هي الفكر ولا الفكر هو المادة، فالمادة باعث للفكر وحافز له على تناول مواضيع ادراكاته بالتفسير والتحليل والتأويل والعّلة، والفكر الذي هو في سمته الأساسية المميزة له أنه عقلاني مصدره العقل تقابله المادة في لا عقلانيتها أنها لا تعي ذاتها ولا تدرك ما حولها ولا تفهم علاقاتها بغيرها، فهي وجود انطولوجي لا عقلاني مجرد من الفاعلية الإدراكية.. والمادة وجود لا يمتلك الإدراك لكنها تمثل موضوع الإدراك للفكر، المادة وجود سلبي لا قيمة حقيقية له من غير معالجة الفكر لها.
     أخيرا ما الذي يجعل أي من المذهبين الفلسفيين المادي أم المثالي قادرا على خدمة الإنسان ومواكبة تطور الحياة؟ طبعا هنا يبرز دور العلم في كلمة الفصل، فالعلم بمنجزاته الهائلة لم يعتمد الفلسفات المثالية التي لا تجد في الحياة غير تصورات الذهن المجردة المعزولة، وإنما يعتمد العلم التجربة التي تقوم على أسبقية المادة التي هي الركن الأساس في التفكير المادي والمثالي والعلمي على السواء..
الفكر واللغة
     اللغة والفكر لا يحضران سوّية إلا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية في الأخبار الإدراكي العقلي عن موضوع جرى التفكير به عقليا واكتملت مهمة أعادته من العقل إلى عالم الأشياء كفكر جديد بلغة جديدة وليس كوجود سابق مستقل في عالم الأشياء.
     التساؤل الآن كيف تكون اللغة هي الفكر حسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، ولماذا يعجز إدراك العقل للأشياء التفريق بينهما أي بين الفكر واللغة أذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما عن الموضوع الواحد بأكثر من إدراك وتأويل واحد؟ وهل التفريق بين الفكر واللغة هو لغرض مصطلحي مجازي غير حقيقي ولا واقعي في التطبيق؟
     هنا اللغة والفكر الملازم لها في التعبير ليس بمقدورهما تفسير وجود الأشياء بمعزل أحدهما عن الأخر أي بمعزل اللغة عن الفكر، أو الفكر عن اللغة لأن في ذلك استحالة إدراكية تعجيزية للعقل في امتناع الفكر واللغة التعبير عما يرغب العقل التعبير عنه وجودا مدركا.
     إن في عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة إن الفكر هو اللغة المعبّرة عنه، أو أن اللغة هي وعاء الفكر حسب دي سوسير، أو أن اللغة هي بيت الوجود كما عند هيدجر... وأن اللغة مبتدأ ومنتهى إدراك وجود الأشياء في العالم الخارجي... جميع هذه التعبيرات الفلسفية تفهم اللغة على إنها فعالية إدراكية عقلية في تحديد الفكرة أو الموضوع في تموقعها خارجيا كي يتم إدراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح إلى حد كبير ولا يتوفر مجال دحضه في الاحتكام للعقل وإدراكه الوجود.
     في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل أو خارج العقل، يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة أو الموضوع المعّبر عنه بهما. بهما (الفكر واللغة) أصبح التفكير الذهني العقلي موضوعا ومتعيّنا وجودا في العالم الخارجي بعد تخليقه بمقولات العقل، وفي هذا يكون تفكير العقل خارجيا أو بالأحرى من أجل فهم الوجود الخارجي في مكوناته المستقلة.
     حين نقول تفكير العقل الداخلي المقصود به هو التفكير الصامت، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكير العقل واقعيا ماديا... وفي الواقع أن هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا وخارجيا بوسيلة اللغة، أنما هما في الأصل تفكير واحد للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي أو متخيّل مصدره الذاكرة... أي أن العقل واللغة والفكر يجمعهم (وحدة الموضوع) المدرك في زمن واحد... وهكذا هي الحال في تناول أي موضوع أو شيء من العالم الخارجي.
     نذّكر أن علم اللغة واللسانيات تعتبر اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور وفنجشتين ودي سوسير وجومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة... باعتبار اللغة هي فعالية العقل في تعيين إدركاته للموجودات والأشياء الخارجية.
     نأتي الآن إلى معالجة أصل إمكانية فصل الفكر عن اللغة، على أنها استحالة إدراكية في فهم الأشياء والمواضيع في حال وجودها في العالم الخارجي في استقلالية عن الإنسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالإدراك وأعادها باللغة والفكر ثانية إلى عالم الواقع من جديد بعد تخليقها عقليا، أو لم يدركها في وجودها المستقل التي أيضا تستطيع الحواس واللغة التعبير عنها.
     وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله إلى العالم الخارجي، أي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغويا، فأن العقل وسيلة تفكيره هو الفكر ذاته فقط ولا يحتاج اللغة إلا على أنها جزء من الفكر وملازمة له خارج الدماغ أو العقل في وجود الأشياء، وتفكير العقل وتخليقه لموضوعه، فلا يدرك خارجيا من غيره إلا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر من داخل العقل(الدماغ) إلى واقع الوجود في عالم الأشياء.
     وعندما يتجسد ويتعين الموضوع في عالم الأشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا أو بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية أو المكتوبة، فهنا لا يصبح فصل الفكر عن اللغة ذات أهمية كبيرة، ولكن تبقى اللغة في أثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها بأولويتها في التعبير عن الموجودات الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة إدراك الحس والعقل لها بعد تخليقها، عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها الذي عبّرت عنه في عالم الأشياء والموجودات في العالم الخارجي.
     وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون إدراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرة عنها. ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن العقل، وأيضا من الفكر واللغة.
     لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا داخليّا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا... فالموضوع المفكّر به صمتا من غير تعبير لغوي يبقى حبيس ووصاية العقل في التفكير به قبل أهمية انشغال العقل في التعبير اللغوي عنه.
     إن اللغة أثناء زمانية تفكير العقل بموضوعه صمتا داخليا، تكون ملازمة لعملية تفكير العقل ذاتيا، لكنها لا تتقدم تفكير العقل... فليس كل تفكير داخل العقل صمتا يلزم حضور اللغة معه لكنه يلزم حضور الفكر وحده، ولكن التفكير داخل العقل الصامت لا يستطيع التفكير من غير صور لغوية وهذه إشكالية تؤكد استحالة فصل الفكر عن اللغة بالمطلق والاستحالة القطعية لا في تعبير العقل عن موضوعات إدراكه الخارجية ولا في تعبيره عنها بالفكر داخله...
                                            علي محمد اليوسف /الموصل


[1] قصة الفلسفة: ويل ديوارت، ترجمة أحمد الشيباني، نشر مكتبة المعارف، بيروت، ص 379.
[2] ن.م،ص 379.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق